ملخص
سوف تحاول هذه المقالة تأمل العلاقة المعقدة بين الشعب والنخب السياسية، انطلاقًا من ملاحظة حرضتها الثورات العربية، تشير إلى أنه حين تثور الشعوب وتدخل المجال العام وتتولى مهمة التغيير، في ما عدا مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني، حيث يبدو العدو والهدف واضحين، فإنها تكون عرضة لاستغلال النخب التي تسعى إلى تسخير الطاقة الشعبية لمصلحة تصوراتها ومشاريعها الجاهزة، لكي تبدو مشاريعها وتصوراتها ممثلة لما يريده الشعب. الملاحظة الأولية تقول إن النخب تخترع شعبًا يلائمها حين تتحول إلى ناطق باسم الشعب دون اختيار أو تفويض، وأن النخب تتصارع فيما بينها على احتكار الحق في صياغة ما يريده الشعب، ما يضعنا أمام مشكلة تغييب فعلي للشعب، أكان التغييب من جانب النخب الحاكمة أو من جانب النخب المعارضة أو “الثورية”.
الكلمات المفتاحية: النخب الحاكمة . النخب المعارضة . المثقف . الانتقال الاشتراكي . الانتقال الديمقراطي
التوتر الدائم بين الشعب والنخب السياسية
في تأمل نشوء وتطور الثورات نتلمس مشكلة دائمة تتصل بالعلاقة بين الشعب والنخب السياسية، يمكن صياغتها كما يلي: للنخب دور أساس لا يمكن الاستغناء عنه في فترة ما قبل الثورة أو خلالها أو بعدها، ولكن، في المقابل، لا يمكن للنخب أن تمثل الشعب تمثيلًا كافيًا، ما يخلق فجوة يصعب ردمها بين الشعب والنخب السياسية (عندما نقول نخبة فيما يلي فإننا نقصد نخبة سياسية). المشكلة إذًا تكمن في ضرورة النخب من جهة، وغياب أو تغييب الشعب وراء النخب من جهة أخرى. والنخب كثيرًا ما “تخون” حين تسيطر على السلطة السياسية في البلد، وكثيرًا ما تبتعد النخبة الحاكمة عن الشارع حين يبتعد الشارع عنها أو، الأصح، حين تبتعد عين الشارع عنها. ألا يمكن أن نعرّف الاستبداد بأنه خيانة نخبة خرجت لتمثل الشعب ثم تمسكت بالسلطة (خانت) واستبدت؟
تتضاءل هذه المشكلة في لحظة الثورة، حين يكون للشعب حضور مباشر في الميدان، ولكنها تكبر أكثر كلما انسحب الحضور الشعبي، تاركًا المجال العام للنخب.
ولكن حتى في زمن الثورة، حين تنشأ الثورة على أرضية سياسية قاحلة بسبب القمع المعمم والمزمن، حين لا توجد معارضة لها وزن يذكر، أو حين لا تتمكن القوى المعارضة من زرع مستوى معين من الوعي السياسي المتبلور في الوعي العام، فإن النخب تدخل لتصوغ ما يريده المنتفضون، ولتمضي بهم في الاتجاه الذي تريد، على أنه ما يريده الشعب. يقول المتظاهرون إنهم يريدون الحرية والكرامة، رفضًا للذل وللعيش المقيد الذي هم فيه، ثم تترجم النخب هذا المطلب، فيبدو لكل نخبة أن حرية الشعب وكرامته تكمن في وصولها إلى السلطة، وفي فرض رؤيتها أو برنامجها على المجتمع، وترى في ذلك استجابة لمطالب الشارع.
ما يقود الثورة ضد استبداد مزمن هو مشاعر الرفض والتمرد عند العامة وليس الوعي، يخرج الناس وهم على علم بما يرفضون وعلى ماذا يتمردون، ولكنهم لا يعلمون جيدًا ماذا يريدون. يريدون إسقاط هذا النظام، الذي يمكن أن يتجسد في شخص، ويريدون نظامًا أفضل، ولكنهم لا يعلمون بالتحديد أي نظام يريدون، ولا كيف يصلون إليه. هذا هو الحال الذي يسمح للنخب في أن تحدد ما يريده المنتفضون نيابة عنهم.
لا يملأ الفجوة بين الشعب والنخب سوى الثقة، يوكل الناس أمرهم للنخب على أنها عالمة وعارفة. تبقى هذه الإشكالية بسيطة ضمن هذه الحدود، ولكن الخطورة تزداد حين يتحول تحديد إرادة المنتفضين إلى معركة بين نخب متباينة، منها من ترى مثلًا أنها ثورة للخلاص من الاستبداد السياسي وبناء نظام ديمقراطي، ومنها من ترى أنها ثورة للخلاص من الاستبداد العلماني وبناء نظام إسلامي. استثمار طاقة الرفض عند المنتفضين هو شأن النخب التي تتصارع على تعريف ما يريده الشعب (ماذا تعني الحرية والكرامة والعدالة التي يهتف بها الشعب)، هذا يعني في الواقع أن النخبة الفائزة هي التي تحوز على الثقة وهي التي تستطيع أن تفرض على الشعب ما “يريده” الشعب. تبقى العلاقة بين الشعب والنخب إشكالية إذًا حتى في لحظة الثورة.
في الثورات العربية لاحظنا توزع معسكر الثورة على ثلاث فئات، الفئة الأوسع هي فئة المتعاطفين المترقبين غير المشاركين في الثورة، الفئة الثانية أقل اتساعًا، هي فئة المشاركين مباشرة في الفعل الاحتجاجي (شتى صنوف النشاط الاحتجاجي)، والفئة الثالثة الضيقة هي فئة النخب التي تسعى إلى أن تكون الصوت الذي يترجم الاحتجاج الشعبي إلى لغة سياسية محددة (تحديد إرادة المنتفضين، تقديم مطالب قريبة، رسم أفق بعيد للحراك … الخ). النخب هي من تعطي للحراك اتجاهه وطبيعته. والنخبة التي تفوز بثقة المنتفضين هي النخبة الأكثر فاعلية والأكثر حضورًا وتنظيمًا، ولكنها ليست دائمًا الأكثر تعبيرًا عن مصلحة الحراك أو مصلحة الشعب. على هذا فإن الفاعلية والحضور والتنظيم يمكن أن تسند وتنصر توجهًا وتنحي توجهًا آخر، ويمكن بالتالي أن تعطي للحراك لون النخبة الفاعلة والنشيطة والمنظمة على حساب بقية النخب. مثلًا لم يكن البلاشفة في 1917 أكثر تعبيرًا عن مصالح الشعب الروسي من المناشفة، لكنهم كانوا الأكثر حضورًا وفاعلية. وشهدنا مثل هذه “السيطرة” في الثورة الإيرانية التي اصطبغت بلون ديني بفعل النخبة الدينية التي استطاعت أن تقصي النخب الأخرى. وشهدنا شيئًا مشابهًا في ثورة 2011 في سورية حين غلب عليها التيار الإسلامي بقوته التنظيمية والمالية التي جعلته يتحكم في هتافات التظاهرات واللافتات التي يرفعها المتظاهرون.
الشعب والنخب في البلدان الديمقراطية
في البلدان الديمقراطية، يجري حلّ مشكلة التوتر بين الشعب والنخب، باستدعاء الشعب إلى الميدان كل دورة انتخابية. على هذا، كل دورة انتخابية تعادل ثورة صامتة يقول فيها الشعب كلمته، يقول ماذا يريد، يسقط نخب ويرفع غيرها، أو يجدد للنخبة الحاكمة. على أن النخب هنا، على خلاف النخب في بلدان الاستبداد السياسي، تبدو للناس أكثر وضوحًا من خلال برامجها وأفكارها المتاحة ونشاطها … الخ، أو من خلال تجريبها في الحكم أيضًا. تلك هي حدود الديمقراطية التمثيلية التي هاجمها صاحب كتاب العقد الاجتماعي على أنها خدعة وزيف، “تقوم السيادة، جوهرًا، على الإرادة العامة، والإرادة مما لا يمثل مطلقًا، والإرادة إما أن تكون عين الشيء أو غيره، ولا وسط، وليس نواب الشعب ممثليه إذًا، ولا يمكن أن يكونوا ممثليه، وهم ليسوا غير وكلائه، وهم لا يستطيعون تقرير شيء نهائيًا وكل قانون لا يوافق الشعب عليه شخصيًا باطل، وهو ليس قانونًا مطلقًا”.
في المسافة الفاصلة بين دورتين انتخابيتين، يغيب الشعب، وتتولى النخب مهمة الإدارة السياسية للبلاد. مع الزمن، تكلست هذه العلاقة “الانتخابية” بين الشعب والنخب. لم تعد الفروق بين النخب المتنافسة ذات تأثير كبير في الحياة العامة، حتى بات الشعب في كثير من الحالات يمل المشاركة في الانتخابات أو يعرض عنها ولا يرغب فيها. بعض الدول الديمقراطية اضطرت إلى جعل الانتخاب إلزاميًا، ليس بحثًا عن رأي الشارع وتقصيًا لخياراته (المحدودة على أي حال)، بل لشحن شرعية النظام.
تبرز إلى السطح مشكلة أخرى مع الديمقراطية التمثيلية، هي ظاهرة الأوراق البيضاء في صناديق الاقتراع، وهي في حقيقتها احتجاج على النظام، ليس بوصفه نخبة حكم فحسب، بل بوصفه آلية للحكم أيضًا. الأوراق البيضاء في الانتخابات باتت تطرح مشكلة على شرعية النخب المنتخبة، ولم يعد مقبولًا الاكتفاء بكونها أوراقًا لاغية، هناك ميل إلى النظر إليها أولًا على أنها موقف من الخيارات المطروحة (أي رفض الطرفين المتنافسين على الرئاسة مثلًا)، ومن ثمّ ينبغي إعادة الانتخابات إذا تجاوزت الأوراق البيضاء حدًا معينًا، وثانيًا على أنها موقف من العملية الديمقراطية التمثيلية، أو من الخيارات الحصرية أو ربما العدمية التي تفرضها هذه العملية على الناخبين.
لنا أن ننتبه إلى أن الحركات الاحتجاجية (السترات الصفراء) التي انطلقت في خريف 2018 في فرنسا واستمرت أكثر من عام، وكان يمكن أن تستمر مدة طويلة لولا القيود التي فرضتها جائحة كوفيد 19، ظلت بلا قيادة، وبلا ناطقين محدّدين باسمها. وقد ضعفت الحركة حين قادها واقع الحال إلى ضرورة إنتاج ممثلين. الأمر نفسه رأيناه في ثورات وانتفاضات الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية.
الوجود الشعبي في الشارع هو التمثيل الأعلى لما يريده الناس من نقل ثقلهم المباشر إلى المستوى السياسي، أو يمكن القول من تجاوز النخب. هذا ما يمكن أن يفسر لنا طول أمد الاحتجاج في الشارع دون نخب ودون قيادة. كما لو أن هناك ميل شعبي لتجاوز النخب الممثلة.
تحول سمة العصر من الانتقال الاشتراكي إلى الانتقال الديمقراطي
يكمن الاستبداد السياسي وما يجره على المجتمع من تبعات مرهقة، في أساس الرفض الجماهيري الواسع الذي عبرت عنه الثورات العربية التي ملأت العقد الثاني من القرن الحالي. طالبت هذه الثورات في شعاراتها بسقوط الاستبداد السياسي، وعدت لذلك ثورات ديمقراطية على أن الديمقراطية هي البديل الوحيد المعروف عالميًا حتى الآن للأنظمة السياسية المستبدة. وعندما نقول الديمقراطية نقصد الديمقراطية التمثيلية، على أنها شكل إجرائي محدّد يمكن تطبيقه ما إن تنكسر إرادة النظم المستبدة القائمة.
كانت السمة الغالبة على الصراع في الحقبة التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي، هي الانتقال الديمقراطي بدلًا من الانتقال الاشتراكي الذي وسم النضالات العالمية في الحقبة السوفياتية. هذا التحول يتضمن نسف فكرة الطليعة، لأنه يعني أن غاية النضال باتت العودة إلى الشعب ليقرِّر حياته ومصيره ومن يحكمه ومن لا يحكمه. تضاءل محل الطليعة ودورها في هذا المجال الديمقراطي إلى مسعى كسب الشعب أو بالأحرى استرضائه. في حين كانت الطليعة الاشتراكية ممتلئة بدورها التحويلي والتقدمي المتعالي على شعب يجهل مصالحه. الشعب قد يتحسس الظلم، وقد يوجه غضبه إلى السلطات القائمة، ولكنه لا يدرك أين يكمن مصدر الشرور، ولا يعرف باب الخروج مما هو فيه، إلا حين تقوده طليعة واعية تمتلك برنامجًا جاهزًا للتنفيذ ما إن تتوفر لها الأداة: السلطة السياسية. وكما على الشعب أن يؤمن بالمخرج الذي تقترحه الطليعة الاشتراكية، عليه أيضًا أن يطمئن إلى “ممثليه الثوريين” وأن ينسحب من المجال العام ما إن تصل هذه الطليعة إلى السلطة، لكي تكمل تنفيذ برنامجها. وظيفة الدولة في يد الطليعة الاشتراكية، والحال هذه، هي تنفيذ البرنامج الاشتراكي الذي يتطلب احتكار الفاعلية العامة، أي حظر المبادرات الحرة الاقتصادية أو السياسية أو سواها.
على خلاف هذه الحال، تعطي فكرة الديمقراطية القيمة كلها للشعب، فقد يمنح الأحقية لهذا التيار أو ذاك، لهذه “الطليعة” أو تلك، سوى ذلك، تكون الطليعة بلا قيمة. هكذا تنعكس العلاقة بين الطليعة والشعب.
ولأن الفكرة الاشتراكية تتضمن أولوية الطليعة على الشعب، فإن النخبة لا تحمل عبئًا سياسيًا أو أخلاقيًا في تنفيذ مهمة تحييد الشعب وإبعاده عن السياسة، ما دامت النخبة واعية لمصلحة الشعب، أما الشعب فجاهل بمصلحته. القمع والحال هذه يخدم فعلًا تقدميًا، إنه وسيلة لفرض التحرر على الشعب. في المرحلة الموسومة بالانتقال الاشتراكي كان الوعي هو مصدر السلطة، وكانت النخبة هي الطليعة التي تستمد سلطتها من ذاتها، فهي محل السلطة ومقرها. أما الفكرة الديمقراطية فإنها تتضمن أولوية الشعب، ما يجعل النخبة في حالة حرجة لأنها لا تمتلك قيمة بذاتها، فهي لكي تمارس سلطتها أو نخبويتها، عليها أن تحوز القيمة من الشعب.
إلى ذلك، يمكننا تسجيل فارقين على هذا التحول في سمة العصر، من الانتقال الاشتراكي إلى الانتقال الديمقراطي:
الفارق الأول: هو أن الانتقال الديمقراطي ليس “حتميًا”. إذ يؤكد المنظرون للثورات الاشتراكية والانتقال الاشتراكي، أن أوضاع البلدان تنضج أكثر فأكثر وتدفع أكثر فأكثر نحو ثورة اشتراكية تحل التناقضات الداخلية في هذه البلدان. على خلاف ذلك، لا توجد في تنظيرات الانتقال الديمقراطي ولا حتى في نظريات التحديث ما “يطمئن” الشعوب بأن المجتمعات تسير نحو الديمقراطية وأن هذه “الجنة” قادمة مهما أُخطئَ الطريقُ إليها.
والفارق الثاني: هو أنه لا توجد ركيزة خارجية تستفيد من الانتقال الديمقراطي في البلدان وتدعم النضال الديمقراطي فيها، كما كان الحال مع المنظومة الاشتراكية التي كانت تدعم النخب الاشتراكية في الوصول إلى السلطة (بالطبع بعد أخذ مصلحة بلد الاشتراكية الأول في إطار العلاقات الدولية بالحسبان) لكي تنضم، بعد ذلك، إلى معسكر المنظومة الاشتراكية وتسانده ولو على حساب المصلحة الوطنية. في المقابل، فإن الانتقال الديمقراطي من شأنه أن يحرر الصراعات الداخلية في المجتمع، ويزيد بالتالي من الفاعلية الشعبية ومن حضور المصلحة الوطنية، الأمر الذي لا يشجع، وربما يمنع، البلدان الديمقراطية من الانحياز الفعلي إلى مثل هذا الانتقال.
هل توجد نخبة سياسية ديمقراطية؟
هل توجد نخبة سياسية تناضل فعلًا من أجل الديمقراطية؟ أو بقول آخر، هل توجد نخبة سياسية تناضل من أجل حق النخب السياسية الأخرى في الوجود والعمل وإغناء المجال العام؟ نتكلم عن الديمقراطية السياسية (التعددية السياسية) وليس عن الديمقراطية على أنها برنامج تنفيذي يشمل، بحسب الأدبيات الماركسية، إجراءات ما دون اشتراكية، مثل نشر التعليم وحقوق المرأة والقوميات والإصلاح الزراعي… إلخ.
جوابنا أن النخبة السياسية من طبيعتها أن تكون إقصائية، لأنها تريد أن تقود المجتمع وفق نظرتها العامة التي تخالها الأفضل وتعد أنها تمثل خير الشعب والأمة، وتتمنى، بطبيعة الحال، حين تستلم السلطة السياسية، ألّا يقف في وجهها عائق ما (نخب أخرى) يحول دون ممارستها القيادة ووضع تصورها العام موضع التنفيذ، لمدة كافية على الأقل. نعتقد أن هذا مبدأ عام، مستقل عن طبيعة الفكر الذي تصدر عنه هذه النخبة أو تلك، فعلى هذا الصعيد تستوي كل النخب السياسية بمرجعية “ديمقراطية” أكانت أم بمرجعية فكر شمولي مضاد للديمقراطية. كل النخب السياسية يحكمها مبدأ السيطرة قبل أي مبدأ آخر. في البداية تكون الرغبة في الوصول إلى السلطة بغرض استخدامها في خدمة مشروع أو تصور عام تحمله النخبة، وبعد الوصول إلى السلطة، تتحول هذه إلى هدف بذاتها للنخبة ثم لصاحب السلطة، ليس فقط بوصفه زعيمًا أبديًّا، بل إذا سمحت الأوضاع، بوصفه مؤسسًا لسلالة حاكمة أيضًا.
يمكن قبول الجواب السابق أكثر، إذا تأملنا سلوك النخبة نفسها وموقفها من الموضوع الديمقراطي، قبل وبعد استلامها السلطة السياسية في البلد. بقليل من التأمل، سوف نجد أن النخبة تكون ديمقراطية أكثر كلما كانت أكثر بعدًا عن السلطة السياسية، والعكس صحيح.
إذا كانت بعض النخب ذات المرجعية الفكرية الشمولية، تتجرأ على القول إن قبولها بالانتخابات ليس سوى سلّمًا إلى السلطة، وإنها سوف تكسر هذا السلّم حال وصولها إلى مبتغاها (السلطة)، كما قال الإسلاميون في الجزائر في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، فإن النخب “الديمقراطية” لا يمكنها التصريح بذلك، وإن كانت تتمناه، لأنها أولًا تستند إلى مرجعية فكرية تدعي الديمقراطية ولا تسمح بمثل هذا القول، ثانيًا لأنها لا تمتلك مشروعية شعبية كافية ومستقرة تحميها وتسمح لها بمثل هذه الجرأة التي لدى الإسلاميين. صاحب التصريح الجريء السابق عن كسر السلَّم الديمقراطي، هو الجزائري علي بلحاج، أحد مؤسسي جبهة الإنقاذ الجزائرية، وقد كان يستند إلى شرعية شعبية واسعة تخوله التصريح بهذا القول الذي يستند، بدوره، إلى فهم إسلامي مفترض، أو منسوب إلى الإسلام، يعد أن فكرة الانتخابات تعطي للشعب ما هو في الأصل لله، على أن “الحاكمية لله”.
القول عن نخبة ما إنها “ديمقراطية”، يعني، في الواقع، أنها تقر بحق الجماعات أو النخب السياسية الأخرى في الوجود. وهذا ليس أكثر من إقرار بواقع مفروض، إلى حد أنه حتى القوى غير الديمقراطية، أو التي ترى أنها تحمل حلًا نهائيًا لمشاكل المجتمع لا يعكره سوى وجود جماعات سياسية أخرى ولذلك ينبغي التخلص منها تباعًا، نقول حتى هذه القوى، تقبل بهذا الواقع، وإن كان قبولًا بواقع على نيّة نسفه حالما تسمح الأوضاع.
نريد القول إنه لا توجد نخبة يتضمن مشروعها العام خلق التعدد السياسي، بل القبول به، مع العمل، حين تصبح هذه النخبة في السلطة وبقدر استطاعتها، على الحد من فاعلية هذا التعدد “المفروض”، أو هذا الوجود السياسي “المعارض”، الذي من شأن وجوده أن يقيِّد السلطة.
بالمقارنة، الكلام عن نخبة أو حزب اشتراكي يدل على برنامج وإجراءات محدّدة ذات صبغة اشتراكية يقوم بها الحزب، أما النخبة “الديمقراطية” فتعريفها هو القبول بغيرها وألّا تحمل في نفسها اليقين في أنها صاحبة الحق الأول. وإذا كان وصول نخبة اشتراكية إلى السلطة هو بداية تنفيذ ما ترى هذه النخبة أنه خطوات اشتراكية، فإن وصول نخبة “ديمقراطية” إلى السلطة هو بداية عملها على تحجيم حضور النخب الأخرى، أي بداية ابتعادها عن الديمقراطية. لا يحمي الديمقراطية السياسية سوى وجود موانع خارجة عن إرادة النخبة الحاكمة، تحول دون ميل هذه الأخيرة إلى نسف الحياة السياسية الديمقراطية. ومن هذه الموانع وقوف النخب المتباينة في وجه بعضها بعضًا للجم الميل المشترك عندها في السيطرة التامة وإلغاء النخب الأخرى.
النخبة السياسية تميل، بطبيعتها السياسية نفسها، إلى احتكار المجال السياسي، ميلًا يشبه ميل رأس المال إلى الاحتكار، وكما يحتاج المجتمع إلى قانون تفرضه الدولة، يحارب ويضبط هذا الميل الأخير، لضمان استمرار المنافسة في السوق، فإن وجود التعددية السياسية واندراج قيمتها ومعناها في الوعي الشعبي والإدراك العام لخطر غياب التعددية السياسية (حظر قانوني) أو تفريغها من قيمتها (جعل الأحزاب واجهة فارغة ملحقة بحزب حاكم) يساهم في الحد من ميل النخبة الحاكمة إلى التفرد، ويمنعها من احتكار المجال السياسي.
لا نبتعد عن الصواب إذا قلنا إن النخب السياسية معادية في طبيعتها للديمقراطية، وإن هذه تفرض على النخب فرضًا بفعل الصراع فيما بينها حين تعجز نخبة ما عن السيطرة التامة وإلحاق الهزيمة بالنخب الأخرى.
دائمًا كانت مجتمعاتنا موضوعًا لاستبداد مستحكم أو في طريقه للاستحكام. ولم تتبلور في تاريخنا الحديث، قوة سياسية تحررية تضع تحرر المجتمع (إرساء علاقة متوازنة بين السلطة السياسية والمجتمع) أولوية لها. كل القوى السياسية كانت تتصارع لكي تسيطر على المجتمع ثم لكي تمارس وصايتها، لأنها تنظر إلى نفسها على أنها الأحق بالوصاية باسم الأصالة أو المعاصرة أو ما بينهما.
يسمح لنا التأمل في تاريخنا الحديث بالقول إن التطلع التحرري للنخب وللأحزاب في مجتمعاتنا لم يكن تطلعًا تحرريًا بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة. النخبة التي تتمرد على قيود معينة وتضحي فعلًا في سبيل كسرها، تسعى إلى فرض قيودها الخاصة على المجتمع، كما أنها تنصاع، هي نفسها، لقيود أخرى من طبيعة القيود التي تمردت عليها، أو ربما من طبيعة أشد تقييدًا.
النخب التي تعارض سلطات مستبدة، وتضحي في سبيل ذلك، تمارس الاستبداد في داخلها (الأحزاب) وأيضًا في علاقتها مع خارجها. أكثر من ذلك، إن النخب والأحزاب تنطوي على نزوع قوي لفرض ذاتها على المجتمع، وهي تظن أنها بذلك تساعد المجتمع على التحرر. أي تتسلط على من تريد تحريرهم. أعضاء الحزب الذين يضحون بحياتهم في النضال ضد سلطة مستبدة، تجدهم حماة أشداء لسلطة حزبهم وزعيم حزبهم، وجاهزين للاستبداد بمعارضيهم إن توفرت لهم السبل. إن تعبير نخبة ديمقراطية ينطوي على تناقض داخلي بقدر ما تكون النخبة صاحبة مشروع سياسي.
يشير تاريخنا الحديث إلى أن النخب والأحزاب هي نويات لاستبداد جديد وليست نويات للتحرر، حتى لو كانت في طليعة النضال ضد استبداد قائم. غالبًا، إن لم نقل دائمًا، كان هؤلاء المناضلون أرباب استبدادات جديدة. الأمر الذي يحمل على التفكير في أن البعد النفسي لرفض القيود، يتفوق على البعد السياسي، إذا فهمنا البعد السياسي على أنه تغيير واعٍ في علاقات القوة بين السلطة والمجتمع، بما يزيل أو يخفِّف القيود، ويزيد من قدرة الناس على التأثير في إدارة حياتهم، ويمنحهم قدرًا أكبر من اليقين بشأن شروط وجودهم. رفض قيود سلطة والقبول أو الانصياع لقيود سلطة أخرى، إنما هو رفض نفسي ما دون سياسي.
هل يمكن حلّ مشكلة العلاقة بين الشعب والنخب؟
تبدو مشكلة التوتر بين النخب والشعب، عصية على الحل حين نحصر الموضوع في المستوى السياسي، ذلك لأن الحضور الشعبي على هذا المستوى لا يكون إلا عبر التمثيل، الشعب يحضر فيه عبر ممثلين منتخَبين، أي عبر نخبة تمثل الشعب وتحجبه في الوقت نفسه.
حرية الشعب في الديمقراطيات التمثيلية هي حرية اختيار بين النخب على أرضية سياسية اقتصادية شبه ثابتة. هذا يشبه، إلى حد كبير، حرية السجين في أن يختار سجنًا دون آخر، أو مهجعًا دون آخر، أو في أن يختار الكوة التي يقف عليها ليرى من خلال القضبان. دون أن يعني هذا تجاهل المستوى العالي من الحريات والحقوق الاجتماعية في هذه البلدان، لكن دون أن نتجاهل أولًا وجود نسبة غير قليلة من السكان في أوضاع فقيرة على هامش النظام الاقتصادي الاجتماعي، وثانيًا، أن ما كسبته الشعوب في هذه البلدان يحتاج إلى جاهزية دفاعية دائمة ضد ميل النظام الدائم والغريزي إلى التراجع والتضييق على الناس.
يكون الحال أسوأ في البلدان التي تعتمد مبدأ الانتخابات لإنتاج الشرعية السياسية، حين يكون المجتمع الأهلي (العلاقات العضوية، هذا يعني في بلداننا المنبت المذهبي والديني والقومي) أكثر حضورًا من المجتمع المدني (مبدأ المواطنة)، كما هو الحال في لبنان والعراق. في هذه البلدان يصبح التجسيد المباشر للنظام أقل وضوحًا. إذا كان النظام الذي يقوم على مركزية الفرد يتجسد في شخص الحاكم المستبد أو الديكتاتور، فإن النظام هنا لا يتجسد في شخص، ولا حتى في نخبة الحكم التي يجري انتخابها، بل في الزعامات الدينية أو القومية التي تمارس زعامتها من خارج الدولة. على هذا فإن استقرار النظام الديمقراطي الطائفي أو (ديمقراطية المكونات) مستمد من خارج جهاز الدولة، وهو ما يجعله أكثر قدرة على المقاومة. وقد لاحظنا انعكاس هذا الحال في هتافات المتظاهرين في كلا البلدين.
لا يمكن جسر المسافة بين السلطة والشعب إلا عبر ابتكار آليات تجعل للشعب حضورًا دائمًا في المجال العام، وذلك عن طريق شبكة واسعة من التشكيلات البسيطة التي تكون على تواصل مباشر مع الناس وتهتم بمجريات الحياة اليومية والمعاشية لهم. تقوم وسائل الإعلام بدور في هذا، وقد تعزز هذا الدور أكثر مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أنشأت قناة ديمقراطية لنقل ثقل الشعب إلى الميدان.
التخلي عن النخب أو فشل النخب
لاحظنا في الثورة السورية، أنه إلى جانب إشكالية العلاقة بين الشعب والنخب، برزت إشكالية العلاقة بين النخب “الثورية” نفسها. النخب التي ندبت نفسها لتمثيل الشعب السوري الذي يريد إسقاط النظام، لم تكن موحدة لا على مستوى الرؤية ولا على مستوى التنظيم. كما هو الحال في كل الثورات، لم تكن النخب التي سعت إلى تمثيل الثورة السورية منتخبة من الشعب السوري، (ربما كان بعضها “منتخبًا” من الخارج)، كما أن هذه النخب لم تكن موحدة، فالحالة الثورية السائلة تسمح بتعدد التمثيلات وتسمح بالتالي بصراعها، وهو ما كان في سياق الثورة السورية، وقد كان لهذا التفتت والصراع دوره في تعثر الثورة وتبدد طاقتها.
لم يكن فشل النخب “الثورية” خافيًا على الجمهور، فمن اللافت أن الموجة الثانية من الثورات العربية (لبنان، العراق، الجزائر) ابتعدت عن النخب المكرسة (الأحزاب)، كما أنها لم تنتج نخبها الخاصة، وقد فضلت البقاء في الحالة الشعبية دون وجود ناطقين محددين باسم الحراك. غير أن هذا الحال يبقى ناقصًا مع ذلك، فلا يمكن للحراك أن يبقى في الشارع، ولا يمكن الاستغناء عن دور النخبة التي يمكنها ترجمة الطاقة الشعبية إلى قوة سياسية واعية ومحددة، يبقى الرهان على إنتاج علاقة حية بين الشارع والنخبة.
كانت الحالة السودانية مختلفة على هذا الصعيد، فقد تبلورت سيطرة جيدة على الحراك السوداني من جانت قيادة لها، وتمكنت من منع انزلاق الحراك إلى العنف (على الرغم من جرائم الجيش السوداني ولا سيما فض اعتصام القيادة العامة)، ومن ترجمة الطاقة الثورية للحراك إلى قوة سياسية وفرض تقاسم السلطة مع الجيش، ويتوقف نجاح هذا المسار على استمرار الضغط الشعبي على النخب التي مثلت الحراك في السلطة، بغرض كبح الميول التسلطية الداخلية أو الغريزية فيها.
وفي تونس، البلد الذي لم يشهد مطبات حادة في مسار ثورته، عبر الشعب التونسي عن نفوره من النخب في اختياره للرئاسة، شخصية منفردة (قيس سعيد) تكره الأحزاب وتنتمي في تواضعها وزهدها وصفاتها العامة إلى الشعب، وكأن في هذه “البراءة” ما يقول إن الشعب هو من يستلم الرئاسة. وقد قام الشباب المستقلون بكل مستلزمات الحملة الانتخابية لسعيد، ليفوز بنسبة عالية (73%) على منافسه (نبيل القروي) “النخبوي”، رجل أعمال متهم بقضايا فساد وصاحب محطة فضائية وزعيم حزب.
في سورية أيضًا فشلت النخب في تمثيل الثورة. ففي سورية نشأت منذ وقت مبكر نخبتان سعت كل منهما لتمثيل الثورة، نخبة داخلية (هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي) وأخرى خارجية (المجلس الوطني السوري) ثم (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة). كان لهذا الانقسام بين داخل وخارج أثر في فشلهما المشترك أو العام، ولكن فشل كل طرف في مسعى قيادة الثورة، يعود لسبب مختلف عن الآخر، وربما مناقض له.
فشلت نخبة الخارج ليس لأنها ابتعدت عن الشعب الثائر، بل ربما لأنها لم تبتعد عنه، أي لأنها لم تمتلك نهجًا سياسيًا مستقلًا ذا ثبات وتماسك، بل سعت جهدها إلى حيازة قبول الشعب بأن تكون صدى مباشرًا للشارع، مع سعي موازٍ إلى حيازة رضى “الحلفاء”، وخسرت بذلك هويتها وقيمتها. أما نخبة الداخل فقد فشلت لأنها ابتعدت عن الشارع في محاولة أن تمارس دورًا قياديًا واعيًا ومعتدلًا، فكان أن بدت مهادنة في عين الثائرين الذين وجدوا في النخبة الخارجية صوتًا أكثر حزمًا وأكثر تأثيرًا بحكم الاعتراف الخارجي.
خاتمة
في تأمل موضوع التمثيل السياسي للشعب نعثر على مشكلة لها جانبان، الأول هو أن النخب التي يفترض أن تمثل الشعب تحجب الشعب عمليًا وتستبدله بتصورها السياسي الخاص. والثاني هو أن الشعب ليس متجانسًا، ولا يمكنه وضع تصور محدد عما يريد، وهذا ما يجعل النخب ضرورة يصعب تجاوزها.
تبدو هذه المشكلة السياسية مستحيلة الحل على المستوى السياسي نفسه. على هذا المستوى لا يمكن للشعب أن يمثل نفسه، ولا بد من وجود نخب ممثلة، أي لا بد من تغييب الشعب. غير أنه يمكن تلمس حل لهذه المشكلة السياسية من خارج المستوى السياسي، نقصد من خلال الحضور غير التمثيلي للشعب في دفاعه المباشر عن حاجاته المباشرة وعن قضايا حياتية يومية محددة وملموسة.
لا يحتاج العمل من أجل القضايا اليومية المباشرة للناس (مظاهر الفساد، الاعتداء على الحقوق، ارتفاع أسعار المواد الأساسية … إلخ) إلى نخب وبرامج عمل وتمثيل، يحتاج فقط إلى تنظيم يمكن أن تقوم به وتتابعه مجموعات مبادرة من المواطنين المستفيدين مما توفره اليوم تكنولوجيا الاتصالات من إمكانات لا نهائية.
النشاط المدني غير السياسي الواسع واليومي للناس هو ما يمكن أن يردم الهوة بين الشعب والنخب، ويضع النخب السياسية أمام امتحان له معايير واضحة يصعب التلاعب بها، الأمر الذي يحدّ من ذاتية النخب وميلها إلى “الخيانة”، حين تكون معايير صدقيتها شفافة وأمام عيون الجمهور.