مسألة الهوية الثقافية في الدستور المغربي بعد الربيع العربي بين التنصيص والتفعيل

تأتي دراسة مسألة الهوية الثقافية في الدستور المغربي، انطلاقًا من مجموعة من الضمانات والآليات المؤسساتية، التي جاء بها دستور 2011 في ظل التحولات السياسية والتجارب الدستورية التي عاشتها الدول العربية، بعد موجة الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة.
وفي هذا المنحى، وبعد مسيرة ناهزت نصف قرن من الزمان عن لحظة الاستقلال، مثلت مسألة الهوية الثقافية المغربية جزءًا أساسيًا من بنية الحراك الاجتماعي في إطار ثورات الربيع العربي، حيث صار سؤال الهوية محددًا حاسمًا في النقاشات السياسية والاجتماعية والثقافية.
وغنيٌّ عن البيان، أن الهوية الثقافية على مدار تاريخ المغرب شكلت سؤالًا إشكاليًا، بكونها معطىً له أبعاد متعدِّدة ساهمت في تشكيل الخريطة الهوياتية للمغرب، وبحكم موقعه الجيو-استراتيجي المتميز بوصفه ملتقى للحضارات، وقد ساهمت هذه الخصوصيات في صنع فسيفساء الهوية الثقافية المغربية.
ونظرًا لما يمثله البعد الهوياتي خاصة في إطاره الثقافي ضمن مضمار التغيير من أجل إرساء ثوابت الديمقراطية، فإن الحركة الاحتجاجية في المغرب وقبيل لحظة المراجعة الدستورية كثفت ضغوطاتها على المشرع قصد الاعتراف بمطالبها عبر خلق تحالفات مع مختلف الأيديولوجيات والتيارات (الأمازيغية والإسلامية…)، وهو ما سينعكس في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 التي جاءت استجابة لمطالب الشارع المغربي.
ومن هذا المنطلق، جاء الإصلاح الدستوري أحد الآثار المباشرة لدينامية الربيع العربي، لإعادة تعريف الهوية المغربية انطلاقًا من روافدها المتنوعة، حيث يشدد تصدير دستور 2011 على الهوية المغربية المتعددة الروافد “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية-الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية؛ كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبت الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية”.
وبذلك، أكد الدستور الجديد على التعدد الثقافي للمغرب في إطار الهوية الوطنية بكونه أولوية للبلاد تستمد مبادئها من حكمة الثقافات التي تشكل المجتمع جميعها؛ إلى جانب ذلك منح التعديل الدستوري اللغة الأمازيغية صفة رسمية بترسيخها لغة مكتوبة، كما هو منصوص عليه في الفصل الخامس من الدستور، وبأن تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بحمايتها لتكون رصيدًا مشتركًا لجميع المغاربة، غير أن المشرّع المغربي ربط ترسيم اللغة الأمازيغية بإصدار قانون تنظيمي يحدد كفية تفعيلها.
هذه التعددية الثقافية التي تم التنصيص عليها دستوريًا، هي انعكاس للصحوة التي عرفتها الساحة الإقليمية والوطنية، وعودة للنقاش حول الهوية الثقافية، كما ساهمت مجموعة من العوامل المتداخلة والمرتبطة التي عاشتها البلاد في إثارة هذا النقاش.
وتكمن أهمية هذه الدراسة، في استكشاف قدرة المسار الدستوري بعد مرور عشر سنوات، ليست بالقليلة على تلبية مطالب الحركات الاحتجاجية، على ترسيخ الهوية الثقافية بكل مكوناتها وروافدها على أرض الواقع، سواء من خلال الآليات القانونية والمؤسساتية والسياسة العامة الوطنية من جهة، أو في إطار المشاركة في المبادرات الدولية لضمان التعددية الثقافية من جهة أخرى.
وانطلاقًا من هذه الخلفية، فإن هذا البحث يهدف إلى تسليط الضوء عل سيرورة تشكل الهوية الثقافية في المغرب ومناقشة أسسها الدستورية، خاصة في ظل الجدل الذي ما تزال تثيره هذه المسألة بين الفاعلين والناشطين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما رافق ذلك من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية داخل المجتمع المغربي.
وتجدر الإشارة إلى أننا سنحاول من خلال هذه الورقة، اقتحام العلبة السوداء للأبعاد المختلفة للتنصيص الدستوري لمسألة الهوية الثقافية الذي حمل مجموعة من المستجدات في سياق تزايدت فيه المطالب بمزيد من الحريات والحقوق الإنسانية، وكذا بالوقوف على عدد من العراقيل والعوائق التي تحد من التطبيق والتفعيل الأمثل لبعض مكونات هذه الهوية في الحياة العامة.
وقد وجه هذه الدراسة مجموعة من التساؤلات الإشكالية، ما هي العوامل التي فرضت عودة سؤال الهوية الثقافية إلى الواجهة السياسية في المغرب؟ وما هي المستجدات التي جاء بها التعديل الدستوري في ما يخص الهوية الثقافية؟ وما مدى تفعيل المقتضيات الدستورية في السياسة العامة للدولة؟
أولًا: الهوية الثقافية من التأصيل إلى التنصيص الدستوري
إن مفهوم الهوية يعد من المفاهيم الحديثة التي ظهرت عقب الثورة الفرنسية، وارتبطت نشأتها بنظريات علم الاجتماع التي ربطت الهوية بالانتماء إلى الجماعة؛ ومن خلال قراءة بعض الأدبيات المتعلقة بالهوية يتبين أنه لا يوجد مفهوم محدد لكلمة هوية، وذلك بسبب تعدد المدارس الفكرية التي تناولت هذا المفهوم.
وعلى الرغم من أن لمفهوم الهوية دلالته اللغوية واستخداماته الفلسفية والثقافية، إلا أن معظم المجالات التي تناولته تكاد تتفق على أن الهوية تعني الخصوصية التي تميز جماعة بشرية عن غيرها، كالعيش المشترك، العقيدة، اللغة، التاريخ، والمصير المشترك.
وفي هذا المشهد، برزت ظاهرة الهوية الثقافية على أنها إشكالية سوسيو ثقافية، تعددت الرؤى والفلسفات في تحديد مفهومها، حيث ورد في الخطة الشاملة للثقافة العربية الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بأن الهوية الثقافية هي “النواة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذي يحدد السلوك والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة والعنصر المحرك الذي يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع، مع الاحتفاظ بمكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجماعية بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسكولوجية المشتركة”؛ كما عرفت منظمة اليونسكو الهوية الثقافية بأنها “انتماء أفراد إلى جماعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية، بما لها من قيم وعادات وتقاليد وجمالية تميزها.
وعليه، يمكن القول إن الهوية الثقافية هي مجموعة من القيم والتصورات التي يتميز بها مجتمع ما عن غيره من المجتمعات الأخرى، تبعًا لخصوصياته التاريخية والحضارية التي تولد لديه نوعًا من الشعور بالألفة والتماسك الاجتماعي والإحساس بالانتماء، كما أن هذه الهوية، قابلة للتطور والتجدد مع الاحتفاظ بخصائصها الثابتة التي تحددت بفعل التاريخ واللغة والقيم والدين؛ فالهوية الثقافية هي محصلة تفاعل مجموعة من العناصر الاجتماعية والسلوكية واللغوية والسياسية والحضارية، لها امتدادات في الماضي والمستقبل.
وفي المغرب، تميزت العقود الثلاثة الأخيرة بتنامي البعد الهوياتي في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، نتيجة جملة من التحولات الكبرى التي أفرزها التحول الديمقراطي على المستوى الإقليمي. الأمر الذي سيساهم في بروز الهويات الوطنية والاستثناءات الثقافية، وخلق نوع من الأزمة الهوياتة خاصة على المستوى التنصيص الدستوري.
فكما نعلم أن الدساتير السابقة في المغرب (1962-1970-1972-1992-1996) وعلى الرغم من انخراطها في الدستورانية المعاصرة بمعاييرها ومؤسساتها وآلياتها وإقرارها بكيفية شاملة الحقوق الأساسية للمواطنين، والتأكيد على تشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميًا (دستوري 2992-1996)، الأمر الذي تجسد عمليًا بموافقة المغرب على عدد من الاتفاقات الدولية؛ غير أن قضية الهوية الثقافية للمغرب ظلت ناقصة وغير واضحة ولا تعبر عن كل المكونات والروافد الثقافية، في ظل تلك الدساتير.
وفي هذا المنحى، ساعد الربيع العربي على تجلي هذه الأزمة ووضوحها، في ظل الحركات الاحتجاجية المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان؛ ومن هذا المنطلق ساهمت الحركة الأمازيغية في إثارة النقاش حول الهوية الثقافية، خاصة مع غياب البعد الثقافي في برنامج بناء الدولة الوطنية وتحديد مفهوم الهوية الوطنية وحصره في شكله التقليدي على ثنائية العروبة والإسلام في إغفال تام للمكونات الأخرى، (الثقافة الأمازيغية والحسانية..) التي لم تكن حاضرة في أجندة الدولة آنذاك.
لقد كانت سنة 2011 سنة بارزة وفارقة في تطور الحياة السياسية والثقافية في المغرب، حيث كان للسياق التاريخي الذي طبع هذه الفترة دوره الحاسم في بصم النص الدستوري بهاجس الهوية، بوصفه أحد الآثار المباشرة لدينامية الربيع العربي التي ساهمت في انفتاح معادلة الإصلاح الدستوري على فاعلين جدد يمثلون تعبيرات مدنية وحقوقية مختلفة.
ولعل هذا ما جعل من مطلب إعادة البناء والتأسيس الدستوري للهوية الثقافية المغربية محورًا مركزيًا للحوار العمومي خلال سنة 2011، فقد كان خطاب الهوية حاضرًا في هذا الحوار الذي تميز بالتضخم، حيث وصل في بعض الحالات إلى وضعية تقاطبات حادة بين الفاعلين السياسيين، غير أن الصيغة النهائية التي سيجيب بها الدستور عن هذه الإشكاليات ستكون حاملة لتوترات قيمية واضحة بإحالة الهوية على منطق الخصوصية.
ومن خلال استقراء بنود دستور سنة 2011، نجد أن هذا الدستور أعادة تعريف الهوية الثقافية المغربية من خلال الاعتراف بغنى وتنوع الهوية المغربية وانصهار مكوناتها الأساسية العربية والإسلامية والأمازيغية والصحراوية والحسانية، مع الإقرار بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة، في ظل التأكيد على تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية.
واستنادًا إلى هذه الأسس، فقد تولى الدستور التطرق في الفقرة الثالثة من الفصل الأول إلى الثوابت الجامعة للأمة والحياة العامة والمتمثلة في الدين الإسلامي والوحدة الوطنية المتعددة الروافد والملكية الدستورية والاختيار الديمقراطي، وهذه الثوابت تشكل الهوية المغربية وتحتاج باستمرار إلى توضيحها للأجيال المتعاقبة والتذكير بها في كل دستور جديد، كما حرص على تحصينها من أي مراجعة دستورية.
وبالقياس إلى ما سبق، فإننا لا ينبغي أن نستبعد بعض الإصلاحات التي يُتطلع إليها في المستقبل، فأي دستور مهما تكن أهميته ومكانته وقوة وجوده وإمكان ديمومته، لا يعني قدسيته للتعديل أو الإلغاء، إذا اقتضت أحوال الدولة، حتى يتسنى له أن يستمر ويستقر.
ومن جهة أخرى، شكل تنصيص دستور 2011 على اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة لتكون رصيدًا مشتركًا لجميع المغاربة، على أن يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل طابعها الرسمي وكيفية دمجها في مجال التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية (الفصل 5)، منعطفًا غير مسبوق في الاعتراف بالهوية واللغة الأمازيغيتين.
وبالتالي، يمكننا القول إن هذه الوثيقة قد وفرت ما يكفي من المشروعية الدستورية والسياسية للمسألة الأمازيغية، ما يتجلى من خلال أن الشرعية الدولية لحقوق الإنسان مرجعية عليا للدستور، والتأكيد على سمو المواثيق والمعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية، إلى جانب الإقرار الصريح بالتعددية الثقافية واللغوية، وهذا التنصيص يكتسب أهميته القانونية والسياسية بما يوفره من حصانة دستورية لهذا التعدد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ترسيم الأمازيغية، شكل تتويجًا لمسار من النضال والترافع لمختلف الفاعلين في الحركة الأمازيغية على امتداد زهاء نصف قرن، كانت أبرز محطاته “ميثاق أكادير” لسنة 1991، و”البيان الأمازيغي” لسنة 2000، و”خطاب أجدير” سنة 2001 الذي أدى إلى نقلة نوعية للقضية الأمازيغية، وكان من ثماراه تأسيس المعهد الملكي للثقافية الأمازيغية، وإقرار حرف تيفيناغ ودمج اللغة الأمازيغية في قطاع الإعلام والتعليم.
علاوة على ذلك، حرص دستور 2011 على التأكيد أن الهوية الصحراوية مكون من مكونات الهوية الثقافية المغربية، كما أعلنت الدولة من خلال الوثيقة الدستورية على ضرورة النهوض بتعبيراتها اللغوية والثقافية كافة، وفي مقدمتها اللغة الحسانية.
وهكذا، فإن الاعتراف الدستوري بالهوية الثقافية يشكل خطوة مهمة لترقية كل المكونات الثقافية والانتقال بها إلى مجال السياسات العمومية للدولة؛ غير أن الطريقة التي عالج بها المشرع المغربي قضية الهوية الثقافية في ظل رياح الربيع العربي، أثارت مجموعة من الملاحظات الشكلية والجوهرية، من حيث كيفية تفعيلها في السياسة العامة للدولة، ما قد يخلق نوعًا من الغموض والارتباك في المشهد الثقافي على وضع سياسية هوياتية ثقافية واضحة.
ثانيًا: الهوية الثقافية في الدستور، مسالك التفعيل
تبدو التجربة الدستورية المغربية منخرطة في إطار سياسي مميز، فبقدر تفاعلها مع الربيع العربي، فإنها نهضت على مقاربة تنتصر لمبدأ الإصلاح في ظل الاستمرارية، غير أن هذا لم يعفي الدستور المغربي من آثار موجة دستورانية الربيع العربي، فدستور 2011 يشكل حالة استثنائية، حيث تجاوب مع السياق الاحتجاجي، ومع فورة الطلب الاجتماعي الذي تسارع مع “حركة 20 فبراير”، وهو ما جعل صياغة الدستور تعود بقوة إلى تبني نفس برنامجي مختلف عن ذلك الذي طبع أجيالًا قديمة من الدساتير المغربية.
إن مقاربة الهوية الثقافية المغربية دستوريًا، يجعلنا نتساءل عن قابلية مضامين الوثيقة الدستورية للتفعيل، على أنها نص محدد لمساطر وآليات وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية للهوية الثقافية، ودور المؤسسات الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني في ذلك، في ظل التحول من خطاب تغيير الدستور إلى خطاب التغيير بالدستور.
إن المفهوم المعياري والحقوقي والثقافي للدستور يشكل تحولًا تاريخيًا حاسمًا في مسار استكمال بناء دولة المؤسسات، وترسيخ مبادئ وآليات الحكومة الجيدة والمواطنة الكاملة؛ وفي هذا السياق حمل الدستور المغربي لسنة 2011 مجموعة من المستجدات، وتناول التوجهات العامة ذات الصلة بالهوية الثقافية للمغرب، وذلك من خلال دسترة قيم ومبادئ عديدة تهم الروافد المتعددة للثقافة المغربية كما سبقت الإشارة إلى ذلك أعلاه.
وبذلك، يشدِّد الدستور الجديد في فصول مختلفة منه على أهمية الهوية الثقافية المغربية المتنوعة في إطار هوية وطنية موحدة، وعلى ضرورة إدراجها في الحياة العامة، من خلال تبني سياسات عمومية ذات صلة.
ومن أجل التأطير المؤسساتي لمسألة الهوية الثقافية وتدبير التعدد اللغوي والثقافي، نصت الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الدستور، على إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، مهمته على وجه الخصوص حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، لكونها تراثًا أصيلًا وإبداعًا معاصرًا ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات، ويحدد قانون تنظيمي صلاحيته وتركيبته وكيفيات سيره.
إلى جانب ذلك، نص الدستور على أن العربية هي اللغة الرسمية إلى جانب اللغة الأمازيغية على أن يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمية لهذه اللغة، إضافة إلى هذا حرص المشرع الدستوري على ضمان وتنمية واستعمال الحسانية وباقي اللهجات المستعملة في المغرب؛ وهو ما يمثل تطورًا وسعيًا إلى إعادة التوازن من خلال إحاطته بالشعب في تعدديته المركبة والمعقدة، والاعتراف لمختلف مكونات الشعب المغربي بحقها في الإبداع وتطوير ثقافتها الخاصة.
ونخلص من واقع الحال إلى فكرة مفادها، أن دستور 2011، وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي تميز به عن الدساتير السابقة، في ما يخص دسترة مسألة الهوية الثقافية، إلا أن غموضًا وأوجه ضعف اعترت هذه الوثيقة.
إضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه، فالإقرار الدستوري برسمية اللغة الأمازيغية هو إقرار بمكون رئيس وأساس للخصوصية الثقافية واللغوية المغربية إلى جانب اللغة العربية، ما يضعنا أمام ثنائية لغوية (عربية- أمازيغية) ، لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تدبير هذه الثنائية وتنمية اللغتين دون الوقوع في صراع أو إهمال أحداهما؟
ونضيف في هذا السياق، أن معيرة اللغة الأمازيغية في المغرب والانتقال بها من التداول الشفوي إلى المستوى المكتوب في المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام ما يزال ضعيفًا وخجولًا على عكس اللغة العربية. علمًا أن مكانة اللغة العربية ووضعها القانوني منذ دسترتها سنة 1962، ظل الموقف السلبي اتجاهها قائمًا في مقابل اللغة الفرنسية التي لا وضع قانوني لها، ويمكن التنبؤ الوضع نفسه بالنسبة إلى الغة الأمازيغية، على الرغم من وضعها القانوني في دستور 2011، إذا ظلت اللغة الفرنسية تفرض هيمنتها في كل المجالات والقطاعات.
وفي ظل هذه الوضعية، فإن سن سياسة لغوية وثقافية واضحة ومتزنة ومنسجمة مع المقتضيات الدستورية، أصبح مطلبًا مستعجلًا لتجسيد التنوع والغنى الثقافي، ومن أجل خلق مناخ ملائم ومتوازن بين مختلف مكونات الهوية الثقافية للمغرب.
وبناء على ما ذكر، يمكننا القول إن مسألة الهوية الثقافية في المغرب تتسم بالتعقيد والالتباس، ما يتطلب توفير المزيد من الضمانات والآليات القانونية والمؤسساتية الكفيلة بتحقيق نموذج هوياتي متكامل، والعمل على إقرار المزيد من الإجراءات التي تخدم بروز الهوية الثقافية المغربية بكل مكوناتها، خاصة من خلال تعبئة وسائل الإعلام العمومية والخاصة والمؤسسات التربوية.
وفي السياق ذاته، والمجتمع في حال انتقال، فقد فرضت دينامية الربيع العربي على المشرع الدستوري المغربي إيجاد أجوبة قانونية لقضية الهوية الثقافية، في محاولة لجبر الخواطر وتفادي الصراعات والاصطدامات بين مختلف المكونات والروافد؛ غير أن بلورة سياسات عمومية فعلية تضم وتشرك كل تلك التراكمات التاريخية والأبعاد الإثنية والجغرافية والروحية يبدو أمرًا في غاية الصعوبة والتركيب، لكن لا مناص منه، حتى تضطلع الممارسة الثقافية بتأدية أدوار، على أكثر من صعيد نفسي واجتماعي واقتصادي-تنموي.

لائحة المراجع المعتمدة
المملكة المغربية، “الدستور المغربي”، وزارة الاتصال، 2011.
هاشم محمد، “الهوية الثقافية والتعليم في المجتمع المصري (رؤية نقدية)”، مجلة كلية التربية، عدد يناير، الجزء الأول 2019.
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الخطة الشاملة للثقافة العربية، الطبعة الأولى، 1996.
ناصر بن سعيد بن سيف السيف، الهوية والثقافة، 2016.

  • مصطفى عنترة، “مفهوم الهوية في خطاب الحركة الأمازيغية”، ملف التنوع الثقافي والمواطنة المشتركة، الأزمنة الحديثة، أبريل 2008.
  • عباس الجراري، “مكونات الهوية الوطنية في دستور 2011 وفي سياق التطور الدستوري بالمغرب”، مداخلة قدمت في أعمال الندوة الدولية “التطور الدستوري للمغرب: الجذور التاريخية والتجليات الراهنة والرهانات المستقبلية”، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 10-11 يوليوز 2018.
  • إبراهيم بايزو، “الجمعيات الأمازيغية بين النضال الثقافي والتوظيف السياسي”، مجلة رهانات، العدد 40، 2016.
  • حسن طارق، “مبادئ ومقاربات في تقييم السياسات العمومية”، الوسيط من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، أبريل 2014.
    أمينة التوزاني، السياسة الثقافية في المغرب، منشورات ملتقى الطرق، الدار البيضاء، 2020.
    فاطمة يحياوي، “اللغة الأمازيغية الرسمية بين الازدواجية والثنائية”، مجلة رهانات، العدد 40، 2016.

مشاركة: