العشوائيات والثورة السورية؛ حالة عشوائيات دمشق وضواحيها

ملخص
تنتشر تجمعات السكن العشوائي في جميع مراكز المحافظات السورية تقريبًا، وتركزت بصورة كبيرة في المدن الرئيسة: دمشق وحلب وحمص. وتشير التقديرات أن قاطني تجمعات السكن العشوائي يزيدون على 40% من عدد السكان في المناطق الحضرية. إن ظاهرة السكن العشوائي معقدة، تتشابك عند نشوئها وتناميها مجموعة من العوامل والظروف السياسية، والجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية. في مدينة دمشق وضواحيها ترافق ظهور السكن العشوائي مع عمليات التهجير الجماعي للسكان بفعل الحروب المتكررة في المنطقة، فضلًا عن الهجرة الريفية بدءًا من مطلع الستينيات لأسباب تتصل بتدهور الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية لجزء من سكان الريف، وخصوصًا العاملين منهم بالزراعة، حتى بات سكان الريف يشكلون أغلبية سكان مناطق المخالفات الجماعية في دمشق وريفها.
لم تتمكن أجهزة النظام، بعد انطلاق ربيع سورية عام 2011، من الحدّ من الاحتجاجات الشعبية التي عمّت محافظات عديدة، ومدنًا ومناطق ريفية كثيرة، تطالب بالحرية ومكافحة الفساد ونهب المال العام. ولعدم تمكن قوى الثورة من التعبير عن نفسها من خلال ساحات مركزية معينة، فقد انتشرت المواجهات المحلية بين المتظاهرين وقوى النظام في قرى وأحياء الضواحي والأحياء الحضرية، وفي مقدمها سكان الأحياء العشوائية أينما وجدت، وهم المعبؤون بمشاعر الإحباط إزاء واقعهم المرير من جراء التهميش المركب الذي تولّد من واقع طبيعة مناطق إقامتهم وفقرها بالخدمات العامة والخاصة، والمواقف السلبية من جانب السلطة تجاههم. لقد كان انخراطهم في الاحتجاجات الشعبية تعبيرًا – في مآله الأخير- عن احتجاجهم على استراتيجيات التنمية الحضرية التمييزية للنظام.

الكلمات المفتاحية: عشوائيات دمشق . ضواحي دمشق . السكن العشوائي . المخالفات . التهميش

مقدمة
في مؤتمر جامعة دمشق، في 13 أيلول/ سبتمبر 2011، وكان النظام مضطربًا، تحدثت عن معارضة الشارع، ووصفتها بـ “المعارضة الوليدة الحديثة العهد، تفتقر إلى قيادة موحدة، وبرنامج موحد لسورية المنشودة”.
وخلال توصيفي لتركيبتها السكانية – من خلال معرفتي المسبقة بسكانها، قلت: “هي ذات بنية اجتماعية تضم في أغلبها فئات شعبية بالمعنى الحقيقي، فئات مهمشة، وشبه مهمشة اقتصاديًا واجتماعيًا”
إنهم، وهم في أوج حراكهم السلمي، لم يسلموا من العدوان عليهم حين أطلق بعض إعلاميي النظام، وبعض “المثقفين” عليهم تسميات تعبر عن نظرة دونية واحتقار، وهم يجوبون أزقة تجمعاتهم الضيقة، والملتوية، يملؤون فضاءها بأصوات حناجرهم هاتفين للثورة في أيامها، بل وأشهرها الأولى، وقوى الأمن تلاحقهم بالعصي بداية، وبطلقات – لا أعرف اسمها إلى الآن – تترك في أجساد المتظاهرين كرات معدنية تسبب حرقها.
وقلت: “هؤلاء بثباتهم وعزيمتهم ومشروعية مطالبهم واستمرار العنف غير المبرر ضدهم وسقوط ضحايا بين صفوفهم، باتوا يجذبون يومًا بعد يوم فئات اجتماعية جديدة من الطبقة المتوسطة والمثقفين”.
وقد حذرت – ربما لأني كنت أعتقد أنه لا بدّ أن يكون بين رجالات النظام من هو عاقل، وقادر على التأثير في مجرى العنف غير المبرر- بأن ” هذه المعارضة بدأت تتعرض لغزو من قبل تيارات مذهبية مشحونة تحاول جرها إلى صدام مع النظام، ودفعها نحو العنف المسلح، وتبني شعارات تطالب بالتدخل الخارجي”.
تم جمع معظم بيانات هذه الدراسة خلال أعوام، بين عامي 1996 و1999، وقمت بتجديدها خلال عاميّ 2007-2008 بمناسبة رصد موجات هجرة ريفية جديدة قادمة من شمال شرق البلاد نحو ضواحي دمشق، وحول العاصمة تحديدًا، وقد تكدسوا في خيام، ومساكن عابرة، ثم ما لبثوا أن توزعوا في عشوائيات ريف دمشق البائسة. لماذا حدث ذلك؟
حينها تعرّضت سورية، لأسوأ موجة جفاف، بلغت ذروتها في شتاء 2007-2008، في وقت باشرت السلطة بتطبيق نهج التنمية القائم على اقتصاد السوق الاجتماعي وتحرير السوق، وخاصة تحرير سعر الوقود، المادة الضرورية لضخ المياه من أودية الأنهار وري المحاصيل الزراعية، فضلًا عن استمرار معدلات النمو السكاني المرتفع في هذه البيئة، وقد ضرب الجفاف نحو 1.3 مليون شخص. وقد أشارت تقديرات الحكومة السورية، وبعثة تقييم الاحتياجات الموفدة من الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 800 ألف شخص، ممن تأثروا بالجفاف، فقدوا معظم مصادر دخلهم، وهم يعيشون في ضنك شديد. وهكذا اضطر ما بين 60-80 ألف عائلة إلى الهجرة إلى ضواحي المدن الكبرى، وخاصة دمشق وحلب، بعد أن فقدوا معظم أرزاقهم.

الجزء الأول: حالة عشوائيات دمشق وضواحيها

أولًا: تجمعات السكن العشوائي في دمشق وريف دمشق (الضواحي)
⦁ نشأتها وآليات تطورها
تنتشر تجمعات السكن العشوائي، – تُدعى كذلك المخالفات الجماعية- في جميع مراكز المحافظات السورية تقريبًا، وتركزت بصورة كبيرة في المدن الرئيسة: دمشق وحلب وحمص. وقد بلغ عدد المرصود منها (209 تجمع سكني عشوائي) في عام 2010.
ثلاثة وعشرون تجمعًا سكنيًا عشوائيًا تقع ضمن الحدود الإدارية لمدينة دمشق. وثمان وعشرون تجمعًا تمتد على أراضي محافظة ريف دمشق (الضواحي).
وتشير التقديرات أن قاطني تجمعات السكن العشوائي يزيدون على 40% من عدد السكان في المناطق الحضرية. ولكن واقع الحال يفيد بأن عدد السكان فيها ما زال غير محدد، لأسباب تتصل بمنهجية المسوح السكانية التي كان المكتب المركزي للإحصاء يتبعها، فهو لا يتعامل مع التجمعات العشوائية على أنها وحدات سكنية مستقلة، بل يتم إلحاقها بالمراكز السكانية النظامية إحصائيًا.
إن ظاهرة السكن العشوائي معقدة، تتشابك عند نشوئها وتناميها مجموعة من العوامل والظروف السياسية، والجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية.
وقد حلل تقرير السكان الأول عن “حالة سكان سورية” ظاهرة السكن العشوائي في سورية وأرجعها إلى جملة من العوامل أبرزها: قصور عملية التنمية، وافتقاد الرؤية التخطيطية بعيدة المدى. فضلًا عن أن القصور في التخطيط وفي إنجاز المخططات التنظيمية للمراكز الحضرية والمدن، نجم في جزء أساس منه عن آليات الفساد المستشرية ودور المتنفذين الباحثين عن الثراء السريع.
في مدينة دمشق وضواحيها ترافق ظهور السكن العشوائي مع عمليات التهجير الجماعي للسكان بفعل الحروب المتكررة في المنطقة، فضلًا عن الهجرة الريفية بدءًا من مطلع الستينيات لأسباب تتصل بتدهور الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية لجزء من سكان الريف، وخصوصًا العاملين منهم بالزراعة وعدم قدرتهم على إنتاج ريع زراعي يمكّنهم من سد حاجاتهم المتنامية إلى السلع النقدية، ما حملهم، خصوصًا الفئات النشطة منهم، على مغادرة العمل الزراعي والقرية والتوجه إلى دمشق وضواحيها، حيث يأملون بالحصول على فرص عمل توفر لهم عائدًا ماديًا يضمن لهم إمكانات العيش بصورة أفضل، حتى بات سكان الريف يشكلون لحمة وسداة أغلبية سكان مناطق المخالفات الجماعية في دمشق وريفها.
لقد نمت دمشق سكانيًا وعمرانيًا بشكل لافت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وتحولت إلى مدينة مهيمنة استطاعت أن تجذب رؤوس الأموال والقوى النشطة. رافق ذلك ارتفاع حجم الاستثمارات المالية في ميدان البناء. ومع حالة ضعف أداء أجهزة التخطيط الحضري، وانعدام وجود خطة استراتيجية لتطور الأقاليم والمدن، ضاقت الأراضي المعدّة للبناء، ونشطت عمليات المضاربة واحتكار العقاريين، وارتفعت أسعار المساكن والأراضي المعدّة للبناء، في وقت تنشط فيه حركة المهاجرين الريفيين، وهم في أغلبهم غير قادرين على تأمين مساكن لهم في سوق عقاري محموم، ما أدى إلى ارتفاع حجم كتلة المساكن الشاغرة، فضلًا عن قانون إيجارات المساكن غير المُنصف للمالكين، ما دفعتهم للعزوف عن تأجير مساكنهم.
وهكذا تحولت تجمعات السكن العشوائي إلى مقصدٍ رئيسٍ لأغلبية الريفيين المهاجرين، حيث أسعار المساكن فيها تتلاءم وقدراتهم المالية إيجارًا أو تملكًا. وبالطبع كانت الفئات الأكثر فقرًا تتجه نحو مناطق جديدة أكثر بعدًا عن العاصمة، حيث الأراضي الزراعية الرخيصة نسبيًا، يشترون منها مساحات صغيرة، ويقيمون عليها مساكنهم بأيديهم في أغلب الأحيان. وهكذا نشأت تجمعات مُخالفة جديدة على أطراف المدينة سرعان ما يضمها المخطط، وغدت من جديد مناطق جاذبة لفقراء المدينة، ولفئات سكانية أخرى غادرت التجمعات المخالفة التي كانت تقيم فيها، وخاصة إذا كانوا مستأجرين تدفعهم الرغبة في الحصول على مسكن ملك في التجمع الجديد فضلًا عن القادمين من الريف إلى المدينة بصورة مباشرة.
وبجهد السكان المحليين، تصيب التجمعات بعض التحسينات، (مواصلات، آبار لمياه الشرب، محلات تجارية لبيع المواد الغذائية والحاجات الأساسية)، وفي بعض الحالات يمكن أن تثمر جهودهم عن مد شبكة صرف صحي ومياه – طبعًا بصورة غير قانونية – ذات نوعية رديئة، غالبًا ما ترتبط مع أقرب شبكة عامة (بلدية).
وبالطبع، تساهم التحسينات التي أصابت التجمع الناشئ في تحسين قيمته بصورة عامة، ويغدو هدفًا لتيارات سكانية جديدة. وفي ظل انعدام الرقابة البلدية أو تراخيها أو تواطئها تدخل المساكن والأراضي الزراعية المجاورة ميدان المضاربات والمساومات، وبتدخل من التجار العقاريين والمقاولين وأصحاب النفوذ المادي في التجمع، تُشترى الأراضي من الملاكين وبأسعار مغرية، ويتم تقسيمها إلى أجزاء صغيرة (بضع قصبات لكل قسم) وتباع. ويبرم المقاولون بمساعدة سماسرة التجمع عقودًا واتفاقات مع بعض أصحاب المساكن القديمة لإزالتها وإقامة أبنية جديدة مكانها تقسم بين المالك والمقاول. ويُبعد المستأجرون بعد أن يدفع لهم بدل إخلاء، وهؤلاء يتجهون إلى منطقة ناشئة أكثر بُعدًا حيث يمكنهم شراء مساكن لهم فيها.
ودائمًا يقف وراء عمليات نشوء وتنامي وتضخم التجمعات العشوائية أصحاب المصالح، وهم الراغبون في الإقامة (السكان) وفريق من السماسرة والمقاولين وتجار الأراضي، يساعدهم فنيون يقسمون الأراضي إلى أجزاء ضمن تصور عام للتجمع (الشوارع، والأزقة…)، وبهذا المعنى تنتفي عن بعض التجمعات صفة العشوائية والعفوية، خاصة عندما تنشأ على أراضٍ زراعية (مُلك). أما التجمعات التي نشأت على الأراضي العامة (للدولة أو للبلدية) فتكون عشوائية، فوضوية لعدم وجود أي جهة مرجعية (خاصة أو عامة) تتولى عمليات التقسيم والتنظيم الأولية للمنطقة. وغالبًا ما يتجه إلى هذا النوع من التجمعات بعض الفئات التي تتمتع ببعض النفوذ (عسكريون، شرطة نازحو القنيطرة عقب التهجير مباشرة عام 1967) حيث يتم الاستيلاء على الأرض (وضع يد). ومن دون أي موانع أو عقبات يتم نشوء التجمع المخالف.
إن مسلسل نشوء التجمعات المخالفة يتخطى حدود مخطط دمشق إلى الريف المجاور (الضواحي). وكان لارتباط ضواحي دمشق بالعاصمة عبر شبكة مواصلات وقيام العديد من المشروعات الاقتصادية والخدمية فيها، وتوفر فرص العمل من جهة، وعدم قدرة دمشق بتجمعاتها على استيعاب المزيد من السكان من جهة أخرى، أن دفع بتيارات حركة السكان نحو الضواحي منذ مطلع السبعينيات وتصاعدت بدءًا من مطلع الثمانينيات.
وتحولت قرى وبلدات ومدن ريف دمشق وخاصة المجاورة للعاصمة إلى مراكز بشرية كبيرة. وتوسعت مخططاتها التنظيمية، ونشطت حركة البناء فيها جاذبة رؤوس الأموال الضخمة والقوى العاملة الكثيفة (عمال بناء، فنيون، مهندسون، حرفيون…) فضلًا عن المقاولين والتجار العقاريين، ونمت فئة السماسرة، وتحول بعض ملاكي الأراضي التي شملها التنظيم إلى تجارة الأراضي والمقاولات. ورافق عمليات النمو العمراني والسكاني تحسن ملحوظ في مستوى الخدمات العامة (شبكات الصرف الصحي، والمياه، شبكة طرقات وتوسيع شبكة الطاقة الكهربائية فضلًا عن تحسن مستوى المعيشة، وتوسع الأسواق التجارية).
ومع كل تحسن يصيب المناطق السكنية النظامية، يشتد الطلب على مساكنها وتدخل لعبة السوق: المضاربات، الاحتكار، وارتفاع أسعار المساكن والأراضي المعدة للبناء بمعدلات أُسّية.
فمن هم القادمون الجدد إلى الضواحي؟ إنهم بعض سكان دمشق الذين ضاقت بهم مساكنهم، باعوها بأسعار مرتفعة نسبيًا واشتروا مساكن أكبر في الضواحي، وكانت بلدات جرمانا وحرستا وداريا وجديدة عرطوز وقدسيا أكثر المراكز جذبًا لهؤلاء السكان، وتمكن بعض سكان التجمعات العشوائية في دمشق من الانتقال إلى الضواحي بقصد تحسين ظروف سكنهم بالانتقال إلى مناطق نظامية. فديدن هؤلاء المستمر هو سعيهم إلى تسوية أوضاع إقاماتهم من خلال البحث عن فرص الانتقال إلى مساكن في مناطق منظمة.
ومع استمرار تيار الهجرة الريفية نحو دمشق يتحول قسم من القادمين للإقامة في مراكز الضواحي، وبمرور الزمن تشاد كتلة ضخمة من المساكن ذات الأسعار المرتفعة، وتتضخم المراكز السكنية ويصبح الحصول على المسكن فيها عسير المنال على الفئات الفقيرة، وتبرز ظاهرة المساكن الشاغرة في الضواحي.
فالمعروض من المساكن النظامية يصبح أكبر من قدرة الفئات التي تطلب السكن، فهناك السكان المرحَّلون من تجمعات دمشق العشوائية، والمستأجرون الذي تلقوا تعويضًا عن إخلاء مساكنهم في دمشق، وكذلك المستأجرون المقيمون في تجمعات دمشق المخالفة، وفئات من الريفيين في (إدلب – حلب – اللاذقية) يتوجه هؤلاء للإقامة في تجمعات عشوائية نشأت سابقًا على شكل نوى صغيرة، ساهم في نشوئها سكان محافظة القنيطرة على محيط المخططات التنظيمية لبلدان ومدن ضواحي دمشق (السيدة زينب – جرمانا – معضمية الشام – جديدة عرطوز) فلهذه التجمعات زبائنها. وتبدأ عمليات الاتجار بالأراضي المجاورة للتجمعات، وتنتقل المساكن من ملاكين إلى ملاكين آخرين أو مستأجرين جدد.. وترتفع أسعارها مع ازدياد الطلب عليها، وتحسن نوعية الحياة فيها نسبيًا وبما تملكه من مزايا جغرافية، والقرب من دمشق أو مكان العمل وسهولة المواصلات ومستوى الخدمات، ونوعية السكان… وليس نادرًا أن تجذب تجمعات الضواحي ذات المزايا الأفضل الفئات الاجتماعية – الاقتصادية المتوسطة حيث الفنيين والمهنيين والعسكريين برتبهم المختلفة والمعلمين وخصوصًا الفئات الشابة منهم حديثي الزواج.
وهكذا تتوالى عمليات نشوء ونمو التجمعات العشوائية، فالتجمع السابق يُولِّد تجمعًا لاحقًا بفعل استمرار الضغط السكاني وآليات السوق.
إنها عملية طرد مستمرة من سكن نظامي إلى سكن مخالف داخل دمشق، ومنه إلى الضواحي وتجمعاتها النظامية، ثم المخالفة، ومنها إلى الأراضي المشجرة حيث تزحف الكتل الأسمنتية لتقتلع الأشجار.
إنه مسلسل طرد يرافق مسلسل إنتاج التجمعات العشوائية وإعادة إنتاجها بمعدلات سريعة جدًا.
ومن خلال ملاحقة الباحث لأسعار الأراضي والمساكن وقيم الإيجارات وتزايدها عبر فترة زمنية، أمكن استنتاج أن مسلسل إنتاج التجمعات المخالفة يترافق مع عملية فرز اجتماعي – اقتصادي حقيقية بين السكان، تشبه عملية الطرد المركزي انطلاقًا من دمشق، فكل فئة بشرية تتموضع في نهاية الأمر على مدار يبعد عن دمشق بما يتناسب مع قيمتها (كتلتها) الاقتصادية – الاجتماعية. انظر الشكل (1).

شكل (1) مسلسل الطرد انطلاقًا من الريف

تجمع عشوائي
1- من الريف السوري إلى دمشق

  • إلى مدن وبلدات ريف دمشق
  • إلى مناطق المخالفات في دمشق
  • إلى مناطق المخالفات في ريف دمشق
    2- من دمشق إلى مخالفات دمشق
  • إلى مدن وبلدات وقرى الضواحي
  • إلى مخالفات الضواحي
    3- من مدن وبلدات الضواحي إلى مخالفات الضواحي
  • إلى مدن وبلدات أخرى في الضواحي
  • إلى دمشق
  • إلى مخالفات دمشق
    4- من مناطق المخالفات في دمشق إلى مخالفات الضواحي
  • إلى مدن وبلدات الضواحي
    5- من مناطق المخالفات في الضواحي إلى مخالفات أبعد في الضواحي.

2- الوضع القانوني لأراضي التجمعات السكنية المخالفة في دمشق وضواحيها
يمكن تقسيم الوضع القانوني للأراضي التي نشأت عليها التجمعات السكنية المخالفة في دمشق وضواحيها إلى نوعين رئيسين:
الأول: الأراضي ذات الصفة الزراعية: أي الأراضي التي يحظر القانون تشييد المساكن عليها إلاّ وفق شروط خاصة جدًا، وبالتالي فهي أراضٍ غير مسموح لأصحابها أو غيرهم بتشييد المنازل عليها بقصد السكن.
والأراضي الزراعية تلك، يمكن تصنيفها بحسب طريقة الحصول عليها إلى أربعة أنواع:
⦁ أراضٍ زراعية يقوم ملّاكها بتقسيمها وبيعها من دون أي موانع قانونية. نشأت عليها تجمعات سكنية مخالفة عديدة منها: أراضي بساتين جرمانا، القابون، عرطوز، جديدة عرطوز، السيدة زينب، دحاديل… إلخ).
⦁ أراضٍ زراعية مستملكة، كالأراضي التي نشأت عليها تجمعات مخالفة في بلدة معضمية الشام وهي مستملكة لصالح محافظة دمشق، يقوم ملّاكها بتقسيمها وبيعها لمن يرغب فيها من السكان استنادًا إلى سندات التمليك التي يحوزونها.
⦁ أراضٍ زراعية مستملكة من قبل محافظة دمشق، تم تقسيمها من قبل محافظة دمشق إلى مساحات صغيرة (2-5) قصبات، وُزعت على السكان الذين تم ترحيلهم من بعض الأحياء المخالفة بدمشق لضرورات التوسع في خدمات المدينة، كما هو حال تجمع عرطوز (تجمع جونيه)، وعلى هوامش هذا التجمع نمت تجمعات عشوائية.
⦁ أراضٍ زراعية مملوكة، تم وضع اليد عليها من قبل بعض السكان في أحوال طارئة (حرب 1967) أقام النازحون عليها مساكنهم دون تعويض مالي لأصحابها (كمنطقة نهر عيشة في دمشق).
الثاني: أراضي الأملاك العامة: وهي أراضٍ ليست ملكًا شخصيًا، كبعض التلال والسفوح المحيطة بمدينة دمشق، نشأت عليها تجمعات عديدة (وضع يد) كتجمعات عش الورور (برزة) وتجمع 86 في المزة، ووادي المشاريع في منطقة دمر، وبعض أجزاء من تجمعات ركن الدين والمهاجرين.

خارطة رقم (1) مخطط مدينة دمشق وضواحيها مبينًا عليه تجمعات السكن العشوائي (وضع المعلولي، 1999).

ثانيًا: نظرية الدراسة وإطارها المنهجي
1- تستند الدراسة في رؤيتها لقضية العشوائيات إلى نظرية العوامل الاجتماعية – الاقتصادية التي تنطلق من ارتباط المسألة السكانية بصورة أساسية بالمستوى الذي توصلت إليه عملية الإنتاج الاجتماعي. لذا يصبح من الضروري بحث العلاقة المتبادلة بين البقاء والتكاثر وبين عملية الإنتاج التي تشكل جميعها وحدة مترابطة ومتكاملة.
فالمسألة السكانية لا تخضع لقوانين مجردة، أزلية، بل هي ظاهرة ذات طابع نسبي تاريخي، تتوقف على طبيعة النظام الاجتماعي السائد، ودرجة تطوره. وبالتالي فإن خصائص السكان تتفاوت من نظام اجتماعي إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى داخل النظام نفسه.
وتشكل ظاهرة السكن العشوائي، إحدى المشكلات السكانية الأكثر بروزًا وحدة، ظهرت في سياق مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي – الاقتصادي وعند مستوى من مستوياته.
فهي إذن ليست ظاهرة أزلية ولا حتمية، بل أفرزتها عوامل مرتبطة في نهاية الأمر بمستوى تطور قوى الإنتاج وطبيعة العلاقات المناسبة (المطابقة)، تتسق معها في مرحلة ما.
وعليه ينظر الباحث إلى ظاهرة السكن العشوائي على أنها مشكلة يمكن حلها عند انتفاء أسس وجودها في الواقع الاجتماعي.
⦁ اتبع الباحث المنهج الوصفي – التحليلي. إنه وصفي من النوع المسحي الذي يهتم بتغطية جوانب عديدة من حياة المجتمع المحلي، ينتمي لنوع الدراسات الارتباطية، لأنه يهتم بدراسة العلاقات المتبادلة معتمدًا أساليب الإحصاء الوصفي والإحصاء الاستدلالي.
⦁ وقد تم جمع البيانات باستخدام الاستمارة أداة رئيسة، حيث خصصت استمارة أو أكثر لكل أسرة مستوفاة.
4- وتم اعتماد عينة تجمعات مقدراها سبع، كان نصيب تجمعات دمشق منها ثلاث وأربع لتجمعات ضواحي دمشق (ريف دمشق)، وتمثل نحو 13% من إجمالي التجمعات العشوائية في دمشق وضواحيها والبالغ عددها /51 تجمعًا/، ما يسمح بإمكانية تعميم النتائج المتحصلة من أفراد العينة على جميع أفراد تجمعات مجتمع الدراسة.
5- إشكالية الدراسة
على الرغم من تمتع سكان تجمعات السكن العشوائي بخصائص تشبه في حالات كثيرة خصائص مناطق سكنية نظامية في دمشق أو ريفها، إلى الدرجة التي عدّها بعض الباحثين امتدادًا لتلك المناطق، إلا أن وجودهم في بيئات عشوائية وما يرتبه ذلك من رداءة في الخدمات العامة والخاصة، فضلًا عن الموقف السلبي للسلطة تجاههم، وما يتبعه من حالة توتر وقلق السكان على مصير بيوتهم التي وضعوا فيها كل مدخراتهم عبر التهديد بالهدم أو الترحيل، وابتزازهم من قبل السلطة، فإنهم يعيشون حالة من التهميش والحرمان، وأخطره الحرمان من الأمان، فضلًا عن تلاعب أجهزة النظام بمصائرهم من خلال العلاقة المتناقضة معهم: تقريب وشراء ولاءات ودعم، في مقابل عزل وإهمال، إلى درجة تدفع الباحث إلى عدّ النظام السياسي المسيطر مسؤولًا عن رعاية ظهور العشوائيات وتمددها، وهو حارسها في حالات كثيرة، وعدّهَ سكانها جمهوره، بل وأدواته. وقد اتضح ذلك في مناسبات عديدة من خلال استعمالهم على أنهم جمهور موالٍ في مسيرات التأييد، في مقابل استخدامهم كأدوات قمع لتحركات المعارضين. وبدا ذلك عندما سيّرهم وهم مزودون بالهراوات لقمع جمهور الانتفاضة 2011 في مراحلها السلمية، وقد شوهدوا وهم ينتقلون عبر باصات النقل العام من منطقة إلى أخرى لقمع أبناء جلدتهم.
6- فرضية الدراسة
إن الشروط الموضوعية الضاغطة على سكان العشوائيات في دمشق وضواحيها، والمتمثلة بمفردات متلازمة الحرمان: فقد الأمان، المعاناة من التهديد، والتهميش، وفقر الصحة والتعليم ذي النوعية الجيدة، والافتقار للعمل المستقر والدخل الكافي… فضلًا عن أوضاع وشروط أخرى – يمكن أن تفسر عدم تأخرهم في الخروج على النظام بتظاهرات حاشدة مع بدء الثورة، واندفاعهم اللافت، وقد طبعوا الثورة بطابعهم السلمي. الأمر الذي يمكن أن يفسر الموقف العدائي تجاههم من قبل النظام السياسي وأدواته، حينما وجه لهم أقسى درجات العنف وأشكاله الرمزية والمادية، ما سوف يظهر من خلال معدلات القتل والاعتقال المرتفعة، فضلًا عن حجم التهديم الذي سببه لبيئتهم السكنية وبنيها التحتية التي أنشؤوها بعرقهم، وكل ما يملكون من مدخرات جلبوها معهم من قراهم التي غادروها مضطرين في أغلب الأحيان.
7- أسئلة الدراسة
⦁ من هم سكان عشوائيات دمشق وضواحيها؟
⦁ متى وكيف وصلوا وأقاموا في التجمعات العشوائية؟
3- ما خصائصهم الديمغرافية، والاجتماعية والاقتصادية والصحية… إلخ؟
4- ما خصائص بيئتهم السكنية؟
5- ما العوامل/الأوضاع الأكثر تأثيرًا في حياة سكان العشوائيات؟
6- ما الأوضاع الموضوعية التي حملتهم على الانخراط المبكر في الحراك الشعبي في بداية ربيع سورية عام 2011
7- ما ردة فعل النظام تجاههم؟ وكيف تعامل معهم ومع بيئتهم؟

ثالثًا: الإجابة عن الأسئلة، النتائج
1- سكان تجمعات السكن العشوائي وخصائصهم
1/1- من أبرز الخصائص الديموغرافية لسكان العشوائيات بنيتهم العمرية الفتية، ويشتركون فيها مع باقي أبناء الريف السوري.
فنحو ثلث الأفراد أي 32% راوحت أعمارهم بين (5 – 14 سنة)، وهؤلاء معظمهم في سن الدراسة، فيما بلغت نسبة من هم في سن (15- 35 سنة) 42% من إجمالي أفراد العينة، لذا انخفضت قيم مؤشري وسيط الأعمار ومتوسطها فقد بلغ الوسيط (16 سنة)، والمتوسط (20 سنة). انظر الجدول (1)

جدول (1) العمر المتوسط والوسيط لأفراد العينة بحسب الجنس
الأفراد بحسب الجنس البيان
الإجمالي إناث ذكور
20.1 19.8 20.4 متوسط العمر
16.0 16.0 16.0 وسيط العمر
4068 1929 2139 العدد

وبلغت نسبة الذكور 52.6% مقابل 47.4% للإناث من مجموع أفراد العينة. أي إنه مقابل كل 100 أنثى يوجد 111 ذكرًا. على خلاف سكان الريف الذين ترتفع بينهم نسبة الإناث على نسبة الذكور، ويمكن تفسير النتيجة بعامل الهجرة، فالتركيب النوعي لسكان العشوائيات يكون مُختلًا إلى حدٍ ما لصالح الذكور.
ويحمل حجم الأسرة النواتية – وهي الغالبة في هذه البيئة – خاصية الأسرة الريفية، ففي عينة الدراسة بلغ متوسطه (6.8 فردًا)، فنحو ست من بين كل عشرة أسر بلغ عدد أفرادها ستة أفراد وفوق، أربع منها تضم تسعة أفراد وفوق. فيما أسرة واحدة من بين كل عشرين تضم الزوجين فقط (2 فردًا).
وارتباطًا بمساكن أسر العينة فقد بلغ معدل الازدحام (2.0 فردًا/غرفة) في عشوائيات دمشق، مقابل (2.5 فردًا/غرفة في مساكن تجمعات ضواحي دمشق. وهو أعلى من نظيره على المستوى الوطني.

(شكل 2) التوزع النسبي للأسر بحسب معدلات التزاحم في الغرفة ومكان الإقامة الحالي

1/2- ومن خصائصهم الاجتماعية: انخفاض معدلات الزواج العمرية لديهم مقارنة بالمعدل الوطني، مع تأخر لافت في إقدام الذكور على الزواج مقارنة بالإناث: فعند الفئة العمرية (20 – 29 سنة) 58% من الإناث متزوجات مقابل 29% من الذكور. مع استمرار ظاهرة الزواج المبكر الريفية خاصة لدى الاناث، فنحو 60% منهن في مقابل 13% من الذكور تزوجوا في عمر (19 سنة وأقل). مع انخفاض في نسب الطلاق 0.4% بين النساء و0.2% بين الذكور.
في مقابل استمرار عادة زواج الأقارب فنحو 40% من الزوجات تربطهن علاقة قرابة مع أزواجهن، 63% منها تتصف بقرابة من الدرجة الأولى، ونصف هذه الحالات تتم بين أبناء العمومة.
وأكثر النساء المتزوجات من قريب هنّ من ذوات التعليم المنخفض والمتوسط.
1/3- ولدى التحري عن الأصول الجغرافية للقاطنين في التجمعات العشوائية، تم رصد مصادر هجرتهم وأماكن إقاماتهم الحالية ومدتها:
أكدت مسوح سابقة تباين مصادر تيارات الهجرة الريفية إلى تجمعات دمشق وضواحيها العشوائية عبر الزمن. فكانت أرياف حلب وحمص واللاذقية في طليعة الأرياف السورية الطاردة للسكان في دراسة الجرجور، ثم أرياف إدلب ودرعا ودمشق في دراسة (زكريا، 1987) ثم أرياف ريف دمشق، والقنيطرة، وحلب في دراسة الربداوي. وأرياف القنيطرة، ريف دمشق، حمص، درعا، السويداء، إدلب في دراسة المعلولي.
فعلى المستوى الإجمالي، كان نصيب كل من ريفي القنيطرة ودمشق مرتفعًا، حيث جاوزت نسبة كل منهما 14% من إجمالي الأسر، تلاهما ريف حمص بـ 11%، ثم ريف درعا والسويداء، ولكل منهما نحو 10% من إجمالي الأسر، فيما انخفضت مساهمة المحافظات الأخرى في تركيب العينة.
ويتفاوت توزعهم على التجمعات حيث ترتفع نسبة أرباب الأسر القادمين من أرياف دمشق ودرعا وحمص في تجمعات دمشق، فيما يشكِّل القادمون من أرياف القنيطرة ودمشق والسويداء معظم أرباب الأسر المقيمين في تجمعات الضواحي.
1) كانت أقرب المحافظات إلى دمشق وضواحيها (حمص ـ درعا ـ السويداء وريف دمشق) أكثرها مساهمة في تغذية التجمعات المخالفة فيها، وذلك عند نشوئها (هجرة قديمة).
2) ثم ما لبثت باقي المحافظات (إدلب ـ حماه ـ دير الزور ـ اللاذقية..) أن أخذت تدفع بجزء من سكانها نحو التجمعات المذكورة. ولا شك في أن تحسن وتطور وسائل المواصلات بين دمشق وباقي محافظات القطر بما فيها الأرياف قد ساهم في تسهيل انتقال السكان (هجرتهم) ولو كانوا من محافظات بعيدة نسبيًا عن دمشق.
3) وكانت أوضاع العدوان الصهيوني على سورية عام 1967 السبب الرئيس في تهجير معظم سكان محافظة القنيطرة، حيث أقاموا في مدن وقرى المحافظات المجاورة (دمشق ـ ريف دمشق ـ درعا)، وكان لهؤلاء دورٌ كبيرٌ في نشوء تجمعات جديدة، واتساع التجمعات الموجودة سابقًا.
4) كان للأحوال المناخية السيئة لعدد من المحافظات أثرٌ في دفع السكان منها، حيث تسود فيها الزراعة البعلية بصورة رئيسة (حلب ـ إدلب ـ درعا ـ السويداء).
5) أدى قيام مشروع سد الفرات، وما ارتبط به من مجموعة مشروعات متممة، إلى نتائج إيجابية على صعيد تثبيت سكان محافظة الرقة التي أضحت جاذبة لسكان باقي المحافظات، وذلك لتوفر فرص العمل فيها.
1/4-سير رحلة الهجرة:
ويمكن أن نلخص تيارات الهجرة الريفية واتجاهاتها إلى التجمعات العشوائية وفيما بينها من خلال النقاط التالية:

  • تمكنت تجمعات دمشق من استيعاب النسبة الكبرى من أبناء الريف الذين كان مقصدهم مدينة دمشق خلال عقدي الستينيات والسبعينيات.
    -تأخر نشوء تجمعات ضواحي دمشق، مقارنة بتجمعات العاصمة دمشق، ولكن سرعان ما نمت بسرعة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات في مقابل تباطؤ نمو تجمعات دمشق، فكان 25% من سكانها من ذوي الأصول الريفية قد قدموا إليها خلال العقدين المذكورين، فيما كانت نسبتهم 45% في تجمعات ريف دمشق، فقد شهدت تجمعات ريف دمشق دينامية عالية جدًا في نموها وسرعة انتشارها، وتمكنت خلال السنوات 1990-1995 من استقطاب سبعة أعشار الأسر القادمة من الريف السوري.
  • شهدت حركة السكان بين التجمعات العشوائية نموًا مطردًا عبر الزمن، كان نصيب تجمعات دمشق منهم يتقلص تدريجيًا لمصلحة تجمعات الضواحي بدءًا من النصف الثاني لعقد السبعينيات، فقد تمكنت من استيعاب ثلاثة أرباع السكان الذين بدلوا مكان إقامتهم من تجمع عشوائي إلى تجمع عشوائي آخر.
    أما سكان المدن وبغض النظر عن أصولهم الأولى (مهاجرون ريفيون ـ حضريون أصليون)، وهم الذين سبق لهم الإقامة في أحياء مدنية نظامية فعندما يضطرون – ولأسباب مختلفة- إلى التنازل عن ميزات أحيائهم فيكون خيارهم الأول التوجه إلى أحد تجمعات دمشق العشوائية، لما لهذه التجمعات من مزايا تفوق ما في تجمعات الضواحي (خدمة مياه، صرف صحي، مواصلات، كهرباء نظامية، أسواق، عمل…) فضلًا عن الأسباب المعنوية- الاجتماعية.
    ولكن الأسر تلك ليست كلها ذات قدرات تمكنها من الإقامة حيث ترغب، فتضطر الأكثر فقرًا منها للتوجه نحو تجمعات الضواحي، حيث المساكن فيها أرخص وتكاليف المعيشة أخفض. ولا شك كان للتحسينات التي أصابت بعض تجمعات الضواحي، والمزايا الجغرافية لبعضها (القرب من دمشق وتحسن المواصلات..) أثرًا مهمًا في تحسين قدرتها على جذب المزيد من المدنيين. إن وجود هؤلاء فيها يرفع من قيمتها وسمعتها أمام الفئات التي تستعد لتغيير أماكن إقامتها، خاصة وأن تجمعات دمشق أخذت تعاني من شدة الازدحام، وارتفاع أسعار المساكن فيها.
    وهكذا انتهت تجمعات ضواحي دمشق لتكون المقصد الرئيس لأغلبية عناصر الحركة السكانية بدءًا من مطلع التسعينيات حيث استوعبت 78% من الأسر التي كانت تقيم في تجمعات مخالفة. و70% من الأسر التي كانت تقيم في القرى (الريف). و50% من الأسر التي سبق لها الإقامة في إحدى المدن السورية.
    وبالإجمال، فإن 68 أسرة أقامت في تجمعات ضواحي دمشق من بين كل 100 أسرة قادمة خلال هذه فترة مقابل 32 أسرة أقامت في تجمعات دمشق.
    1/5- وعلى الصعيد الاقتصادي
    تُجمع أغلبية دراسات السكن العشوائي على انخفاض الخصائص الاقتصادية فيها لناحية انخفاض مستويات العمل، وضعف استقراره، حيث تغلب الأعمال غير الانتاجية، والعرضية وغير الرسمية، خاصة في صفوف النساء والأولاد، وكذلك انخفاض مستويات الدخول المادية وعدم استقرارها.
    وغالبًا ما ترافق هذه الحالة الاقتصادية أوضاع اجتماعية بيئية – سيئة، تنعكس سلبًا على أوضاع السكان، صحيًا وتعليميًا، وتعيق اندماجهم في مجتمع المدينة.
    تمثل قوة العمل 40% من حجم القوة البشرية (مشتغلون 37.7%، وعاطلون 2.6%) تتسم بالفتوة، إذ راوحت أعمار 84% من المشتغلين (ذكورًا وإناثًا) تراوح أعمارهم بين (15- 44 سنة). ويرتفع معدل عبء الإعالة الاقتصادية إلى 243%. فالفرد المشتغل يعيل نفسه، إضافة إلى إعالة 2.4 فردًا. وهو معدل مطابق لنظيره الوطني.
    ويلاحظ انخفاض مشاركة الإناث في قوة العمل النظامي. فمقابل كل مئة من الذكور المشتغلين تعمل ستّ عشرة أنثى بحسب التصنيف التقليدي لقوة العمل، وكذلك فإن مدة مشاركتها بالنشاط الاقتصادي محدودة، فهي، مقارنة بالذكور، تدخل سوق العمل في سن متأخرة ثم تنسحب منه وهي ما زالت قادرة على مزاولة العمل. فلا تبقى أي منهن في عملها بعد سن الخمسين، وتبلغ ذروة مشاركتها في النشاط الاقتصادي وهي في عمر (20-24 سنة) وتمثل 30% من إجمالي الإناث المشتغلات مقابل 90% للذكور عند الفئة العمرية ذاتها.
    من جهة ثانية أدت الهجرة من الريف إلى المدينة إلى إحداث تغييرات في التركيب المهني للمشتغلين منهم، حيث تنخفض الأعمال الزراعية والصناعية، مقابل ارتفاع نسب الأعمال غير الإنتاجية خاصة المصنفة أعمالًا هندسية مساعدة…. وأعمال البيع والخدمات، واللافت ارتفاع نسبة العسكريين ومن في حكمهم.
    جدول (2) توزع نسبي للمشتغلين بحسب المهن الرئيسة
    توزع المهن
    عسكريون ومن في حكمهم هندسية مساعدة صناعة زراعة خدمات بيع كتابية فنية اختصاصية
    23.7% 31.7 8.0 0.7 8.5 10.5 5.7 8.0 2.8

عمومًا يغلب على المشتغلين تمتعهم بمستويات تعليمية متوسطة، فأكثر من 3/5 المشتغلين هم من مستوى تعليمي (ابتدائية وإعدادية).
يتصف عمل المشتغلين خصوصًا الإناث منهم بالاستقرار النسبي من حيث ديمومة العمل ومكان مزاولته، حيث تمارس 91% من الإناث أعمالهن بصورة دائمة مقابل 82% من الذكور، و74% من الذكور يمارسون أعمالهم داخل منشأة، مقابل 97% من الإناث.
أما الدخول المادية للمشتغلين وأسرهم فقد بلغ متوسط الدخل الإجمالي لأسر العينة (9424 ل.س) شهريًا.
وقد تفاوتت دخول الأسر، فأكثر من ثلث الأسر (35%) ذات دخول منخفضة يبلغ حدها الأقصى ستة آلاف ليرة سورية شهريًا (115 دولارًا)، فيما تجاوز دخل ربع الأسر (24%) الإثني عشر ألف ليرة شهريًا (230 دولارًا).
وقد أكد جدول العدالة في توزيع الدخل ومنحني توزيعها Gini)) واقع تفاوت الدخل، حيث بلغ نصيب أفقر 20% من الأسر 9% من إجمالي الدخول، مقابل 39% لأكثر 20% من الأسر دخلًا في العينة.

شكل (3) منحني جيني لتوزيع الدخل

1/6- ولمتابعة الأوضاع الصحية لقاطني العشوائيات تم اعتماد عدد من المؤشرات مثل معدل الخصوبة لدى المرأة، وأماكن توليدها، ومعدلات الحمول الخطرة، فضلًا عن تصميم مقياس مركب للصحة العامة لتلك الأسر.

  • بلغ معدل الخصوبة التراكمية (4.6 مولودًا) للنساء من عمر (15- 49 سنة)، وهو معدل يكاد يطابق نظيره الوطني (4.3 ولادة) لعام 1993 مسجلًا بذلك انخفاضًا ملحوظًا عما كان عليه (6.9 ولادة) عام 1987. فيما بلغ (7.7 ولادة) لفوج النساء من عمر (45- 49 سنة) تعبيرًا عن الخصوبة المكتملة للمرأة.
    وكانت عوامل مثل تعليم المرأة وعملها ذات أثر واضح في التأثير لجهة خفض معدل خصوبة المرأة

جدول (3) متوسط عدد المواليد بحسب المستوى التعليمي للمرأة
المستوى التعليمي للمرأة البيان
جامعة + معهد ثانوية إعدادية ابتدائية ملمة أمية
1.6 2.2 2.5 3.0 3.9 5.1 7.3 المتوسط

وقد أظهرت بيانات الدراسة أن العوامل المؤثرة في تحديد خصوبة المرأة، يمكن ردها في نهاية الأمر إلى تلك العوامل التي تنمي نزعة الاستقلالية عند المرأة، ونقصد التعليم والعمل. فمع كل تحسن تحرزه المرأة تعليميًا وعمليًا من خلال النشاط الاقتصادي، يتفتح نزوعها لتقدير ذاتها، وتبتعد شيئًا فشيئًا عن أن تكون مجرد مربية لأطفال العائلة. ولا شك فإن مساندة هذه النزعة من زوج متفهم، يضاعف من أثر هذه الحالة، ليس على خصوبة المرأة فحسب، بل على العلاقات الأسرية والاجتماعية بصورة عامة.
هذا وقد أفادت البيانات المتوفرة بأن نحو ثلاثة أرباع الولادات تقريبًا (72%) حصلت بمساعدة كادر طبي مختص (طبيب، قابلة قانونية)، فيما 9.5% منها تمت بمساعدة قابلة بلدية، و18% من وقوعات الولادة حصلت بمساعدة امرأة عادية أو دون مساعدة من أي شخص.
ومن المؤشرات الصحية الدالة على وعي المرأة واستقلالها معدلات الحمول الخطرة، التي تحدث قبل بلوغ المرأة عامها الثامن عشر، أو بعد تجاوزها الخامسة والثلاثين من العمر، فقد بلغت نسبة النساء اللاتي شهدن حملًا خطرًا 39.3% من النساء المشمولات بالعينة.
وقد تلقى 89% من أطفال الخمس سنوات ودون لقاحات كاملة وهي نسبة أقل من المعدل المُصرح به للمؤسسات العالمية.
ومن أجل تكوين صورة إجمالية للوضع الصحي لقاطني العشوائيات اعتمد الباحث جملة من المؤشرات أعطي كل منها وزنًا، شكلت بمجموعها مقياسًا للحالة الصحية مكننا من تصنيفها في مستويات.
استنادًا للمقياس المذكور، تعد الأسرة ذات مستوى صحي جيد عندما تتوفر لها العوامل والشروط التالية: لم تفقد أي طفل خلال السنوات الخمس الأخيرة السابقة للمسح، وتزيد حصة الفرد فيها عن 2800 ل.س (عودة للدخول الشهرية) شهريًا، والمستوى التعليمي للأم (إعدادية فأكثر)، ولم تتعرض لحمل خطر (سن الحمل)، ومتزوجة من رجل لا تربطها معه صلة قرابة، ومسكن الأسرة مزود بمياه نظيفة (شبكة عامة) وتصرف مياهه المستعملة من خلال شبكة صرف صحي عامة، ومعدل التزاحم أقل من 2 شخص/غرفة. وتصرف الفضلات بمساعدة جامع قمامة، والحمام موجود في المسكن، والمرحاض فني.
على مستوى العينة الإجمالية (دمشق والضواحي) توزعت الأسر بحسب حالتها الصحية إلى النسب التالية:
ينتمي أكثر من ربعيّ أسر العينة للمستويين الصحيين المتباينين بصورة كبيرة. فالأسرة ذات المستوى الصحي الجيد تمثل 26.5% مقابل 27.7% للأسر ذات المستوى الصحي المنخفض. وباقي الأسر 45.8% ذات مستوى صحي متوسط.
جدول (4) توزع الاسر بحسب مستوياتها الصحية ومكان الاقامة
مكان الإقامة مستوى جيد مستوى متوسط مستوى منخفض
عينة دمشق 42.9 49.5 7.6%
عينة ريف دمشق 13.7 42.8 43.5%

1/7- خصائص المسكن والبيئة السكنية:
من أبجديات تشييد ذوي الدخل المحدود لمساكنهم في التجمعات العشوائية سعيهم لتلبية حاجتهم للإيواء، وتجديد قوة عملهم لا أكثر، معتمدين مبدًا أساسًا وهو الحد من الهدر، وذلك لضعف إمكانياتهم المادية؛ فهم يخففون من هدر المواد المستعملة في التشييد، وفي المساحات، والزمان…
والأسرة السورية عمومًا، تعد مسألة الحصول على المسكن هدفًا كبيرًا من أهدافها، تسعى إلى بلوغه عن طريق حشد طاقات أفرادها. وهو كذلك بالنسبة للأسرة المهاجرة إلى الحضر، حضرًا نظاميًا أكان أم مخالفًا – عشوائيًا.
وهي في بدء هجرتها، يمكن أن تقبل بأدنى الشروط (غرفة مستأجرة دون مطبخ) طالما أنها تحقق لها الحد الأدنى من الاستقرار وبلوغ فرصة العمل، ولكنها مع مرور الوقت لا توفر جهدًا لكي تحسن من أوضاعها السكنية، ساعية لتملك المسكن، والإقامة فيه مستقلة عن غيرها من الأسر.
فقد يبيع رب الأسرة أرضه في القرية، أو أدواته الزراعية وحيواناته، أو قد يستدين من أقربائه، ويمكن أن تعيش أسرته بمستوى الكفاف، حتى يتمكن من توفير قيمة قطعة من الأرض، يشيد عليها غرفة إثر غرفة.
ففي مساكن هؤلاء المهاجرين الريفيين ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية تتراكم كامل مدخراتهم وجهد الأفراد جميعًا.
وهذا ما يفسر دينامية الأسر المقيمة في التجمعات السكنية المخالفة، وترحالهم من تجمع إلى آخر، ومن حي إلى آخر، متنقلين من مسكن إلى مسكن، سعيًا إلى بلوغ طموحاتهم، إن تمكنوا من ذلك.
إنهم يسعون وراء أهداف محددة: التخلص من الإيجار أو التخفيف منه وتحسين البيئة السكنية (الخدمات..)، وكذلك التخفيف من غربتهم، عن طريق الإقامة في جوار الأقارب أو أبناء القرية ذاتها.
فما هي أبرز سمات السكن في تجمعات دمشق وضواحيها العشوائية؟

  • تمكنت نسبة كبيرة من الأسر من حيازة المساكن التي تقطنها، ومن إشغالها بمفردها دون أن تشاركها أسرة أخرى. فقد بلغت نسبة الأسر المالكة لمساكنها 83% من إجمالي الأسر، و93% تشغل مساكنها بمفردها، ملكًا لها أكان المسكن أم مستأجرًا، وبغض النظر عن مواصفات المسكن الذي تقيم فيه.
    تتصف المساكن بقلة عدد الغرف فيها، فأكثر من 2/5 من المساكن لا تضم سوى غرفة أو غرفتين، وبلغ متوسط عدد الغرف للأسر جميعًا ثلاثة غرف. ويرتفع معدل التزاحم في الغرفة 2.3 فرد في الغرفة.
    وبدت مساكن تجمعات الضواحي أشد ازدحامًا بالسكان، وذلك لانخفاض متوسط عدد الغرف في المسكن، ولارتفاع عدد أفراد الأسرة، مقارنة بمساكن تجمعات دمشق.
    أغلب المساكن تضم مرافقها (المطبخ والحمام والمرحاض). معظمها موصول بشبكة مياه جارية.
    إن المعدلات المذكورة تسمح باستنتاج أن المهاجر الريفي لا يحسن وضعه السكني في مكان إقامته الجديد، بل يمكن أن يقيم في مسكن أشد ازدحامًا من مسكنه في القرية.
    ولإجمال خصائص المساكن في هذه البيئة أمكن بناء مقياس لمستوياتها وعليه، فالأسرة التي تملك المسكن، وتشغله بالكامل، ومبُني من الأسمنت أو الحجر، ومعدل التزاحم فيه أقل من شخصين في الغرفة، وإنارته كهرباء من شبكة عامة، تصل مياه الشرب من الشبكة العامة، وتصرف المياه المستعملة إلى الشبكة العامة، والمطبخ والحمام مزودان بمياه جارية، والمرحاض فني، والفضلات تصرف من جامع قمامة، يعطى المسكن مستوى الجيد، بالمقابل، كل مسكن يكون مشتركًا بين أسرتين أو أكثر ومستأجر، ويكون التزاحم فيه أكثر من أربعة أشخاص/ غرفة، والإنارة فيه ليست الكهرباء، والمياه شراء، والصرف الصحي عبارة عن مجاري مكشوفة، ولا يوجد فيه مطبخ وحمام ومرحاض، والقمامة الناتجة تلقى في مكان غير مخصص. هذا المسكن يعطى مستوى منخفض.
    ووفقًا لذلك، فقد بلغت نسبة المساكن ذات المستوى الجيد 66% من إجمالي المساكن. وهي في تجمعات دمشق (85%) من مساكنها مقابل (51%) من مساكن تجمعات الضواحي مقابل 7% من المساكن صنفت بمستوى منخفض. وكانت مساكن تجمعات دمشق أفضل من مساكن تجمعات ريف دمشق، وقد فسر الباحث هذا الواقع استنادًا إلى:
    1ً ـ حداثة تجمعات الضواحي وسكانها، فهي تجمعات غير مستقرة سكانيًا وعمرانيًا نتيجة سرعة انتشارها، وقلة المبادرات المحلية.
    2ً ـ موقف السلطات البلدية المسؤولة عن التجمعات، فهي سلبية حيال تقديم أي خدمات في البنية التحتية (طرقات، شبكات المياه والصرف، تصريف القمامة…).
    3ً ـ التردي النسبي لأوضاع معظم الأسر اقتصاديًا، مما يضعف من قدراتهم على القيام بمبادرات ذاتية جماعية لتحسين مستوى الخدمات في تجمعاتهم.
    واستكمالًا لخصائص البيئة السكنية، نعرض واقع الخدمات والمرافق الخاصة والعامة في التجمعات المشمولة بالدراسة:
    مياه الشرب: يعاني معظم سكان التجمعات من مشكلة نقص مياه الشرب، فمازال أكثر من ثلث سكان التجمعات (35% من الأسر) غير قادرين على بلوغ مصادر المياه النظيفة من شبكات عامة، فيما يوفر أغلبهم المياه من شبكة عامة قريبة من التجمع، يقومون بوصل شبكاتهم الخاصة بها دون مراعاة لطاقتها الاستيعابية أو لشروط مدها بصورة فنية، وكثيرًا ما تتعرض هذه الشبكة للأعطال، وانقطاع المياه عن المنازل، فضلًا عن تعرضها للتلوث لأسباب تتصل بأعطال تصيب شبكات الصرف الصحي، أو تسرب المياه الوسخة إلى مياه الشبكة. فيما يضطر آخرون إلى حفر آبار خاصة بهم لتوفير مياه الشرب، في حين لا تتوفر في بعض التجمعات إلا إمكانية شراء المياه من بائعيها (الصهاريج) كما هو الحال في تجمعي المعضمية – والذيابية، وهي مياه غير مضمونة، وهكذا فهم يتكبدون نفقات مالية إضافية مقابل الحصول على خدمات سيئة.
    وعمومًا تكون معاناة سكان تجمعات الضواحي أشد، فست من بين كل عشر أسر توفر المياه من البائعين (21%) أو من الآبار (41%). وغير خافٍ بأن هذه الآبار يتم حفرها بصورة غير نظامية وغير شرعية أيضًا
    الصرف الصحي: تصرف 86% من المساكن المياه المستعملة عبر شبكات، ترتبط بالشبكة العامة للصرف الصحي وهي في معظمها شبكات أقامها السكان على نفقتهم، بصورة غير نظامية وغير فنية، الأمر الذي يؤدي إلى كثرة الأعطال فيها.
    وما زال (18%) من المساكن يصرف المياه المستعملة إلى حفر مغلقة كما هو الحال في المعضمية (التجمع الشرقي)، أو إلى مجارٍ مكشوفة (16% من مساكن الضواحي أو إلى أنهار كما هو الحال في حي الدخانية (بساتين جرمانا).
    القمامة: وفرت محافظة دمشق لعدد من الأحياء المخالفة جزءًا من حاجاتها إلى تصريف القمامة (عربات، عمال..)، ولكنها غير كافية، ما يؤدي إلى تراكم القمامة على الطرقات وفي الأماكن الخالية (الشاغرة).
    وقام سكان بعض التجمعات بحل مشكلة تصريف القمامة عن طريق متعهدين جوالين يجمعونها لقاء أجر شهري يدفعه السكان. فيما لا تتوفر لبعض التجمعات أي خدمات لترحيل القمامة، فأكثر من 2/5 من الأسر في تجمعات ضواحي دمشق يتخلصون من الفضلات الصلبة (القمامة) من خلال رميها في أماكن مكشوفة (فراغات بين المساكن، كما هو حال تجمعات معضمية الشام) أو ترمى في النهر كما هو الحال في تجمع الدخانية.

شكل (4) التوزع النسبي للأسر بحسب توفر بعض الخدمات ومكان الإقامة

الإنارة: إن ما يعاني منه سكان التجمعات المخالفة ليس عدم تمكنهم من ربط شبكة منازلهم بالشبكة العامة للطاقة الكهربائية، ولكن شكواهم تنطلق من عدم تمكنهم من استجرارها بطريقة نظامية، حيث يعمدون إلى تعليق خطوط الطاقة الخاصة بالشبكة العامة والأعمدة، ما يعرضهم لأخطار كثيرة. فضلًا عن تعرض التيار للانقطاع المتكرر، والنقص في شدته لاستجراره بصورة غير نظامية، ولانعدام توفر المحولات الكافية. فضلًا عن مرور خطوط الطاقة ذات التوتر المرتفع فوق المساكن.
المدارس: يعاني سكان التجمعات المخالفة من تدهور الخدمات التعليمية، فمعظمها يخلو من المدارس، وإذا ما توفرت فهي لا تستوعب إلا جزءًا من الأولاد، وهي غالبًا مدارس مستأجرة، ذات صفوف ضيقة خالية من الباحات وغير كاملة، ما يضطر الأهالي إلى إرسال أولادهم إلى مدارس أحياء أخرى قد تكون بعيدة. فأبناء حي اليونسية (جرمانا) مثلًا يتعلمون في مدارس الطبالة، وأبناء حي الدخانية يتعلمون في مدارس باب شرقي، وجزء من أبناء الدويلعة (الابتدائي) وكل الطلاب في المرحلة الإعدادية والثانوية يتعلمون في مدارس باب شرقي وباب توما. وأبناء حي تشرين يتعلمون في مدارس القابون التي تبعد عن مساكنهم 2 – 3 كم.
خدمات الصحة: معظم التجمعات المخالفة تفتقر للخدمات الصحية (مستوصفات)، لذلك يتلقى سكانها الرعاية والعلاج في مستوصفات تتبع لأحياء أخرى أو في العيادات الخاصة.
وعمومًا يعاني سكان التجمعات من كثرة تعرضهم للأمراض الإنتانية والزحارية والجرب والقمل وأمراض الجهاز التنفسي (الربو). وقد لاحظ الباحث كثرة العاهات لدى أبناء هذه التجمعات.
الطرقات – المواصلات: معظم الطرقات الداخلية ضيقة جدًا لا تستوعب مرور سيارة باتجاه واحد (أزقة).
توجد طرقات رئيسة تخترق بعض التجمعات أو أن بعض الأحياء، وهي مزدحمة بالسيارات والمحال التجارية والورش.
عدا ذلك فالطرقات الداخلية والفرعية مازالت ترابية، خاصة في تجمعات ريف دمشق، يملؤها الغبار صيفًا والوحل شتاءً.
الحدائق: لا توجد حدائق ولا مراكز هاتف ولا مكتبات عامة.
الخدمات الدينية: متوفرة (جوامع، كنائس)، وكذلك البقالات والمحال التجارية.
مشكلات إدارية: يعاني السكان في تجمعات عديدة من مشكلة تعدد الجهات الإدارية المسؤولة أو من اختلاط المسؤولية. فهناك تجمعات نشأت على حدود مدينة دمشق، بعض أجزائها يتبع للعاصمة وبعضها لريف دمشق. وهناك أحياء تتبع إداريا لمحافظة القنيطرة تخدم أبناء هذه المحافظة، فيما يحرم باقي السكان الموجودين في هذه الأحياء من تلك الخدمات.
البيئة العامة: تبرز هنا مشكلات البيئة بصورة جلية وأهم مظاهرها: الازدحام الشديد للسكان والمساكن وما ينجم عن ذلك من ضغط نفسي وعصبي يعاني منه السكان فضلًا عن ازدحام الشوارع بالسيارات في تجمعات دمشق. وتلوث المياه: فالشبكة سيئة التنفيذ (مياه – صرف صحي)، تؤدي إلى تسرب المياه الوسخة واختلاطها بالمياه النظيفة، فضلًا عن تسرب المياه الوسخة من الآبار (الحفر الفنية) إلى جوف الأرض واختلاطها مع مياه الآبار المعدة للشرب. تلوث الهواء في تجمعات مدينة دمشق. التلوث بالمواد الصلبة: القمامة.
وأخيرًا، تدهور عناصر البيئة: شح المياه وتدهور منسوب المياه الجوفية بصورة لافتة للنظر، ما يهدد هذه المناطق بالجفاف التام مستقبلًا. فضلًا عن تدهور الغطاء النباتي، والتعديات المستمرة على الأراضي الزراعية عن طريق قطع الأشجار والبناء عليها.
1/8- الأوضاع التعليمية:
في أغلب دراسات الهجرة الريفية في سورية، يتأكد تميّز المهاجرين من أبناء الريف بمستوى تعليمي يفوق نظيره لدى باقي أبناء الريف، وقد تأكد ذلك أيضًا في عينة أرباب الأسر المقيمين في التجمعات العشوائية، فكانت نسبة الأميين بينهم منخفضة (8%) ولم تتجاوز نسبتهم مع الملمين 19%. وهي أخفض من نظيرتها على المستوى الوطني. حيث بلغت كما أفاد المسح الديموغرافي المتكامل 25%. مقابل ذلك، ترتفع نسب الشهادات بينهم، حيث بلغت نسبة من أنجزوا مستوى الثانوية وفوق 23.2% في حين بلغت في عينة مسح سابق 18%. مع تفوق السمات التعليمية لأرباب الأسر المقيمين في تجمعات دمشق على نظيرتها لدى أرباب أسر تجمعات الضواحي. حيث انخفضت نسبة الأميين في عينة دمشق إلى 5.3% مقابل 10.5% في عينة الضواحي فيما ارتفعت نسبة الأميات والملمات إلى 47% (33% أميات و13% ملمات) بين زوجاتهم، وانخفضت نسبة من حصّلن مستوى تعليمي مرتفع (ثانوية فأكثر) إلى 14%.
ومع ذلك، تتفوق نساء التجمعات على نساء الحضر والريف السوري بصورة عامة تعليميًا.

جدول (5) توزع الأبناء (8 سنوات وفوق) بحسب المستوى التعليمي والجنس
مجموع المستويات التعليمية للأبناء البيان
% عدد ثانوية وفوق ابتدائية وإعدادية أمي وملم
100 278 18.0 71.2 10.8 إناث
100 474 16.2 73.8 9.9 ذكور
100 752 16.9 72.9 10.2 إجمالي

أما الأبناء فيمكن تلخيص أوضاعهم التعليمية من خلال مؤشري:
⦁ المستويات التعليمية التي بلغها من هم خارج الانتظام الدراسي من عمر (8 سنوات وفوق).

  • نسب الانتظام بالدراسة لمن هم في عمر (5-24 سنة)
    ⦁ يتصف المستوى التعليمي للأبناء بارتفاعه، مقارنة مع المستويات التعليمية لباقي أفراد الأسرة.
    فقد بلغت نسبة الأميين والملمين بينهم نحو 10% (5.2% أميين، 5.1% ملمين)، وثلاثة أرباعهم تقريبًا (73%) أنجزوا إحدى المرحلتين الابتدائية والإعدادية. وحصَّل نحو 17% منهم مستوى تعليميًا مرتفعًا (ثانوية وفوق). والفروق ليست جوهرية بين الجنسين، حيث تقاربت نسبة الأمية والإلمام (10.3% للذكور – 10.8% للإناث). وكذلك نسبة من حصّلوا تعليمًا مرتفعًا (ثانوية وفوق) (16% للذكور – 18% للإناث)
    2- المنتظمون منهم في الدراسة 66%، وغير المنتظمين 34%. والإناث أكثر انتظامًا، 68.5% من إجمالي الإناث، مقابل 64.3% من إجمالي الذكور. تتناقص هذه النسب مع ارتفاع السن. فكانت أعلى هذه المعدلات لفئة الأطفال من عمر (6–11 سنة) وبلغت 96.3% تليها الفئة العمرية (12-14 سنة) ونسبتها 85%. وتنخفض إلى 52.5% للأبناء من عمر (15-17 سنة). فيما انخفضت إلى 19.7% لدى فئة الأبناء من عمر (18-24 سنة).

رابعًا: خلاصة واستنتاجات
أتاح الإحصاء المتقدم التعامل مع خصائص سكان المخالفات/ العشوائيات الممتدة على أراضي محافظتي دمشق وريف دمشق، ومع المتغيرات المتدخلة في إمكانية اختبار طبيعة العلاقات فيما بينها، والكشف عن المتغيرات الأكثر تأثيرًا في حياة السكان، من خلال استخدام مجموعة مقاييس الارتباط ومنها التحليل العاملي.
ما سهّل فرز أكثر المتغيرات تأثيرًا في جوانب حياة الناس الصحية والمادية والتعليمية…الخ، التي بدت كحزمة عوامل متداخلة ومتفاعلة فيما بينها، ما جعل منها متلازمة متماسكة، أمكن تصنيفها وفرزها إلى مجموعتين مترابطتين:
*مجموعة أولى من العوامل المتصلة بطبيعة الأسرة المقيمة في عشوائيات دمشق وريفها بكونها أسرًا قادمة من أرياف سورية تجلت من خلال متغيرات: عدد المواليد الأحياء (ارتفاع معدلات الخصوبة التراكمية والمكتملة عند المرأة)، بالتالي ارتفاع حجم الأسرة (عدد أفرادها)، وتدني المستوى الصحي العام للأسرة، ومعدل التزاحم في الغرفة، فضلًا عن انخفاض مستوى السكن عمومًا، وضعف الاستقرار المادي للأسرة معبرًا عنه من خلال مكان عمل الأب، ودورية عمله.

  • مجموعة ثانية من العوامل المعبرة عن طبيعة البيئة السكنية التي يقطنوها بكونها بيئة مادية ذات خصائص عشوائية وتجلت من خلال متغيرات: مكان الإقامة الحالي (تجمعات مدينة، تجمعات ضواحي)، ارتفاع معدل الازدحام السكاني، مدى توفر عناصر البنية التحتية في البيئة السكنية (شبكات المياه، والصرف الصحي، مرافق المسكن، تصريف الفضلات) فضلًا عن مدى توفر الخدمات العامة وجودتها (مدارس، مراكز صحية، طرقات…).
    إن مجموعة الخصائص المنضوية في كلتا المجموعتين يمكن أن تفسر في المآل الأخير حالة الحرمان المركب التي تسم نسبة مرتفعة من تلك الأسر، وخصوصًا تلك التي تقيم في تجمعات ريف دمشق.
    ومن بين مجموعتي المتغيرات المذكورة أمكن فرز المتغيرات المعبرة عن الواقع الصحي للأسر وقد بدا تعبيرًا مكثفًا عن الخاصتين المذكورتين. بكونه مقياسًا مركبًا من جملة مؤشرات عكست خصائص الأسرة الريفية المهاجرة، فضلًا عن خصائص البيئة السكنية بآن معًا من خلال:
    1- وضع الأم من حيث مستواها التعليمي، وسلوكها الإنجابي (سن زواجها الأول، فئة الحمول الخطرة، معدل خصوبتها، زواج الأقارب، معدل وفيات الأطفال).
    2- وضع الأب من حيث هو المعيل الرئيس لأسرته، درجة استقرار دخله المادي (دورية عمله، مكان مزاولته العمل).
    3- مستوى المسكن والبيئة السكنية، عدد غرف المسكن، معدل التزاحم، مستوى الخدمات العامة…
    استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إن الأسر التي تضم عددًا مرتفعًا من الأولاد (خصوبة مرتفعة)، ودخولها المادية منخفضة أو غير مستقرة، والمستوى التعليمي للوالدين منخفض، ومساكنها صغيرة، وتقيم في تجمع سكني يتصف بمستوى خدمات منخفضة (مدارس، صرف صحي، مياه شرب…) ووضع تعليمي منخفض للأبناء وفق مؤشرات: ارتفاع نسب الرسوب والتسرب من المدرسة، ثم الانخراط بالعمل في سن مبكرة، إن الأسر المذكورة تتجلى لديها متلازمة الحرمان بدرجة أكثر وضوحًا من أسر أخرى. وهذه خصائص تتجلى بوضوح لدى الأسر المقيمة في تجمعات ضواحي دمشق بجلاء مقارنة مع تلك التي تقيم في تجمعات مدينة دمشق.
    وهكذا تؤدي متغيرات المجموعتين المذكورتين دورًا مهمًا – بكونها شروطًا موضوعية – في وقوع نسبة كبيرة من الأسر المبحوثة في قبضة عوامل متلازمة حرمان. حيث تفوقت في أثرها على الشروط / المتغيرات ذات الطابع الذاتي مثل المستويات التعليمية للآباء والأمهات، وكذلك على قوة اتجاهاتهم نحو تعليم أولادهم.
    كل ذلك يحملنا على تأكيد أهمية التخفيف من وطأة الشروط البيئية القاسية على حياة السكان من خلال التدخل لتحسينها ورفع مستواها: السكني، والبيئي. الأمر الذي يمكن أن يسمح للعوامل الخاصة بطموحات الأهل ومستوياتهم التعليمية أن تبرز على أنها عوامل إيجابية يمكن أن تؤدي إلى تحسين الواقع العام لتلك الأسر وأبنائها.
    هكذا بدت حالة الحرمان المركب بكل تجلياته تغمر سكان العشوائيات، وبتعبير آخر، الفقر بكل أنواعه وصوره:
    “الفقر المادي، وفقر الحماية والأمن، والحرمان من الحب الناجم عن التسلط والعلاقات الاستغلالية للبيئة الطبيعية، وفقر الفهم والإدراك، وفقر المشاركة، وفقر الهوية الناتج عن التسلط وفرض القيم الغريبة على الثقافات المحلية، التهجير والنفي السياسي…”.
    سياسيًا يمكن الحديث عن أهمية- بل ضرورة- وعي سكان العشوائيات لواقعهم وأحوالهم، وهذا لن يأتيهم من داخلهم! وفي ظني أن شرارة الثورة السورية في منتصف آذار/ مارس 2011 كانت في منزلة الوميض الملهم والمفجر لطاقاتهم، فانخرطوا فيها.

الجزء الثاني: سياسات الدولة/النظام تجاه سكان العشوائيات

لم تلقَ ظاهرة السكن العشوائي اهتمام السلطة السياسية والإدارية في سورية حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فالجهات الحكومية المسؤولة عن السكن والتخطيط العمراني على المستويين المركزي والإقليمي لم تبادر أي منها إلى دراسة ظاهرة التجمعات السكنية العشوائية إلا متأخرة، وأغلب الظن أن بعض تلك الجهات لم تكن ترى في هذه الظاهرة قضية مهمة وخطرة، حيث «يمكن التحكم بها عند اللزوم». فيما كانت بعض تلك الجهات تتهيب فتح ملف السكن العشوائي، خشية إثارة قضية يُفضّل عدم إثارتها نظرًا لطبيعة القاطنين فيها!، وكبر حجمها، فقد ورد في أحد الكتب الصادرة عن وزارة الإسكان ووزارة الإدارة المحلية أن فشل الإجراءات المتخذة في محاولة مواجهة المد العمراني غير النظامي فوق الأراضي الزراعية «لم يكن بسبب نقص من الأحكام القانونية والنظامية، وإنما بسبب مجموعة من العوامل والحالات بعضها يتعلق بالهجرة المتزايدة من الريف إلى المدن، وبعضها الآخر يتعلق بصفة المخالفين أو طبيعة المخالفات والأحوال وعدم القدرة على تنفيذ القانون أو النظام»
ويقع في الإطار ذاته، انعدام البيانات الإحصائية عن مناطق المخالفات الجماعية في سورية، سواء في المجموعات الإحصائية السنوية، أو في نتائج التعدادات السكانية التي ينفذها المكتب المركزي للإحصاء بصورة دورية تقريبًا منذ عام 1960. حيث كانت بيانات السكان المقيمين في مناطق المخالفات مدمجة مع بيانات المناطق السكنية النظامية. عندئذٍ لن نستغرب مثلًا عدم معرفة الباحثين أو المخططين لحجم هذه الظاهرة، كعدد السكان ومعدلات نموهم ومصادرهم ومشكلاتهم… أو أي بيانات أخرى خاصة بهم.
إن عدم وجود البيانات الإحصائية، وندرة المسوح الميدانية عن مناطق المخالفات في سورية دفعت بعض الباحثين من منظمات دولية للكتابة عنها بشكل يفتقر إلى الموضوعية المناسبة.
فضلًا عن ذلك، لم تظهر حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي مصورات طبوغرافية تحدد مواقع وحدود التجمعات المخالفة في ريف دمشق، وما هو متوفر منها عن تجمعات محافظة دمشق ليس إلا مخططات أولية بمقياس 1/5000، 1/20.000 تفتقر إلى التفاصيل، فضلًا عن عدم دقتها، وتأخر صدورها حتى عام 1991.
وقد ختمت الألفية الثانية على رأي لأجهزة التخطيط الإقليمي يُرجح فكرة ترقية عدد من التجمعات المخالفة في مدينة دمشق، مع السعي لضبط نموها واتساعها. وأحيل العديد منها للدراسة في سياق تشريعات عمرانية قديمة أوصلت عمليات التخطيط العمراني إلى أخفض مستوياتها طيلة الفترة الممتدة بين 1975- 2000.
ومع الدخول في العقد الأول من الألفية الجديدة، ووصول بشار الأسد إلى السلطة في عام 2000 ومع تبني نهج الانفتاح الاقتصادي خاصة بعد عام 2005 من خلال تبني الدولة نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي “لاستعادة التوازن بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للتنمية”، تم تبني سياسات حضرية جديدة ذات هدف مزدوج: تحرير الاقتصاد، مع الحفاظ على شبكة أمان بغرض توفير الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة! وجرت عملية إصلاح الآليات التشريعية التي تتناول الإسكان والتصميم الحضري، مع التركيز على الاستثمار في العقارات.
وعليه، تم تجديد التخطيط الحضري، وألغيت القيود المفروضة على الإيجارات، وازدهر الاستثمار في السياحة، وكذلك تم إصلاح قانون المُلكية، وتراخيص البناء والتعاونيات، وأعيد تنظيم تشريع مخالفات الإعمار وتنظيم استخدام الأراضي. وقد ترافق هذا الدفع التشريعي مع عودة هائلة إلى تخطيط الإسكان العام من المؤسسة العامة للإسكان والتي تم تقديمها بشكل واضح على أنها آلية اجتماعية تهدف إلى موازنة الآثار المتوقع ظهورها عقب التحرير، وكان من المقرر أن يكون المستفيدون من أعمالها الأسر المنخفضة الدخل ولا سيما الشباب، الذين تم تحديدهم لاحقًا على أنهم المحرك الرئيس في تنمية مناطق المُخالفات!
وبرز بشأن قضية التجمعات العشوائية سياسة حضرية، تؤكد على وجود اتجاهين رئيسين لمعالجتها:
الأول: يؤكد على ترقية التجمعات المخالفة من خلال دعم البنية التحتية: شبكة مياه شرب وشبكة صرف صحي، ومدارس…مع الحفاظ على المساكن إلا ما كان معيقًا لتحسين شبكة الطرق. مع إضفاء الطابع القانوني على إشغاله الأرض، ومن أجل ذلك سيكون مطلوبًا تعديل الخطط الرئيسة لتكييفها مع الوقائع القائمة.
الثاني: يدعو إلى التجديد الحضري أي الهدم وإعادة الإعمار القانوني، وهو يتبع خطة رئيسة تختلف عن الواقع القائم، وقد افترض مروجو هذا الخيار الأخير أن جدواه ستكون مضمونة عبر وصول مستثمرين يجذبهم انفتاح الاقتصاد.
وانخرطت وزارة الإدارة المحلية والبيئة المسؤولة عن التخطيط الحضري منذ عام 2004 في عدة برامج تهدف إلى “الارتقاء” بأحياء المُخالفات. ووضعت البرنامجَ الوطني للارتقاء وإعادة تأهيل مناطق السكن العشوائي.

صورة (1) منطقة البحدلية في ضواحي دمشق الجنوبية، وقد شملها برنامج الارتقاء بالعشوائيات في ريف دمشق.

وفي الوقت ذاته، حدّدت وزارة الإسكان والتعمير مع المؤسسة العامة للإسكان الشروط القانونية والتشريعات الإدارية التي تحكم سياسة التجديد الحضري لمناطق المخالفات، على أساس جذب مستثمرين عقاريين رئيسين في القطاع الخاص، وكان على الدولة أن توفر أراض مملوكة ملكية عامة لمستثمري القطاع الخاص، التي كان سيبنى عليها مساكن للأُسر منخفضة الدخل، وأيضًا أراض من أجل تجديد الأحياء المُخالفة.
خلال هذه الفترة، اشتد “التنافس بين قوى المصالح على السوق العقارية، حيث تمت المباشرة بتنفيذ سياسات الارتقاء والتجديد الحضري من قبل إدارات وسلطات محلية مختلفة في الآن نفسه من دون تنسيق. جرى ذلك وسط تنافس بين هذه السياسات الحكومية التي تؤكد ” رغبتها في تنفيذ سياسات السوق الاجتماعي”، وبين المنطق الاقتصادي للاستثمار الخاص والعولمة ومنطق الرفاهية الاجتماعية. وكانت هذه هي الحالة في ما يتعلق باستخدام أراضي مناطق المخالفات.
وأخيرًا تم التوفيق بين الخيارات المتنافسة، إما ضمنًا أو صراحةً، تمخض عن بلوغ إجماع عام بين الفاعلين التقنيين والسياسيين وأصحاب المصالح: فلن يكون سيناريو الترقية هو المحتمل لبعض عشوائيات المناطق المركزية جدًا في العاصمة، كما لن يكون التجديد لتجمعات تقع على المحيط البعيد عن العاصمة.

صورة (2) حي الطبالة وهو مخالف قديم في جنوب دمشق، تم الارتقاء به في التسعينيات.

لقد كانت حصيلة تطبيق سياسات إسكانية متخبطة من جهة، ومنحازة من جهة أخرى، طوال العقد الأول من الألفية الجديدة، أن ظهرت طفرة كبيرة على صعيد إنتاج عدد كبير من الأبنية السكنية، على يد القطاع الخاص.
فمع حلول عام 2007 تضاعف الإنتاج السنوي للوحدات السكنية في منطقة العاصمة سبع مرات، وفي ضواحي العاصمة تضاعف 15 مرة، وهي في أغلبها موجهة لتلبية طلبات الفئات الميسورة، فكان العرض في سوق المساكن أعلى بكثير من الطلب عليها، ما أدى إلى بقاء عدد كبير منها فارغة، أو غير مكتملة، في وقت أظهرت مؤسسات الإعمار الحكومية عجزًا كبيرًا في تلبية حاجات الفئات المحدودة الدخل، فمن بين ال 57 ألف وحدة سكنية كان مخططًا أن يتم إنجازها في منطقة دمشق بدءًا من عام 2000 لم يكتمل منها سوى 3000 وحدة بحلول عام 2009 . وبقيت هذه الأسر تستثمر في الإسكان المُخالف، الذي استمر تمدّده على الرغم من العقوبات الصارمة المفروضة في عامي 2003 و2008.
ومع انطلاق الربيع العربي بدأت السلطة وأجهزتها، وأدواتها التشريعية والتنفيذية، التهيؤ لملاقاة مطالب الفئات التي كانت تتوقع تمردها، فمنذ كانون الثاني/ يناير 2011، في عقب سقوط الرئيس بن علي في تونس، وبينما بدأت التظاهرات الضخمة في ميدان التحرير في القاهرة، أعطت محافظة دمشق تركيزًا اجتماعيًا إضافيًا على الخطاب المصاحب للخطة الرئيسة الجديدة. وفي التعامل مع أحياء المُخالفات، لم تضيّع السلطات وقتًا في إيلاء قدر أكبر من الاهتمام بالقبول الاجتماعي لخططها. وطلبت مباشرة من الفريق المسؤول عن الخطة الرئيسة في دمشق تخطيط نسبة أكبر (60%) من مناطق المخالفات للارتقاء بها أكثر مما كان مخططًا لها سابقًا. وفي الوقت الذي بدا فيه الربيع العربي مُعديًا، وعلى الرغم من أن التظاهرات في سورية لم تكن قد بدأت بعد، بدا أنه من المهم تجنّب أي نزاع اجتماعي قد يفجّرهم. مع الأخذ بالحسبان، أن الحكومة السورية تبنّت في منتصف شباط/ فبراير 2011 مزيدًا من الإجراءات الاجتماعية، كتخفيض الضرائب مثلًا عن المواد الغذائية الأساسية، وزيادة الدعم على الوقود، وتطبيق صندوق المساعدة الاجتماعية لمصلحة نحو 500000 شخص، وتوظيف 67000 موظف حكومي إضافي. مع التأكيد على إعادة توجيه السياسات الحضرية تجاه مناطق المُخالفات.
لقد شهد قطاع الإعمار غير القانوني ازدهارًا غير مسبوق منذ انطلاق الثورة في آذار 2011، فقد ارتفع الإعمار في مناطق المخالفات. ولم يحدد أي مسح أرقامًا دقيقة لهذه الطفرة، ولكنها كانت بادية للعيان بوضوح شديد، وقد تمكنت الأقمار الصناعية من بث صور تؤكد حدوث هذه الطفرة العمرانية بجلاء.

صورة (3): بدأ الإعمار غير القانوني بالازدهار منذ بداية الانتفاضة في عام 2011، وتواصل في عام 2012، كما توضح صورة الأقمار الصناعية هنا لقطعة أرض في دوما (ريف دمشق). المصدر: نقلًا عن Clerc، المرجع السابق.
Google Earth snapshots of 09/11/2009، 5/05/2011 and 23/05/2012

ومن دون شك، فقد عززت الأزمة وخوف الناس على مدخراتهم واحتمالات فقدها أو انخفاض قيمتها الفعلية، من اندفاعة السكان للبناء المخالف. ومما لا شك فيه أن اتساع مدى هذا الاتجاه زادت نتيجة التباطؤ السابق للإعمار المخالف بفعل قانون 59/2008 حول الانتهاكات العقارية. فالأسر في الأحياء المعنية ببساطة أجّلت الاستثمار إلى وقت لاحق، ويبدو أنه بالاستفادة من حقيقة أن السلطات العامة كانت مشغولة بالتظاهرات، وأرادت تجنّب نزاع مفتوح بين الشرطة والسكان، فقد شيّدت الأسر مبانٍ جديدة، ارتفعت عن تلك الموجودة بمجرد أن بدأت التظاهرات. وللحدّ من هذا النشاط سرعان ما طلبت الحكومة من المؤسسة العامة للأسمنت ومواد البناء المطالبة بوثيقة ترخيص البناء قبل بيع الأسمنت لعملائها، وعلى أي حال، استمر البناء المخالف على الرغم من ذلك.
ومع انطلاق ربيع سورية عام 2011 كان تنفيذ مشاريع ترقية مناطق السكن العشوائي في بداياته، وعليه، اتخذت السياسة الحضرية للحكومة إزاء مناطق المخالفات سياسات ذات طابع اجتماعي مسايرة للسكان، وقد شهدت توسّعًا سريعًا منذ الأسابيع الأولى للثورة. وعلى الرغم من تباطؤ أو تعليق المشاريع المتفق مع جهات تعاون دولي عليها، إلا أن الإصلاح كان مع ذلك قائمًا، فقد استمر التخطيط الحضري، وتم إصدار مراسيم جديدة. ولكن الجهات المعنية، وقواها النسبية، كانت تتغير، فالاستثمار العقاري، الوطني أكان أم الدولي، أخذ يتكيف ليراعي البيئة الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية المتغيرة، وهكذا تم التعبير عن المطلب الاجتماعي بقوة أكبر.
ولم تتمكن أجهزة النظام من الحدّ من الاحتجاجات الشعبية، فقد عمّت محافظات عديدة، ومدنًا وقرىً عديدة في الأرياف، تعبيرًا عن احتجاجات معادية لمؤسسات الدولة، طالبت بالحرية ومكافحة الفساد ونهب المال العام، ثم تطورت إلى إلغاء حالة الطوارئ التي كانت سارية منذ عام 1963. وبعد القمع العنيف للتظاهرات من الحكومة، ارتفع شعار يطلب رحيل رئيس الدولة، واكتسبت المواجهة تدريجيًا طابعًا عسكريًا، ففي خريف عام 2011 تم تشكيل الجيش السوري الحر.
ولعدم تمكن قوى الثورة من التعبير عن نفسها من خلال ساحات مركزية معينة، كما كانت الحالة في ميدان التحرير في القاهرة، فقد انتشرت المواجهات المحلية بين المتظاهرين وقوى النظام في قرى وأحياء الضواحي والأحياء الحضرية، وفي مقدمها سكان الأحياء العشوائية أينما وجدت، وهم المعبؤون بمشاعر الإحباط إزاء واقعهم المرير من جراء التهميش المركب الذي تولّد من واقع طبيعة مناطق إقامتهم وفقرها بالخدمات العامة والخاصة، والمواقف السلبية من جانب السلطة تجاههم، فضلًا عن توترهم بل قلقهم على مصير بيوتهم التي وضعوا فيها كل مدخراتهم عبر التهديد بالهدم أو الترحيل، وابتزازهم حيال ذلك، مرورًا بفقرهم التعليمي والصحي …إلخ. لقد كان انخراطهم في الاحتجاجات الشعبية تعبيرًا – في مآله الأخير- عن احتجاجهم على استراتيجيات التنمية الحضرية التمييزية للنظام. (انظر صور بعض التظاهرات في عدد من العشوائيات).

تجمع تشرين مخيم اليرموك

نهر عيشة حي القابون

مع ذلك لا يمكن لنا أن نؤكد أن خريطة التظاهرات والصدامات التي جرت هي نفسها خريطة مناطق المخالفات، فقد كانتا غير متزامنتين تمامًا، وتصبح النزاعات أوقاتًا استثنائية بالفعل، تتكشف خلالها حقائق الأبعاد الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية والإقليمية لقرارات التخطيط الحضري، على حساب التصورات المثالية للمدينة، وهذا ما تم رصده خلال العامين الأولين من الانتفاضة ثم النزاع التالي”.
لقد تميز عام 2011 بمتابعة السياسات الحضرية القائمة من جانب الأجهزة الإدارية المعنية بالإسكان، وقد زادت سرعتها، فعلى الرغم من الثورة، تم الحفاظ على وهم الحالة السوية، واستُخدِمت البرامج الحضرية – من بين جملة أمور أخرى- في محاولة لتهدئة الرأي العام وتحويله لمصلحة الحكومة.
سرعان ما سبّبت بداية الاحتجاجات في سورية تباطؤًا في كل مشاريع التعاون الدولي في التحضّر، وفي نهاية المطاف جمّدتها. فمنذ ربيع عام 2011، ترك كل الخبراء الأوروبيين وغير الأوربيين البلد.
وتم تجميد المشاريع التي كانت ما تزال قيد الإعداد. ولم تُوقّع اتفاقيات مشاريع جديدة. وفي الوقت الذي توقفت فيه برامج التعاون الدولي مع البلدان الغربية، استكشفت سورية بدءًا من عام 2011 طرقًا جديدة لإعادة تفعيل التعاون مع إيران في مجالات الإعمار، والإسكان والتخطيط الحضري، للاستفادة من الخبرة الإيرانية في هذه المجالات.
وعلى الرغم من ذلك، فقد تواصلت البرامج التي تم إطلاقها بالفعل، فواصلت فرق محلية العمليات، وكأنّ السعي إلى الإصلاحات يمكن أن يؤدي دورًا جوهريًا في كسب دعم السكان، والتهوين من أهمية المعارضة ومواصلة الاستمرارية في السياسات الحضرية وسلطة الدولة. فقد تواصل خلال الصيف تطوير السياسة الوطنية المتعلقة بالارتقاء بمناطق المخالفات، على الرغم من أنها تباطأت مؤقتًا في ربيع عام 2011 نتيجة تغيير الوزراء. وفي كانون الأول تم اعتماد سياسة الارتقاء تلك. وبدءًا من أيار/ مايو 2011، كانت لجنة التخطيط الإقليمي تعمل على تعريف تصنيف الأحياء، وكانت تجري دراسة مخططات أولية. وفي نهاية عام 2011، أُعلِن أن هيئة عامة وصندوقًا “للتنمية والارتقاء بمناطق السكن العشوائي” ستُنشأ في العام التالي.
وبحلول كانون الأول/ ديسمبر 2011 تم النظر بجدية في الارتقاء بالسواد الأعظم من مناطق المُخالفات؛ حتى إنه في آذار/ مارس 2012 أعلن محافظ دمشق خيارًا يؤيد إضفاء الطابع القانوني عليها، وفي أيار/ مايو 2012، أتم الإعلان بأن كل الأحياء المخالفة تنتظر الارتقاء أو إضفاء الطابع القانوني، ما عدا بعض المساحات التي ستخضع للتجديد في مركز المدينة.
ولكن مع بدء العام 2012، سوف يشهد تدخّل المخطّطين في مناطق المخالفات تغيرًا جذريًا، فمن جهة، صدرت عدة قرارات لتعويض ضحايا التدمير ” تمهيدًا لإعادة الإعمار”! ومن جهة أخرى، لجأت السلطات لاستخدام التخطيط الحضري سلاحًا، ليس عبر تدمير منازل المعارضين وقصف الحارات التي تسيطر عليها المعارضة المسلّحة فحسب، بل من خلال إعداد مشاريع للتجديد الحضري أيضًا (أي هدم وإعادة إعمار) لأحياء محدّدة.
ومنذ ربيع عام 2012، بدأ هدم واسع للبيئة الحضرية في مناطق المعارك من خلال قصفها، وتعرضت لتدمير واسع النطاق، ما دفع مجتمعات بأكملها إلى حافة الانهيار. كما تم استهداف مكثف للأسواق، والخدمات الأساسية (المياه والكهرباء والمرافق الصحية والتعليمية)، ما فاقم من مصاعب كانت قائمة من قبل، حيث تم تدمير عدد كبير من الوحدات الإسكانية، إما جزئيًا أو كليًا.
وفي مطلع عام 2013 قدّر المركز السوري لبحوث السياسات الخسائر الناجمة عن الضرر الجزئي أو الكلي لمخزون رأس المال المترتّب عن النزاع (الشركات والمعدات والمباني المدمّرة) حتى نهاية عام 2012 بنحو 20.8 بليون دولار أمريكي (SCPR 2013). وفي أيار 2013 قدّرت الأمم المتحدة التي تعمل عبر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا ESCWA)، أن نحو ثلث الوحدات الإسكانية تقريبًا، أي 1.2 مليون، تأثّرت بالنزاع. وفي التاريخ نفسه، كان نحو 1.2 مليون لاجئ و4.25 مليون نازح داخلي قد تركوا منازلهم (أي نحو 1.1 مليون وحدة إسكانية). ويبدو أن معظم التدمير الذي لحق الإسكان حدث في أجزاء المُخالفات في المناطق التي تأثرت بالنزاع، قرب المدن الرئيسة: حمص، ودمشق، وحلب ودرعا ودير الزور أما حوالي دمشق، والغوطة الشرقية ومناطق المُخالفات في الجنوب والجنوب الشرقي فقد بدت الأكثر تأثرًا.
وأيًا كانت أطراف النزاع، فقد أستخدم التدمير ضد الخصوم: حيث يتم تدمير المباني، حتى أحياء بأكملها يتم قصفها و/أو تُباد للتخلص من المقاتلين ومؤيديهم المحتملين، أو لمجرد كسب السيطرة على مواقع استراتيجية.
لقد وثقّت تقارير الأمم المتحدة حول جرائم الحرب حالات أحرقت القوات الحكومية والميليشيات المؤيدة لها ودمرت عن عمد منازل ومنشآت اعتقدت أنها تعود لناشطين مناهضين للحكومة ومؤيديهم خلال الغارات. وشمل التدمير العلني الحرق واستخدام المتفجرات، أما أعمال النهب فقد كانت مقدمة متكررة للتدمير (الجمعية العامة للأمم المتحدة 2013).

صور أقمار صناعية مقدّمة من اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سورية (شباط/ فبراير 2013) تظهر هدم جزء من حي التضامن المخالف في دمشق.

وقد وثّقت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، أن تجريف منازل المعارضين كان ممارسة منتظمة، إلى جانب القصف أو بعده. كما ذكر شهود عيان في دمشق خلال صيف عام 2012 مشاهدة موظفين حكوميين يستخدمون سجلات مسح الأراضي لتحديد أي المنازل سوف يتم تدميرها في أحياء المخالفات قرب كفرسوسة. وأحيانًا كانت أحياء بأكملها مستهدفة. وقد تم توثيق حالات عديدة تُظهر حالات ضرب مساحة ما بالقذائف والقنابل وقصفها، ثم تنتقل إليها قوات الحكومة مع جرافات وتباشر بهدم مئات من منازل المدنيين في مساحات سكنية.
ففي صيف 2012، تم تدمير 300 منزل عبر المتفجرات والجرافات في حي التضامن في دمشق، تبِع الهدم ضرب بالقذائف والقنابل، ما أدى لفرار السكان. وقد شهد القابون المخالف الأمر ذاته. وقد برّرت الحكومة عمليات الهدم المذكورة آنفًا بأن هناك خطط حضرية موجودة من قبل لإزالة الأبنية غير القانونية”
وفي أيار/ مايو عام 2012، صدر المرسوم 66 لتعزيز هذه النزعة، إذ تم حظر إعمار المزيد في هذه الأحياء، ومن تاريخ المرسوم، يتم هدم كل الأبنية غير المرخصة، وتُفرض عقوبات وغرامات وأحكام بالسجن على جميع المدانين بالاشتراك في الإعمار المعني.
لقد أدى إطلاق المرسوم 66 الصادر عام 2012 الخاص بإحداث منطقة تنظيمية خلف منطقة الرازي في دمشق باسم ماروتا سيتي، إلى إعادة تفعيل المشاريع المعلقة، باعتماد طريق التطوير الجذري، أي الهدم وإعادة البناء خلال خمس سنوات. وها قد مضت ثماني سنوات على بدء المشروع، ولم يحصل الأهالي على سكن بديل، كما تم الزعم، بسبب عدم توفر المبالغ لدى المحافظة، وفي أوائل آب 2019، أعلن محافظ دمشق، عن توقيع عقد مشروع “باسيليا سيتي” مع مدير “الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية”، ويمتد المشروع المتوقف منذ سنوات، من جنوب المتحلق الجنوبي وصولًا إلى القدم وعسالي وشارع الثلاثين، بمساحة تبلغ 900 هكتار، أي ما يعادل تسعة ملايين متر مربع، ويشمل ما يقرب من 4000 عقار.
في الواقع يبدو هدف المرسوم 66 لعام 2012 والمناطق التي شملها هدم مساحات واسعة من مناطق المخالفات جزءًا من استراتيجية عسكرية، بغية إعادة البناء بما يتماشى مع مجموعة من المصالح السياسية والمالية للنظام ورجاله. وكما أفادت الصحافة، فإن تدمير هذه الحارات أعطى انطباعًا بأنها اختيرت من أجل معاقبة السكان وهدم المناطق التي آوت معارضين للنظام. علاوة على ذلك، فإن المساحة المشمولة بالمرسوم 66 هي متاخمة للمباني الجديدة التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، وبالتالي فهي استراتيجية من وجهة نظر سياسية أكانت أم اقتصادية. ويُقال إن الأرض المستخدمة بشكل مخالف التي تقع في مكان جيد، ولكنها مأهولة بالسكان بشكل ضئيل فقط، قرب حي كفر سوسة الغني، هي بالفعل هدف العديد من المعاملات العقارية – فضلًا عن الحيازة غير المشروعة.
وقد أجاز القانون رقم 10 وتعديلاته 2018 إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، والذي جاء تطويرًا للمرسوم 66 الصادر عام 2012 تهدف في المرحلة الأولى وضع دراسة تنظيمية لأحياء القابون الصناعي، وبرزة، وعش الورور، وجوبر شمال شرقي العاصمة، حيث سيتم هدم المناطق المخالفة ومنح أصحاب الشقق والأراضي أسهمًا في المنطقة، ليُضم إلى تنظيمها على أنها مناطق أبراج سكنية.
سيتم في المرحلة الثانية الممتدة وضع دراسة لمناطق التضامن ودف الشوك وحي الزهور الواقعة جنوب شرقي العاصمة ومنطقتي الزاهرة ونهر عيشة جنوب غربي العاصمة، بينما تشمل الثالثة مناطق قاسيون والمهاجرين ومعربا، وسيتم وضع الدراسة الخاصة بها ما بين 2020 – 2021، في حين سيتم في المرحلة الرابعة الممتدة ما بين 2021 و2022 وضع دراسة لمنطقتي الدويلعة والطبالة، وفي الخامسة منطقتي مزة 86 ومخالفات دمر ما بين 2022 – 2023، والسادسة استملاك المعضمية ما بين 2023 – 2024.
وبحسب صحيفة The Times البريطانية التي نشرت مقالًا بقلم ريتشارد سبنسر بعنوان “الأسد سيصادر بيوت اللاجئين السوريين خلال غيابهم”، فإن “اللاجئين السوريين يعدّون فكرة الذهاب إلى سورية لإثبات ملكيتهم – وفق ما يطلبه القانون 10 – أمرًا خطرًا جدًا لأنهم قد يتعرضون للاعتقال أو القتل أو التجنيد الإجباري، لذا فإنهم قد يخسرون بيوتهم بشكل نهائي”. مضيفًا أن بعض اللاجئين السوريين يرون أن “هذا المرسوم يهدف إلى التطهير الطائفي وإجبارهم على تسليم ممتلكاتهم للموالين للنظام السوري”.
من جهتها قارنت صحيفة independent The البريطانية بين قانون التهجير السوري رقم 10 المثير للجدل الذي أصدره بشار الأسد، وبين قانون “أملاك الغائبين” الذي سنته إسرائيل في العام 1950. هذا القانون مكن إسرائيل من “الاستيلاء” على أملاك فلسطينية، وأوقاف مسيحية وإسلامية داخل إسرائيل غاب سكانها العرب منذ العام 1948.
وفي ما يخصّ مخيم اليرموك، فقد وضعت السلطات الإدارية- الأمنية شروطًا – تم وصفها بالتعجيزية- للسماح للأهالي بتقديم طلبات السماح بالعودة: أحقية صاحب الطلب بالملكية، والسلامة الإنشائية، وموافقة الجهات المختصة. ما يعرض أصحابها لفقدانها نهائيًا.

قائمة المراجع

  • الجرجور، توفيق، الهجرة من الريف إلى المدن في القطر العربي السوري، وزارة الثقافة، دمشق 1980.
  • الربداوي، قاسم، دمشق التحولات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، دار المجد، دمشق، 1994.
  • زكريا، خضر، المهاجرون الريفيون إلى مدينة دمشق، خصائص التركيب الاجتماعي في سورية، دار الكتاب، دمشق 1989 ـ 1990. ص 183.
    – المعلولي، ريمون.(2015). المياه المنزلية وفروق استهلاكها بين النساء تبعًا لمستوياتهن التعليمية ومعارفهن عنها “دراسة ميدانية في عدد من المحافظات السورية” مجلة جامعة دمشق – المجلد 31 – العدد الأول والثاني صص 187- 221
  • المعلولي، ريمون.(2014). ميزان ساعات العمل المأجور وغير المأجور لدى المرأة والرجل وقيمته المالية في الأسرة السورية دراسة ميدانية تحليلية مقارنة في المنطقة الجنوبية من سورية، مجلة جامعة دمشق – المجلد 30 – العدد الأول 2، ص 121- 160
  • المعلولي، ريمون.(1999). خصائص الأسرة الريفية المهاجرة وعلاقتها بالأوضاع التعليمية لأبنائها، دراسة ميدانية في تجمعات السكن العشوائي في دمشق وريفها.
  • المكتب المركزي للإحصاء- اليونيسف، دمشق، 1995، ص204.
  • المكتب المركزي للإحصاء، المسح الديموغرافي المتكامل، 1993، ص74.
  • المركز السوري لبحوث السياسات. (2019). SCPR الجذور والديناميات ومسارات التغيير ص 21
  • الهيئة السورية لشؤون الأسرة، مجلس الوزراء، دمشق، 2008
    – الآثار البيئية للنزاع: سورية الجفاف والسنوات العجاف. مجلة البيئة والتنمية. آذار- نيسان. 2014 المجلد 19. العددان 192-193 ص 20- 35
  • الوكالة الألمانية للتعاون التقني GTZ مناطق السكن العشـوائي في حلب، منشورات الوكالة الألمانية للتعاون التقني، GTZ، 2009.
  • راجع دراسة المعهد العربي لإنماء المدن (السكن العشوائي في سورية)، الموئل 2. 1994. ص325
  • مركز البيئة والتنمية (سيداري) تقرير عن المراجعة البيئية لمنطقة بستان حسحس العشوائي في دمشق، 1994.
  • reach_thematic_assessment_syrian_cities_damage_atlas_march_2019_reduced_file_size_3.pdf (impact-repository.org) راجع أطلس المدن السورية وحجم الدمار في كل منها
  • CLERC V. and HURAULT H.، 2010. «Property Investments and Prestige Projects in Damascus: Urban and Town Planning Metamorphosis»، Built Environment، Vol.36. No2. «Arab Mega Projects»، p.162-175.
  • Valérie Clerc. (2014). Informal settlements in the Syrian conflict: urban planning as a weapon، p7.

مشاركة: