توهجات ذاكرة منطفئة

قبل ثمان سنوات، حزمت امرأة تشبهني حقائبها الكثيرة على عجل وتأبطت مخدتها المحشوة بأحلامها الجريحة وخرجت من باب منزلها لتخطو خطوتها الأولى في الفراغ الذي أضاع ملامحها، وكساها بأخرى تبدلت كثيرًا، لتأخذ شكل وجهي وروحي اليوم.

لم أعد اليوم أعرفني، بتّ امرأة مثقوبة الذاكرة. وكلما حاولتُ استعادة صورتي قبل أن أقطع الحدود تتفتت ذكرياتي كزجاج سقط على الأرض فتراكمت أجزاؤه المهشّمة بعضها فوق بعض، وكل محاولة مني لإعادة ترتيبه لم تكن تسفر إلا عن جرح جديد لأصابع روحي يصبغني وحطامي بالدم.

يقولون إن النسيان يحمي الروح والجسد كآلية دفاعية، لكنه إن تمكن منّا فلن نستطيع بعدها التعرف إلى أرواحنا وربما حتى إلى أجسادنا.

لم تلفظني البلاد حين خرجت منها ذلك اليوم، لكنها دفعتني كأم يحترق بيتها فترمي أبناءها من النوافذ لعلّهم ينجون حتى ولو بعاهة مستديمة. عاهتي كانت شرخًا في الذاكرة، فهل نجوت؟ 

في منفاي وعلى طول السنوات الثمانية، كنت أشتري دفاتر جديدة لأثبّت ما بقي في ذاكرتي على الورق وأكتب ما عشته قبل تجاوز نقطة المصنع الحدودية، علّني أجد نفسي من جديد أو أستعيد بعض ملامحي. كنت في كل مرّة أتخذ مواقع مختلفة للكتابة: كرسي وطاولة، كرسي في مقهى، على الكنبة، في السرير. وأفتح الدفتر ممسكةً قلمًا أبدّله أيضًا كل حين، أغمض عيني وأحاول استرجاع السنوات، لكنها تطير كسرب حمام حين أفاجئها. ألقي برأسي إلى الخلف علّ تفاصيل الأيام المترسبة في قعر جمجمتي تطفو إلى السطح، بلا جدوى. كل ما كنت أحصل عليه في جميع محاولاتي تلك لم يكن أكثر من صور ثابتة، يحضر معظمها مع دفعة هائلة من الحزن. ولا شيء منها يرضى النزول إلى الورق. فأرمي الدفتر والقلم بعيدًا محمِّلة إياهما وزر الفشل، ثم أعيد بعد حين المحاولة المحكومة بالفشل بدفتر وقلم جديدين.

ثمة “لقطات” تومض في رأسي بلا هوادة وتذكرني كل حين بمن كنت ومن كانت تلك البلاد الشقية التي اسمها سوريا، لكن تفاصيل تلك المشاهد وأزمنتها تبقى ضبابية لا قدرة لي اليوم على استحضارها بوضوح:

وجه دمشق الكئيب والرعب المعشعش في كل زاوية فيها في العاشر من حزيران/ يونيو 2000، ووجه رجل الأمن القبيح الحاقد على كل شيء والذي أنزلني من سيارة الأجرة بعد نصف ساعة من إعلان موت حافظ الأسد بسيل من الشتائم الذي أطلقه في وجهي لأنني كنت أبتسم داخل السيارة في خيانة عظمى للحزن المفروض بالكرباج على طول البلاد وعرضها. كانت تفاصيل ذلك اليوم تلخّص الوجه الأبشع لدولة الرعب التي كنا نعيش فيها.

الستائر السميكة التي غطت النوافذ المغلقة على الرغم من الحر، في أثناء فترة الحداد في ذلك الصيف، ليستطيع من في داخل البيوت التنفس أو الضحك أو مشاهدة التلفاز من دون أن يدفع حياته ثمنًا لذلك.

الملامح العصية على التفسير التي اعترت وجه زميلتي في الدراسة حين خرج والدها من المعتقل بعد 23 عامًا كانت أطول من عمرها بأشهر. 

أول تظاهرة شاركت فيها كطفلة في الثانية عشر من عمرها حين خرج طلاب المدرسة اعتراضًا على إجبارهم على دفع ثمن مازوت التدفئة في صفوفهم، والتي قادها طالب بكالوريا ما لبث أن اعتقل لسنوات بعد عام.

الدهشة المجبولة بالترقب في عيون كثيرين من معارفي وأهلي عند خروج أول تظاهرة في تونس في 2011.

شكل الحلم الذي خرج من رماد قلوبنا كمارد حين “هرب بن علي”. ذلك الهروب الذي صاغ الحقيقة الصادمة آنذاك بأن الثورات قد تنجح في هذا العالم العربي الميؤوس منه. 

الصخب الجميل الذي كان يرافق تجمعاتنا لمشاهدة ميدان التحرير في مصر. شكل آخر للحياة لم نألفه من قبل.

الليالي الطويلة بلا نوم في انتظار تنحي مبارك، والرقص الهستيري عند سماع الخبر.

ترقب اندلاع الشرارة المستحيلة في سوريا لحظة بلحظة.

تمرّ تلك الصور كشريط سينمائي قديم بالأبيض والأسود، وعبثًا أحاول التقاط أي منها وتثبيته في رأسي للحظات، فهي تنزلق مثل الزئبق حين تحاول الإمساك بها بأصابعك.

لكن بضع صور من سنواتي التالية ما تزال محتفظة بألوان متباينة الوضوح والتمايز:

شكل شاشة التلفاز أيام الجمعة حين كانت تعرض معظم نقاط التظاهر في سوريا فتنقسم إلى شاشات وشاشات ترسم قوس قزح السوري.

أهازيج تشييع الشهداء أيام السبت أو الأحد.

صوت الأغنيات في أمسيات حمص ذو الأجنحة، كان صوتًا قادرًا على التحليق.

صورة حمزة الخطيب التي لا تزال ألوانها طازجة حتى اللحظة، والتي كانت أول تخطٍ صارخ لحدود توقعاتنا في مدى الإجرام.

دويّ السقوط الممتع لتماثيل حافظ الأسد، الأصنام التي أُسقطت كأحجار الدومينو في كل مكان من درعا إلى الرقة.

الرصاصات الخرقاء التي ثقبت جسد أخي؛ الرجل الأكثر سلميّة في العالم، ووجهه الشاحب داخل التابوت. لم أعد أذكر لون عينيه منذ أن أغمضهما حينها، لكنني أذكر تمامًا لون قلبه الأبيض وبهاء ضحكته المعلقة في الهواء الذي أتنفسه أينما كنت.

لكنني، وعلى الرغم من عطب الذاكرة التفصيلية، أعرف بيقين الثائر أن ما حصل منذ عشر سنوات في سوريا كان حدثًا أسطوريًا أو ربما ملحمة جديدة تضاف إلى تاريخ الملاحم الإنسانية. فلم يكن يخطر حتى في أجمل أحلامنا قبل آذار/ مارس 2011 أننا سنعيش ما عشناه، لم نكن نعرف أصواتنا إلا حين نصرخ من الألم تحت التعذيب، وربما كان صوت النواح هو أعلى ما نسمعه أو نطلقه. لكن الثورة جعلتنا نكتشف مهمةً أخرى للحناجر ووقعًا آخر للصوت، وامتلاكنا جميعًا لسلاح لم نكن ندرك حجم قوته. 

وككل السوريين الثائرين، حمّلتُ الثورة أحلامي، كسورية بشكل عام وكامرأة بشكل خاص. فقد عبّد انطلاق الثورة غير المتوقع الطريق لأحلامنا المدفونة منذ زمن لتنفض عنها الغبار وتستفيق، وكان لكل فرد في سوريا أحلامه الخاصة التي أصبحت فجأة بمجرد قيام الثورة المستحيلة، جزءًا من أهداف قيامته. وكما حصلت على حصتي من الفرح والتفاؤل بتحقيق أحلامي وتفعيل العمل على القضايا التي أؤمن بها، حصلت كذلك على حصتي من الخوف والوجع والإحباط كاملة. 

كان احتمال الموت خلال التظاهرات قائمًا منذ اليوم الأول للثورة، وكذلك احتمال الاعتقال وما يمكن أن يتبعه من تعذيب لا حدود له، لكن شبح اعتقال النساء ظل الأكثر حضورًا ورعبًا، في مجتمع لا يتحمل مطلقًا مجرد التفكير في ما قد تتعرض له المعتقلات من نظام تتخطى قذارته وقدرته على الأذى أي احتمالات يمكن لعقل بشري أن يتوقعها.

ولم يكن الرجال المقربون مني آنذاك بمعزل عن رعب هذا الاحتمال الأكثر قسوة، ما دفعهم لمنعي من المشاركة في التظاهرات التي شهدتها مدينتي “السويداء” والعديد من البلدات والقرى التابعة لها ومنها بلدتي “القريّا”. وعلى الرغم من تفهمي لمخاوفهم ومبرراتها، إلا أن الأمر كان أشبه بقمع آخر تعرضت له فقط لأنني امرأة.

  في الأشهر الأولى من الثورة كنت أعتقد أن التظاهر هو الطريقة الوحيدة للمشاركة فيها، وهو الشكل الوحيد لتفعيل الانتماء إليها، لكن الرد العنفي السريع للنظام بالبدء بالتدمير الممنهج للمناطق الثائرة وبداية حركة النزوح الكثيفة خلق أشكالًا أخرى من المشاركة وأدوارًا جديدة يجب القيام بها ويمكن من خلالها لمن لم يستطع التظاهر الانخراط في صفوف الثورة بشكل علني. 

لم تشهد مدينتي قصفًا أو تدميرًا للبيوت والبنى التحتية، وذلك ضمن مخططات النظام لتحييد مناطق الأقليات، ما جعلها “آمنة” فكانت مقصدًا للمهجّرين من المدن المجاورة كدرعا وريف دمشق.

عطب الذاكرة يغيّب اليوم تفاصيل الضيوف من الأهل والجيران المنكوبين والذين كنت أتعامل معهم بشكل يومي، لكنهم موجودون دومًا في جميع صور تلك المرحلة والتي تحضرني بكل ألمها كل حين:

الأطفال في مركز الإيواء، “معسكر طلائع البعث في السويداء سابقًا”، ورسوماتهم في بداية نشاطنا هناك والتي كانت في معظمها أشكالًا مختلفة لعلم النظام، إما واضحًا وممتدًا على مساحة الورقة البيضاء أو صغيرًا محجمًا وموضوعًا عن قصد في إحدى زواياها. ذلك العلم بدأ يختفي تدريجيًا مع ازدياد ثقة الأطفال بأننا لسنا تابعين للأمن ولا نشكل مصدر خطر عليهم وعلى عائلاتهم المقيمة في المركز الذي كان لا يشبه شيئًا أكثر من شبهه بمعتقل في الهواء الطلق. استغرق الأمر أشهرًا من المحاولات المتكرِّرة لطمأنة الأطفال وإقناعهم برسم ما يحلو لهم حتى غاب العلم تمامًا عن لوحاتهم، وراحوا يستمتعون باختيار ما يرسمون بحرية مطلقة وأمان دفع بعضهم لرسم الجيش الحر أو بيوتهم المهدمة بالقصف مع الطائرات التي قصفتهم. لكن مجرد دخول أحد المسؤولين الأمنيين إلى قاعة الرسم ذات يوم كان كفيلًا برسم ملامح الخوف والاستنفار على وجوههم جميعًا من دون استثناء. مزّق بعضهم رسوماته على الفور، ووضع البقية على الطاولة قبل مغادرتهم الغرفة مسرعين ما يزيد عن عشرين لوحة جديدة. كانت كلها رسومات مرتبكة لعلم النظام! 

في مركز الإيواء ذاته، طفل في الرابعة من عمره أصيب بالخرس قبل أشهر من مجيئه وبقايا عائلته إلى المركز، كان يأتي إلينا في كل زيارة ويطلب، بإشارات من يديه وغمغمات غير مفهومة وضحكة تفيض براءة، ورقة وقلمًا أحمر حصرًا، ثم يجلس على الأرض ويرسم بضعة خطوط تبدو عبثية أول وهلة، لكنه كان يرسمها ذاتها كل مرة ثم يعطينا الورقة. وعند سؤاله عن ما رسم كان في كل مرّة يشرح بيديه وعينيه وصوته الأمي بأن تلك الخربشات هي صورة القنبلة التي سقطت من سقف الغرفة في بيته ثم انفجرت فتلونت الجدران بدم أفراد من عائلته.

كلمات عنصر الأمن عند حاجز قصر المؤتمرات في دمشق عندما أوقف سيارتي في أثناء نقلي إلى عجوزين من درعا كانا قد نزحا إلى بلدتي وكنت أقلّهما بسيارتي إلى مستشفى ستُجري فيه السيدة العجوز عملية إسعافية. بعد طلب الهويات والنظر إليها، وجّه العنصر الأمني كلامه إليَّ قائلًا: “شو جايبهن معك هدول؟” ثم أردف بالجملة التي سقطت كصفعة على وجهي: “يالله مرّي. انتو أولاد عمنا بس هني لاء”.

ثمة صور ومشاهد أخرى، بعضها مزركش بفرح عابر وبعضها الآخر نازف وموجع حدّ البكاء، تعبث برأسي كل حين لكنني لم أستطع اليوم اصطيادها وحبسها بين السطور. 

آخر صورة في ألبوم سوريتي قبل الرحيل الأخير كانت عندما عبرت الحدود باتجاه لبنان في 9 أيلول/ سبتمبر 2013. لم أعد أذكر ملامح والديّ يومها ولا حقيقة مشاعري المتضاربة بين الخوف الذي رافقني أيامًا قبل المغادرة والأمل بأن أعبر الحدود سالمة، والمجهول الذي كنت سأواجهه. كل ما أذكره هو أنني، وفي لحظة عبوري إلى الجهة الأخرى من المعبر، اجتاحني إحساس قوي بأنني قد نسيت شيئًا هناك. واستغرق الأمر سنوات حتى أدركت أن ما نسيته كان أناي، كان ملامح تلك المرأة التي تشبهني ولم أعد اليوم أشبهها.

مشاركة: