كتب الإمام علي بن الحسين المتوفى عام 95 للهجرة هذه الرسالة في مطلع القرن الثامن للميلاد في الثلث الأخير من القرن الهجري الأول. وهي على حدّ علمنا أول رسالة تحمل الاسم بمفهوم العصر، وأول محاولة لا تتمسك بمفهوم الحقوق ببعده السلبي. فكلمة حق، كما هو معروف، دخلت الثقافات البشرية لتحصر الحق في جنس أو فئة أو جماعة قربى أو مجموعة اعتقادية أو مواطنة. وبهذا المعنى، تم التمييز مثلًا، بين الرجل والمرأة والقريب والغريب والمواطن والأجنبي والمؤمن والكافر الخ. وكان الاعتقاد السائد أن المفهوم الإيجابي للحق قد ترافق مع عصر التنوير الأوربي ونشوء مفهوم الحقوق الطبيعية التي أعادت لكل إنسان مسلمات يفترض أن يتمتع بها باعتبارها هبة من الله أو الطبيعة. إلا أن الدراسات الحديثة لمفهوم الحقوق على الصعيد العالمي بينت أن هذا المفهوم قد سبق الحضارة الأوربية وأخذ أشكالًا متعددة، بعضها كان نتاج صراع مباشر بين المعرفة الحكمية والمعرفة الدينية، وبعضها كان في محاولات التوفيق بينهما. وإن كانت حقوق الإنسان، على الأقل في قراءتها الفرنسية قد طبعت بالصراع بين الكنيسة ورواد التنوير والذي تم التعبير عنه بصراع بين حق الله وحقوق الإنسان، فإن الطابع الشامل للإسلام قد خلق حالة تداخل بينهما أبلغ ما تعبر عنه هذه الرسالة التي تدمج في نص واحد حقوق الله والأفعال المرتبطة بها (من عبادة وطاعة) وحقوق الناس في قراءة تفصل بين حق الحاكم وحق المحكوم وتوضيح العلاقة بين أفراد الأسرة. في تذكير بما يجب على الأفراد من حقوق. أي أن قراءة ما لك تأتي من إدراك ما عليك. وأهمية الرسالة اليوم تنبع من القراءة التاريخية لها لا القراءة الإيديولوجية. فهي ابنة زمان ومكان وصراعات حية ومخاضات أولية سبقت مدارس الفقه الجعفرية والسنية وعاشت في حقبة ولادة مفهوم التعاقد الإسلامي سواء أكان ذلك في مستويات ما عرف بالأمة أو في مستوى العلاقة بين الحاكم والرعية. مع محاولة تنظيم لعلاقات الأفراد من أحرار وملك يمين، مسلمين وغير مسلمين، نساء. والعقد في الثقافة الأوربية كان الأب المباشر لمفهوم دولة القانون.
المهم في “رسالة الحقوق” أولًا، هو محاولة تحديد العلاقة بين حق الله وحق الإنسان من منظور متماسك ومتكامل لا من منظور صراعي، الأمر الذي نجده لاحقًا في مختلف المدارس العقلانية والصوفية، وفي العلاقة بين مفهوم الإنسان الكامل والحق الإلهي. وثانيًا: هو أنها أتت بعد معركة كربلاء، وكل ما تركته هذه التراجيديا من تأثير عميق في معاني التضحية والدفاع عن المثل في وجه الطغيان، والمبادئ في وجه موازين القوى المختلة، والعدالة في وجه قوة السلطان. وبهذا المعنى نجد النص محاولة لتهدئة الثورة ومطالبة بتجنب المخاصمة والنزاع، ودعوة لبناء الحكم الصالح في روح ذاك العصر ومعطياته. وفيما يلي نص الرسالة كاملة عن كتاب: “تحف العقول عن آل الرسول” للمحقّق أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني (الحلبي) من أعلام القرن الرابع الهجري، صفحة 184.
هيثم مناع
رسالة الحقوق لعلي بن الحسين (ع)
اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقًا محيطة لك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها وآلة تصرفت بها:
بعضها أكبر من بعض وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقًا ولسمعك عليك حقًا وللسانك عليك حقًا وليديك عليك حقًا ولرجلك عليك حقًا ولبطنك عليك حقًا ولفرجك عليك حقًا، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقًا، فجعل لصلاتك عليك حقًا ولصومك عليك حقًا ولصدقتك عليك حقًا ولهديك عليك حقًا ولأفعالك عليك حقًا ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذي الحقوق الواجبة عليك وأوجبها عليك حقًا أئمتك ثم حقوق رعيتك ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك:
حق سائسك بالسلطان ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك وكل سائس (السائس: القائم بأمر والمدبر له) إمام وحقوق رعيتك ثلاثة أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم فإن الجاهل رعية العالم وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الإيمان وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة. فأوجبها عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك ثم الأقرب فالأقرب والأول فالأول، ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجاري نعمته عليك، ثم حق ذي المعروف لديك و ثم حق مؤذنك بالصلاة، ثم حق إمامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق جارك و ثم حق صاحبك ثم حق شريكك ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي يطالبك و ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك و ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل أو مسرة بذلك بقول أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق أهل ملتك عامة، ثم حق أهل الذمة وثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب، فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أو جب عليه من حقوقه ووفقه وسدده.
1- فأما حق الله الأكبر فإنك تعبده لا تشرك به شيئًا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ويحفظ لك ما تحب منها.
2- وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك حقه وإلى سمعك حقه وإلى بصرك حقه وإلى يدك حقها، وغلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك.
3- وأما حق اللسان فإكرامه عن الخنى وتعويده على الخير وحمله على الأدب وإجسامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها وبعد شاهد العقل والدليل عليه وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
4- وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقًا إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرًا أو تكسب خلقًا كريما ً فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولا قوة إلى بالله.
5- وأما حق بصرك فغضه عما لا يحل لك وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرًا أو تستفيد بها علمًا، فإن البصر باب الاعتبار.
6- وأما حق رجليك فأن لا تمشي بهما إلى مالا يحل لك ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك، ولا قوة إلا بالله.
7- وأما حق يدك فأن لا تبسطها إلى مالا يحل لك فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة بالأجل ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها مما افترض الله عليها، ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها وبسطها إلى كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل وجب لها حسن الثواب في الأجل.
8- وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير وأن تقتصد له في الحلال ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين وذهاب المروة وضبطه إذا هم بالجوع والظمأ فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم. وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة.
9- وأما حق فرجك فحفظه مما لا يحل لك والاستعانة عليه بغض البصر، فإنه من أعون الأعوان وكثرة ذكر الموت والتهدد لنفسك بالله والتخويف لهابه، وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوة إلا به.
ثم حقوق الأفعال
10- فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى الله وأنك قائم بها بين يدي الله فإذا علمت ذلك كنت خليقًا أن تقوم مقام الذليل، الراغب، الراهب، الخائف، الراجي، المسكين، المتضرع، المعظم من قام بين يديه بالسكون والإطراق، وخشوع الأطراف ولين الجناح، وحسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك ورقبتك التي أحاطت بها خطيئتك واستهلكتها ذنوبك، ولا قوة إلا بالله.
11- وأما حق الصوم فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار. وهكذا جاء في الحديث: (الصوم جنة من النار) فإن سكنت أطرافك في حجبتها رجوت أن تكون محجوبًا وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله لم تأمن أن تخرق الحجاب وتخرج منه، ولا قوة إلا بالله.
12- وأما حق الصدقة فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد (لا يحتاج يوم القيامة إلى الإشهاد لما ورد في الخبر من أن الصدقة أول ما تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل). فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سرًا أوثق بما استودعته علانية وكنت جديرًا أن تكون أسررت إليه أمرًا أعلنته وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال. ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها (بــ) بإشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنها أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليك، ثم لم تمتن بها على أحد لأنها لك فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون بها مثل تهجين حالك منها إلى من مننت عليه لأن في ذلك دليلًا على أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد، ولا قوة إلى بالله.
13- وأما حق الهدى فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك والتعرض لرحمته وقبوله ولا تريد عيون الناظرين دونه، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفًا ولا متصنعا وكنت إنما تقصد إلى الله. واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير، كما أراد بخلقه التيسير ولم يرد بهم التعسير، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ولا مؤونة عليهما لأنهما الخلقة وهما موجودان في الطبيعة، ولا قوة إلى بالله.
ثم حقوق الأئمة
14- فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان وأن تخلص له في النصيحة وألا تماحكه (لا تماحكه: لا تخاصمه ولا تنازعه) وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضى ما يكفه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازه (لا تعازه: لا تعارضه في العزة) ولا تعانده، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك وكنت خليقًا أن تكون معينًا له على نفسك وشريكًا له فيما أتى إليك، ولا قوة إلى بالله.
15- وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأن تفرغ له عقلك وتحضره فهمك وتذكي له (قلبك) وتجلي له بصرك بترك اللذات ونقص الشهوات وأن تعلم أنك فيما ألقى (إليك) رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلدتها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
16- وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك مالا يملكه ذاك تلزمك طاعته فيما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله، ويحول بينك وبين حقه حقوق الخلق، فإذا قضيته رجعت إلى حقه (أي إذا قضيت حق الله فارجع إلى حق مالكك) فتشاغلت به، ولا قوة إلى بالله.
ثم حقوق الرعية
17- فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم، فما أولى من كفاكه ضعفه وذله حتى صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذًا، لا يتمنع منك بعزة ولا قوة ولا يستنصر قيما تعاظمه منك إلا (بالله) بالرحمة والحياطة والأناة (الحياطة: الحفاظة والحماية والصيانة، الأناة كقناة الوقار والحلم وأصله الانتظار)، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها تكون لله شاكرًا، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه، ولا قوة إلا بالله.
18- وأما حق رعيتك بالعلم، فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العمل، وولاك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق، الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه كنت راشدا، وكنت لذلك أملًا معتقدًا (الأمل: خادم الرجل وعونه الذي يأمله)، وإلا كنت له خائنا ولخلقه ظالما ولسلبه وعزة متعرضًا.
19- وأما حق رعيتك بملك النكاح، فأن تعلم أن الله جعلها سكنًا ومستراحًا وأنسًا وواقية، وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها وإن كان حقك عليها أغلظ وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت مالم تكن معصية، فإن لها حق الرحمة والمؤانسة وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لابد من قضائها وذلك عظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
20- وأما حق رعيتك بملك اليمين فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ولا أجريت له رزقًا، ولكن الله كفاك ذلك بمن سخره لك وائتمنك عليه واستودعك إياه لتحفظه فيه وتسير فيه بسيرته فتطعمه مما تأكل وتلبسه مما تلبس ولا تكلفه مالا يطيق، فإن كرهتـ (ــه) خرجت إلى الله منه واستبدلت به ولم تعذب خلق الله ولا قوة إلا بالله.
أما حق الرحم
21- فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا، وأطعمتك من ثمرة قلبها مالا يطعم أحد أحدا، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرة بذلك، فرحة، موبلة، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فرضيت أن تشبع وتجوع هي وتكسوك وتعرى وترويك وتظمأ تظلك وتضحي وتنعك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها وكان بطنها لك وعاءً وحجرها لك حواءً وثديها لك سقاء ونفسها لك وقاءً، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه.
22- وأما حق أبيك فيك فتعلم أنه أصلك وأنك فرعه وأنك لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه وأحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلى بالله.
23- وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعتك فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزنين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه، ولا قوة إلا بالله.
24- وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها وظهرك الذي تلتجئ إليه وعزك الذي تعتمد عليه وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحًا على معصية الله ولا عدة للظلم بحق الله، ولا تدع نصرته على نفسه ومعونته على عدوه والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه والإقبال عليه في الله، فأن انقاد لربه وأحسن الإجابة له وإلا فليكن الله آثر عندك وأكرم عليك منه.
25- وأما حق المنعم عليك بالولاء (الولاء: بالفتح النصرة والملك والمحبة والصداقة والقرابة) فإن تعلم أنه أنفق فيك ماله وأخرجك من ذل الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية، وأوجدك رائحة العز، وأخرجك من سجن القهر ودفع عنك العسر، وبسط لك لسان الإنصاف وأباحك الدنيا كلها فملكك نفسك وحل أسرك وفرغك لعبادة ربك واحتمل بذلك التقصير في ماله، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكانفتك في ذات الله (المكانفة: المعاونة)، فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.
26- وأما حق مولاك الجارية عليه نعمتك فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه وواقية وناصرًا ومعقلًا وجعله لك وسيلة وسببًا بينك وبينه، فبالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الأجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك، فإن لم تخفه خيف عليك ألا يطيب لك ميراثه، ولا قوة إلا بالله.
27- وأما حق ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه وتنشر له المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية. ثم إن أمكن مكافأته بالفعل كافأته وإلا كنت مرصدًا له موطنًا نفسك عليها (الضمير: في عليها يرجع إلى المكافأة، أي ترصد وتراقب وتهيئ نفسك على المكافأة في وقتها).
28- وأما حق المؤذن فأن تعلم أنه مذكرك بربك وداعيك إلى حظك وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك وإن كنت في بيتك متهما لذلك لم تكن لله في أمره متهما وعلمت أنه نعمة من الله عليك لا شك فيها فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله على كل حال، ولا قوة إلا بالله.
29- وأما حق إمامك في صلاتك فأن تعلم أنه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله والوفاة إلى ربك وتكلم عنك ولم تتكلم عنه ودعا لك ولم تدع له وطلب فيك ولم تطلب فيه وكفاك هم المقام بين يدي الله والمساءلة له فيك. ولم تكفه ذلك فإن كان في شيء من ذلك تقصير كان به دونك وإن كان آثمًا لم تكن شريكه فيه ولم يكن لك عليه فضل، فوقي نفسك بنفسه ورقي صلاتك بصلاته، فتشكر له على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
30- وأما حق الجليس فأن تلين له كنفك (الكنف: الجانب والظل) وتطيب له جانبك وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ولا تقوم إلا بإذنه ولا قوة إلا بالله.
31- وأما حق الجار فحفظه غائبًا وكرامته شاهدًا ونصرته ومعونته في الحالين جميعًا (المراد بالحالين: الشهود والغياب)، ولا تتبع له عورة ولا تبحث له عن سوء(ة) لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولا تكلف، كنت لما علمت حصنًا حصينا وسترا ستيرًا، ولو بحثت الأسنة عنه ضميرا ًلم تتصل إليه لانطوائه عليه. لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة ولا تحسده عند نعمة، تقيل عثرته وتغفر زلته، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك ولا تخرج أن تكون سلما له، ترد عنه لسان الشتيمة وتبطل فيه كيد حامل النصيحة وتعاشره معاشرة كريمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
32- وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالفضل ما وجدت إليه سبيلًا وإلا فلا أقل من الإنصاف وأن تكرمه كما يكرمك وتحفظه كما يحفظك ولا يسبقك فيما بينك وبينه إلى مكرمة، فإن سبقك كافأته ولا تقصر به عما يستحق من المودة. تلزم نفسك نصيحته وحياطته ومعاضدته على طاعة ربه ومعونته على نفسه فيما لا يهم به، من معصية ربه، ثم تكون (عليه) رحمة ولا تكون عليه عذابًا، ولا قوة إلا بالله.
33- وأما حق الشريك فإن غاب كفيته وإن حضر ساويته ولا تعزم على حكمك دون حكمه ولا تعمل برأيك دون مناظراته وتحفظ عليه ماله وتنفي عنه خيانته فيما عز أو هان فإن بلغنا “أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا” ولا قوة إلا بالله.
34- وأما حق المال فأن لا تأخذه إلا من حله ولا تنفقه إلا في حله ولا يحرفه عن مواضعه ولا تصرفه عن حقائقه ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه وسببا إلى الله. ولا تؤثر به على نفسك من لعله لا يحميك وبالحري ألا يحسن خلافته في تركك ولا يعمل فيه بطاعة ربك فتكون معينا له على ذلك وبما أحدث في مالك أحسن نظرا لنفسه فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة (التبعة: ما يترتب على الفعل من الشر وقد يستعمل في الخير) ولا قوة إلا بالله.
35- وأما حق الغريم الطالب لك (الغريم: الدائن ويطلق أيضًا على الديون. وفي بعض النسخ (الغريم المطالب لك) فإن كنت موسرًا أوفيته وكفيته وأغنيته ولم ترده وتمطله (المطل: التسويف والتعلل في أداء الحق وتأخيره عن وقته) فإن رسول الله (ص) قال: “مطل الغني ظلم” وإن كنت معسرًا أرضيته بحسن القول وطلبت إليه طلبًا جميلًا ورددته عن نفسك ردًا لطيفًا ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته، فإن ذلك لزم، ولا قوة إلا بالله.
36- وأما حق الخليط (الخليط: المخالط كالنديم والشريك والجليس ونحوها) فأن لا تغدره ولا تغشه ولا تكذبه ولا تغفله ولا تخدعه ولا تعمل في انتقاضه عمل العدو الذي لا يبقي على صاحبه وإن اطمأن إليك استقصيت له على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل ربا، ولا قوة إلا بالله.
37- وأما حق الخصم المدعي عليك فإن كان ما يدعي عليك حقًا لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته وكنت خصم نفسك له والحاكم عليها والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود. فإن ذلك حق الله عليك وإن كان ما يدعيه باطلًا رفقت به وروعته وناشدته بدينه (روعه: أفزعه، وناشدته بدينه: حلفته وطلبته به) وكسرت حدته عنك بذكر الله وألقيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك (اللغط: كلام فيه جلبة واختلاط ولا يتبين، وعادية عدوك أي حدته وغضبه، وعادية السم: ضرره ويشحذ عليك أي يغضب وأصله من شحذ السكين ونحوه: أحده) بل تبوء بإثمه وبه يشحذ عليك عداوته، لأن لفظه السوء تبعث الشر. والخير مقمعة للشر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
38- وأما حق الخصم المدعي عليه فإن كان ما تدعيه حقًا أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى (المقاولة: المجادلة والمباحثة)، فإن للدعوى غلطة في سمع المدعي عليه وقصدت قصد حجتك بالرفق وأمهل المهلة وأبين البيان وألطف اللطف ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال فتذهب عنك حجتك ولا يكون لك في ذلك درك، ولا قوة إلا بالله.
39- وأما حق المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به وذلك ليكن منك رحمة ولين، فإن اللين يؤنس الوحشة وأن الغلط يوحش موضع الأنس وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى به لنفسك دللته عليه وأرشدته إليه، فكنت لم تأله خيرًا (لم تأله: لم تقصر من ألا يألو) ولم تدخره نصحًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
40- وأما حق المشير عليك فلا تتهمه فيما يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم. فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه، فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة، ولا تدع شكره على ما بدا لك من أشخاص رأيه وحسن وجه ومشورته، فإذا وافقك حمدت الله وقبلت ذلك من أخيه بالشكر والارصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، ولا قوة إلا بالله.
41- وأما حق المستنصح فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أنه يحمل ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجنبه، وليكن مذهبك الرحمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
42- وأما حق الناصح فأن تلين له جناحك ثم تشرأب له قلبك (اشرأب للشيء: مد عنقه لينظره والمراد أن تسقي قلبك من نصح) وتفتح له سمعك حتى تفهم عنه نصيحته، ثم تنظر فيها، فإن كان وفق فيها للصواب حمدت الله على ذلك وقبلت منه وعرفت له نصيحته، وإن لم يكن وفق لها فيها رحمته ولم تتهمه وعلمت أنه لم يألك نصحًا إلا أنه أخطأ. إلا أن يكون عندك مستحقًا للتهمة فلا تعبأ بشيء من أمره على كل حال، ولا قوة إلا بالله.
43- وأما حق الكبير فإن حقه توقير سنه وإجلال إسلامه إذا كان من أهل الفضل في إسلام بتقديمه فيه وترك مقابلته عند الخصام ولا تسبقه إلى طريق ولا تؤمه في طريق ولا تستجهله وإن جهل عليك تحملت وأكرمته بحق إسلامه مع سنه فإنما حق السن بقدر الإسلام، ولا قوة إلا بالله.
44- وأما حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له والستر على جرائر حداثته فإنه سبب للتوبة، والمداراة له وترك مماحكته فإن ذلك أدنى لرشده.
45- وأما حق السائل فإعطاؤه إذا تهيأت صدقة وقدرت على سد حاجته والدعاء له فيما نزل به والمعاونة له على طلبته وإن شككت في صدقه وسبقت إليه التهمة له ولم تعزم على ذلك لم تأمن أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدك عن حظك ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك وتركته بستره ورددته ردًا جميلًا. وإن غلبت نفسك في أمره وأعطيته على ما عرض في نفسك منه، فإن ذلك من عزم الأمور.
46- وأما حق المسؤول فحقه إن أعطى قبل منه ما أعطى بالشكر له والمعرفة لفضله وطلب وجه العذر في منعه وأحسن به الظن. وأعلم انه إن منع (فماله) منع وأن ليس التثريب في ماله (التثريب: التوبيخ والملامة) وإن كان ظالمًا فإن الإنسان لظلوم كفار.
47- وأما حق من سرك الله به وعلى يديه، فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولًا ثم شكرته على ذلك بقدره في موضع الجزاء وكافأته على فضل الابتداء وأرصدت له المكافأة وأن لم يكن تعمدها حمدت الله وشكرته وعلمت أنه منه، توحدك بها وأحببت هذا إذا كان سببًا من أسباب نعم الله عليك وترجو له بعد ذلك خيرًا، فإن أسباب النعم بركة حيث ما كانت وإن كان لم يعتمد، ولا قوة إلا بالله.
48- وأما حق من ساءك القضاء على يديه بقول أو فعل فإن كان تعمدها كان العفو أولى بك لما فيه له من القمع وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق، فإن الله يقول “ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل – إلى قوله-: من عزم الأمور” (سورة الشورى آية41) وقال عز وجل: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين” (سورة النحل آية 126). هذا في العمد فإن لم يكن عمدًا لم تظلمه بتعمد الانتصار منه فتكون قد كافأته في تعمد على خطأ، ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عيه، ولا قوة إلا بالله.
49- وأما حق أهل ملتك عامة فإضمار السلامة ونشر جناح الرحمة والرفق بمسيئهم وتآلفهم واستصلاحهم وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك فإن إحسانه إليك إذا كف عنك أذاه وكفاك مؤنته وحبس عنك نفسه فهمهم جميعا بدعوتك وانصرهم جميعا بنصرتك وأنزلتهم جميعًا منك منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد وصغيرهم بمنزلة الولد وأوسطهم بمنزلة الأخ. فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة. وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه.
50- وأما حق أهل الذمة فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قبل الله وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم وأجبروا عليه وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك(وبينهم) من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله حائل فإنه بلغنا أنه قال: “من ظلم معاهدًا كنت خصمه” فاتق الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه خمسون حقًا محيطًا بك لا تخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين.