الربيع العربي والحاجة الدائمة إلى مراجعة نقدية

مع نهاية عام 2020 وبداية عام 2021، أكمل الربيع العربي عقده الأول، هذا “العقد الفريد” في تاريخ العرب المعاصر؛ فبعد زمن طويل، امتدّ منذ استقلال أغلبية البلدان العربية في أواسط القرن العشرين إلى نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، عاشت شعوب المنطقة العربية خلاله في أوضاع مثقلة بالاستبداد وغياب حقوق الإنسان والمواطن، ومشبعة بالفساد ونهب المال العام وغياب العدالة الاجتماعية، عصف الحركات الاحتجاجية الشعبية، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، بمستنقع الواقع الراكد، وزلزلت الأنظمة المستبدة المطمئنة إلى وجودها واستمرارها، مستفيدة من تغييب شعوبها عن الشأن العام من جهة، ومن المعادلات الإقليمية والدولية التي كانت جزءًا عضويًا منها من جهة ثانية. نعم، لقد كان الربيع العربي في منزلة الزلزال الذي لم يترك حجرًا على حجر، ويبدو أننا سنظل نعيش زمنًا غير قصير على وقع ارتداداته أو الاستعداد إلى موجات جديدة ما دامت الأسباب الدافعة إليه موجودة ومستمرة.

الربيع العربي سيرورة تاريخية
عندما انطلق الربيع العربي، وانتقل من بلد إلى آخر، خلال عام 2011، ساد شعور عام بأن طوفان الربيع سيغزو بلدان المنطقة كلها، ولن يستثني أيًا منها، بحكم أنها جميعها محكومة بأنظمة استبدادية متماثلة من حيث الماهيّة والجوهر، ومن حيث آليات الحكم والدور الوظيفي في المنطقة، على الرغم من اختلافها من حيث أشكال الحكم أو درجة القهر الواقع على المواطن في كل بلد.

فمن حيث الجوهر، خلقت الطغم الحاكمة في البلدان العربية، خلال عقود سلطتها، مناخًا عامًا يرتكز على تغييب البشر وإفقارهم وهضم حقوقهم، وعلى قمع الحريات وممارسة الترهيب والإجرام. فأوضاع وشروط تونس، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هي ذاتها تقريبًا في البلدان العربية جميعها، وزين العابدين بن علي ليس أكثر من أنموذج متكرِّر، نجد أمثاله في بلدان أخرى، مع اختلاف في الدرجة لا في النوع، مثل حسني مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح والأسد، وغيرهم في بقية البلدان العربية. هذا التشابه، أو التماثل، بين الأنظمة العربية، جعل من مسألة إسقاطها أمرًا لا مفرّ منه، وجعل من توقّع استمرار الربيع العربي في الانتقال من بلد إلى آخر أمرًا بديهيًا من وجهة نظر المنطق التاريخي.
لكن تعثّر الربيع العربي في البلدان التي حصلت فيها حراكات واحتجاجات، بدءًا من أواخر عام 2010، خلق حالة من الإحباط لدى قطاعات واسعة، خاصة مع تحوّل بعض الثورات إلى مواجهات مسلحة، ومع التدخلات الإقليمية والدولية المتشابكة والمتناقضة في بلدان الربيع، والدرجة العالية من الإجرام التي تكشفت لدى بعض الأنظمة، خاصة النظام السوري. ولا شك أن ذلك كله كان له أثره في توقف الربيع عن الحركة والانتقال إلى بلدان أخرى، ولتتغلب مسألة الأمان على المطالبة بالحرية لدى قطاعات واسعة من شعوب المنطقة؛ وهي المعادلة التي كثيرًا ما ركنت إليها الأنظمة الحاكمة، واستخدمتها بصورة خبيثة لتبرير وجودها واستمراريتها، واضعة البشر بين خيارين؛ الفوضى أو الاستبداد، خاصة مع امتلاكها كل الأدوات التي تستطيع من خلالها نشر الرعب والفوضى.
لكن هذا الإحباط خفّت درجته بعد الموجة الثانية من الربيع العربي، خلال العامين 2019 و2020، في كل من العراق ولبنان والجزائر والسودان، خاصة أن هذه الموجة قد استفادت من تجربة الموجة الأولى، وابتعدت عن الذهاب في بعض مساراتها، خاصة مسار الإعلاء من شأن الشعارات الدينية في الانتصار على الأنظمة، ومسار الحلول العسكرية التي أدت عمليًا إلى تدمير المجتمع، وتنحية الفاعلين المدنيين. وحاولت الموجة الثانية فعلًا إنعاش جوهر الربيع العربي من حيث سعيه إلى بناء دول حديثة تحفظ حرية وكرامة مواطنيها، وتعزِّز من مشاركتهم في القرارات السياسية والاقتصادية.
واستنادًا إلى ذلك، يمكننا توقّع موجات أخرى لاحقة للربيع العربي، بحكم أن الأسباب التي دفعت إليه ما زالت موجودة، ولا يمكن لها، انطلاقًا من رؤية تاريخية، أن تستمر متحكِّمة في حياة البشر. هذا يعني أن الربيع العربي ليس حدثًا عابرًا، بل سيرورة تاريخية، ومن ثم ينبغي لنا مقاربته بعين التاريخ لا بعين اللحظة الراهنة فحسب، بما فيها من مشكلات وأزمات معقدة وكارثية.

أسئلة عصر النهضة مجدّدًا
لا يمكن اختزال الربيع العربي ببعده الثوري المتمثل بالتظاهرات والأعمال المتنوعة ضد الأنظمة الحاكمة، ولا يمكن حشر أهدافه في مستوى السطح السياسي؛ أي تغيير الأنظمة المستبدة والإتيان بأخرى غيرها تعبِّر عن الإرادة الشعبية. ففي سياق الربيع العربي، ظهر إلى السطح كثير من الإشكاليات والأسئلة التي كانت مدفونة بحكم هيمنة الاستبداد على المشهد بجميع أحيازه ومستوياته، لذلك لم يقتصر مسار الربيع العربي على مناهضة السلطات القائمة، بل راح ينبش في تاريخنا القريب والبعيد، ويطرح أسئلة متنوعة حول تاريخنا وهوياتنا ومستقبلنا وموقعنا ودورنا في العالم.
لا توجد مسألة فكرية أو سياسية أو اجتماعية لم تُطرح على مائدة النقاش خلال العقد الفائت. وعلى الرغم من الفوضى والساحة غير الملائمة للحوار والنقاش، فضلًا عن عيوب ونقائص المتحاورين أنفسهم الذين نموا وترعرعوا في ظل الاستبداد أصلًا، نخبًا وناشطين وقوى سياسية وجماعات دينية وقومية متنوعة، إلا أن ظهور الأسئلة الكبرى إلى السطح، والحوار حولها، يعطينا من جهة دليلًا على أن ظاهرة الربيع العربي أكبر كثيرًا من الظواهر المرتبطة بالحدث السياسي والصراع على السلطة من جهة، ويقدِّم لنا من جهة أخرى مؤشرًا إلى أن مسار الربيع العربي، من حيث كونه حركة مجتمعية ثقافية مدنية، سيبقى مفتوحًا لتصادم الإجابات وصراع الرؤى والأفكار والأيديولوجيات، وهذا أحد شروط النهضة أو التقدم في المنطقة.
يمكننا أن نكتشف بسهولة أن الأسئلة والإشكالات التي برزت بوضوح خلال عقد الربيع العربي، هي ذاتها التي طُرحت إبان ما أطلق عليه “عصر النهضة العربية”؛ الأسئلة الجوهرية التي تطال رؤيتنا إلى تاريخنا وتراثنا، وإلى أنفسنا، وإلى دورنا ووظيفتنا في الواقع الراهن، وإلى علاقاتنا البينية، وعلاقاتنا بالآخر. في اختصار، إنها أسئلة الهوية بمعناها الواسع والمتجدِّد.
ومع سؤال الهوية، تظهر الأسئلة الأخرى الوثيقة الصلة بها؛ سؤال الحداثة والتقدم والتأخر التاريخي، الثقافة السائدة وطبيعتها وسبل النهوض بها، العلاقة بين الدين والسياسة، قضايا القوميات والإثنيات في الدولة الحديثة، العلمانية ونظام الحكم، دور المثقفين والنخب في الواقع الراهن، الأيديولوجيا والسياسة، التيارات السياسية في المنطقة (الإسلامية والقومية واليسارية)، تكامل الطغيان: الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، الوعي المناهض لحقوق المرأة، العدالة الاجتماعية، الدساتير والقوانين وطبيعتها، الأصوليات وخطاب الكراهية، التسامح الديني، عالمية حقوق الإنسان… إلخ. كل هذه الأسئلة والموضوعات أصبحت مع الربيع العربي على طاولة النقاش والحوار.

تعرية السياسة السائدة
لم ينتج الربيع العربي بعد تصورات حاسمة وواضحة على مستوى الفكر والسياسة، لكنه أدى وظيفة مهمة إلى الآن، تتمثل بتعرية السياسة والعلاقات السياسية السائدة، إقليميًا ودوليًا، من جهة، وإظهار عجز أو تواطؤ تيارات وجهات سياسية وثقافية من جهة ثانية، تلك التي كان يُنظر إليها حتى وقت قريب بوصفها حاملة لمشروع التقدم والعدالة، فإذا بها تصب فكرًا وأداءً في طاحونة المحافظة أو الاستبداد. وهذه فضيلة مهمة للربيع العربي؛ فعلى الرغم من الفوضى الراهنة إلا أن كثيرًا مما كان مطروحًا في الساحة الفكرية السياسية العربية قبل 2010، أصبح وراء البشر، يرفضونه ولا يثقون به، وصار من الصعب خديعتهم.
لقد عرّى الربيع العربي واقع دول المنطقة ومجتمعاتها، وواقع السياسات الإقليمية والدولية إزاءه، وخلال سلسلة التعرية هذه، لمسنا طبيعة التدخلات الإقليمية والدولية، المباشرة وغير المباشرة، وأهدافها وتغيراتها وتحالفاتها ومآلاتها، وكيف آزرت الأنظمة والطغم العربية بعضها بعضًا، بالمال والمواقف والسلاح، وكيف دأبت على حرف الثورات عن مساراتها الوطنية، وساهمت في إدخالها في اقتتال داخلي، طائفي وإثني وعشائري، وفي خلق أجسام بمرجعيات أصولية تارة أو عسكرية فصائلية تارة أخرى، بغرض إسدال الستار على المطالب الأصيلة للربيع العربي في الحرية والكرامة.
في المقابل أيضًا، برزت أيضًا هشاشة إنجازات السلطات الحاكمة جميعها، على المستوى الداخلي، خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، خاصة لجهة عدم بناء هوية وطنية تتجاوز الهويات الفرعية، بل ساهمت هذه السلطات في التهام جنين الدولة في كل بلد من بلدان المنطقة. ومع الانهيار التدريجي لهذه السلطات، بعد انطلاق الربيع العربي، ظهر المجتمع العميق إلى السطح، المجتمع الذي كان يعيش على هامش الحياة والدولة، بوعيه المفوّت، وتحكم في مسار الثورات في أكثر من بلد عربي، ما يعني أن الأوضاع الكارثية الراهنة للربيع العربي لم تكن حصيلة عمل السلطات الحاكمة ودولها العميقة والتدخلات الأجنبية فحسب، بل كان هناك نصيب كبير للمجتمع العميق وثقافته، وهذا ما يعطي مشروعية كبيرة اليوم لمسألة التنوير الثقافي وبناء المجتمع المدني، جنبًا إلى جنب مع الذهاب إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة على المستوى السياسي.
ساهم الربيع العربي أيضًا في تعرية النخب السياسية والثقافية في المنطقة، وإظهار عجزها، فكريًا وسياسيًا، عن مواكبة الحدث تحليلًا وقراءة وأداء، ومن ضمنها نخب اليسار العربي التي تخثرت في معظمها عند حدود الأيديولوجيا، وتحالفت فئات عديدة منها مع الاستبداد تحت ذرائع مختلفة، فيما بعضها الآخر سار في ذيل حركات أصولية متطرفة. ومن الأمثلة على هشاشة اليسار العربي وقوف أكثرية القوى السياسية في مصر إلى جانب الانقلاب العسكري في 2013، انطلاقًا من رؤية قصيرة النظر والنفَس لم تكترث للانقلاب على العملية الديمقراطية التي كانت مكسبًا عظيمًا من مكاسب الربيع العربي وثورة يناير، واعتقدت واهمة بوجود دور سياسي لها في ظل الانقلاب العسكري.
ومن مكاسب الربيع العربي أيضًا إظهار بشاعة الحركات الدينية الأصولية، ونزع القداسة عنها من جانب قطاعات شعبية واسعة، بعد أن لمست بوضوح طبيعتها وسلوكياتها وممارساتها ومآربها وتحالفاتها غير الوطنية والمعادية للديمقراطية، خاصة من حيث مساهمتها في تفجير مجتمعات المنطقة ودفعها، جنبًا إلى جنب مع الأنظمة الحاكمة، إلى الحروب الأهلية والاقتتال الطائفي.

توسّع دائرة المنشغلين بالشأن العام
برزت أيضًا حقائق جديدة في الواقع العربي ليس من السهل غضّ البصر عنها، وإن لم تصبح راسخة بعد، أو في الأحرى لم تنتقل إلى مستوى أكثر تنظيمًا وثباتًا واستمرارية؛ فمع الربيع العربي دخلت قطاعات اجتماعية جديدة إلى ميدان العمل العام والمشاركة السياسية، بعد أن كانت هذه الحقول حكرًا على السلطات، وعلى مجموعات معارضة نخبوية قديمة ومعزولة اجتماعيًا، وتعمل وفق أنماط وأساليب تقليدية.
لقد قام الربيع العربي على أكتاف أجيال جديدة وشابة، وكان للمرأة فيه دور مهم وأساسي على المستويات كافة، وأخذت هذه القطاعات الجديدة تشكِّل قوى سياسية ومنظمات مدنية وحقوقية جديدة. وعلى الرغم من ارتباك هذه القطاعات في ظل المسارات المتعرجة للربيع العربي، وعلى الرغم من تجريبيتها في الأداء بحكم نقص الخبرات المزمن في مجتمعاتنا، إلّا أن جهد القطاعات الشبابية سيثمر مستقبلًا، وسنكون أمام ظواهر جديدة من العمل العام انطلاقًا من الخبرات التي راكمتها خلال العقد الفائت، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها، والأوضاع الكارثية التي تعمل في ظلها اليوم.

أهمية المراجعة النقدية
لا شك في أن السؤال عن آفاق الربيع العربي موجود اليوم في عقل أكثرية أبناء المنطقة، أكان لدى الذين انحازوا لقيمه أو الذين ناصبوه العداء منذ البدايات. في الأحوال جميعها، لا بدّ من مراجعات دائمة لمسار الربيع العربي، والبحث الدائم في أسباب عجزه إلى الآن عن تحقيق ما صبا إليه، واستكشاف ومناقشة أخطائه الصغرى والكبرى، الأخطاء الحتمية أو التي كانت متوقعة أو تلك التي حصلت بفعل خيارات واعية أو مقصودة من جانب نخب سياسية وثقافية ودينية، ومحاولة تصويبها بصورة مستمرة، وهذا هو شكل الإخلاص المطلوب لقيمه، ولتضحيات شعوب المنطقة.
فالثورات الكبرى، مثل الربيع العربي، سيرورات مفتوحة على المستقبل، وليست لحظات مؤقتة وعابرة، ستحدث فيها أخطاء وانكسارات، وهزائم أيضًا، ولذلك تكتسب المراجعات النقدية أولوية مركزية في توصيف الخلل وطرح الخطوات اللازمة لتقويمه وتجاوزه، ومن دونها سيظل واقعنا أسير هزائمه، وسيبقى محافظًا على إمكانية تكرار الهزيمة بحكم احتفاظه بمفاعيلها الكامنة. وإن أي استمرار من دون إنجاز هذه المراجعات هو جهد بلا طائل، ولا يتعدى كونه “محاربة طواحين الهواء”.
قد تلقى دعوات المراجعة النقدية، تأجيلات وتسويفات تحت مبررات وذرائع شتى، كالقول إن معيقات هذه المراجعة أكثر من ميسّراتها، أو القول إن إنجازها يحتاج إلى وقت طويل، أو تكرار العبارة الأكثر تداولًا وتبريرًا: ليس الآن وقتها الملائم. هذه المبرِّرات هي كدفن الرؤوس في الرمال، أو مثل الدعوة إلى السير نحو الأمام بعينين مغلقتين، وجلّ ما يفعله منطق التبرير هذا هو دفع إشكاليات الواقع إلى الأمام من دون حلّها، بل ومفاقمتها، والاستمرار في إنتاج بيئة خصبة لتكرار الهزائم والكوارث.
في الحقيقة، تشكل المراجعة النقدية جوهر وأساس الثورة فكريًا وسياسيًا، ومن دونها تفقد الثورة معناها بوصفها، أساسًا، رفضًا للواقع القائم، ولكل رؤية محافظة، ودعوة إلى التمرد على أنماط التفكير والسياسات السائدة، وعملية هدفها الجوهري هو التقدم، تقدم الدولة والمجتمع والثقافة والسياسة، وإلا فإنها لن تكون أكثر من صراخ في الفراغ.

مشاركة: