المجتمع المدني والربيع العربي (دراسة مقارنة بين تونس ومصر وسورية)

ملخص
شكلت حدة الصراع المتولدة عن موجات الربيع العربي تحديات متعدِّدة الأطراف والاستقطاب، وضعت المجتمع المدني وحلم الدولة الحديثة أمام خيارات حادة ومتباينة.
وحيث يمكن البرهان على تحقق بعض مؤشرات الفاعلية النسبية لتجارب المجتمع المدني العربي، يبقى البرهان على خلافها فرضيًا لا تتحقّق معه أدوات البرهان المعرفية والعلمية. فإن كانت تجربة المجتمع المدني العربية لليوم تتسم عمومًا بقلة التجربة والخبرة السياسية، والسياسة هنا تعني السياسة بوصفها ممارسةً ونشاطًا حياتيًا، لا السياسة بوصفها ممارسة حزبية، درجت على احتكارها الأحزاب السياسية في السلطات أو في المعارضة، فقد أثبت المجتمع المدني حضوره النسبي من حيث كونه ظاهرة مختلفة عن تاريخ المشرق الحديث سلطويا وأهليا، فهل يمكنه إكمال مسيرة خوض التجربة للآخر مهما بلغت التحديات اليوم؟
في سياق الدراسة الحالية، تُؤَهل تجربة المجتمع المدني التونسي والمصري والسوري، مختلفة ومتباينة في طرقها وأدواتها ومسيرتها، نماذجًا مقارنة يمكن الاستناد إليها لمقاربة مخاض تجربة الربيع العربي مدنيا كمحددات وإمكانيات مستقبلية.
بين التعاقد الاجتماعي والشرعية الثورية السياسية والاستقطاب السياسي، وطرق الدفاع عن الحقوق المدنية والحريات وحقوق الإنسان، ثمة ما يمكن أن يبني جملة من المعايير القياسية لمقاربة نتاج المجتمع المدني العربي خلاصة ونتائجًا وتوصيات.

كلمات مفتاحية: المجتمع المدني . تونس . مصر . سورية . الربيع العربي

أولًا: مقدمة
المجتمع المدني ومنظماته المتشكلة ودورها في ثورات الربيع العربي، كان وما زال إلى اليوم محط تساؤل وتدقيق فكري نظري، من جهة ووظيفي من جهة أخرى.
فعلى الرغم من أن المدنية بذاتها بوصفها جملة علاقات تحقق ممارسة المواطنة ضمن سياق الدولة ودستورها وقانونها الوضعي الذي يكفل شرطي: -ممارسة الحريات المختلفة والمتنوعة والمتعددة -وتحقيق الاستقرار والأمن والأمان ضمن سياق العدالة القانونية والمادية وحق تساوي الفرص؛ وعلى الرغم من دور جيل الشباب العربي في بواكير ربيعه بتنظيم حراكه المدني والسلمي الذي اجتاح معظم دول الشرق، وتحقيق خطوات واسعة في تغيير البنى السياسية السلطوية القائمة، إلا أن المجتمع المدني بمنظماته ومؤسساته القائمة إلى اليوم لم يزل محط تساؤل في إمكانية تحققه ومساهمته في بناء الدولة الحديثة وعقدها الاجتماعي. كما أنه لم يزل رهن الاستقطاب السياسي الذي يكاد يهشم طور تشكله البدائي فكرة ووجدانا وحلما، ما يزيد من تحدياته اليوم وسبل تحققه المستقبلي.
بداية، أوضح أنه قد قُدِّمت، بالاشتراك مع المرحوم جمال أبو الحسن، وفي وقت مبكر، دراسة بحثية مطولة عن تجربة المجتمع المدني السوري ومنظماته المدنية، كان عنوانها “المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع، مخاض تجربة وهوية تتشكل”، دراسة بحثية مقارنة، نشرت في 5/2017 في مجلة قلمون للأبحاث والدراسات، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وأعترف اليوم أنه على الرغم من البرهان على كثير من خلاصاتها ونتائجها، والتي سآتي عليها في المتن أدناه، لكنها تحتاج للمزيد من الدراسات الكمية والوصفية والمراجعة وإعادة التقييم، في سياق محاولة النظر إلى الواقع العربي الحالي، على مستويي المحددات والتموضعات السياسية الحالية التي تكاد تصف الربيع العربي بالصقيع السياسي، وعلى مستويات الإمكان المستقبلي في محاولة تعميق تجربة المجتمع المدني العربي مرة أخرى.
إن حدة الصراع القائمة اليوم في كل مستويات المرحلة مؤشرٌ على ضرورة إعادة إحياء فكرة المجتمع المدني بطريقة أكثر تدقيقًا معرفيًا وأداتيًا، وهذا ما سأحاوله في هذا السياق من خلال إجراء مقارنة نقدية بين تجارب ثلاث للمجتمع المدني في: تونس ومصر وسورية نتيجةً.
فرضية البحث
ثمة فرضيتان حاولتا مناقشة دور المجتمع المدني، بحوامله الشبابية وأفكاره التنويرية في مسار الربيع العربي، وذلك على مستوى الفكر من جهة، وعلى مستوى الأداء والأدوات بما تمثله منظماته بوصفها منظمات مستقلة من جهة ثانية. تمثلت هاتان الفرضيتان بـ:
الأولى: لا يمكن تحقيق المجتمع المدني وأفكاره وتشكيل منظماته المستقلة إلا بعد تأليف الدولة الحديثة وقوانينها الناظمة، وذلك في محاكاة فكرية لمسار المجتمع المدني الأوروبي ومنظماته المدنية تاريخيًا.
الثانية: من غير الممكن تحقيق فكرة الدولة الحديثة دولة حق وقانون دون عمل مدني يقوم أساسًا على النقيض مع مؤسسات الاستبداد السياسي والبنى ما قبل دولة أهليًا وتاريخيًا.
بين الفرضيتين جدل لم ينته بعد، وربما لن ينتهي قريبًا ما دامت إحدى الفرضيتين لا تكتمل لديها حلقات البرهان المنطقي و/أو التجريبي معًا، فكل فرض قابل للبرهان عليه إما بثبوت النتائج تجريبيًا أو بفرض خطئه المنطقي وإثبات عكسه، وهذا مجال معرفي شاق.
فرضية البحث التالي ومحاولتنا الجديدة والمتكررة في تناول الموضوع ذاته المتعلق بالمجتمع المدني ومنظماته، تقوم على أنه لا يمكن اكتمال حلقتي الفرضيتين أعلاه كلية، فهما ليستا متعارضتين يطلب إثبات إحداهما دون الأخرى، بقدر الفرض الذي يقول إن ثمة اختلافًا أدواتيًّا بين وسائل المجتمع المدني وشباب الربيع العربي وحملة لواء المدنية والفكر النظري المؤطر من جهة، وافتراق وخلاف آخر بين مفكري ومنظري الفكر المدني وشبابه معًا مع البنى المجتمعية الأهلية والبنى السياسية السلطوية والمعارضة في آن معًا!
تحاول فرضية البحث هذه إقامة حوار نقدي ومقارن يفضي إلى إعادة تقييم تجربة المجتمع المدني ومنظماته ودورها في الربيع العربي، خاصة التونسي والمصري ومقاربة التجربة السورية سياقًا، والدور المنوط بالفكر التنويري الحديث، فكر عصر الأنوار، وحوامله الشبابية الإرادية والوجدانية، غير المكتمل على مستوى التجربة السياسية بعد، كمساحة متسعة مرنة وقابلة للجدل في إحداث الفارق المستقبلي لثورات الربيع العربي مهما تأخرت نتائجه السياسية.
أسئلة منهجية
هل يمكن الاكتفاء بجملة فكرية ناجزة تنويرية للوصول إلى مجتمع مدني؟ وهل يجب أن تمر الشعوب العربية في حالة وطور من الثقافة التنويرية شرطًا لنجاح ثوراتها بالوصول إلى دولة الحق والقانون ومصاف الدول العصرية؟
وهل يمكن عدّ تجربة الجرأة على الحلم المحمولة على إرادة الشباب العربي المتمثلة بمقولة الشعب يريد، كافية لتحقيق هذا الحلم وهذه الكرامة؟
هل كانت منظمات ومؤسسات المجتمع المدني الناتجة من موجات الربيع العربي قادرة على حمل تركة المجتمع العربي بكل تعيناته وتوصيفاته منفردة؟ هل كان بإمكانها الحفاظ على دورها المفارق في صناعة العقد الاجتماعي على أنه ضمانة للحريات والحقوق والاستقرار دون أن تخوض نزاعات وصراعات متعددة الأطراف؟
في الجهة المقابلة، كيف تم توظيف أفكار وجهد العاملين في المجتمع المدني العربي سياسيًا خلاف أهدافهم وأحلامهم الأولى؟ وما دور الشرعية الثورية والاستقطاب السياسي في تجاربهم المختلفة؟ وهل يمكن مقارنة اختلافاتها النسبية والاستفادة من تجاربها المتحققة؟
كيف، وسؤال الكيف سؤال التحقق والإمكانية، والمرتبط عضويًا بالصيرورة ومراقبة المتغيرات الواقعية والوقوف على محدداتها لحظيًا وسياقًا، بغية الوصول لمقاربة أكثر نقدية تفضي إلى إمكانية التحقق. فكيف يمكن للمجتمع المدني أن يصبح ممكنًا عامًا لا استئثاريًا وغير قابل للاستثمار والاستقطاب السياسي الموجه؟
أسئلة بحثية متعددة ومتباينة تحاول الدراسة الحالية الإجابة عنها، أو بالحد الأدنى ملامسة محدداتها منهجيًا وإمكانية تحققها عمليًا، وذلك في سياق مقاربة نقدية مقارنة لتجربة المجتمع المدني العربي في السنوات العشر السابقة.
ثانيًا: تجارب المجتمع المدني العربي وحلم الدولة الحديثة
حقق الربيع العربي في موجته الأولى خطوات مهمة على طريق تحقيق حلم الدولة الحديثة حقوقيًا ودستوريًا، خاصة في تونس ومصر، حيث حققتا وبشكل لافت وسريع الانتقال إلى مرحلة انتقالية أنهت مرحلة نظامين سلطويين احتكرا السلطة السياسية لعقود سابقة، ما أتاح انتقال عدوى الربيع العربي ذاته إلى ساحات عربية عدة في اليمن وليبيا وسورية، وحديثًا في الجزائر والسودان ولبنان والعراق ومصر.
الاختلاف بين هذه النماذج الثورية على مستوى تحققها واستقرارها تباينَ بين استقرار مبكر نسبي في تونس في حدودها الدنيا، وحديثًا في الجزائر والسودان، وزيادة حدة الصراع على معترك السلطة في ليبيا واليمن وسورية في حدها الأعلى نكبة وكارثة إنسانية، بينما كانت التجربة المصرية قابلة للتبدل بين مرحلة وأخرى أعادت حكم العسر للسلطة مرة أخرى؛ وهذا مجال دراسات متعددة المحاور والأدوات تتباين معها الأوضاع والشروط الموضوعية للتجربة بخلاف غيرها، لكن ومع هذا برز دور المجتمع المدني ومنظماته غير الحكومية بحوامله الشبابية عاملًا مشتركًا بين مجموع هذه التجارب كرافعة أساسية في مسار الربيع العربي وصيرورته عامة.
حلم الدولة الحديثة وتوضعه في مجتمع مدني يكتنف تطلعات الشباب ومستقبلهم في الحرية والاستقرار والأمان، لم يتحقق كلية بعد، ومع هذا لم ينتهِ كلية. فقد كانت الثورة خطوة أولى في مسار طويل يمكن أن يحقق تغيرات سياسية سريعة، كما يمكن أن يقع في مستنقع حرب طويلة، وقابل للانعكاس أيضًا كما حدث في التجربة المصرية التي عبر عنها وائل غنيم من ميدان التحرير ((كانت هذه اللحظات في ميدان التحرير أحلى لحظات عمري، لننه الفصل الأول من قصة لم تنته حتى تصبح مصر دولة من دول العالم المتقدمة. لقد أنجزنا المهمة الأولى))، وكانت هذه المهمة فاتحة عصر الحريات، وما تلاها إلى اليوم قاسٍ وكارثي يمكن ويجب أن يعالج.
بين هذه وتلك، كان الشعب التونسي يحتفل بالفوز بجائزة نوبل للسلام لعام 2015، لينالها مجتمعه المدني بقوام شبابه ومنظماته المدنية، فقد قال سليل شيتي، أمين عام منظمة العفو الدولية ((إن هذا اعتراف مهم بالدور الرئيس الذي يمكن أن يؤديه المجتمع المدني في بلد خرج لتوه من سنوات من الدكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان((.
بين تجربة المجتمع المدني التونسي الذي حقق الانتقال لمشروع الدولة الحديثة وما زال يخوض معتركها السياسي والمدني إلى اليوم، والتجربة المصرية التي عاد حكم العسكر لتسلطه على المجتمع المدني مرة أخرى، فبعد موجة ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، فمرحلة انتقالية ثم دستور حديث وانتخابات ديمقراطية، عاد الشارع المصري إلى الساحات في تموز/ يوليو 2013 لينقض العسكر على السلطة وعلى حراك شبابها المدني، فيما يختلف عليه إلى اليوم بين ثورة مضادة وتصحيح مسار لتسلط الإخوان المسلمين على الحكم. هذا بينما ما زالت التجربة السورية تراوح في مكانها مع زيادة حادة في مستوياتها الكارثية إنسانيًا مترافقة مع حدة استقطاب سياسي متعدد الأطراف، تؤول بنهايتها لاستقطاب شديد التباين لمجتمعه المدني ومنظماته الناشئة تكاد تفقده دوره المنوط به في تحقيق شروط الحياد والاستقلالية وروافع الهوية الوطنية.
التجارب الثلاث أعلاه، تبدو مستوياتها الثلاثة الأكثر وضوحًا في إطار المقارنة الممكن حول دور المجتمع المدني وشباب الربيع العربي من خلال محاور وأسئلة متعددة:
المجتمع المدني، تاريخه، ودوره في التغير الديمقراطي وثورات الربيع العربي.
الشرعية الثورية والسياسية.
المجتمع المدني ودوره الوظيفي في التعاقد والحوار المجتمعي والتحول الديمقراطي.
إمكانيات وتحديات وعوائق تحقق المجتمع المدني ودوره الحيوي المستقبلي.
محاور وأطر مقارنة يمكن من خلالها إعادة تقييم تجربة الربيع العربي أوليًا بدراسة نظرية مقارنة ونقدية تحتاج إلى دراسات كمية ووصفية تتبعها تستند إلى خلاصات الدراسة الحالية، وغيرها، تصويبًا أو تحقيقًا.
المجتمع المدني التونسي
القياس إلى تجربة المجتمع المدني التونسي وتجربته في الربيع العربي يكاد يكون الأكثر معيارية ووضوحًا، فقد دُرِست خصوصية الحالة التونسية من بوابات تاريخية تتعلق بعدم وجود تعدد طائفي مقابل وحدة دينية ولغوية للشعب التونسي شبه عامة، وحيادها الاقتصادي والسياسي النسبي عن محطات الصراع الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث لا تتوافر في تونس ثروات طبيعية كبيرة، إضافة إلى عدم انهيار مؤسسات الدولة والنظام الأمني العام مع سقوط رئيسها زين العابدين بن علي، وبقاء الجيش التونسي بعيدًا عن دائرة صنع القرار السياسي. ويضيف إليها محمد عبد المولى: عدم ميل الشخصية التونسية العامة إلى العنف والتطرف عمومًا، وتفضيلها “التوافقات” إضافة إلى غياب ثقافة حمل السلاح، وتاريخية المجتمع المدني التونسي ودوره في تشكيل تاريخ تونس الحديث.
بناء على ما سبق، تُعدّ صيرورة بناء المجتمع المدني التونسي قابلة للبرهان عليها جدليًا وواقعيًا بحكم التجربة، بوصفها تجربة مدنية متقدمة حققت نموذج عمل مدني كيفي تميز بقدرته على الجمع بين تاريخية العمل المدني وفكره التنويري، والاستقلالية النسبية عن الانخراط في تجاذبات السلطة السياسية، ودوره الوظيفي في المساهمة في التغيير السياسي بحكم ثورة الشباب التونسي ومشاركته الفاعلة فيها، ولاحقًا في مرحلة التحول السياسي وصياغة العقد الاجتماعي التونسي للدولة الحديثة. وهذه يمكن تحديدها في النقاط الآتية:
تمتعت منظمات المجتمع المدني التونسي بتاريخ عمل مدني قبل الثورة؛ فكان للاتحاد العام التونسي للشغل دور مدني مستقل نسبيًا منذ تأسيسه قبيل الاستقلال عن فرنسا، وعلى الرغم من هيمنة الحزب الواحد في المرحلة التونسية ما قبل ثورة 2010 ومحاولات السلطات التونسية إجهاض منظمات ونقابات العمل المدني التونسي وتفريغها من محتواها، إلا أنها بقيت تحاول الحفاظ على استقلاليتها النسبية ودورها العام في الحياة السياسية والمدنية. فعلى الرغم من الضغوط التي تعرضت لها، خاصة الاتحاد العام للشغل، إلا أنه حافظ على صفته النقابية المدنية دون التحول إلى حزب سياسي سابقًا حتى وقته الحالي، حيث ((يستمد الاتحاد العام التونسي للشغل دوره السياسي، وفق مراقبين، من خلال تجاربه النضالية التاريخية التي خلقت نوعًا من الدينامية المراوحة بين الاجتماعي والسياسي)).
سرعة الانتقال إلى مرحلة سياسية انتقالية؛ حيث استطاعت الحركة المجتمعية التونسية ومجتمعها المدني تحقيق الانتقال السياسي سريعًا في تونس، تمثل ذلك بهرب بن على ودخول البلاد في مرحلة انتقالية، كان أهم سماتها الحفاظ على الاستقلالية السياسية النسبية لمنظمات العمل المدني من خلال عدم الركون لشرعية ثورية ناجزة تبحث عن استحقاقها السلطوي.
المساهمة الفعالة للمجتمع المدني التونسي؛ إذ ساهم في تحقيق العقد الاجتماعي الوطني وصياغة دستور عصري يتناسب وتطلعات التونسيين جميعًا عبر الحوار. فقد بادرت قوى المجتمع المدني التونسي في إطلاق الحوار الوطني الرباعي والاتفاق على العقد الاجتماعي عام 2013، متمثلًا بـ: الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان عاملًا أساسًا في إطلاق شرارة الانتفاضات الشعبية الضخمة في عام 2011، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي تعد من أقدم منظمات حقوق الإنسان في أفريقيا والعالم العربي، والهيئة الوطنية للمحامين في تونس التي ظلت تعمل على الرغم مما واجهته من قمع وانتهاكات حقوقية، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية. وذلك بالاشتراك مع الحكومة (في عهد حزب النهضة الإسلامي) والمجتمع المدني وأحزاب المعارضة الذين باشروا بالعمل معًا من أجل إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، وتحقيق التحول الضروري لضمان السلام والاستقرار في الفترة من 2012 إلى 2020. أثمر هذا العقد نقاطًا عديدة: تأليف حكومة تكنوقراط جديدة أشرفت على تنظيم انتخابات 2014 الرئاسية والخروج الطوعي لحزب النهضة من السلطة، والتأكيد على أهمية الحوار الاجتماعي بوصفه ركيزة أساسية من ركائز التحول الديمقراطي نحو زيادة نطاق العدالة الاجتماعية. واستئناف العمل على صياغة الدستور الجديد. وهذا ما تحقق في 2014، الذي كفل حق ممارسة نشاط المجتمع المدني مدعومًا بالاعتراف التشريعي والقانوني بممارسة حقها المدني، مضافًا إليها مراعاة القوانين الدولية ذات الصلة ((فقد وافقت الجمهورية التونسية على جل المعاهدات والبروتكولات ذات العلاقة بحقوق الإنسان خاصة منها الحقوق المدنية والسياسية. ومن بين هذه الاتفاقات ما هو دولي وما هو إقليمي)).
الانفتاح المدني على الاتفاقات الدولية ومنظمات العمل المدني العالمية وتحقيق الشراكات المالية الشفافة معها؛ ما أضاف عاملًا آخرَ تمثّل بالنظر إلى المجتمع المدني التونسي بوصفه شريكًا في مسار التحول والتغيير بجانب الحكومة، وبمساعدة الاتحاد الأوروبي. فبحسب الأورو-متوسطية: إن نجاح الثورة التونسية وإبرام الشراكة من أجل “الديمقراطية والرفاه المتقاسم مع جنوب المتوسط” والشراكة “المميزة” في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2012، وخطة العمل للفترة 2013-2017 ومختلف الأدوات المالية المخصصة لمساعدة تونس، خاصة من الاتحاد الأوروبي، ساعدت على اعتماد دستور 2014 الذي يضمن الحقوق والحريات ويقيم أسس دولة القانون وتنظيم الانتخابات الحرة والديمقراطية، كما أضافت ((بيد أن المهمة لم تكتمل بعد، وما زال العمل متواصلًا لترجمة القوانين المعتمدة إلى ممارسات لمواءمة التشريعات الدستورية والمعاهدات الدولية التي وافقت عليها الدولة التونسية)).
تحسين شروط العمل المدني وآلياته المحلية، وعدم الاكتفاء بنماذج الثقافة التوعوية المدنية؛ عن طريق المساهمة في ابتكار الطرق والأدوات المساعدة للاستمرار في العمل المدني وضمان استقراره، التي لخصتها أنوار منصور ((لقد تمخض عن التجربة التونسية خلق مبادرات مهمة نحو تكريس مبدأ حرية التنظيم وإنشاء جمعيات وفسح المجال أمام العمل المبني على حرية التظاهر والتعبير من خلال تأسيس سند قانوني لها، وتقييم انعكاساتها على المستوى الواقعي)). كما جاء في مؤتمر التعليم المدني في تونس عام 2016 على لسان توماس كروجر، رئيس الإدارة المركزية الاتحادية للتثقيف السياسي، تأكيده على أهمية العمل التثقيفي المدني لكنه المحدود ((فالديمقراطية لا تحتاج إلى المؤسسات فحسب، بل إلى مواطنين يؤمنون بها. والتثقيف المدني بحاجة إلى أدوات عمل وطرق جديدة رسمية وغير رسمية، كما لا تكفي ورش العمل للدفع نحو التغيير، فلا يستطيع التثقيف المدني وحده حل مشكلات تلك المجتمعات التي تمر بمرحلة تحوّل لكن في استطاعته تهيئة الأجواء الملائمة التي تتيح تبادل الأفكار)) .
استحداث القوانين الملزمة دستوريًا ومعالجتها لخلق البيئة والأوضاع المدنية الآمنة؛ ما أتاح للمجتمع المدني ومنظماته الاستمرار والديمومة بحيث يشكل قاعدة عريضة للمجتمع، ((فإذا أردنا للمجتمع المدني أن يؤدي رسالته ويكون فاعلًا ومؤثرًا إيجابًا في الواقع، فينبغي أولًا تقييم مدى سلامة البيئة العامة التي ينشط فيها ومدى مراعاة خصوصيته ومكانته في المجتمع، وفي الدولة تشريعًا وممارسة)). وهذا ما نتج منه إيلاء دور رئيس لمنظمات المجتمع المدني في الحراك العام السياسي، خاصة أن نشاط الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في أغلبه يتم عبر التظاهر السلمي والاجتماعات العامة العلنية بغرض التعبير عن أهدافها وخططها وإيصالها للمستهدفين مباشرة، وهذا ما لا يمكن ممارسته إلا في بيئة سياسية وحقوقية آمنة، ومن ثمّ فإن ((التأسيس لحرية التنظيم وحرية التعبير في غياب إمكانات النفاذ إلى الفضاء العام أو الحد منه عبر قيود قانونية تجعل التظاهر السلمي رهين السلطة التقديرية أو السلطة السياسية الموجودة)).
إضافة إلى دورها المدني في الحراك المجتمعي فقد توصلت منظمات المجتمع المدني التونسي إلى الاضطلاع بدور سياسي في صياغة القرارات العامة والمساهمة مع السلطة القائمة فيهاـ خاصة تلك المتعلقة بالحماية المجتمعية، حيث إن ((فاعلي المجتمع المدني هم الأجدر بتحديد مسار المناصرة وتطويره على ضوء تواصلهم مع أصحاب القرار والأشخاص المؤثرين والأشخاص المستهدفين بأرضية الحماية الاجتماعية وبحكم وعيهم اللصيق بالمطالب والحاجيات)).
الفرض الجدلي الذي يقول إن المجتمع المدني يمتلك إمكانات الفعل السياسي والمدني إذا ما تحققت له بيئة عمل على مستوى القوانين والشرائع والدساتير، قابلة للبرهان عليها في التجربة التونسية، فيما قبل ثورتها أو بعدها. فعلى الرغم من أن المجتمع المدني التونسي تعرض للضغوط ومحاولات إجهاض حراكه السلمي في عصر الديكتارتورية قبل الثورة، إلا أنه حافظ على استقلاليته النسبية، وبقي يحاول في تجربته إلى أن تمكن مع ربيعها بإنجاز التغيير السياسي. ما يؤكد على إثبات فرضية دور القوانين والبيئة السوية لحماية عمل المجتمع المدني وصيانته مبدئيًا.
إضافة إلى ذلك، يبرهن على أن المجتمع المدني لم يحاول فرض شرعيته الثورية على المجتمع التونسي، بقدر عمله على إنجاز عقدها الاجتماعي بالحوار الوطني، والفرض الجدلي الذي يقول ماذا لو حاول فرض شرعية الثورة على سلطة ما بعد الثورة المنتخبة مجتمعيًا؟ هل تجيب التجربة المصرية عنه؟
الفرض الآخر ماذا لو كان للجيش التونسي دور مختلف؟ هل تجيب التجربة المصرية والسورية؟
الفرض الأخير هل المجتمع المدني ناجز كليًا؟ لتجيب التجربة التونسية أنه في طور التشكل والديمومة، فقد حافظ على توازنه خلال مرحلة الصراع السياسي بعد الثورة، مع أنه ما زال يعاني إرهاصات التحول السياسي العام من جهة، وإرهاصات تركة المجتمع الأهلي بما يتعلق بحقوق الإنسان الدستورية والقانونية وحق المرأة عامةً. هو ما يمكن تعقب نتائجه الملموسة بالتعديلات الدستورية الحديثة والوصول إلى حقوق مدنية أصيلة في سياق التحول الديمقراطي الذي تجلى بوضوح في تحقيق مبدأ فصل السلطات، والرقابة المدنية الديمقراطية على المؤسسة العسكرية والرقابة البرلمانية على السلطة التنفيذية وعلى رئيس الجمهورية، واستقلالية سلطة القضاء والتأسيس لدولة القانون، ولنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي تضمن فيه الدولة علوية القانون. هذا مع بقاء قواه المدنية تمارس دورها المدني السياسي الضاغط في تاريخه النقابي والمدني، والتدخل المدني مع المنظّمات الوطنية إلى توحيد الجهد للضغط من أجل إيجاد حلّ لأي أزمة دستورية.
المجتمع المدني المصري
القياس إلى تجربة المجتمع المدني المصري بالمقارنة بالتونسي، فكلا المجتمعين له تاريخ عمل مدني نسبي قبل الثورة، وكلاهما أنجز التغيير السياسي سريعًا من خلالها ودخلا سريعًا في المرحلة الانتقالية المتوجة بدستور حديث عصري وانتخابات ديمقراطية. إضافة إلى أن كلًا من الجيشين التونسي والمصري وقفا بداية على الحياد من الحراك الثوري الشبابي وكان لهما دور في عدم إطالة مرحلة التغيير السياسي، لكن..
في التجربة المصرية، وبعد حراكها المدني في 30 حزيران/ يونيو 2013 ضد نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي أصيب المجتمع المدني المصري وحراكه الشبابي والسياسي بنكسة مدنية سياسية كبرى، تكاد إلى اليوم تجهض ثورته الأولى. فقد استعاد حكم العسكر سيطرته على مفاصل الدولة وحراكها الشعبي، وأعاد توغل السلطة الأمنية في المجتمع المدني المصري عمومًا، ما يجعل فرضية الشرعية الثورية قابلة للجدل في التجربة المصرية خاصة في الإصرار على الحراك الشعبي ضد حكومة الإخوان المسلمين ونظام محمد مرسي المنتخب شعبيًا وديمقراطيًا.
فهل يمكن البرهان على فرضية أن استمرار حكومة الإخوان الإسلامية المنتخبة في مصر كانت ستقيم الاستبداد الديني المضاعف لو تركت لزمن أطول في الحكم؟ وهل يمكن البرهان على أن الحوار وتحسين شروط العمل المدني والسياسي سلميًا وعبر الضغط والتعاون معها على أنها حكومة منتخبة كان يمكن أن يكون أفضل من العودة إلى الشارع والشرعية الثورية لإسقاطها، وذلك خلاف التجربة التونسية، والنتيجة الوقوع مرة أخرى بيد حكومة العسكر بطريقة أكثر سوءًا من قبل؟ وهل يجد المجتمع المدني المصري مقاربة زمنية في طريقة استعادة إمكانية عمله المدني والسياسي في ظل حكم العسكر مرة أخرى أم سيضطر إلى خوض غمار تجربة ثورية قد تكون عالية التكلفة كما في التجربة السورية؟
يمكن تحديد وتعيين عناوين تجربة المجتمع المدني المصري بجملة من المحدِّدات:
تمتّع المجتمع المدني المصري بتجربة مدنية طويلة خاصة بعد المرحلة الناصرية، حيث تشكلت في مصر ما يزيد عن 42 منظمة وجمعية حقوقية بين عامي 1975 و2005 تعنى بالدفاع عن قضية معينة مثل قضايا حماية البيئة وقضايا حقوق الإنسان. وعلى الرغم من محاولة استمرار المجتمع المدني المصري الحفاظ على استقلاليته السياسية والمدنية في ظل حكومة حسني مبارك إلا أن القانون رقم 84 لسنة 2002 المتعلق بالمنظمات غير الحكومية حظر عليها الحصول على تمويل محلي دون الحصول على إذن الحكومة. وقد أدى ذلك إلى نقص الاستقلال المالي لتلك المنظمات، وبالتالي قبول المعونات المادية من وزارة الشؤون الاجتماعية التي بسطت نفوذها وسيطرتها على تلك المنظمات.
حدة الاستقطاب السياسي المصري، على الرغم من دخول مصر مرحلة انتقالية وتغيير سياسي سريعة، ثم الوصول لانتخابات ديمقراطية منتصف 2012، إلا أنه نمت بيئة سياسية استقطابية متباينة تمثلت بتحالف تيارات اليسار والقومية المصرية مع منظمات المجتمع المدني المصري في مقابل سلطة وحكومة الإخوان المسلمين الفائزة انتخابيًا باسم محمد مرسي بنظام الحكم لمدة أربع سنوات. فحسب ماركز كارنيغي للشرق الأوسط في دراسته لتلك المرحلة: ((ليس ثمّة حافز في النظام يدفع إلى التعاون، وليست هناك أي قيود على من يمارسون السلطة. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يحدث فرقًا هو الدستور، لكن هذه عملية طويلة الأجل تثقلها مشاكلها الخاصة)). وهكذا تطوّرت الساحة السياسية إلى مشاحنات حزبية وتسوية حسابات واتهامات مرهقة، ما أدى إلى حدّة في تنازع الشرعيات السياسية، ودخول المجتمع المدني المصري طرفًا فاعلًا فيها.
لم تنتج ثورة 25 يناير حوارًا معمقًا باتجاه عقد اجتماعي حديث بقدر خوضها حوارًا سياسيًا باتجاه السلطة السياسية، ما أنتج تحالفات سياسية قبل وبعد الانتخابات الأولى بعد سقوط نظام مبارك، تباينت فيها القوى السياسية والمدنية المصرية حول مستقبل مصر السياسي في المرحلة الانتقالية.
المجتمع المدني المصري ومنظماته الحقوقية سعت إلى تحقيق تقدم حقوقي ودستوري على أنه مكتسب ثوري حققه الشباب المصري بثورة 2011، محاولة فرض هذه الحقوق تحت عنوان رفض حياده من المعادلة السياسية، ورفض الهيمنة الإسلامية متمثلة بالإخوان، دون الدخول في حوار العقد الاجتماعي وآلية تحقيق شروط الدولة دستوريًا وعقديًا مع الزمن. فلم تسطع التوافق على الحدود الدنيا لآلية إنتاج حوار عقدي يقوم على المشترك العام على مستوى الهوية، وآلية حماية الحقوق والحريات والتشريعات الدستورية قانونيًا، وأهمها حريات العمل السياسي والنقابي والمدني وضمانة استمرارها أيًا كان شكل السلطة السياسية القائمة، خاصة بعد ثورة بحجم ثورة الشعب المصري 2011.
عدم قدرة المجتمع المدني المصري على تنظيم قواه الانتخابية ديمقراطيًا، في مواجهة القدرة التنظيمية للإخوان المسلمين التي أثبتت اتساع حاضنتهم الشعبية مقابل الحركة المدنية المصرية، ما أدى إلى الدعوة مرة أخرى للتظاهر ضد حكومة مرسي المنتخبة، قادتها حركة تمرد في 26 نيسان/ أبريل وانضمّت إليها قوى سياسية ترفض أخونة مصر بحسب وجهة نظرها. وترافق ذلك مع التحذير من مشاريع القوانين التي تهدف إلى تقويض منظمات المجتمع المدني في مصر.
قادت الشرعية الثورية المصريين ومجتمعهم المدني إلى الوقوع في قبضة حكم العسكر مرة أخرى، فإذا كان فرض أخونة مصر لا يمكن البرهان عليه نظريًا بالدلالات الفعلية المكتملة واقعيًا، فالثورة المضادة المتمثلة باستعادة حكم العسكر قبضته على الدولة مرة أخرى، والعودة إلى ملاحقة ناشطي المجتمع المدني المصري وإجهاض ثورته، يبرهن عليه فعليًا بعد حكم العسكر. فالتظاهرات السلمية المطالبة بتنحي مرسي بعد عدم استجابته لإجراء انتخابات مبكرة من حركة تمرد في 26 نيسان/ أبريل2013، وعدم استجابة قوى المجتمع المدني المصري للحوار الوطني الذي دعا إليه مرسي بالجهة المقابلة، أعطت ذريعة، إن لم تكن مبيته مسبقًا، لحكم العسكر بالعودة الانقلابية على السلطة. ليعود العسكر إلى السلطة مرة أخرى؛ وتوثق هيومن رايتس ووتش قتل ما لا يقل عن 900 شخص في يوم واحد في أثناء العمليات الأمنية لإخلاء موقعي الاعتصام في القاهرة في 14 آب/ أغسطس 2013. كما عملت سلطة العسكر على تقويض مقومات المجتمع المدني ومكاسبه السابقة، ولم يحاسب فرد من قوات الأمن على وقائع القتل الجماعي للمتظاهرين. في مقابل ذلك عُزل الرئيس المنتخب على يد وزير دفاع حكومته عبد الفتاح السيسي، وأودع السجن وتوفي فيه وسط اتهامات دولية بتعرضه للانتهاكات داخل السجن، بحسب ما وثقته تقارير الأمم المتحدة، فيما قضت المحكمة ببراءة حسني مبارك من قضية قتل المتظاهرين في ثورة 2011، الرئيس الذي قامت الثورة أساسًا ضد نظامه، فقد أعلن القاضي أحمد عبد القوي حكمه: حكمت المحكمة ببراءة المتهم ورفض الدعاوى المدنية.
تقليص الحقوق المدنية والسياسية وملاحقة ناشطي المجتمع المدني المصري، فعلى الرغم من دستور 2014 الذي كفل حق المواطنين في تكوين منظمات غير حكومية بمجرد إخطار السلطات بتأسيسها، ولا يحتاج إلى إذن السلطات للقيام بذلك، فبحسب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان فإن: الإخطار، الشفافية، الرقابة اللاحقة والاحتكام إلى القضاء ضمانات تحرير العمل الأهلي في مصر. إلا أن حكومة العسكر عملت على إصدار مجموعة من القوانين التي تقلص الحقوق المدنية والسياسية إلى حد بعيد، ما عمل فعليا على محو المكتسبات الحقوقية لانتفاضة 2011. وأتاح قانون تنظيم عمل المنظمات غير الحكومية في 2017 مستويات غير مسبوقة من القمع، ويجرّم أغلب عملها، ما يجعل عملها المستقل مستحيلًا. كما عادت السلطات لاستخدام الذخيرة الحية والرصاص المطاطي وكل أشكال القمع في تظاهرات 2019 بعد تقلصها الكبير في مرحلة سلطة محمد مرسي. فقد اعتُقل ما لا يقل عن 3000 شخص، من بينهم متظاهرون وصحافيون وأكاديميون ومحامون ومدافعون حقوقيون، حُرم معظمهم من التمثيل القانوني في التهم التي واجهوها.
متابعة العمل المدني العسير في ظل حكومة العسكر، حيث إن أزمة منظمات المجتمع المدني في مصر في جوهرها ليست أزمة قانون أو تمويل، إنما هي أزمة نظام يكفر بكل الحريات ومن بينها حرية التنظيم، وحقوق الإنسان، وعودة القمع والاعتقالات والترهيب والقوانين أيضًا حسب مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان. فما كان يرفضه المصريون في المرحلة الانتقالية من قانون تجريم الاعتصامات، ومقترح قانون تنظيم العمل الأهلي كعينة من جملة من قوانين تستهدف تكميم الأفواه وإعادة الشعب إلى الصمت والخنوع، بات في ظل نظام العسكر القائم الحالي تقييدًا وتجريمًا على عمل المجتمع المدني إداريًا وسياسيًا، منها فرض عقوبات بالسجن وغرامات مالية؛ كانت منظمة العفو الدولية قد حذرت منها ومن انتهاكها لحقوق الانسان والمواثيق الدولية ذات الصلة. وكانت منظمة العفو الدولية قد حذرت من هذه القوانين لأنها بمنزلة قانون إعدام على جماعات حقوق الإنسان في مصر، حيث أشارت إلى أن إعطاء سلطات استثنائية للسلطة على حساب المنظمات غير الحكومية، يفضي إلى القضاء على المجتمع المدني.
وإلى تاريخ اليوم لم يزل المجتمع المدني المصري يحاول مرة أخرى إحداث خرق في جدار البنية الأمنية العسكرية المنقلبة على الشرعية الديمقراطية عام 2013، ولكنه إلى اليوم ما زال شبه عاجز عن تحقيق تقدم فيه، فهل ينهي العسكر تجربة المجتمع المدني المصري؟ أم تتحول لمرحلة جليدية أخرى تشبه مرحلة ما قبل سقوط مبارك؟ وهل يمكن استعادة تلك اللحظات في ميدان التحرير مع حكومة السيسي الحالية؟ أم أن أمامه طريقًا سياسيًا آخر بخوض غمار تجريه انتخابية صعبة لعدم تكرار أحداث منتصف 2013؟
يمكن البرهان تجريبيًا على خطأ النزعة ذات الشرعية الثورية، وعدم الخوض الجدي في غمار العقد الاجتماعي حواريًا، وعدم الاكتفاء الزمني بالمرحلة الانتقالية لتحقيق ذلك بقدر متابعة الحوار مع سلطة منتخبة حتى إن كانت ذات صفة دينية، فهو أقل تكلفة وأكثر جدوى من عودة العسكر للحكم. هذا ما أضفنا إليه أن المجتمع المصري بقوامه الأهلي يحتاج لزمن حواري وطرق وأدوات عمل أوسع وأرحب حتى يشارك المجتمع المدني المصري تطلعاته نحو العصرية والحداثة، والتراجع التدريجي عن دعم التيارات الدينية انتخابيًا وهذا سؤال قائم إلى اليوم أمام كل تجارب المنطقة السياسية، ويمثل تحديًا كبيرًا أمام تجارب المجتمع المدني العربي والمصري والسوري خاصة في قدرته على إنجاز خطوات العقد الاجتماعي تدريجيًا بالحوار الطويل النفس، خاصة مع الحاضنة العامة ذات البيئة الدينية الإسلامية أو غيرها، وإلا فإن حكم العسكر بالمرصاد.
المجتمع المدني السوري
لا تشبه تجربة المجتمع المدني السوري تجربتي تونس ومصر قبل ثورات الربيع العربي، فلعقود خلت من تجربة الاستبداد السياسي السورية، حُرّمت فيها السياسة وأُفرغت منظمات المجتمع السوري المدنية والأهلية من مقوماتها الحيادية، لتصبح مجرد طيف متنوع من النقابات والجمعيات المهنية الغرضية في إدارة الحكم وتكريس هيمنته في ظل قيادة حزب البعث قائد الدولة والمجتمع دستوريًا حسب المادة الثامنة من دستور 1973. وعلى الرغم من التعديلات الشكلية التي أتى بها دستور 2012، وتغير بعض بنوده المتعلقة بالمادة الثامنة، لكنه كرس تفريغ النقابات والمؤسسات المدنية من مضمونها وعدم استقلاليتها عن جهاز السلطة والحكومة، فبينما تعد المنظمات الشعبية والنقابات المهنية والجمعيات هيئات تضم المواطنين وترعى مصالحهم، وتضمن الدولة استقلالها وممارسة رقابتها الشعبية، يمارس الوزير المختص سياسة المنح والمنع في تأليفها ((منح قانون الجمعيات وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، الصلاحية الكاملة بمنح أو عدم منح الترخيص، وأعطى الوزارة الصلاحية الكاملة لحل أي جمعية دون إبداء الأسباب ودون حق اللجوء إلى القضاء للاعتراض على ذلك!))، دون أي ذكر لمنظمات المجتمع المدني المستقلة غير الحكومية NGCO Non-Governmental Civil Organization.
مع هذا كان للمجتمع المدني السوري ممثلًا بأحزابه السياسية والمدنية بواكير عمل مدنية ما قبل ال 2011، وأصبحت بعده أكثر اتساعًا ونشاطًا، ويمكن تحديد مؤشراتها بما يلي:
بواكير عمل مدني محفوف بالمخاطر والمجازفات السياسية؛ فبعد العام 2000 بادرت النخب السورية الفكرية والسياسية لطرح مسألة المجتمع المدني ومنظماته المستقلة على مستوى الرؤية والتجربة، بوصفها محاولة لكسر جدار الاستبداد بصورة ناعمة سياسيًا، فبدأت ببيان الـ 99 من المثقفين السوريين، ليأتي بعده بيان الألف الذي أطلقته لجان إحياء المجتمع المدني السوري، ودعت فيه إلى إصلاح الحالة السياسية وربطها بالمسار الفكري وجذريته، وتوفير الأوضاع من أجل قيام سورية والسوريين بمواجهة التحديات القائمة والمستقبلية. ففكرة المجتمع المدني تقوم في الجوهر على حرية الأفراد كذوات حرّة ومستقلّة تمارس حقوقها الطبيعية في مجتمعاتها بما يتلاءم مع تطلّعات كل منها ضمن منظومة مؤسساتية ديمقراطية. وفي سياق التجربة ذاتها، بُدئ بتأليف منظمات حقوق الإنسان، ففي أيلول/ سبتمبر 2000 أُعلن عن استئناف لجان الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية (CDF)، وفي صيف 2001 تأسست منظمة حقوق الإنسان في سورية (ماف)، وتلاها عدد من الجمعيات السورية الحقوقية، مثل: المنظمة السورية لحقوق الإنسان (سواسية)، المرصد السوري لحقوق الإنسان… ومعظمها تأسس قبل عام 2011. لكن وفي العام 2005 بادرت النخب ذاتها بتأليف تحالف سياسي مدني بعنوان إعلان دمشق، ضم معظم النخب الفكرية والسياسية السورية بعنوان التغيير الديمقراطي التدريجي السلمي الذي سرعان ما اعتقلت السلطة أعضاء قيادة مجلسه المنتخب لتنهي سريعًا بذلك بواكير العمل المدني السوري قبل ال 2011.
لم تدخل سورية في مرحلة انتقالية بعد؛ فثورتها تحولت إلى مرحلة صراع متنام، وتدخلات عسكرية من أصناف شتى، لم تحسم نتيجته السياسية إلى اليوم، برز فيها وبشكل متوازٍ تعدد إنشاء المنصات والتحالفات السياسية والمدنية، والمشوب بالاختلاط مع منظمات العمل المدني التي بدأت بالتشكل سريعًا بعد الـ 2011 (يمكن الرجوع تفصيلًا إلى منظمات المجتمع المدني السورية المستقلة).
تنازع الشرعية السياسية الافتراضية؛ خلافًا للتجربتين المصرية والتونسية، فقد تطورت المسألة السورية من سلمية إلى عنفية، وإلى عمل عسكري متعدد الأطراف، أدى إلى إضعاف قدرات السوريين السياسية والمدنية على الاستمرار في ضبط إيقاع مسار التحول الديمقراطي الممكن، ودخلت قواه المدنية والسياسية في سياق تنافسي افتراضي حول مشاريع قيادة الثورة وأحقية فرضية دون غيرها في تحقيق انتصار الثورة سلميًا أو عسكريًا، وبرزت في هذا السياق مفاهيم عديدة كالأسلمة والعسكرة في مقابل السلمية والمدنية، وكل هذه الفرضيات لم تثبت قدرتها على أحقية إحداثها التغيير المطلوب، بل بدأت أيضًا في الإعلاء من شأن مشاريعها الأيديولوجية الخاصة، ما أدى إلى جرف المجتمع المدني ومنظماته خارج معادلة التأثير في مساره التحولي.
الاستقطاب السياسي واللاحيادية والدخول في التنافس السياسي؛ فقد برز مسار قرار مجلس الأمن 225/2015 القاضي بتأليف حكومة انتقالية تضم النظام والمعارضة والمجتمع المدني بنسبة الثلث، وتبدأ مرحلة التفاوض السياسي من خلال اللجنة الدستورية المنبثقة من لقاءات الرياض للهيئة العليا للتفاوض، لتتشكل على أساسها غرفة المجتمع المدني التي تنازع على تمثيلها كل من قوى النظام والمعارضة في سياق استقطاب أصواتها السياسية التفاوضية. كما برزت حدّة الاستقطابات السياسية المتباينة بين مستويات محلية وإقليمية ودولية متزامنة مع حدة التدخلات الخارجية في الملف السوري، ما أفقد قواه المدنية القدرة على القرار المستقل والحيادي إزاء مجريات الحدث السوري برمته.
عدم خوض حوارات جادة حول العقد الاجتماعي؛ لم يدخل السوريون في حوار جاد حول هوية العقد الاجتماعي الممكن، بقدر الدخول في بوابة تنافس سياسي عام حول شرعية ثورية أو سياسية بلغت حدتها في تناول مشروع الدولة المقبل من خلال منصاتها سالفة الذكر، أو من خلال مفاوضات لجنتها الدستورية التي تباينت فيه حول صيغ متعددة بين دولة إسلامية وأخرى علمانية وبينهما دولة مدنية. فالعقد الاجتماعي بخلاصة عامة توافقية رضائية حول الشخصية العمومية السورية ما زال إلى اليوم مجرد سؤال سياسي تبرز فيه الاصطفافات والتحالفات السياسية القصيرة الأجل، دون إنجاز التوافقات الرضائية الحرة والطوعية على المشترك العام بوصفه هوية، وبخاصة أن مسار الانتقال السياسي ما زال متعثرًا إلى اليوم، ولم تتفق بعد قوى المجتمع المدني والسياسي المعارضة والمسلحة على الحدّ الأدنى لكيفية تحقيق بيئة آمنة ومستقرة يمكنها أن تكون بوابة للانتقال والتغيير السياسي المطلوب.
هشاشة المجتمع المدني السوري وضعفه؛ بما يمثله من منصات ومنظمات عمل مدنية أتت بصيغ استباقية لمشروع تحقق الدولة، شكلت تحالفات متعددة الاستقطاب سياسيًا. فعلى الرغم من أن الشباب السوري كان محرك بواكير عمله الثوري سلميًا ومدنيًا، إلا أنه سرعان ما اصطدم مع الأيديولوجيات المعارضة السياسية من جهة، ومع واقع مجتمعي أهلي لم يجد أمامه سوى التمسك بموروثه التقليدي ليحافظ على استمراره أمام مستويات العنف المتزايدة من السلطة القائمة والميليشيات العسكرية المتشكلة خاصة المتطرفة من جهة أخرى. وهنا تبرز ظاهرة مميزة للمجتمع المدني السوري تختلف عن سابقتيها المصرية والتونسية، تمت دراستها في دراسة سابقة بين مستويين:
المستوى الأول: المجتمع المدني بقواه الشبابية وأحلامه وإرادته الحرة، ما سميته بشبيه المدني (Semi-Civic)، وشبيه يعني أنه لم تكتمل في مقومات وجود شروط الاستقرار والأمان والقوانين التي تحمي عمله المدني المستقل في ساحة عمل النظام أو المعارضة، محاولًا العبور بين محطات تنازعها السياسية والأيديولوجية والعسكرية متعددة الأطراف. شبه المدنية هذه أبدت إلى اليوم مرونة عالية في قدرتها على إثبات وجودها وتشكيلها حلقات مناصرتها ودفاعها عن حقوقها وقضاياها وحريتها، ما جعلها عرضة دائمة للاستهداف من كل أطراف النزاع السوري من اعتقال وإخفاء قسري للناشطين المدنيين، والتصدي لأعمال قاسية فوق طاقتها وإمكاناتها الشبابية التي توجت مدنيتها بعمل منظمة القبعات البيض في إنقاذ المدنيين من صنوف هجمات عسكرية شتى في مناطق سورية عامة، التي رشحت لنوبل للسلام عام 2016، ولم تحظَ بها كما تونس.
المستوى الثاني، وهو مستوى ما فوق مدني (Ultra Civic) الذي شكل معضلة التحالفات السياسية المسبقة والمعدة لدخول الساحة السياسية من بوابة المرحلة الانتقالية، واتضاح دوره في تشكيل المنصات السياسية بصفات مدنية غرضية التوجه سياسيًا أفقدت المجتمع المدني استقلاليته وأخضعته لشروط عملها تمويلًا واصطفافًا سياسيًا، إما بنية حسنة أو نفعية خالصة.
حاول المجتمع المدني السوري بقوامه شبه المدني الحفاظ على مدنيته على الرغم من ضعف خبرته السياسية، وشدة حدة التنافسات السياسية والصراعات العنفية العسكرية. كما حاول الحفاظ على حياديته وشفافيته المالية، غير أن تنامي الحالة السورية وطول أمدها أوقع الداخل السوري في ضرورات التمويل وسريته وعدم مساواته الحقوقية والقانونية، لكنه استطاع أن يحمي رصيدًا كبيرًا من جيل الشباب من الانجرار للعسكرة أو خلف المخدرات وتجارة الممنوعات، وهذه تحتاج لدراسة كمية ووصفية وافية لا تتسع لها الدراسة الحالية.
ثالثًا: الاستنتاجات والتوصيات: سؤال الراهن والممكن
على الرغم من أن المجتمع المدني هو وليد الدولة الحديثة أوروبيًا، إلا أنه لم يتشكل فيها بطريقة وحيدة ولا دفعة واحدة، بل عبر تجارب متعددة اختلفت فيما بينها في الفكر والأدوات نتيجة عصر النهضة وثورات التحرر الأوروبية.
فبينما شكلت أفكار المجتمع المدني والحريات الفردية الليبرالية لجون لوك قاعدة عامة في الدستور الأمريكي الحديث، أتت أفكار توماس هوبز لتشكل أساس العقد الاجتماعي الإنكليزي، وتحقيق مكتسبات حقوقية وبرلمانية في ظل سلطة الملك، في حين مثلت أفكار جان جاك روسو خلافًا لهوبز، حول الشخصية العمومية بالإرادة الحرة، خلاصة العقد الاجتماعي الفرنسي حين أضيفت الحرية إلى صيغة الجمهورية الفرنسية الحديثة، لكنها جميعًا اتفقت على صيرورة متشكلة في الدولة الدستورية وعقدها الاجتماعي ومنتجها الأهم في المجتمع المدني.
يشير المجتمع المدني، وفقًا للصيرورة الأوروبية، من حيث المبدأ، إلى حركة تنويرية مستدامة، شكلت قوامها بشكل مستقل عن التوجهات السياسية المشاركة في نظام الحكم سلطة ومعارضة. ويمارس حقه القانوني والدستوري في الدفاع عن حقوق شرائح مجتمعية خاصة وعامة، ويعتد باستقلاليته النسبية عن دور المؤسسات الحكومية، لكنه يشارك في صناعة قراراتها، ويقوم بدور الضاغط المدني لتحقيق تلك الحقوق بطرق سلمية متعددة، تتفاوت بين الحوار، والاحتجاج السلمي، والاعتصامات، والتظاهرات.
وفقًا لهذا السياق فالمجتمع المدني هو نموذج فكري تحرري مفهومًا وطرق وأدوات عمل أيضًا تمثلت وتجسدت بعد مسار شاق في منتجها الأعلى والأكثر استقلالية ووضوحًا في نموذج المنظمات غير الحكومية والمستقلة NGOs.
جدل الثقافة العربية حول المجتمع المدني وفرضياته لم يحسم توجهه العام إزاءها، وفرضية الدولة والعقد الاجتماعي أولًا أو المجتمع المدني أولًا؟ تبدو فرضية عامة لا يمكن ادعاء صحة إحداها إلى اليوم ما لم تنجز مجتمعات الربيع العربي استحقاق حضورها السياسي العام، حيث يبرز دور المفكرين والمنظرين العرب الذين يولون الدور الأهم للثقافة المدنية والتنويرية وإرساء القانون والدستور في ظل الدولة الحديثة أولوية على تأليف منظمات المجتمع المدني فـ((المجتمع المدني بذلك هو التجسيد العياني للأمة بما فيه من تنوع واختلاف وتعارض)).
مبررات هذه الفرضية تتجلى في نقاط عديدة أهمها ضرورة تعميق الثقافة المدنية في مجتمع متأخر تاريخيًا تحكمه ثقافة العلاقات الأهلية “ما قبل دولة”، الرافضة للحرية والحقوق الفردية، ومحكوم بسلطات الشرق الاستبدادية، ومن جهة أخرى طاردة كل عمل تنويري أو حرية سياسية أو فكرية من الأساس. بينما بدت فرضية إمكان تأليف منظمات مدنية وحقوقية مستقلة عن العمل السياسي قبل تحقيق هذه الفرضية متباينة عربيًا، كما وجدنا في تجاربنا الثلاث أعلاه، لكنها تعمقت وتجذرت مع ثورات الربيع العربي، وبات لها دور مهم في حركة تحرره العامة.
الاستنتاجات
إلى اليوم من الصعب الحكم على تجربة بتمامها، لكن يمكن الإشارة إلى نقاط أكثر قربًا للتحقق من غيرها. ففي دراسة تقويمية لمؤشرات فاعلية المجتمع المدني حددت أماني قنديل معايير المجتمع المدني بأنه قطاع منظم من المجتمع يخضع لقانون غير ربحي، وإن حقق أرباحًا من بيع سلعة أو خدمات لا توزع على الأعضاء وإنما تتجه إلى دعم المنظمة، ويسعى إلى النفع العام أو مصلحة فئات مهمشة، ويتسم بدرجة من الاستقلال النسبي غير الحكومي، كما يلتزم بمعايير قيمية وأخلاقية في تعامله مع كل الأطراف، يعبر عنها بعضهم بالثقافة المدنية، يفترض أنه غير مسيس أي لا يسعى إلى السلطة ولا ينشط لدعم مرشحي حزب معين في الانتخابات.
وفقًا لهذه المعايير العامة والأسس الفكرية التنويرية العامة، يمكن استنتاج الخلاصات التالية:
المعايير العامة المتعلقة بشروط تمكين المجتمع المدني من قدراته وكفاءته وفعاليته النسبية بمرحلة ما قبل الاستقرار في نموذج دولة عصرية، يمكن قياسه في التجربتين التونسية والمصرية أكثر منه في التجربة السورية.
بغض النظر عن هذا الاختلاف المعياري بين هذه التجارب الثلاث، إلا أنها اتفقت في مضمونها الفكري والأدواتي على قدرة وفاعلية الشباب المدني على كسر جدران الاستبداد، واستخدام وسائل التواصل التقنية الحديثة وجمع الحشود في الميادين والساحات بشكل أذهل العالم والسلطات المحلية والمعارضة الكلاسيكية أيضًا.
تمايزت حوارات المجتمع المدني التونسي بقدرتها على الانفتاح على الحكومة المحلية المنتخبة (حكومة الإخوان) وما تمثله من خلفية أهلية ضمن سياق تحقيق الإرادة الجمعية العامة التونسية عقديًا، في حين تعجلت التجربة المصرية هذا الحوار واختارت تحقيق السلطة المطلقة، فوقعت كلية تحت فريسة ثورة مضادة مثلها الانقلاب العسكري بعدما أثبت الإسلام السياسي وجوده العام على خلفية أهلية قوامها قوة الإخوان الانتخابية ديمقراطيًا كما درسها بتفصيل جلبير الأشقر في “الشعب يريد”.
اتصفت منظمات المجتمع المدني التونسي بالمرونة وطول النفس، والحفاظ على استقلاليتها النسبية ودورها المدني المحايد وعدم التنازل بالوقت ذاته عن حقوقها المدنية والقانونية حتى وإن تأخر الحصول عليها، فهي في حركة صراع مستمرة مع السلطة والمجتمع الأهلي في الوقت ذاته. بينما تميزت التجربة المصرية بقصر النفس وتحالفاتها السياسية وانزياحها الكلي عن حيادها واستقلاليتها، واستعادة دور وطرق وأدوات الضغط بالشارع الثوري ضد السلطة المنتخبة ديمقراطيًا بأكثرية قوام الشعب المصري الأهلي الإسلامي عمومًا. بينما خاض المجتمع المدني السوري في شبه مدنيته الشبابية والفكرية تجارب قاسية ومواجهات متعددة سياسية وأهلية وعنفية سلطوية وميليشاوية أفقدها سماتها المدنية العامة. إضافة إلى وقوع المجتمع المدني بحكم هذه الانزياحات الغرضية لقواه فوق المدنية إلى تنازع حاد مع البنية المجتمعية الأهلية في خضم صراعها مع العنف العسكري، وأبرز صورة للمجتمع المدني بأنه حليف لقوى العسكر كما في التجربة المصرية.
الخلاف المعياري الواضح بين التجارب الثلاث يتجلى في النقاط الآتية:
تونس: من الشرعية الثورية للتعاقدية الحوارية والتشاركية السياسية عبر الحوار العقدي غير المحدد زمنيًا بالمرحلة الانتقالية وإنضاجه على مراحل متعددة ومتعاقبة.
مصر: استمرار الشرعية الثورية والانخراط الكلي في العملية السياسية واستعجال الحصول على الحقوق السياسية والمدنية دفعة واحدة وبالإرادة الجمعية المفروضة من خلال قوة الشارع.
سورية: تجربة قاسية وغير ناجزة كلية، لكنها تميزت بانفتاح مفرط على تأليف منظمات المجتمع المدني، وعدم استقلاليتها المدنية، وانخراطها المتعجل في العملية السياسية، مع أن قوامها العام شبه المدني حاول ممارسة الحيادية النسبية في الواقع والممارسات اليومية، لكن مستويات تمثيله العليا على مستوى صناع القرار فيما فوق المدنية، ساقته للانحياز الكلي نحو وصفة وفرضية للحل السياسي لم تختبر نتائج تحققها بعد بحكم كم التداخلات السياسية في الملف السوري.
خلاصة معيارية قياسية لقدرات المجتمع المدني العربي
بناء على ما ذُكر سابقًا، إضافة إلى ما قدمته قنديل أعلاه، يمكن وضع خلاصة معيارية لتمكين التجربة المدنية العربية وإنضاجها وتعميقها، تتجلى خلاصتها في:
الاستقلالية النسبية عن المؤثرات السياسية واستقطاباتها السلطوية.
الابتعاد عن الشرعية الثورية السياسية.
الإدراك العميق لزمن التغيرات الكبرى ومحطات صراعه المتغيرة.
اعتماد الحوار المفتوح والبحث عن المشترك التعاقدي مع المجتمع الأهلي برافعة حقوقية ودستورية قانونية.
التمسك بالحقوق المدنية والحريات العامة وفق جدولة زمنية تتحقق تدريجيًا تمثل معركة حياة عريضة لا تستغرقها مرحلة انتقالية أو سلطة منتخبة ما.
وهذا ما أثبتته التجربة التونسية نسبيًا، لكن كلًّا من التجربتين المصرية والسورية، تثبت إلى اليوم أنه على الرغم مما تمثله لأيديولوجيات الدينية السياسية وطبيعة المجتمع الأهلي من عائق أمام التحول الديمقراطي والمدني، إلا أنه من الصعب إثباته إلا نسبيًا، بينما يبرهن بكل الطرق أن سلطات العسكر معيقة كلية لهذا التحول.
تبدو هذه النقطة محط خلاف أيديولوجي إلى اليوم في سياق التجربة المدنية للربيع العربي عامة، فالتعصب الأيديولوجي للأفكار المثالية النظرية وشدة الولع الثوري بتحطيم كل ما سبق، وانجراف الأحزاب السياسية لنزاع متفاقم حول السلطة أيديولوجيًا، يجهض مقومات بناء التعاقد الاجتماعي، ويؤثر كلية على إرساء قاعدة الأمان المستقبلي وحرية العمل المدني.
من الطبيعي أن تواجه حركات التحرر المدني بعوائق مجتمعية أهلية ودينية ترفض تسليم سلطاتها المتوارثة تقليديًا، لكن يمكن الحوار مع مجتمع ما زال يتعثر في خطوات تحرره السياسي، وإنتاج آلية للتوافق على الحقوق العامة وميثاق الحريات وآلية الحكم التداولي بالانتخابات الديمقراطية، ولكن من الصعب أن تسلم سلطات العسكر امتيازاتها واستثناءاتها خاصة وهي تتمتع بعقود من الاستئثار بالحكم، وترسيخ بناه لمصلحتها بالإكراه بالقوة، وهذا فرق مهم في خطوات التحول الديمقراطي.
في دراسة لمركز دراسات الجزيرة حول دور المؤسسة العسكرية في الثورات، وضعت الدراسة بعض المحددات الداخلية والخارجية في إنجاح الثورات تبرز أهمية دور المؤسسة العسكرية فيها، فـ((موقف المؤسسة العسكرية من النظام “مؤيدة، محايدة، معارضة”، على أنها تشكل حجر الزاوية في نجاح أيِّ ثورة أو فشلها، فكما أنه تشكل حجر الزاوية في الانقضاض على الديمقراطية من خلال الانقلابات العسكرية، نجدها أداة مهمة في الثورة للإطاحة بالنظم المستبدة))، وهذا ما يمكن البرهان عليه تجريبيًا وواقعيًا في التجربتين المصرية والسورية إلى اليوم، وليست بحاجة لأطر معرفية خلافها لإثبات عكسها أو صحتها، وهذا لا يعني التقليل من شأن السياسات الدينية، بقدر تحديد أولوية الأدوار والمهمات المدنية والسياسية في صيرورة التحول الديمقراطي الفعلي.
رابعًا: خاتمة
لا يزال المجتمع المدني العربي تجربة قابلة للجدل تمتلك كل مقومات التحقق، كما الحركة الذاتية في الاستدامة والاستمرارية حتى إن تباينت طرق وأدوات كل منها بحسب أوضاعها المحلية. فالمجتمع المدني وإن كانت صيغه المفهومية والفكرية تكاد تكون محددة وواضحة، لكنه لا يتحقق دفعة واحدة بوصفة سحرية كلية، ولا بعمر مرحلة انتقالية فحسب، بقدر تحقّقه الواقعي النسبي مع الزمن، وهذا ما يمكن أن يتابعه المجتمع التونسي وما قد يشابهه في ذلك الجزائري والسوداني. بينما يمكن للمجتمع المدني المصري إعادة قراءة تجربته نقديًا واستعادة زمام المبادرة سواء بطريقة إصلاحية عبر الانتخابات القادمة، إذا ما استطاع كسب الشارع المصري مرة أخرى، أو ببدائل أخرى تعكسها التجربة والقدرة والأوضاع السياسية المصرية.
بينما تبقى التجربة الأكثر قسوة هي تجربة المجتمع المدني السوري، وربما أيضًا العراقي واللبناني، وهذا ما يحتاج إلى دراسة كمية ووصفية واسعة للإشارة إلى دوره الممكن، تأخذ في معطياتها: الحالة الطائفية، البنى العسكرية، التدخلات الجيوبولتيكية الدولية، الأحزاب السياسية الأيديولوجية، ونماذج المجتمع المدني شبه المدنية وما فوقها.
ينبغي للمجتمع المدني السوري الابتعاد عن مغريات السياسة، أكان في مرحلتها الانتقالية المزمعة والافتراضية أو بعدها، والانخراط في حوار مفتوح مع كل مكونات المجتمع السوري السياسية والأهلية. ومن الجائز القول إن على مجموعاته شبه المدنية السعي لتغيير وسطاء مجتمعه المدني ما فوق المدنية مع المنظمات الأوروبية والأممية واستعادة دوره المدني الضاغط على كل الأطراف المحلية والدولية لتحقيق أرضية عمله الحقوقية والقانونية، بعيدًا عن مكتسبات السياسة الراهنة واللحظية، وذلك حفاظًا على المستقبل، فـ ((الناس لا يتوقعون الثورة لأنفسهم، بل لأطفالهم)).
على الرغم من استمرار كارثة الشعب السوري إلى اليوم، فقد “تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، خلاصة المخرجة السورية وعد الخطيب التي رُشحت لجائزة الأوسكار عن فيلمها الوثائقي “إلى سما”؛ وبدوري أكرِّر، مرة بعد مرة، أن الربيع العربي سيكون فاتحة لما بعده، كما كان الربيع الفرنسي أوروبيًا قبل قرنين من الزمن.
هي ثورة شهد العالم، كما الله، على حضورها، عشناها وجدانًا وروحًا وفكرًا، حملناها ورعيناها كما الأطفال، تتعثر، تتعرج، ولكنها تستمر ما دامت حيوية شبابها المدني قابلة للتجدّد والابتكار.

المراجع
وائل غنيم، الثورة 2.0، (القاهرة، دار الشروق، القاهرة، 2012).
منظمة العفو الدولية، “النرويج: جائزة نوبل للسلام تكريم يليق برباعية الحوار الوطني التونسية لنضالها من أجل الحقوق والحريات”، AMNESTY، (2015).
دنيا جميل، “المجتمع المدني التونسي من ثائر إلى حارس للسلام”، مدونات البنك الدولي، (2015).
أنوار منصري وأمين الغالي، واقع المجتمع المدني في تونس، (تونس، مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية، 2018).
الأورو-متوسطية للحقوق، “الحوار الثلاثي المجتمع المدني وتونس والاتحاد الأوروبي”، الأورو-متوسطية للحقوق، (2019).
الكه كاشل موني وآخرون، مؤتمر التعليم المدني، 13-15 /5/ 2016، (تونس، معهد جوته في القاهرة وتونس، 2016).
عبد الستار المولهي وحسان الغضباني، دليل المجتمع المدني، حول أرضية لحماية الاجتماعية في تونس، (تونس، مؤسسة فريديريش ابرت، 2019).
المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، “متابعة تطبيق الدستور التونسي وتجسيده على مستوى الإطار القانوني”، المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، (5/2017).
أسماء حجازي أبو اليزيد وآخرون، “دور منظمات المجتمع المدني في التحول الديمقراطي في مصر 2011-2016″، المركز الديموقراطي الأوروبي، (2011).
ناثان براون، “المرحلة الانتقالية الغامضة في مصر”، مركز مالكوم-كير كارنيغي للشرق الأوسط، (2012).
مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، “هل يصبح المجتمع المدني الجماعة المحظورة الجديدة؟”، CIHRS، (2012).
المنظمة الدولية لحقوق الانسان، “مصر عام من الانتهاكات في ظل قيادة السيسي”، HRW، (2015).
أخبار الأمم المتحدة، “خبراء الأمم المتحدة: على مصر إنهاء الحملة ضد المتظاهرين والمدافعين عن حقوق الإنسان فورا”، UN، (2019).
منظمة العفو الدولية، “مصر مشروع القانون الجديد للمنظمات غير الحكومية يبقى على الجوهر القمعي للقانون العام”، AMMENSTY، (2019).
منظمة العفو الدولية، التوقيع على مشروع قانون جديد للمنظمات غير الحكومية بمثابة أمر اعدام على جماعات حقوق الانسان المصرية، AMMENSTY، (2016).
فايز سارة، “لجان احياء المجتمع المدني ومسار الإصلاح في سوريا”، الوسط، عدد 979، (2005).
عماد يوسف، “في تجربة لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا الضرورة- التحديات ودرب الألف ميل”، الحوار المتمدن، العدد 1132، (2005).
زيدون الزعبي وآخرون، “منظمات المجتمع المدني السورية، الواقع والتحديات، بحث مبني على نتائج مسمح معمق لمنظمات المجتمع المدني السورية”، مواطنون لأجل سورية، (2017).
جمال الشوفي وجمال أبو الحسن، “المجتمع المدني السوري بين الرؤية والواقع، مخاض تجربة وهوية تتشكل”، مجلة قلمون للأبحاث والدراسات، العدد الأول، (2017).
منظمة العفو الدولية، “سوريا 2019″، AMMENSTY، (2019).
إيريك هوبزباوم، عصر الثورة أوروبا بين 1789 و1848، ترجمة فايز الصباع، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2007).
جاد الكريم الجباعي، المجتمع المدني هوية الاختلاف، (دمشق، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، 2011).
أماني قنديل وآخرون، مؤشرات فاعلية منظمات المجتمع المدني العربي، (القاهرة، الشبكة العربية للمنظمات الاهلية، 2010).
محمد أبو رمان وآخرون، آفاق الإسلام السياسي في إقليم مضطرب، (عمّان، مؤسسة فريدريش أيبرت، 2017).
بدر حسن شافعي، “محددات نجاح الثورات: الثورة المصرية مقارنة بالثورتين الهندية والإيرانية”، مركز الجزيرة للدراسات، (2015).
غرين برينتن، تشريح الثورة، ترجمة سمير الحلبي، ط1، (دبي، كلمة للنشر، 2009).

جنى ناصر

جنى ناصر

باحثة وناشطة ميدانية في قضايا المجتمع المدني والسلم الأهلي والاستجابة المبكرة لحل النزاعات المحلية، والتنسيق بين فعاليات المجتمع المدني والأهلي.

مشاركة: