حوار مع جلبير الأشقر؛ العقد الأول من السيرورة الثورية العربية

نور حريري
مساء الخير، أهلًا بكم في جلسة حوارية جديدة من جلسات (رواق ميسلون). جلستنا الحوارية مع الدكتور جلبير الأشقر بعنوان العقد الأول من السيرورة الثورية العربية.
لدينا أسئلة كثيرة اليوم، بعد مرور نحو عشر سنوات على الربيع العربي الذي بدأ عندما أضرم التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، احتجاجًا على الظلم الذي تعرض له، وانفجرت الاحتجاجات في تونس، وبعدها انتقلت إلى دول عديدة، تطالب بالحرية والكرامة، وتصاعد الأمل في أن عقودًا من التدهور والديكتاتورية تقترب من نهايتها، وأن ربيعًا عربيًا ينتظر شعوب المنطقة. انهار عدد من الأنظمة العربية سريعًا، وسقط حاجز الخوف، وقد سنحت الفرصة لكثير من المواطنين في البلاد العربية أول مرة منذ عقود، لقول كلمتهم، والاعتراض على واقعهم، ولكن مع الانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية، وعسكرة الثورات، وصعود التطرف الديني، لم يزهر الربيع العربي كما توقع كثيرون، بل تحول إلى شتاء عربي هدّد الآمال. مع الثورات ظهرت الأفكار والبنى التقليدية إلى السطح، وبرزت الظواهر الإثنية والطائفية، ونمت جماعات جهادية متطرفة في كثير من البلدان، تعادي الحداثة والتقدم، وهنا تبرز أسئلة كثيرة، من بينها: هل ما زال الربيع العربي مستمرًا؟ هل ستكون المنطقة محكومة دائمًا بالصراع بين المؤسسة العسكرية والإسلام السياسي؟ يبدو الحديث عن الربيع العربي سهلًا، بحكم كثرة ما قيل وكُتِب فيه خلال السنوات الماضية، لكن يبقى الرهان معقودًا على كتابة جديدة وقول جديد قد ينفعان في تقديم قراءة أكثر موضوعية وعمقًا للظاهرة، ويفسح المجال لتقديم خلاصات، أو نتائج مفيدة، لشعوب المنطقة مستقبلًا.
يسعدني أن أستضيف في هذه الجلسة الحوارية الدكتور جلبير أشقر، وأرحب أيضًا بكل من انضم إلى هذه الندوة، وأدعو الجميع في نهاية الجلسة الحوارية إلى المشاركة في فقرة النقاش وطرح الأسئلة.
أهلًا بك دكتور جلبير أشقر، وسعيدة جدًا بتلبيتك الدعوة، ووجودك معنا اليوم.
جلبير الأشقر
أهلًا بكم.

نور حريري
أبدأ في النصف الأول من الجلسة، بالسؤال الأول وهو حول مطالب الشعوب في دول الربيع العربي. كثرت وتنوعت مطالب الشعوب في دول الربيع العربي، وكانت هناك مطالب سياسية، ومطالب دستورية، وأصوات أخرى مطالبة بالديمقراطية والحرية، وأخرى مطالبة بإلغاء الطائفية السياسية كما حصل في لبنان، فهل تكفي هذه المطالب على تنوعاتها واختلافاتها لإحداث تغييرات جذرية؟ أو ربما على نحو أدق، كيف يمكننا إضفاء الطابع الجذري على هذه المطالب، مطالب الحرية والديمقراطية؟ هل يمكننا تسمية هذه القيم ببرنامج أو مشروع تنموي أو اقتصادي أو اجتماعي؟ أي كيف يمكن تحويل هذه المطالب من شعارات إلى خطة وبرنامج عمل؟
جلبير الأشقر
إن الشعار الذي عُدَّ شعارًا مركزيًا في الانتفاضة العربية، في الموجة الأولى عام 2011، والموجة الثانية عام 2019، كان شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهذا شعار ثوري بامتياز، إذ لم يكن “الشعب يريد الإصلاح”، بل يريد “إسقاط النظام”.
إن المطالب العامة تعتمد الحالة في كل بلد، فمثلًا الشعار الذي طغى في مصر بوجه عام في ساحة التحرير، “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، يعبر عن برنامج ضخم يضم الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فالتطلعات الشعبية في كل الانتفاضات هي تطلعات عميقة وجذرية جدًا، لأن الناس متعطشة لتغيير جذري، لا إلى تغييرٍ في وجوه الحكام مع الإبقاء على النظام نفسه، وإنما إسقاط النظام بشكل كامل. وإذا كان الموضوع كيف نصل إلى هذا التغيير، فقد كانت هناك أوهام كبيرة في عام 2011، أوهام ارتبطت بتسمية الربيع العربي، فهي تسمية طغت في الإعلام العربي، والغربي أيضًا، واعتُمدت هذه التسمية بناء على تجربتي تونس ومصر، وعلى السهولة النسبية في سقوط الرئيسين، بن علي في تونس، ومبارك في مصر، على الرغم من سقوط بعض القتلى في البلدين. ولكن نظرًا إلى حجم الحراك اعتُبرت العملية سهلة نسبيًا، خاصةً في منطقتنا المعتادة على القتل بالجملة، وبالتالي كان هناك وهم بأن الحالات الأخرى ستكون مشابهة، وفي هذا إغفال للاختلاف النوعي بين طبيعة الدولة والنظام في تونس وفي مصر، وطبيعة الدولة والنظام في سورية أو في ليبيا أو في البحرين مثلًا. هناك اختلاف كبير، فالسيناريو التونسي والمصري، سيناريو إقالة الرئيس من جهاز الدولة، ممكن في بلدان فيها درجة من التمايز بين العائلة الحاكمة أو الحاكم وحاشيته، وجهاز الدولة. إذا أخذنا مثال مصر وهو المعروف أكثر لدى الجميع، من الممكن أن نقول إن مبارك هو ابن الجيش المصري، لكن الجيش المصري ليس وليد مبارك، بمعنى أن مبارك كان مرتهنًا للمؤسسة العسكرية، والمؤسسة العسكرية المصرية هي مركز الثقل في النظام السياسي في الدولة المصرية، ومن ثمّ عندما حصل الحراك الشعبي الضخم، والانتفاضة الشعبية الكبيرة، وتحول حسني مبارك إلى موضوع إحراج بالنسبة إلى النظام، وبالنسبة إلى المؤسسة، إضافة إلى ضغط العراب الأميركي للدولة المصرية باتجاه التغيير، قامت المؤسسة بإقالة الرئيس. مثل هذا السيناريو غير ممكن في دولة كسورية، حيث بدأ حافظ الأسد منذ وصوله إلى الحكم في عام 1970 بإجراء تغييرات في بنية الدولة خاصة القوات المسلحة وأجهزة النخبة في القوات المسلحة، من خلال وضع أفراد عائلته وقبليته وقبيلة زوجته وأفراد طائفته، فقد كان استخدام العامل الطائفي من حافظ الأسد عاملًا مهمًا في إرساء سيطرته، وتحقيق التحكم العائلي الكامل في السلطة والدولة، والأمر نفسه ينطبق على ليبيا مع القذافي، أصبح كوضع الملكيات في ثماني دول فيها أنظمة ملكية في الدول العربية، الدول الستّ لمجلس التعاون الخليجي، والأردن، والمغرب، وصار لدينا جمهوريتان حتى عام 2011 يمكن إضافتهما إلى الملكيات الثماني، بسبب سيطرة حكم العائلة التي تعدّ القوات الخاصة حرسها الخاص، ولذلك في هذه الدول كان من الخطأ وجود توهم بأن السيناريو سيكون مشابهًا للسيناريو التونسي أو المصري.
وبالتالي، نحن كنا أمام عملية تغيير في وضع عربي له عقود طويلة في الاستبداد، في وضع أنظمة تكلست في السلطة ولديها امتيازات شتى. ومن ثم، فإن محاولة تغيير كل ذلك بربيع واحد، وهم كبير في الحقيقة، ولذلك منذ البداية وصفت ما يحدث بتعبير السيرورة الثورية، أي إن ما بدأ في 2011 هو سيرورة طويلة الأمد ستستمر لسنوات عديدة ولعقود من الزمن، وستمر كما كل السيرورات التاريخية بمراحل متعاقبة من المد والجذر، مراحل الصعود الثوري ومراحل الردة المضادة للثورة، وحروب أهلية، وغير ذلك، كما رأينا في السيرورات الثورية الكبرى في التاريخ. انظر إلى الثورة الإنكليزية التي امتدت على مسافة طويلة جدًا من الزمن، والثورة الفرنسية التي مرت بحروب أهلية طاحنة في تلك الأيام، هذه كلها أمور تنتمي إلى السيرورات الثورية التاريخية بشكل عادي.
لبّ الموضوع أنه كان ينبغي فهم ما يجري بهذا الشكل، وهذا يسمح بفهم أن الربيع كما ذكرتِ، تلاه شتاء، وشتاء قارس، ولكن كان يمكن توقع ربيع آخر، وقد حصل، وبدأ ربيع آخر بعد ثماني سنوات تحديدًا، حيث انطلقت الأمور في كانون الأول/ ديسمبر 2010 من تونس، وانطلقت الموجة الثانية في كانون الأول/ ديسمبر 2018 من السودان، بل يمكن عدّ ما حدث في الأردن صيف 2018، الهبة الشعبية والحراك الشعبي، بداية الموجة الثانية، ثم السودان، ثم الجزائر، ثم العراق ولبنان، ولولا جائحة كوفيد لكانت هذه الأمور تفاقمت إلى أبعد من ذلك، لكن السلطات في معظم البلدان المذكورة استغلت الجائحة لتجميد الحراكات الشعبية. ومع ذلك نحن على العكس أمام تعمق للجذور الأساسية التي ولدت الانفجار الكبير، والتي هي بالدرجة الأولى قبل السياسة، الشروط الاجتماعية والاقتصادية، فنحن شعوب عرفت الاستبداد لفترة طويلة، لماذا إذًا تحركت فجأةً في هذا الوقت وبهذا الشكل؟ هذا لا ينفصل عن أن الوضع الاجتماعي الاقتصادي هو الذي تفاقم بصورة خطرة خلال العقود السابقة، أما الديكتاتورية فلم تتفاقم، وإذا أردنا أن نتكلم عن الديكتاتورية والديمقراطية، فإن نظام حسني مبارك كان أكثر ليبرالية من جميع الأنظمة العربية، فهناك معارضة مصرية كان لها وجود في الشارع، تتحرك، وتعمل، وتُضرِب، وتحتل، والإخوان المسلمون كانوا موجودين بوصفهم تنظيمًا كبيرًا تحت رقابة السلطة، لكن موجودون، ليس مثل سورية أو حتى تونس من هذه الناحية. فالانفجار الكبير يأتي بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية.
إن المنطقة العربية كانت تعاني من جمود اقتصادي، ومن معدلات نمو اقتصادي أكثر انخفاضًا من أي منطقة أخرى في آسيا وأفريقيا، ما ولّد أعلى نسبة بطالة شبابية ونسائية في العالم، ولذلك فإن هذا التفاقم الاقتصادي والاجتماعي هو الذي أوصل الأوضاع في المنطقة إلى حد الانفجار، وهذا الانفجار كان يحتاج إلى شرارة، وأتت الشرارة من تونس، وفي تونس نفسها هذه الشرارة سبقتها شرارات، بمعنى أنه حصلت جملة توترات اجتماعية وانتفاضات محلية في تونس قبل الانتفاضة الكبيرة. والشيء نفسه يقال عن مصر التي شهدت صعودًا مميزًا للنضالات العمالية في السنوات الخمس السابقة للانتفاضة في الـ 2011، وبالتالي فإن المؤشرات كلها كانت قائمة. وكما ذكرت أكثر من مرة، السؤال الكبير في الـ 2011 لم يكن لماذا انفجر الوضع، بل لماذا تأخر الانفجار إلى هذا الحد؟ نظرًا إلى أن الشروط التي تراكمت في السنوات السابقة، ووصلت قبل وقت طويل إلى مستوى لا يطاق. لكن الأوضاع الثورية شيء، والانفجارات العفوية الشعبية شيء، والثورات الناجزة شيء آخر، فحتى تستكمل ثورة، المعنى العميق في تغيير النظام وتحقيق الطموحات العميقة، فإن الأمر يتطلب وجود تنظيم للحركة الشعبية، وتنظيم ذاتي للحركة الشعبية، بحيث تكون هذه الحركة الشعبية قادرة بوجود أطر تمثيلية وقيادية لها، على إتمام التغيير الذي تنشده، وهذه هي المعضلة الكبرى في السيرورة الثورية العربية، كما في كل السيرورات الثورية في التاريخ. الموضوع الأساس هو وجود أطر قيادية قادرة على إدارة هذا التغيير. هذا السؤال الكبير في المنطقة، ومن هذه الناحية نحن نشهد بعض التقدم ما بين الموجة الأولى والموجة الثانية، وهناك اختلافات ما بين البلدان، فحالة السودان هي الأكثر تقدمًا اليوم من حيث طبيعة التنظيم للحركة الشعبية، ولكن على الصعيد الإقليمي بشكل عام لا تزال لدينا مسافة طويلة، والأمل في أن الأجيال التي تسيّست من خلال التجذر، ومن خلال وضع التوتر العام، ستتعلم الدروس، فحتى الفشل على طريقة المأساة السورية فيه دروس، وآمل بأن الأجيال الصاعدة ستستوعب هذه الدروس وتتمكن من إيجاد الأطر التنظيمية وأشكال التنظيم، بحيث لا تكتفي بالفيسبوك والتويتر ووسائل التواصل الاجتماعي، بل يجب أن تصنع تنظيمًا على الأرض.
إن التغيير الجذري للنظام، أي التغيير الاجتماعي والسياسي للدولة في المنطقة العربية، يتطلب كسر أدوات القمع التي تستند إليها هذه الأنظمة في كل البلدان المذكورة، ولكل جهاز مسلح، ما يضعنا أمام معضلة إما الصدام الذي يؤدي إلى حرب أهلية طاحنة، كما رأينا في سورية واليمن وليبيا، أو استسلام الحركة الشعبية، وبالتالي إجهاض أي آمال تغييرية، أو تمكُّن الحركة الشعبية من كسب قاعدة القوات المسلحة، وهذا ما فشلت في تحقيقه الثورة السورية. على الرغم من بعض الانشقاقات عن الجيش، إلا أن الجسم الأساس للقوات المسلحة بقي تحت حكم النظام. وفي الحالة السورية، لا بدّ أن نأخذ في الحسبان التدخل الخارجي، الإيراني ومن ثم الروسي، الذي حمى النظام من السقوط الذي كاد أن يحدث عام 2013، وكذلك في عام 2015 كان في ورطة حقيقية لولا التدخل الخارجي الذي أنقذه.
كلما تمكنت الحركة الثورية من كسب أبناء الشعب ممن ينتسبون إلى القوات المسلحة، وإقناعهم برفض التحول إلى أدوات قمع كما تريدهم الأنظمة، عندها يمكن تخفيض تكلفة التغيير الثوري، ومن دون ذلك نحن أمام مآسٍ بالتأكيد.

نور حريري
السؤال الثاني ذو شقين، الشق الأول، كيف يمكن أن يكون المسار الاجتماعي الاقتصادي سابقًا على المسار السياسي؟ وهل هو سابق عليه أصلًا أم إنهما متلازمان في الآن ذاته؟
الشق الثاني، ما مفهوم العقوبات الاقتصادية عامة، وما هي العقوبات الاقتصادية الأميركية على سورية خاصة تلك التي تهدف إلى التضييق على النظام سياسيًا، كما تستهدف النظام المالي والموارد النفطية؟ فهل ترى أن العقوبات الاقتصادية الخارجية قادرة على تغيير موازين القوى القائمة حاليًا، وإن كان كذلك، فإلى أي مدى؟ وما آثار هذه العقوبات على النظام؟ وعلى الدولة؟ وعلى المجتمع؟
جلبير الأشقر
أولًا بالنسبة إلى موضوع علاقة الاقتصادي بالسياسي، فهي علاقة وثيقة، فإذا لاحظنا عبر تاريخ الأنظمة الديكتاتورية، نجد أنها تقوم بإنجازات اقتصادية واجتماعية، على طريقة النظام الناصري مثلًا، فلا شك أن جمال عبد الناصر كان له شعبية ضخمة في مصر، ليس لأنه رئيس ديمقراطي، فقد كان النظام مخابراتيًا وعسكريًا، ولكنه كان نظامًا تقدميًا بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي حتى بالمعنى الوطني، إذ قام بإنجازات لا يمكن إنكارها، ونجح في تحسين الوضع الشعبي والوضع الجماهيري، وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، ما حمل أغلبية الناس على مساندة هذا النظام على الرغم من ديكتاتوريته. أما ما يحدث في منطقتنا فهو تردٍّ اقتصادي في ظل الديكتاتورية. فمع بداية التسعينيات بدأ الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالتردي أي شهدت المنطقة عشرين عامًا من الانحطاط المستمر في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتصاعد المستمر في اللامساواة الاجتماعية والفساد والمحسوبية، ما أدى إلى النفور من النظام، ولا سيّما أن أغلب الناس لا يجدون فرص عمل، خاصةً الشبان، كل ذلك جعل الوضع سيئًا جدًا، وبالتالي عندما تتكثف هذه النقمة الاقتصادية والاجتماعية تتحول إلى سياسية بطبيعة الحال، وتحتاج كما قلنا إلى شرارة، وإلى عامل تفجيري، وهذا ما حدث في تونس وانتقل إلى البلدان الأخرى، وهكذا تتم عملية الانفجارات السياسية الكبرى.
ليس بالضرورة أن تحدث الانفجارات السياسية نتيجة خلفية اجتماعية أو اقتصادية، وإنما قد تحدث نتيجة الخضات التاريخية الكبرى كما يحصل في المنطقة العربية، إذ تكون عادةً الحالة السياسية وثيقة الارتباط بأزمة اقتصادية واجتماعية، وهذا هو التشخيص الدقيق لما جرى ويجري في المنطقة العربية.
بالنسبة إلى العقوبات، لا أعتقد أن العقوبات لها تأثير كبير في نظام معزول، كالنظام السوري، خاصة بعد سنوات تحولت فيها سورية إلى ساحة حرب، وارتهنت ارتهانًا كاملًا لروسيا وإيران، فلن تؤثر هذه العقوبات في إسقاط النظام. ويجب أن تكون مرفوضة لأنها لم تطل المجرمين وأفراد الأسرة الحاكمة والحاشية في سورية فحسب، وإنما تعدّت ذلك إلى التأثير في حالة الشعب السوري، الذي يعاني من كارثة ومن مأساة هائلة. رأينا أن العقوبات التي كانت مفروضة على العراق بين عامي 1991 و2003، لم تؤثر على صدام حسين ولا على أولاده ولا على عائلته، فيما دفع الشعب العراقي ثمنًا باهظًا، فقد كانت العقوبات أكثر صرامة مما هي اليوم على سورية، لكنها أدت بحسب تقديرات الأمم المتحدة إلى فارق في معدل الأموات في العراق، إذ بلغ 90 ألف نسمة في السنة، هذا يعني أن هذه العقوبات قتلت ما فوق المليون عراقي، معظمهم من الأطفال دون الخامسة من العمر. لذلك تجب الموافقة على العقوبات التي تطال الحكام، وفي الوقت نفسه يجب رفض العقوبات التي تثقل كاهل شعب مسكين يعاني أصلًا من مشكلات كبرى.
لقد كانت العقوبات على جنوب أفريقيا ذات تأثير حقيقي على الاقتصاد في الجنوب الأفريقي، وبالتالي ساهمت في إسراع عملية القضاء على نظام التفرقة العنصرية في العهد العنصري، أما في سورية، فإن الاقتصاد السوري تحول إلى اقتصاد حرب، ولذلك لن تحقق هذه العقوبات أي معجزات في التغيير، ذلك لأن الصراع في سورية لم يعد صراعًا بين معارضة ونظام، بل إن الصراع الأهم بالنسبة إلى المرحلة التاريخية التي نحن فيها هو بين روسيا وإيران، حتى تركيا باتت طرفًا ثانويًا بالنسبة إلى هذا الصراع الذي تحاول فيه روسيا اليوم أن تصل إلى نوع من التنسيق والتوافق.
على الرغم من ذهاب بشار الأسد إلى موسكو ليتوسل بوتين للتدخل، إلا أننا يمكن أن نطرح السؤال، لماذا تدخل بوتين عام 2015؟ الأسباب عديدة منها:
1- اقتناعه بأن الولايات المتحدة الأميركية وإدارة أوباما غير مهتمة اهتمامًا كبيرًا بالوضع السوري ولن تعرقل التدخل الروسي، بل رحبت فيه في البداية، وادعت اعتقادها أنه تدخل ضد داعش، وهذه كذبة كبيرة.
2- أزمة القرم في أوكرانيا، والعقوبات الدولية الغربية على روسيا، وهذه عقوبات مهمة بالمناسبة، لأن اقتصادها عادي وليس اقتصاد حرب مثل سورية.
3- النزوح الشعبي الكبير إلى أوروبا، في صيف 2015 بسبب هجمة داعش في الـ 2014.
كل هذه المعطيات أخذها لاعب الشطرنج فلاديمير بوتين في الحسبان، لفهمه أن سورية أصبحت ورقة مهمة، فتدخل في سورية لالتقاط هذه الورقة، والتفاوض مع الغرب، ومع أوروبا بصورة خاصة، ووراءها الولايات المتحدة، على الورقة السورية. فما هي الورقة السياسية عند روسيا؟ هي عملية إقصاء إيران عن الساحة السورية، وضبط الوضع في سورية، وفسح المجال لإعطاء ضمانات للاجئين للعودة، وهذا ما يطالب به الأوروبيون والأتراك وغيرهم. بالمقابل تبقى الورقة الغربية هي المال، فبوتين يحلم بإعادة بناء سورية بوساطة شركات روسية، أي يريد أن يجني ثمار ما زرعه من خراب في سورية، فبعد تخريب سورية يريد بناءها والاستفادة اقتصاديًا من ذلك، لكنه يحتاج إلى التمويل الغربي، وعليه تتم المفاوضات المستمرة.

نور حريري
تحدثت دكتور عن ضرورة وجود قطب ثالث يتصدى لقطبي الثورة المضادة، أي قطب النظام القديم، وقطب المعارضة الدينية الرجعية، هذا القطب الذي من شأنه أيضًا أن يتصدى للتخبطات القائمة بين هذين القطبين، كما حدث مثلًا في مصر وتونس، فما هي ركائز هذا القطب الثالث؟ وكيف يمكن أصلًا توحيد خطاب ما من خلال هذا القطب في ظل وجود أنظمة استبدادية، وفي ظل وجود ثقافة سائدة ذات صبغة دينية وإثنية وأيديولوجية؟ ما سمات هذا القطب؟ ومن أين ننطلق لبناء قطب من هذا النوع؟

جلبير الأشقر
التغيير المطلوب في المنطقة العربية تغيير اجتماعي اقتصادي سياسي ديمقراطي، والديمقراطية تفترض فصل الدين عن الدولة، إذ لا يمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية بفرض الدين على الدولة، ذلك لأن الديمقراطية هي سيادة الشعب، بينما المنطق الديني يقول إن النص الديني لا يمسّ، ويجب أن يفرض، وبالتالي لا سيادة للشعب على ما هو إرادة إلهية بالمنطق الديني، ولذلك فإن موضوع ما يسمى بالعلمنة هو فصل الدين عن الدولة، بما يسمح باستقلال الدين عن الدولة أيضًا. فالدين أيضًا يريد أن يكون مستقلًا عن الدولة لا أن يتم استغلاله من الدول كما في بلداننا، التي تستخدم المؤسسات الدينية بما يخدم مصالحها. فالتغيير المطلوب إذًا هو تغيير يلتقي مع آفاق جملة من القوى، مما يمكن تسميته بالليبرالي الإصلاحي، أي ليبرالي سياسيًا، وإصلاحي اقتصاديًا واجتماعيًا، إلى التقدمي، أو ما يمكن تسميته باليساري، علمًا أن هذه التسمية في المنطقة لدينا نظرًا إلى طبيعة معظم الأطراف التي تدعي اليسار، صارت عند البعض جزءًا من الأنظمة، خاصةً في الحالة السورية، وهي حالة واضحة. إذًا هذه الجملة من القوى يجب أن تجد لها طريقة انتظام بالشكل الذي ذكرته سابقًا فيما يتعلق بقدرة الحراكات الشعبية على إيجاد الأطر القيادية الديمقراطية، أي الأفقية لا العمودية.
أي إن المطلوب هو جملة من القوى تعمل باتجاه ديمقراطي واحد، وتعلم أنها تواجه قوتين مضادتين بطبيعتهما للطموحات والأماني التغييرية الثورية الشبابية، والقوتان هما النظام القديم، والقوى الدينية.
في الموجة الأولى حدثت الانتفاضات في بلدان كانت فيها القوى الدينية في المعارضة، ليس جميع القوى الدينية، فمثلًا في مصر كان الإخوان المسلمون في المعارضة، وكان السلفيون مع مبارك، لكنهم ركبوا الموجة في الـ 2011، وتظاهروا بالانضمام إلى الصفوف التغييرية، ثم عادوا اليوم لينضموا إلى جانب السيسي.
إذًا في الموجة الأولى، كانت هناك قوى دينية في المعارضة، وهذه القوى تمكنت بسبب دعمها الخارجي والتمويلي والإعلامي وغير ذلك، من الوصول إلى مراكز القيادة في الحراكات الشعبية، وهي التي استفادت بصورة أساس من الموجة الأولى في الانتخابات، في تونس ومصر، ونراها في قيادة الأمور في ليبيا وسورية واليمن، متمثلة بجماعة الإخوان المسلمين بصورة أساس.
في الموجة الثانية، بعدما هُزِمت الموجة الأولى، وهُزِم معها الذين كانوا قد وصلوا إلى مركز الأمور من خلالها، نرى أنها بدأت في السودان التي تجمع بين الديكتاتورية العسكرية والجماعات الدينية الرجعية في آن، ما أدى إلى استبعاد هذه القوى عن الحراك الشعبي.
وفي الجزائر، كانت القوى الدينية منبوذة في الحراك الشعبي، ولا سيّما أنها شاركت في حكومات متفرقة.
وفي العراق ولبنان، نجد حزب الله وميليشيات الحشد الشعبي العراقي تمثل القوى الأصولية الدينية، على الرغم من أنها شيعيّة وليست سنيّة، لكن في النهاية الأمران سيان، فهي جزء أساس من السلطة في البلدين، في العراق ولبنان.
غير أن الوضع الحالي تخطى مؤقتًا اللحظة التاريخية الأولى التي انخرطت فيها القوى الدينية في السياسة وأمسكت بزمام الأمور، بسبب الضعف التنظيمي والمادي والسياسي للقوى الأخرى.
نحن اليوم أمام آفاق جديدة، ولكن يبقى هناك ضعف شديد في مجال تنظيم هذه القوى. الحالة الأكثر تقدمًا في المنطقة هي الحالة السودانية، حيث تمكنت الحركة الشعبية من خلق إطار لها من خلال تجمع المهنيين السودانيين الذي أنشأته المعارضة السرية غير الشرعية لنظام البشير، التي تحولت إلى الناطق الرئيس باسم الحركة الشعبية الفعلية في السودان، يضاف إليها حراك شبابي منظم بصورة رائعة، عبر لجان تضم عشرات الآلاف من الشبان، والتفاعل بين هذين الطرفين هو أساس الحركة الشعبية السودانية، فهي إذًا حالة متقدمة، وقد تليها حالات أخرى، ونتمنى ذلك. هذا طبعًا لا يكفي، لأن الوضع صعب جدًا في مواجهة الجيش والقوات المسلحة المدعومة من مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة السعودية وغيرها، أي أن الوضع السوداني صعب جدًا، لكن هناك حركة شعبية استطاعت تحقيق مكاسب عديدة ومستمرة في الصراع. الوضع السوداني قد ينتهي بمأساة، فليس هناك شيء مكتوب في السماء حول مصير ما يجري، لكن الأمور مفتوحة، والمهم أن هناك تنظيم متقدم للحركة الشعبية.
الحالة الأخرى كانت حالة تونس، فقد كان دور الاتحاد العام التونسي للشغل الذي سمح أصلًا لتونس أن تكون البلد الأول الذي أسقط ديكتاتورًا، رئيسًا في تنظيم الحراك الشعبي والانتفاضة التونسية في الـ 2011، لكن للأسف لم تخض الحركة النقابية الصراع السياسي، بمعنى أنها لم تخض الصراع الذي يؤدي إلى وصولها إلى السلطة، لأنها كانت الحالة الوحيدة المنظمة المعبرة عن الحركة الشعبية تعبيرًا كاملًا وعميقًا، واكتفت، بحراسة شروط الديمقراطية، وهذا بحد ذاته مكسب، ولذلك فإن تونس هي الحالة الوحيدة في المنطقة التي حققت الديمقراطية السياسية، بل ويمكن أن نقول إن تونس هي أكثر بلد من البلدان العربية ديمقراطيةً، بمعنى تحقيق الحريات الفعلية، ووجود انتخابات نزيهة، أي مقارنة بالمحيط العربي هي بالتأكيد حالة متقدمة.
في الوقت نفسه، تعدّ تونس أكبر دليل على أن الديمقراطية ليست بذاتها الحل الكافي، والدليل على ذلك الانتفاضات المتتالية في تونس، انتفاضات شبابية قامت في مطلع هذا العام، سببها تفاقم البطالة الشبابية وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يشير إلى أن التغيير المطلوب أعمق كثيرًا من مسألة الديمقراطية، وأن الديمقراطية جزء من الحل، وليست الحل بذاته.
نور حريري
ذهب بعض الكتاب والمنظرين والمثقفين إلى القول إن أخطاء المعارضة كانت خارجة عن السيطرة، وما كان ممكنًا توقعها ولا تداركها، بسبب الانقطاع الطويل عن المناخ السياسي، وغياب قيادة فعلية ونخبة سياسية، فهل كان في رأيك من غير الممكن فعلًا تدارك هذه الأخطاء؟ وهل كانت هناك أخطاء كبرى يمكن تلافيها؟ وما هي هذه الأخطاء؟
جلبير الأشقر
بالتأكيد هناك أخطاء، وبالتأكيد الفشل مرتبط بأخطاء. صحيح أنه لا تمكن إعادة كتابة التاريخ بناءً على الخيال، ولكن يمكن رصد هذه الأخطاء، وإعطاء أمثلة عن بعض الحالات الأكثر شهرةً. في حالة مصر؛ إن وقوف القوى التقدمية والليبرالية المتمثلة بحمدين صباحي والبرادعي (الليبرالي واليسار) مع السيسي في الـ 2013 قضى عليها، حيث وقعت في وهم كبير بأن الجيش سوف يكتفي بإزاحة محمد مرسي، ثم سيفسح مجالًا جديدًا أمام الديمقراطية، وهذا وهم قاتل، أي لقد ارتكبت خطًأ تاريخيًا جسيمًا بالفعل.
وإذا نظرنا إلى الحالة السورية، تكفي قراءة كتاب برهان غليون، وهو يعترف بكل الأخطاء، التي أدت إلى سيطرة الإخوان المسلمين على المعارضة التي تحولت إلى واجهة غير فعالة حقيقةً لأولئك الذين يمسكون بزمام الأمور والفعل، وبسببهم سيطرت الدول على المعارضة الخارجية السورية. وأنا في رأيي أن الثورة السورية ضُرِبَت منذ انتقال زمام المبادرة من الداخل إلى هيئة في الخارج أصبحت تحت سيطرات مختلفة.
هناك إذًا بالتأكيد مشكلات كبرى، ولكن لا ألوم مثلًا الحركة الشبابية السورية ولجان التنسيق واللجان المحلية في المرحلة الأولى من الانتفاضة الشعبية، على عدم إفرازهم قيادات منهم، لأنهم كانوا أضعف من الواقع. فإن طبيعة النظام القمعية لم تفسح المجال أمام الناس حتى تتربى سياسيًا وتربط شبكات على الأرض، غير الفيسبوك ووسائل التواصل، نتمنى أن يحصل ذلك في المستقبل. والشيء نفسه يقال عن بعض التجارب، مثل التجربة السودانية، التي شاركت فيها القطاعات الإنتاجية الفعلية في الانتفاضة، وأثرت في شكل البلد اقتصاديًا من خلال الإضراب العام، هذا ما افتقدت إليه سورية.
نحن أمام سيرورة ثورية طويلة. أنهيت كتابي الأخير حول الانتفاضات في درس الانتكاسة بعد الـ 2013، أنهيته بالتمييز بين التفاؤل والأمل، إذ ليست هناك دواع للتفاؤل في المنطقة العربية، بل على العكس وبكل وضوح، إن أسباب التشاؤم أكثر من أسباب التفاؤل، نظرًا إلى ضعف الحراكات الشعبية، ونظرًا إلى شراسة وضخامة الأجهزة القمعية الموجودة، لكن هناك مجال للأمل بالأجيال الجديدة الصاعدة، التي تتعلم من دروس ما حدث، وبالتالي فإن العمليات الثورية عمليات تراكمية، وهنا محط الأمل، الأمل هو الإقرار بأن هناك طاقة وإمكانية للتغيير، والنصر في نهاية المطاف، وتحقق هذه الإمكانية يعتمد على قدرة هذه القوى على تحقيق كل ما ذكرناه. وعليه فإن الأمل يختلف عن التفاؤل. التفاؤل هو الاعتقاد بأن الأفضل سوف يحصل، وأنا في الحقيقة لست متفائلًا ولا متشائمًا، بل أفضل الحديث عن الأمل، لأن الأمل شرط تفاؤل الإرادة، ونحن نستطيع أن نجمع تشاؤم العقل مع تفاؤل الإرادة، وهذا يتطلب الأمل، وهو موجود ومشروع.

أسئلة الحضور

ريمون معلولي
كنت أكتب عن العشوائيات في سورية، والثورة، أو الربيع السوري، وانتهيت من الكتابة في هذا الموضوع أمس، وأنا أعرف جيدًا هذه المنطقة، لأني بحثت فيها بشكل عميق في سنوات سابقة، وحتى عام 2011، وكان يبدو، أن سكان العشوائيات هم خليط من مستويات اقتصادية واجتماعية مختلفة، وليس صحيحًا أنها تمثل حزام الفقر بالمطلق، في سورية على الأقل، حيث هناك فئات اجتماعية اقتصادية يمكن أن تصفها أو تصنفها بمستوى الطبقة الوسطى، إضافة إلى وجود ضباط برتب عالية يقيمون في هذه المناطق، كما يوجد مهندسون، ومحامون، وفي الوقت نفسه هناك فئات مهمشة تعمل على الرصيف، بعربات البيع غير المنتظمة ومن دون منشآت، أي تعمل في كل أشكال العمل النظامي وغير النظامي، المأجور وغير المأجور، إضافة إلى عمل النساء على الأرصفة.
إذًا، أريد أن أصل من هذا الكلام، إلى أننا أمام تركيب اقتصادي اجتماعي لا يمكننا أن نصفه بصفة معينة، من الناحية الاقتصادية، بأنه فقير جدًا، لكنني وجدت – وكانت لدي معلومات كبيرة جدًا من كل الاتجاهات -، ووصلت عبر التحليل العاملي إلى المتغيرات المؤثرة في الحالة. والسؤال كان إحصائيًا: ما هي أكثر العوامل تأثيرًا في هؤلاء السكان؟ الذين اندفعوا منذ اللحظة الأولى إلى الثورة، واندفعوا إلى الشوارع بقوة عنيفة، وكانوا أكثر من تلقى الأذى، أولًا بالعصي، وثانيًا بالبي كي سي، أي كانوا يتعرضون للضرب بالطلقات ذات الخردق، وكنت ممن شهد ذلك وشارك في إسعافهم، وبعد ذلك بدأ الرصاص، ثم استخدم النظام كل أشكال العنف، حتى على البنية التحتية، بما في ذلك تجاه مساكنهم التي مسحها عن الأرض، وهنا أقول: هل العامل الاقتصادي هو الذي حرك هؤلاء؟ أي أنا أريد أن أقول إنني لست مع مقولة إن العامل الاقتصادي هو المحرك، كما كان يقال في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية، بل أنا أقول إن هؤلاء السكان يعيشون حالة تهميش بكل أنواعه، الأمان والأمن والضغوط والتهديد بالترحيل، إضافةً إلى الفقر طبعًا، وإضافة إلى تقاليدهم التي جاؤوا بها من الريف، وموقف السلطة منهم، ووضعهم في ما سميته بمتلازمة التهميش. هؤلاء أعتقد أن العامل الاقتصادي عندهم ليس العامل الحاسم في تحريكهم وانطلاقهم، بل جملة من عدة عوامل من بينها شعورهم بتهميشهم وعدم الاعتراف بهم من أي أحد، ومسألة الكرامة التي ثار من أجلها الشعب السوري، فهو لا يريد الحرية فقط، بل الكرامة أيضًا، فما هو مدى مشاطرتك لي في هذا الاستنتاج؟

عصام دمشقي
أعتقد أن المنطقة العربية نجت من موجة التغيير الديمقراطي التي اجتاحت العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والتي خلقت مناخًا جديدًا في العالم كله، وأحدثت تغييرات ديمقراطية عديدة في دول أميركا وأفريقيا وآسيا، فيما نجت الدول العربية منها، لذلك فإن المقاربة غير صحيحة عندما نقول إنهم تحركوا في هذه اللحظة بسبب تراكم الوضع الاجتماعي فحسب. فالوضع الاجتماعي موجود بالتأكيد، لكن لا نستطيع أن نقول إن لحظة تفجر الربيع العربي كانت لحظة صراعات طبقية، أو لحظة تأزمات طبقية، هي لم تكن هكذا، حتى البوعزيزي احتج لأن الشرطة لم تقبل شكوته على الشرطية التي ضربته، وفي مصر لم يكن في ساحة التحرير عمال ولا فلاحون، بل كان هناك شبان ونساء. صحيح أنه كانت هناك شعارات عامة حول “العيش” والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكن الأساس كان هو الانزعاج من الاستبداد الدائم، ومن استبداد بن علي وزوجته في تونس، وسيطرتهم وفسادهم، وكذلك مبارك الذي كان يريد توريث ابنه، وفي سورية الوضع أسوأ، في ظل الوضع الاستبدادي والطائفي.
وفي الحديث عن سورية، نحن نعرف جيدًا أن ريف دمشق الذي انتفض هو ريف غني ينافس دمشق العاصمة في الغنى، فهو ريف صناعي وتجاري، وليس من المعقول أن يترك هذا الريف كل شيء وينتفض، لكن هذا الريف كانت تذله السلطة أكثر كثيرًا من المدينة، وكانت تتحكم أجهزة المخابرات في كل تفاصيل صناعته وتجارته وحياته اليومية، أكثر كثيرًا من دمشق العاصمة. المشكلة الأساس كانت مشكلة الحرية، ومشكلة الكرامة، ومشكلة الاستبداد، ونحن كثيرًا ما نناقض أنفسنا، فنقول إنه كان هناك دور كبير للإسلاميين في ثورات الربيع العربي، فهل الإسلاميون كانوا يحملون راية التمرد الاجتماعي؟ وهل كانوا ممثلي العمال والفلاحين؟ بالتأكيد لا، لكنهم بشكل طبيعي يشكلون أكثرية الشعب، خاصةً أن الحركات السياسية قد قُمعت، فيما بقي التدين والإسلام موجودين بشكل طبيعي مع وجود المساجد. إذًا هنا يوجد تناقض في قولنا إن الناس كانوا إسلاميين، وفي الوقت نفسه نقول إنها كانت حركة اجتماعية، أبدًا هي لم تكن حركة اجتماعية. لو تحدثنا عن مصر وثورة الخبز سنة 1977 التي كادت تتحول إلى حركة سياسية، نقول نعم، هذا الكلام صحيح، لكن لم تكن كذلك حركة ميدان التحرير، وشاهدنا العائلات التي ظهرت في المقابلات، لم يكن لها علاقة بالعمال ولا الفلاحين، وأنا كما يغريني التحليل الطبقي، يغريني أيضًا التحليل الملموس.

جمال الشوفي
في الحقيقة توجد نقاط كثيرة تتقارب فيها وجهات نظرنا في تحليل سياق الربيع العربي بشكل عام، خاصةً فيما يتعلق بموضوع الأمل والموجة الثورية المقبلة، وأنه لا يوجد حل سحري في المنطقة، مع الاختلافات التي درستها حضرتك بشكل كثيف ومعمق، باختلاف تجارب المجتمع المدني في المناطق العربية. اللافت للنظر، وهو الرائع، وضع حالات معيارية لتقييم ثورات الربيع العربي بغض النظر عن أحلامنا ورغباتنا. إذا سمحت لي أن أضيف، وأتمنى أن أسمع رأيك في هذا الموضوع، أولًا، هل تمكن إضافة خلاصة عامة لمؤسسات الربيع العربي في العقد الماضي، تقوم وفق نقاط معيارية محددة، ومنها عدم حل سحري جاهز لتطبيقه في المنطقة العربية بثوراتها المتعددة والمختلفة، ثانيًا، فعلى قوات التحرر المدني عدم التمسك بشرعيتها الثورية السياسية وخوض حوار عقدي اجتماعي طويل يقارب التجربة التونسية مع قوى المجتمع المحلية خاصةً الإسلامية، كونها تمثل الأكثرية الشعبية في المنطقة، وثالثًا، الإدراك العميق لزمن التغيرات الكبرى، ومحطات صراعه المتغيرة، وأشرت حضرتك بوضوح إلى الـ 2013، وفي سورية نشير بوضوح إلى الـ 2015 وما بعدها، عندما أصبحت عقدة دولية، هذا مع التمسك بالحقوق المدنية والحريات العامة وفق جدول زمني مفتوح لا يكتفي بمرحلة انتقالية ولا بمغريات الحالة السياسية.

جلبير الأشقر
سأبدأ من الأخير فصاعدًا، أولًا لست أدري ما الذي يجعلك تقول إن القوى الإسلامية تمثل الأغلبية الشعبية، أنا لست مقتنعًا على الإطلاق بهذا، حتى في ليبيا، عندما جرت أول انتخابات ديمقراطية فيها، فشلت تلك القوى في الانتخابات، وفي مصر محمد مرسي في الدورة الأولى لانتخابات 2012 حصل على أقل من ربع الأصوات، وفي الدورة الثانية انتُخِب بفضل 60% من الأصوات التي لم تصوت له في الدورة الأولى، أي لم تكن تريده، لكنها صوتت له في الدورة الثانية لأنها فضلته على أحمد شفيق ممثل النظام القديم. طبعًا الوضع السوري أنتم تعرفون فيه أكثر مني، لكني لا أعتقد أن الشعب السوري أغلبيته مع القوى الإسلامية، ولو كان ذلك لكنا رأيناه، لكننا شاهدنا فشل المعارضة بعد هيمنة القوى الدينية عليها، ما قضى على قسم كبير من قدرتها على التأثير في قسم كبير من الشعب السوري.
هذه في رأيي أسطورة استشراقية، فالاستشراقيون مثل إدوارد سعيد، يعتقدون أن ثقافتنا محكوم عليها بالدين، وتبقى دينية، وهذا خطأ. انظر إلى العراق اليوم، تجد قوى دينية مهيمنة بالكامل على العراق، ولكن لو عدنا إلى الخمسينيات في العراق، تجد أن القوى التي كانت مهيمنة على الشارع في العراق شيوعية، وكان يقال في العراق شيعي شيوعي، بمعنى أن الحزب الشيوعي كان القوة الأكبر بين الأغلبية الشعبية الشيعية العراقية. إذًا، كفانا توهمًا، واستيعابًا للتصوير الاستشراقي لمجتمعاتنا، فنحن لا كمنطقة ولا كشعوب محكوم عليها أن تتبع قوى دينية، وهذا يختلف عن الإيمان، الإيمان شيء، وهيمنة قوى تستخدم الدين برنامجًا سياسيًا، شيء آخر تمامًا.
ثانيًا، عندما نقول، بما أن القوى الإسلامية هي التي قادت، فالثورة لم تكن اجتماعية، لأن هذه القوى الإسلامية لا تمثل المطالب الاجتماعية، فهل تمثل القوى الإسلامية المطالب الديمقراطية؟! من الذي يعتقد أن القوى الدينية الأصولية هي ممثلة الديمقراطية وحاملة راية الديمقراطية؟
إذًا، حجة أن القوى الإسلامية مهيمنة تثبت أنها ليست ثورة اجتماعية، يمكن استخدامها نفسها للقول إنها لم تكن ثورة ديمقراطية، فالموضوع إذًا ليس كذلك.
إن الموجات الديمقراطية التي حصلت في الثمانينيات، والتي شملت أميركا اللاتينية، وقسمًا من شرق آسيا، كانت تحولات ديمقراطية في بلدان شهدت نموًا اقتصاديًا وصناعيًا وتحديثيًا سريعًا خلال العقود السابقة، ما خلق فيها طبقة عاملة، وطبقة وسطى، وقوى طالبت في وقت ما بالتغيير الديمقراطي، ومثال واضح على ذلك، يمكن التحدث عن بلدين، هما البرازيل، وكوريا الجنوبية، إذ نجد السيناريو نفسه؛ دولتان شهدتا تصنيعًا متسارعًا، ثم وصل الأمر إلى حدّ أن الحركة العمالية كان لها دور أساس مع الطبقة الوسطى وغيرها في قلب الديكتاتورية العسكرية، وتحقيق التغيير الديمقراطي.
إذا انتقلنا إلى أوروبا الشرقية، نجد حالة مختلفة تمامًا، فمجتمعات أوروبا الشرقية كانت في حالة جمود اقتصادي لفترة طويلة، قابلة للانهيار، أي كانت في مستنقع اقتصادي، خلافًا للمثال الأول، وانهارت الأنظمة فيها بسهولة، لأنها أنظمة كانت قائمة على موظفين، لا على ملاك، أما في الحالة العربية، وهي الأسوأ، نجد عائلات تملك الدولة كلها، ولا تملك الرأسمال أو الأراضي فحسب. إذًا هذا يجب وضعه في تصورنا، نحن ننتمي إلى حالة جمود اقتصادي، وإلى منطقة كاملة تعاني من أزمة اجتماعية واقتصادية شديدة، ويهمني ما قاله الدكتور ريمون عن العشوائيات وغيرها، فهي موضوع مهم، لكن كل الإحصائيات عن فترة التسعينيات، وفترة العقد الأول من هذا القرن السابق للانفجار، تشير إلى تصاعد أرقام البطالة بشكل كثيف، وإلى تصاعد الفقر ونسبة الفقر، وهي من أعلى النسب في المنطقة العربية.
التهميش الذي تكلمت عنه، يبدأ أساسًا بأن قسمًا كبيرًا من المجتمع يعمل في القطاع غير المنظم كما يسمى، هذا هو التهميش بعينه، وهذه حالة اقتصادية اجتماعية، كما كنت أقول دائمًا، حيث يوجد ترابط بين الحالتين، ولم أنكر البعد الديمقراطي، والعطش للديمقراطية، ولا أحد يمكن أن ينكر أن الثورات ضد الاستبداد، وأن الناس تريد الكرامة، ولكن الكرامة ليست فقط كرامة بمعنى الكرامة السياسية، بل إن الكرامة تبدأ من الحالة الاقتصادية للناس، فالعاطل عن العمل يرى نفسه دون كرامة، لذلك ضم الانفجار الثوري بصورة واضحة هذا العدد الضخم من الشبان العاطلين عن العمل في منطقتنا، ولا سيّما أصحاب الشهادات منهم.
ما سبب تراكم القهر عند البوعزيزي؟ هل سببه فقط أن الشرطية عاملته بهذه الطريقة؟ ولماذا عاملته الشرطية بهذه الطريقة؟ لأنها كانت تريد أن تمنعه من بيع بضاعته في منطقة ما؟ أي هو اضطر إلى الخروج من المدرسة وتوقيف دراسته بسبب وضعه الاجتماعي التعيس، والانتقال إلى هذا العمل البائس الذي كان يقوم به. إذًا، إن تغييب الحالة الاقتصادية والاجتماعية خطأ كبير، هل تعتقد أن البوعزيزي درس كارل ماركس أو درس جون لوك أو غيرهما وقام بما قام به لأسباب سياسية؟ لا بل كان لديه قهر نتيجة وضعه الاجتماعي والاقتصادي التعيس.
فضلًا عن أننا إذا تحدثنا عن الحالة السورية، فينبغي الانتباه إلى بشكل خاص إلى حالة الجفاف الذي عانت منها المناطق الريفية وغيرها، ثلاث سنوات سابقة للانفجار، والتي أدت دورها في مفاقمة الأوضاع. ويكفي أن ننظر إلى التظاهرات، كما قال الأخ دمشقي، إذا كان من خرج في التظاهرات من غير العمال فمن هم الذين خرجوا للتظاهر؟ هل هم البرجوازيون بربطات عنق؟
في الحالة التونسية كما ذكرت، كان اتحاد العمال هو المحرك الرئيس للانتفاضة التونسية، ثم في الحالة المصرية، سبق الانفجار كما ذكرت خمس سنوات من النضالات العمالية في مصر، أكبر وأوسع موجة من النضالات العمالية في مصر، شهدتها البلاد قبل الانفجار، وخلال الانفجار نفسه.
في 7 شباط/ فبراير 2011 تحديدًا، عندما قررت الحكومة المصرية إعادة فتح الاقتصاد، يشل البلد إضراب عام عمالي، مئات الآلاف من العمال. نحن نقع في خطأ الإعلام الغربي وغيره، الذي يريد أن يسقط أحلامه على ما يجري عندنا، وهي أن تكون الاحتجاجات مرتبطة بإطلاق عملية ديمقراطية فحسب لا تمسّ النظام الاقتصادي والاجتماعي، ولا علاقة لها بالسياسات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي، على دول المنطقة كافة، والتي هي سبب رئيس لتفاعلها مع طبيعة الأنظمة الفاسدة القائمة في المنطقة، في خلق هذه الأوضاع المزرية اجتماعيًا واقتصاديًا والتي أدت إلى الانفجار السياسي الذي رأيناه. فهذه الأمور يجب أن تؤخذ بكاملها في الحسبان، والتحليل كما قلت. فعندما يقال موجة ديمقراطية، فهذا يعني أن تحولًا ديمقراطيًا يأتي بعد تقدم كبير، وهناك انفجار ديمقراطي يأتي بسبب جمود وانهيار، الحالتان مختلفتان تمامًا.
المسألة ليست مسألة ماركسية أو غير ذلك، المسألة هي مسألة فهم انفجار وسيرورة ثورية تاريخية، نبحث في شروطها كافة دون مسبقات نظرية، يكفي أن صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية تعترف بأن الانفجار الكبير في المنطقة العربية يعود إلى أزمة اجتماعية اقتصادية عميقة، لكننا نختلف على الحل، إذ يرون أن الحل في المزيد من النيوليبرالية والتحرير الاقتصادي، أما أنا فأرى غير ذلك، أرى أننا في منطقة لا مجال فيها لأن يؤدي الرأسمال الخاص دور المحرك الرئيس، لأن هذا الرأسمال ضمن الشروط القائمة يتوجه نحو المضاربة ونحو العقارات والربح السريع، وليس نحو التوظيف الصناعي المطلوب للتنمية. إذًا لا تنمية في منطقتنا إلا بالعودة إلى دور مركزي للدولة في العملية التنموية، لكن ليست دولة على طريقة ديكتاتوريات الأمس، بل نريد لهذا الأمر أن يأتي ضمن شروط ديمقراطية حقيقة وجذرية، هذا هو الحل كما أنا أراه.، وهو ليس حلًا جاهزًا، لكن لنقل هو تصوري للحل بحسب تشخيصي للأزمة. ماذا يتطلب الأمر للخروج من الأزمة، وإعادة وضع هذه المنطقة من العالم على سكة التنمية، وفي الوقت نفسه على سكة الديمقراطية؟ نعلم أن التنمية في شروط الديكتاتورية كما شاهدناها في الستينيات، تؤدي إلى حالة من الفساد والتبذير، تلغي فوائدها في نهاية المطاف.

طارق عزيزة
لدي ثلاث نقاط سريعة. النقطة الأولى، أشرت في المداخلة إلى ثانوية الدور التركي، في حين أن الوقائع العنيدة، كما وصفتها حضرتك، تتحدث عن تخطيط وممارسات اقتصادية واجتماعية ضمن استراتيجية تتريك ممنهجة للوجود الطويل الأمد، أتمنى أن نتوقف عند هذه النقطة.
النقطة الثانية، تركيزك على موضوع التنمية، ودورها في الانفجار، ثم دورها في الحل. فيما لو قامت قوى الأمر الواقع الحالية في مناطق نفوذها بتحسين شروط عيش الناس، بعد سقوط أو رحيل رأس النظام، وبعد اختفاء بشار الأسد من الصورة، هل من شأن تحسين وضع الناس اقتصاديًا تثبيت الأمر الواقع الحالي؟ بمعنى أن تقسيم مناطق النفوذ سيصبح له صيغة ما بتحسين الشرط الاقتصادي؟
النقطة الأخيرة، من الممكن أن تكون بمنزلة تعقيب، فعلًا إنه لوهم دخل إلى أذهاننا جميعًا، من قال إن القوى الإسلامية تمثل الأغلبية على الرغم من تصدرها المشهد، ولكن إذا وضعنا موضوع الإيمان جانبًا، فهو موضوع آخر، ونظرنا إلى تجربة هذه القوى على الأرض، نرى نتائج حكم القوى الإسلامية بوصفها سلطات أمر واقع على الأرض وانتفاض الناس في وجهها.
الشيء الأخير، حضرتك في نهاية دراساتك ومقالاتك، تتحدث عن مهمة اليسار، وتنظيم جديد، وأعتقد لم تأخذ هذه النقطة حقها اليوم، فأي يسار؟ رأينا وضع اليسار وترهله والتحاقه باليمين، حتى قوى اليسار السوري، إما التحقت يمينيًا مع الأنظمة، أو يمينًا مع القوى الرجعية، فهل ما زلنا نتوهم بيسار ما؟

ماهر إسبر
نحن السوريين ربما كنا ناشطين في الثورة في البدايات، وأنت ذكرت لجان التنسيق المحلية، أو التنسيقيات، وكوني كنت أحد المؤسسين لها، وعملت في المكتب السياسي لمدة سنتين تقريبًا، في الحقيقة كما تفضل كثير من المتداخلين سابقًا، لم يكن للإسلاميين دور في البداية، لكننا واجهنا مشكلة حقيقية في الواقع، هي أن الحامل الشعبي للثورة السورية، كان حاملًا ذا إرث إسلامي، أو هو إرث ثقافي تقليدي كلنا نعرفه، وهذا الإرث في مرحلة ما بعد عنف النظام والتدخلات الدولية التي دعمت بعض الحركات الإسلامية، أدت إلى انفراط عقدنا، وكان توجيه النظام لكل سهامه باتجاه هذه الحركات الديمقراطية.
وسؤالي هنا خارج النظرية، بمعنى التطبيق أكثر، نحن بوصفنا حركات ثورية، أو إذا كنا حركات ثورية في البداية، كيف يمكن أن تكون لدينا إمكانية للتنظيم ومواجهة هذا الواقع؟ أي مواجهة نظام يفتك بنا، ومواجهة تدخلات دولية تدعم القوى الإسلامية، ومواجهة قوى كامنة داخل المجتمع، إسلامية، هي أكثر جذرية منا، وأكثر قدرة على الحشد والتنظيم والقتال، ونحن في ظل هذا الواقع، على الرغم من أننا لم نكن نفتقد الشجاعة أو التضحية، لكن حصل أن تم الاعتماد على نخب لم تؤد دورها، فنخب المعارضة السورية كنا نعرف أنها كانت كارثة على الثورة، فما الذي كان في إمكاننا عمله؟ ونحن في هذا الواقع، إذا كنا نريد أن نكون متفائلي الإرادة، أريد أن أسمع رأيك ما هي الإمكانية لاستئناف مطالب شعبنا بالديمقراطية والتحرر؟

محمود الوهب
السؤال حول السودان، لا أختلف مع الدكتور في ما قاله، أن أفضل الثورات التي قامت كانت في السودان، بسبب الحوامل الشعبية المنظمة، ولم يذكر حضور المرأة أيضًا، إذ كان لها حضور فاعل جدًا، وفي الوقت نفسه جاء رئيس مجلس الوزراء على أرضية اقتصادية سياسية وطنية، لكنه اصطدم مباشرةً مع مسألة مقايضة السياسة الوطنية بالتنمية الاقتصادية، إذا صح التعبير، وهذا ما ستصطدم به كل بلداننا العربية المتخلفة، الذاهبة إلى التنمية، هذه المسألة إلى أي مدى يمكن أن نتساهل بها؟
الناحية الأخرى، أنا لا أعرف، في ما يتعلق بالدكاترة أو الأساتذة الذين تحدثوا، عن محيط المدن الكبرى، فمحيط المدن الكبرى لا تشبه العشوائيات، ولا يمكن أن أقتنع أن جماعة عش الورور في دمشق هم مثل جماعة أبو رمانة أو جماعة المزة، أنا ابن حلب، وأعرف المنطقة جيدًا، هذا الحزام اسمه حزام الفقر. من غير الممكن لأي حدث مما حدث في المنطقة ألا يكون له صلة بالوضع المعاشي والوضع الاقتصادي بشكل عام. وأحزمة الفقر أغلبها جاء من الأرياف وأهل المدن الذين اضطروا إلى بيع بيوتهم في المناطق الأفضل ومن ثم السكن في تلك الأحياء.

إبراهيم هواش
أمام هذا الواقع السوداوي، أو الأقرب إلى السوداوي، هل من الممكن إيجاد شعار أو مهمة للقوى الديمقراطية اليوم في كل بلدان الربيع العربي؟ نحن كنا نحلم بأن ننجز المهمات الديمقراطية كلها خلال شهرين، وكنا في بداية الثورة السورية نقول في الشهر السابع سننهي الأمر، هكذا كنا نعتقد، وكنا نرى أن سقوط النظام يساوي نجاح الثورة. اليوم في لبنان مثلًا، هناك استعصاء لإنجاز شعار “كلن يعني كلن”، وهناك استعصاء لإنجاز وطن في العراق اليوم، فلماذا لا نفكر في مهمة، تكون مدخلًا لإنجاز مهمات أخرى؟
ولدي تعقيب بسيط؛ الأحياء المخالفة في حلب تمثل 40% من مدينة حلب، وجماعة الريف يتجمعون حول بعضهم ويعيدون إنتاج القرية داخل هذا الحزام، والأهم هو الموضوع الاقتصادي، إذ يوجد تقسيم عمل بين هذه الأحياء، قسم لعمل القمامة، وقسم يجمع الخبز اليابس، وقسم يجمع الورق، وقسم يجمع الزجاج، أو المخلفات المعدنية، وهذا فعلًا كان حزام فقر، بكل معنى الكلمة، لكنه أنتج أيضًا شبيحة حلب في معظمهم.

عماد الظواهرة
هناك دول تنفجر في المشرق العربي، وهناك منظومة دولة وظيفية، من لبنان، إلى الأردن، إلى سورية، إلى العراق، وحتى قد تطال تركيا وإيران، هناك مشكلة نعاني منها في منهجية التحليل، خاصة في عملية رصد المتحولات من أوساط المثقفين واليساريين، فكأن الطائفية مثلًا هي في جوهر المصيبة، أو أن الإسلاموية، وهي حالة لم تكن قبل السبعينيات، فالاستبداد لم يكن إسلامويًا، بل كان طابعه ناصريًا وشيوعيًا وبعثيًا وقوميًا عربيًا وقوميًا سوريًا، هذا جزء من مفاهيم المنطقة. وبالمقابل، في البداية كانت السياسة، وفي النهاية كانت السياسة، لكن السؤال الكبير، هل الشعب يعرف ماذا يريد؟ ما هو دور النخب؟ وما هو دور الإطار العام للدولة؟ وحضرتك أشرت إلى نقطة أساس سيقع الجميع بها، كل من سيتصدر المشهد السياسي، هذه دولة أمامك، هذا اقتصاد مخرب، وهذه مصيبة أمامك، إما دول الخليج، أو صندوق النقد الدولي، أو الغرب وشروطه، كيف ستحضر التمويل للدولة؟ معظم الطروحات تقول الليبرالية، والاقتصاد الليبرالي الحر، لكن حضرتك تقول، وأنا أتفق معك، إنه إذا غابت دولة الرعاية، ذهب الشرق الأوسط برمته، ونعود مرة أخرى إلى الوضع المستباح القديم. والسؤال: إلى أي حدّ يمكن لدولة الرعاية أن تؤدي دورًا في الشرق الأوسط؟

جلبير الأشقر
سآخذ الأسئلة بالتسلسل هذه المرة، بدءًا بالأخ طارق، الذي تحدث عن تركيا، وأنا لم أقصد أن تركيا دورها غير مهم، وبالتأكيد أنا واع تمامًا لعملية التتريك، لكن تركيا اليوم مفعولها أصبح في جزء من الساحة السورية، وعلى أطراف الساحة السورية، أتحدث عن منطقة النفوذ التركي، فقد عرضت مؤخرًا على الدول الأوروبية، أن تمول ما يسميها أردوغان منطقة آمنة على الحدود، أي أن يكون هناك تمويل أوروبي لتوظيفات اقتصادية في تلك المنطقة، أي أن يكون له مشروع لإطالة وإدامة السيطرة التركية على المنطقة، ونحن نرى اليوم في عفرين مثلًا أننا انتقلنا من صور بشار الأسد إلى صور أردوغان، وأنا لا أعتقد أن الشعب السوري قام بثورة للعودة إلى الإمبراطورية العثمانية. إذًا، أنا مدرك أن هذا موجود، لكنه هامشي، أما ما يتعلق بالقسم الأساس من الساحة السورية، الذي يسيطر عليه اليوم ما يسمى بالنظام، والذي هو شبح، يخضع للصراع الأساس بين روسيا وإيران، أي بين الطرفين المسيطرين هناك، حيث مصالح الطرفين ليست منسجمة، ولكل طرف مصلحته الخاصة، وهذا يتبدى في الضوء الأخضر الروسي للقصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية، حيث سورية متروسة اليوم بـ “إس 400” وغيرها، أي إن الدفاعات الجوية الروسية موجودة، لكنها لا تستخدم اليوم ضد الطيران الإسرائيلي، ومن الواضح تمامًا أن هناك صراعًا خلف الستار سيكون الصراع الأهم في المرحلة المستقبلية إذا حصل بوتين على مبتغاه من الغرب، سنرى تطاحنًا روسيًا إيرانيًا في الساحة، في حال تم فك العقوبات المفروضة على روسيا.
هل يمكن أن يبقى النظام من دون بشار وتتحسن أوضاع الناس؟ كل السيناريوهات موجودة في الحقيقة، لكن لو حصل فعلًا إخراج بشار، وتسوية تحت رعاية روسيا، مع موافقة غربية عليها، وتمويل غربي وخليجي لإعادة الإعمار، ستكتفي الناس بهذا الوضع، إذا تحسنت أوضاعها الاقتصادية والمعيشية، وحصل متنفس سياسي بسبب هذه التغييرات، قد تسمح بإعادة الوضع إلى ما يشبه الوضع الطبيعي، لكن ستبقى التوترات الاجتماعية. يمكن لعملية إعادة البناء أن تشفي البلد، ويمكن أن تخلق متنفسًا لأي نظام.
بالنسبة إلى الأخ ماهر الذي شارك في اللجان في مرحلة الانتفاضة في الساحة السورية، أنا لا ألوم الذين شاركوا في اللجان لعجزهم عن تحقيق ما هو شبه مستحيل، لأنهم رفعوا الغطاء بعد عقود من غطاء ثقيل يمنع التنفس، عقود زجت فيها الدولة عشرات الآلاف في السجون، وقضت على أي حراك سياسي في البلد. إذًا الحالة السورية قريبة من الشمولية، وأيضًا ليبيا، فيما يختلف الوضع في الأردن ومصر، مع وجود قوى سياسية قادرة على العمل، وهذا ما لم يكن قائمًا في سورية، وفي ما يتعلق بالشرط الأساس، أي في ما يتعلق مثلًا بالتأثير في القوات المسلحة وغيرها. الثورة أو الانتفاضة إذا أخذنا مجازات حربية، المرحلة الثورية هي حرب حركة، هناك تمييز معروف بين حرب المواقع وحرب الحركة، وأنت عندما تبدأ بحرب حركة وليس لديك مواقع أصلًا، كما كان في سورية، فأنت تكون في موقع ضعف شديد. وبالتالي لا أتصور أنه كان هناك مجال للنجاح، لكن أعتقد أن قبول اللجان بحل نفسها عمليًا وقبولها بوجودها في المجلس الوطني، أنا في رأيي، خطأ سياسي يمكن تداركه، ولو كانت ستقمع، لتبقى تجربة داخلية، ولا تنتهي هذه التجربة بفساد المعارضة الخارجية، التي تحولت إلى مدخل لشتى أنواع النفوذ من الدول الإقليمية وغير الإقليمية، ورأينا ما حصل في نهاية المطاف.
بالنسبة إلى السؤال عن السودان، الدور النسائي وجِد من البداية، وفي تونس هناك حركة نسائية منظمة أدت دورًا مهمًا منذ المرحلة الأولى للتغيير في تونس، حتى في اليمن شهدنا مشاركة نسائية، لكن في الموجة الثانية في 2019 كان الدور أبرز. لكن في السودان، لم يكن الدور النسائي في قيادة الحراك، بل كان في قاعدة الحراك، فالأغلبية النسائية كانت في الانتفاضة الشعبية السودانية، لكن هناك دور لقوى نسائية منظمة وما زالت فعالة جدًا في السودان. وأيضًا في الجزائر كانت هناك مساهمة نسائية مهمة في الحراك الجزائري، وفي لبنان كان دور النساء بارزًا جدًا، وكانت النساء في الطليعة في الـ 2019، وفي العراق، على الرغم من أننا نعرف أن شروط المجتمع العراقي لا تساعد، لكن تأثرًا بما حدث في لبنان، وعندما التحقت الحركة الطلابية بالانتفاضة العراقية، شهدنا مشاركة نسائية لشابات.
وبالنسبة إلى السؤال الذي طرحه الأخ محمود، حمدوك هو رجل المساومة، فهو رجل مقبول من العسكر، ومقبول من الإمارات، ومقبول من السعودية، ومقبول من مختلف الأطراف، قبلت به أيضًا الحركة الشعبية حلًا انتقاليًا، علمًا أن له ماض يساري، ومر بمرحلة شيوعية في تاريخه. وهذا ما ساهم في القبول به، لكن في النهاية وجد نفسه أسيرًا للمؤسسة العسكرية، وأسيرًا للتركيبة التي دخل إليها، والضغوط الخارجية التي خضع لها، لكن كل هذا لا يبرر القبول بالتطبيع وغير التطبيع كما يحصل، على الرغم من أنه هو بذاته لم يقبل، لكنهم سائرون على هذا الطريق، لأنه لا يوجد إلا طريقان، إما طريق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيره، وهذا يؤدي بك إلى التطبيع وغير التطبيع، لأن النظام الغربي يسود في هذا المجال، وتبتعد تمامًا عن الحل المنشود، أو البديل عن ذلك، بسيادة مستندة إلى الطاقة المحلية، ونحن مجتمعات فيها ثروات، لكن هذه الثروات مهدورة بطرق شتى، ما يتطلب نظامًا ديمقراطيًا فعلًا، قادرًا على تعبئة الشعب، وبالتالي جذب الاستثمارات الخارجية وغيرها، لكن من خلال ضبط العملية وتعبئة الطاقات الشعبية ومن خلال دور مركزي للدولة في خلق شروط التنمية.
اليوم أسرع تنمية في العالم هي التجربة الصينية، والتجربة الصينية عكس النموذج النيوليبرالي بخلاف ما يتصور البعض أو يدعي، حيث في التجربة الصينية كان هناك دور أساس للدولة في النمو السريع الذي حصل في العقود السابقة وصولًا إلى اليوم، كما حدث بشكل تدريجي توسيع نطاق القطاع الخاص حتى أصبح طاغيًا، لكن هذا لم يحصل بين ليلة وضحاها، إنما حصل بوصفه عملية تراكمية خلال سنوات عديدة أدت فيها الدولة، وما زالت تؤدي دورًا أساسًا، لكن توظيف استثمارات الدولة والاستثمارات الحكومية كان لها الحصة الأكبر لفترة طويلة جدًا حتى وصلت إلى الوضع الحالي.
ومجتمعاتنا لديها طاقات يجب أن تستخدمها، وبعدها تذهب للشراكات الدولية بين أميركا وألمانيا والصين وروسيا وغيرها، فهذا يتطلب حكومات تعبر عن السيادة الوطنية، وبالتالي قادرة على أن تكون تنموية وسيادية في الوقت نفسه، في رسم سياسات تختلف كليًا عما نراه حاليًا.
وأخيرًا، بالنسبة إلى لبنان والعراق، الحالة صعبة جدًا، إذ لا أرى تغييرًا ممكنًا في العراق أو لبنان، خاصةً لبنان، ما دامت الدولة الإيرانية قائمة كما هي، لأنه ما دامت الدولة الإيرانية تمدّ هذه القوى بدعمها، يصعب جدًا التغلب عليها، تمدّها تمويلًا وتسليحًا وتدريبًا وغير ذلك.
لكن نحن نرى أن إيران نفسها بدأت تشهد هبات شعبية متتالية، والوضع الاقتصادي والاجتماعي فيها مزر، فإيران ليست بعيدة عن حالة بلداننا العربية، وبالتالي هناك ترابط وثيق بين حالة لبنان والعراق، ويمكن أن نضيف إليهما سورية، والوضع الإيراني، سنرى كيف سيتطور هذا الترابط تاريخيًا.
وأخيرًا، قبل أن أنهي، بقي موضوع اليسار. للأسف، واضح أن قسمًا كبيرًا من القوى التي تحمل هذه اليافطة في منطقتنا العربية، لا تمت لليسار بصلة صراحةً، فكيف لطرف ما يعدّ نفسه يسارًا، واليسار يعني قيم المساواة بالدرجة الأولى، وقيم الديمقراطية، فاليسار الحقيقي تاريخيًا يختلف عن الأنظمة التي ظهرت بادعاءات يسارية، فكيف يمكن أن يدعم اليسار مثلًا بشار الأسد؟ أو الحكم الإيراني؟ أو أن يعدّ حزب الله قدوة؟ ما علاقة ذلك بأي قيمة من قيم اليسار؟ إذًا مهما كانت التسمية، المطلوب فعلًا قوى تقدمية من نوع جديد، هذا اليسار القديم انتهى، وكما أقول دائمًا، ما تبقى منه محنط تمامًا، وليس له آفاق، وقسم منه ما زال امتدادًا لما قام به اليسار الفلسطيني، مثل الجبهة الشعبية وغيرها، وعلاقاتها، بليبيا، والعراق، ودمشق، هذا ينسف معنى اليسار! ما معنى اليسار الذي يرتبط بأنظمة ديكتاتورية برجوازية طبقية استغلالية كهذه الأنظمة التي ذكرناها؟!
إذًا العلة هي فيما يسمى باليسار في هذه المنطقة من العالم، وأنا آمل بصعود يسار من نوع جديد، والأمل في الأجيال الصاعدة لتحقيق ذلك. نرى عالميًا موجة صعود لنوع من التقدمية الجديدة، حتى في الولايات المتحدة الأميركية رأيناها في ظاهرة حركة السود، بلاك لايفز ماترز، وغيرها، هناك حركات دائمًا، وهناك تجدّد، نأمل أن نشهد مثل هذا التجدّد في منطقتنا بوصفه جزءًا من هذا التركيب من القوى الليبرالية التقدمية الإصلاحية إلى اليسارية التي يجب أن تكون هي صانعة التغيير، على الأقل في طور التغيير الديمقراطي الاجتماعي الأول في هذه المنطقة من العالم.

جلبير الأشقر

جلبير الأشقر

مشاركة: