قيامة الورد

لقد أثار فينا بوعزيزي روح التمرد والرفض، وعدم الخنوع للإهانة والذل، والمضي بركب الثورة من أجل صون الكرامة..
وبعد أن انتقلت شرارة الثورة من تونس إلى الدول العربية، كنا جميعًا ننتظر لحظة اندلاعها في سورية، على أمل أن يتم الإصلاح والتغيير السياسي والفكري.
لعلّ معظمنا لم يكن يدرك مدى همجية النظام، ولا تعطشه للدماء، ولا أنه سيحول المدن والقرى إلى ركام، وإلى مناطق مهجورة.
انطلقت الثورة السورية، والجميع مترقب لما سوف تتمخض عنه الأحداث، في انتظار النصر القريب على الظلم، وردّ الحقوق إلى أهلها.
كنا نحلم جميعًا بأن تصبح مدننا مدنًا فاضلة، ووطننا وطن اليوتوبيا.
وبدأ التعاطف ينهال على الشعب السوري من طرف شعوب عربية كثيرة، وأخذت المدن تخرج بالتدريج من تحت سيطرة النظام، وهو ما شكل قفزة معنوية وملموسة، لشعب متعطشٍ للحرية، أعلن أخيرًا تحدّي الأجهزة الأمنية والاعتقالات والملاحقات. لقد كانت فرحةً كبيرة..
لم تظهر في بادئ الأمر الشعارات الدينية لدى الفصائل المعارضة، أو بالأحرى لم يظهر التوجه الحقيقي لكثيرٍ من الفصائل إلا بعد تدفق التمويل من الدول الداعمة..
وفي ذلك الوقت بدأ انسحاب جيش النظام من مدينتي وسيطرة الفصائل عليها.
لم يمض أسبوع على الانسحاب، حتى تلقيت خبر سرقة المنطقة التي يوجد فيها منزلي، من قريبة لي، أخبرتني بأن منزلي قد نُهب كل ما فيه، من أثاث، وأدوات، وكل ما خف أو ثقل، باستثناء المكتبة الكبيرة، لم يقتربوا منها.
مكتبتي التي اعتبرتها جزءًا من روحي وذاكرتي، وفيها الكثير من الكتب المتنوعة باللغتين العربية والإنكليزية، بكل ما تحتويه من تخصصات، الأدبية منها والفكرية والفلسفية والطبية والدينية.
أدركت حينها، أن من يسرق بشكل ممنهج، هو شخص جاهل، لا يدرك قيمة تلك الكتب مقارنةً بما سرقه من أثاث وأدوات كهربائية وألعاب أطفالي.
تذكرت حينها بسطات بيع الكتب، المنتشرة في شوارع العاصمة، وما توحي به من امتهان للكتب، المكدسة على الأرصفة، ومن إهانة للعلم والثقافة.
واستعدت (مشهد سوق الحرمية)، نعم، يسمى سوق الحرمية في العاصمة، لعل التسمية كانت لترسيخ مفهوم السرقة، كسلوك مباح ومقبول في المجتمع.
فبعد حوادث السرقة التي انتشرت في أحياء المدينة، أدركت أن هنالك ثورةً ستُسرق كما سُرقت البيوت، وأن أحلامنا ستُغتصب كما استبُيحت حرمة البيوت.
وبعد تلك الحوادث، بدأ الصراع ما بين الفصائل المسيطرة على مدينتي، ولا أدري إن كان صراعًا على اقتسام الغنائم، أم صراعًا بين الخير والشر.
كنت حينها أتواصل بشكل يومي مع عائلتي، للاطمئنان عليهم، ولمعرفة آخر الأخبار على أرض الواقع، وكان أخي هو الذي يوافيني بكافة التفاصيل والأحداث، إذ كان من المشاركين في التظاهرات، حاله حال باقي أفراد عائلتي الذين انخرطوا في التظاهرات والثورة.
فعلى الرغم من خسارته لوظيفته، كمدير في إحدى قطاعات الدولة، إلا أنه استمر مع الثورة، وبقي على ذلك على الرغم من ملاحقته من طرف الأجهزة الأمنية، حتى اتصل بي يومًا، ليخبرني أنه سيسافر عبر طرق التهريب إلى تركيا، فسألته متعجبةً عن الدافع وراء قراره هذا، ليجيب بأنه لن يتحمل أن يُوقَّف أو يُذلّ من أحد عناصر الفصائل وكأنه متهم، أو أن يُشهَر السلاح في وجهه من طرف شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، لا يملك من القوة سوى سلاحه، ويكاد لا يفقه شيئًا آخر على الإطلاق.
قال لي: أختي! لم يعد الوضع يطاق! لقد انحرف مسار الثورة، وبات الناشطون يعانون من الملاحقة والإهانة من طرف حملة السلاح!
وصل أخي إلى تركيا، وبدأتْ حملة التخوين لكل من ترك المدينة، إذ اعتبروا أنهم تخلوا عن الباقين.
لكن الأمر كان مختلفًا تمامًا عما كانوا يعتقدونه بحسب وجهة نظرهم.
لم يكن الأمر تخليًا أو تفريطًا، إنما كان بمنزلة صدمة من مآلات حمل السلاح، من طرف جهلة وتجار الثورة، فلم يبق للمثقف أو الثائر الحقيقي مكانٌ وسط الفوضى، وأمام واقع انحراف مسار الثورة، وسرقة أحلام الثوار والناشطين. إنه الخذلان لا أكثر!
أما في مكان إقامتي، فكانت معظم التجمعات النسائية لا يعنيها ما يحدث في سورية، سوى الحديث عن سلامة أهاليهن، كحديث عابر، والعودة بعدها للحديث ثانيةً عن آخر صيحات الموضة، وصناعة الحلوى، وما يميز المطبخ الشامي عن الحلبي، والمطبخ الحلبي عن الحمصي!
كنت وسط تلك المجموعات النسائية، أشعر بالغربة النفسية، أكثر من شعوري بالغربة عن وطني!
حاول بعض السوريين إقامة تجمعات ثورية، لاستقطاب بعض الأثرياء الخليجيين، من أجل التبرع للثورة، وبالفعل قام كثيرون من أهل الخير منهم بالتبرع بسخاء، وكانت تلك المبادرات فردية، بعيدة عن رعاية الدولة لها بتقديم الصالات لإقامة هذه التجمعات.
لكن ما حدث للأسف، هو أن بعض القائمين على هذه التجمعات والتبرعات، ممن يدعون أنهم مع الثورة، تورطوا في الاختلاس والسرقات، ما دفع بالكثيرين إلى التخلي عن دعم الثورة، وعن تقديم المساعدات للشعب السوري، ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر طبقة أثرياء الثورة، وتجار الحرب في الداخل والخارج.
كل تلك الأحداث شكلت مجتمعةً طعنةً قاسية في ظهر الثورة، وفي أفئدتنا وأرواحنا، إذ قصمت أحلامنا، وحولتها إلى كابوس شنيع، بتنا نعيشه يوميًا، دافعين ثمن امتطاء البعض لظهر الثورة، ومتاجرتهم بها، وبالضحايا، واللاجئين، بكل أسف.
وبعد مرور عدة سنوات، حدث أن دخلت في نقاش مع صديق، حول ظاهرة تسوّل الأطفال من بلدي في إسطنبول، فكان أن فاجأني بردّه، قائلًا إن هؤلاء هم عبارة عن مجموعة منظمة، أو عصابة، تمتهن الجريمة، وتمارس التسول بتنظيم متقن، كطريق سريع للغنى والثراء، وأنهم بتسوّلهم تحت مسمى اللاجئين، يستعطفون العامة لبذل المال، في سبيل تكوين ثروة للمديرين والمرشدين لهذه الجماعات المتسوّلة، في عملية إتجار رخيصة بالأطفال، واغتيال حقير للطفولة.
لا أعلم كيف يمكن شيطنة التعاطف حتى مع الفقراء والأطفال، حتى أصبحنا نفقد الثقة بصدق حاجة وعوز كل محتاج.
واستحضرني على ضوء حديثه قول ابن نباتة السعدي:
وما الفقر إلا للمذلة صاحب وما الناس إلا للغني صديق
صعدت المترو منذ فترة، وكنت أنتظر الوصول إلى موقفي الذي أقصده، فلمحت طفلًا من بلدي، في عمر العاشرة، لا ينتعل حذاءً، ولا حتى أجربة، وكان السواد يغطي قدميه.
أثارني المشهد لأتفحص ذلك الطفل، الذي لم يكن أيضًا يرتدي الكمامة (المفروضة على الجميع)، فيما كان يرتدي سترة بلا أزرار، استُبدلتْ بربطات معقودة ومهترئة.
تمعّنت في ثيابه الرثّة، وفي ملامح البؤس والأسى والضياع المرسومين على سحنته وملامحه الصغيرة، التي تعبّر عن لامبالاته بأي شيء من حوله، ولا بالوجهة التي يقصدها، أو من أين أتى، أو ما هو المستقبل المرسوم له من جانب الأقدار.
وحينما هممت بالنزول، تلاشت صورته عن خيالي لأتابع طريقي، حيث كان أمامي طريق طويل للوصول إلى منزلي.
لكن عندما انتشرت جائحة الكورونا في العالم، عادت صورة ذلك الطفل إلى ذاكرتي، وكان السؤال الذي يراودني: أين يُمضي المتسوّل وقته أثناء الحظر؟
هل يمتلك بيتًا ليطبق عليه حظر التجوال مع عائلته، أم أن الشوارع والأزقة هي منازلهم وملاذهم حين يلوذ الجميع لبيوتهم؟
ودائمًا ما يراودني أيضًا سؤال: لماذا على الأهل الإنجاب طالما سيدفعون بفلذات أكبادهم إلى الشوارع والطرقات للتسوّل واستجداء الناس للتعطف عليهم ببعض المال؟
وكيف لنا بالمرور بشوارع مكتظة بأطفال متسولين، ونحنا نشعر بالقلق والحذر من محاولة أحدهم خداعنا لانتشال محفظتنا من حيث لا ندري؟
هل تؤمّن الدول ملاجئ لهؤلاء المتسولين؟
أتساءل أيضًا كيف يكون شعور الطفل حين يخلق متسولًا، لا حقوق له، وعليه واجب واحد هو جمع المال لإعالة عائلته وسد رمقه؟
وأما ذلك الطفل السوري الذي لم يتجاوز السبع سنوات، وهو يسند ظهره إلى مكبّ القمامة وهو يبيع المناديل، هل يرتاد هذا الطفل المدرسة أم أن حتى حق التعليم قد سلبته منه هذه الحياة القاسية؟
لعل ما يبعث الأمل عندي بعد كل هذه التساؤلات، هو ما أخبرني به أحد الكتّاب يومًا ما عن بداية طفولته، وكيف أنه كان يمضيها في بيع الأجربة في طرقات دمشق بعد انتهاء دوام المدرسة، ليعود ببعض المال لوالدته التي تتذمر منه ما لم يعد لها بمال يكفي ثمن الطبخ كل يوم.
وكيف تبدل حاله، بسبب إصراره على متابعة تعليمه الجامعي، ليعمل من بعدها بكتابة مسلسلاته، وتغيرت بعدها حالته المادية، وصولًا لشرائه المنزل الذي كان يحلم به، ومتابعته مشوار الدفاع عن الفقراء في مسيرته كلها، والذي خسره بعد اندلاع الثورة.
وكما قال الشاعر أحيحة بن الحلاج:
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يَعيلُ
وفي إحدى المقاهي في اسطنبول كنا نحتسي القهوة أنا وصديقتي وزوجها وأطفالي، فاقترب منا طفل من بلدي يبلغ العاشرة من عمره تقريبًا، ليطلب المال، فأعطيته بعض المال كمساعدة، وتابعت الحديث مع أصدقائي ليقطع الحديث ابني قائلًا: ماما انظري إلى الطفل الذي أعطيته المال كيف ذهب للسمان واشترى بها السجائر التي يدخنها عند الزاوية.
اندهشنا جميعًا من فعل الطفل الصغير وعلقت صديقتي: تعيشي وتأكلي غيرها!
فضحكنا جميعًا، متعجبين من حال الطفل الذي رُمي في الطرقات للتسول، فتعلم التدخين، ولا أدري ما يمكن له التعلم من الشوارع في المستقبل من العادات السيئة! أم أنها – الشوارع – يا ترى مدارس الفقراء والمحتاجين؟
لعلّها الحياة التي لا تستطيع أن تكون عادلة مع جميع أفراد المجتمع، فكل ثراء فاحش لا بدّ أن يقابله فقر مدقع، ومع كل متخم بالثروة والمال هناك عوائل تعيش تحت خط الفقر، ويفقد أطفالها أهم حقوقهم بالعيش الكريم، والتمتع بحق التعليم، والاستقرار النفسي، إضافة إلى حرمانهم من أن يعيشوا طفولتهم في اللعب مع أقرانهم، وحرمانهم من حقهم في الرعاية والتربية، بعيدًا عن العمل والجهد لتأمين لقمة العيش الكريم، ودفعهم لامتهان التسوّل، وهذه أيضًا من مفرزات الحرب والتهجير.
وصدق الشاعر أبو بكر الإشبيلي بقوله:
الفقر في أوطاننا غربة والمال في الغربة أوطان
فكيف بمن جمعت عليه لعنات الفقر والغربة والحرب معًا؟
لعله يكون الحي الميت بيننا!

وفي سياق آخر، هناك آثار نفسية طبعتها الحرب في روحي ووجداني، منها ما سأذكره حول الرعب الذي خلّفته الحرب داخلي.
كنت قبل اندلاع الثورة السورية قد أدمنت متابعة أفلام الرعب والأكشن إلى درجة العشق، فلا تكاد تمر ليلة دون أن أغرق في نشوة متابعة أحد هذه الأفلام المثيرة جدًا بالنسبة إليَّ.
كانت مشاهد القتل والتعذيب والترهيب والفزع هي قمة ما أصبو إليه من متعة.
بدأتْ الثورة السورية، وبدأتُ أنشغل بأحداثها وتطوراتها، وأتابع تفاصيلها، والمجازر التي مورست ضد المدنيين، والقصف والكيماوي والهولوكوست السوري.
كنت في أثناء نشاطي في الثورة أجمع صور الشهداء والأطفال الذين لقوا حتفهم بالقتل والتعذيب والمجازر، وبقيت سنتين على هذه الحال.
لكني توقفت فجأة، عندما أصبح العدد هائلًا، لا يكاد أحد يستطيع حصر تلك الأعداد والصور.
وتابعت أحداث الثورة بعيدًا عن حفظ صور الشهداء.
لم أدرك أثر ما غرسته هذه الصور في عقلي الباطن حينها إلا مع مرور الوقت.
لقد أصبحت مع الوقت شخصًا يهاب متابعة أفلام الرعب، ويخشى من سماع صوت التلفاز أثناء عرض الفيلم!
أصبح لدي فوبيا من أفلام الرعب، ومن القتل والمجازر والتعذيب.
لقد حُرمت من متابعة أفلامي المحببة لأعيشها في الواقع، وأحصي عدد القتلى والجرحى والمعوقين، ولأضع يداي على عيناي لو صدف وشاهدت بغير قصد لقطة رعب، فأصرخ وأهم فورًا لإغلاق التلفاز!
فعلى الرغم من حبي للمغامرة، إلا أن هذه الفوبيا، وحالة الرعب من الرعب أصبحت تلازمني أينما ذهبت وحيثما حللت.
وصرت أتجنب مشاهدة مقاطع العنف والقتل والرعب، لأحفظ ما تبقى من روحي الهشة، التي أنهكتها الحرب، وقصمت ظهرها مشاهد الرعب الواقعية.

ومن إحدى تبعات الثورة الحادثة التالية:
كنت قد توجهتُ بصحبة زوجي – طليقي الآن- إلى القاضي الشرعي كي أطلب الطلاق.
حدث ذلك في المملكة العربية السعودية، حيث كانت إقامتنا.
كان القاضي ذكوريًا حتى النخاع، حيث انحاز لزوجي، متذرّعًا بأن بلدي بلد حرب ولن يسمح لي بأخذ أولادي إليه.
ولا إلى تركيا أيضًا، حيث إن الذهاب إلى هذه الأخيرة يعني الإيواء في مخيمات واهية.
وبناءً على ذلك، كان قراره هو الإبقاء على الأولاد مع أبيهم في السعودية.
ورحيلي أنا إلى حيث شئت.
صرخت في وجهه متألمةً باكية!
قلت له: بلدي ليست بلد حرب، وخرجت مسرعة، ثم قلت في نفسي: تبًا لقضاء سينتزع مني أمومتي. لا لشيء سوى أنني سورية، وأنني ابنة هذا البلد الذي استباحته حرب ضروس، أودت ببشره وحجره!
الحرب التي سلبت من روحي ما سلبت.
لا أدري هل أوجعني حينما قال إن بلدي بلد حرب، أم أوجعني أكثر حين قرر حرماني من حضانة أطفالي.
أكاد أغرق في بحر دموعي.
أدركت متأخرة بأن حريتي ثمنها أمومتي.
بكيت بمرارة وطني المغتال الذي وصلت لعنات حربه لتصيب حضانة أطفالي برصاصة قاتلة!
ولأنني أنثى وأم في زمن الحرب، فأنا لا أملك شيئًا سوى الانتظار.
وببساطة، لم أعد أعرف ما هو الوقت المناسب للمطالبة بحريتنا، ولا المكان المناسب للمطالبة فيه بعدالتنا.
أم أنهما هما الآخران -الزمان والمكان- باتا يكيلان بمكيال واحد!
أتراني ثرت وتمردت في ذلك الزمن المشوه وذاك المكان الرمادي؟

وأذكر قصة لصديقة لي في الغوطة الشرقية، عاصرت الثورة والحصار والقصف، وقد مرّت بمحنة استشهاد زوجها بالقصف الأسدي على الغوطة، وفقدته وهي صغيرة، وأم لثلاثة أطفال، وأصبحت أرملة بعمر صغير، وكانت تشارك أهل الزوج السكن ذاته.
ومن المتعارف عليه عندنا أنه عند وفاة الزوج تعود الزوجة إلى بيت أهلها، فهم يرون أن أهل الزوج يصبحون غرباء ولا يمكنها مشاركة الغرباء أخوة الزوج في السكن.
فاضطرّت إلى اللحاق بأهلها خارج الغوطة، وحاولت اصطحاب أطفالها معها وإبقاءهم في حضانتها، إلا أن أهل الزوج رفضوا ذلك، فهؤلاء أولادهم ولا يمكن لهم أن يربوا في بيت من غير عصبة الدم، هكذا هي العادات والتقاليد البالية والتي رسختها حالة الحرب وأظهرت الاستقواء على العنصر الأضعف وهو المرأة، وسلبها لأهم حقوقها وهي حضانة الأطفال.
لحقت صديقتي بأهلها الذين تركوا سورية، قاصدين العيش بلبنان، وبدأت تتدهور حالتها النفسية في إثر فقدانها لزوجها وأطفالها في آن واحد، وحتى وطنها الذي اعتادت العيش فيه.
لا أدري هل كنا بحاجة لثورة سياسية فحسب، أم كنا نحتاج معها لثورة مجتمعية وفكرية أيضًا، ثورة على كل مفاهيمنا؟
وبالعودة إلى الحديث عن سرقة منزلي وبقاء المكتبة، والتي أعدّها أهم ممتلكاتي، فبعد سيطرة الفصائل وبدء قصف النظام السوري للمناطق الخارجة عن سيطرته، بدأت الكثير من العوائل تنزح إلى داخل المدينة، وبعيدًا عن أطرافها، خوفًا من أي هجوم مباغت على الأطراف، بدأت تتشكل لجان لتوزيع البيوت الفارغة من سكانها على النازحين والمدمرة بيوتهم.
فكان نصيب منزلي لإحدى العائلات لتسكن فيه، وكانت الأم في تلك العائلة تستمتع بالقراءة، فأخذت تمضي وقتها في القراءة، وأرسلت تتشكرنا على هذه النعمة وسط الحرب والحصار، وبعدها بأشهر قليلة كانت هناك طالبات في كلية الطب اضطررن إلى الانقطاع عن الدراسة وهنّ محاصرات في المدينة، فأرسلن إليّ لكي يستأذنّني في استعارة كتب الطب من مكتبتي لمتابعة الدراسة وعدم الانقطاع ونسيان الطب إلى حين عودتهن إلى كلية الطب.
قد بعث ذلك الأمر في نفسي الأمل بجيل الشباب على الرغم من الحصار والقصف فهو ما زال يبحث عن العلم والثقافة وتنمية الذات.
حمدت الله أن الذين سرقوا البيت لم يأخذوا الكتب للفّ السندويش وبيعها ولم تكن من ضمن غنائمهم.
فعلى الرغم مما خلّفته الثورة من سلبيات فينا، هناك إيجابيات جمة، منها تعرّفي على الكثير من الأصدقاء، الذين جمعتني بهم الثورة، ومع مرور الوقت تحولوا إلى أشخاص مقربين جدًا تعلمت منهم وتعلموا مني.
تعرّفت إلى مناطقهم، وإلى قراهم، وإلى عاداتهم ولهجاتهم وتعاطفت مع كثيرين منهم.
تعاطفت مع مدن وقرى سورية، بعضها لم أكن قد سمعت به من قبل، ورسخت ذكراها في ذاكرتي..
أكثر ما أثر بي مشاهد التعذيب في سجون النظام، والمجازر التي ارتكبها في حق المدنيين والأطفال، والمشاهد المنفِّرة من طرف تنظيم الدولة داعش من تعذيب وقتل وتقطيع ورجم.
لا تكاد تغيب عن ذاكرتي تلك المرأة التي رُجمت أمام والدها بطريقة وحشية، وكانت تساق كالبهائم إلى حفرة صغيرة، ليرموها بالحجارة ويشاركهم الوالد في ذلك.
لا أعلم ما هو الذنب الذي يدفع والدًا لقتل فلذة كبده بهذه الطريقة الوحشية، وأن يتجاوز غريزة الأبوة، وتلك الذكريات الطويلة مع ابنته، منذ أول صرخة صدحت بها باكية لتعلن خروجها إلى الحياة، ليودعها بطريقة لاإنسانية ودموية، وبصرخة باكية لتسلم روحها إلى الباري.
هل هو حجر أم أنه لا ينتمي للجنس البشري أم هو بشري متوحش؟
هل كنا نعيش بين هؤلاء الوحوش لكن مع وقف التنفيذ لوحشيتهم؟
كيف لقلبي أن يتحمل مشهد قطع اليد كحدّ على السرقة في مناطق تنظيم القاعدة وهنالك على الجانب الآخر في المختبرات الغربية والتي تسعى إلى الوصول لزراعة الأعضاء واستعادة المعوقين لحياتهم الطبيعية بأطراف طبيعية أو صناعية؟
تعلمت من الثورة الكثير الكثير، ومنها أن الحياة قصيرة، وأن الحياة لا تعطي الكثير من الفرص.
فلا وقت فيها للانتظار والخنوع تحت مسمى الصبر والخضوع لحياة لا أرغب بها ولا تشبهني.
لكي أعيش حياتي الحقيقية لابد أن تكون تشبهني وتشبه قناعاتي وفكري، وما أرغب به هو أن أكون قوية، فكل ما هو مؤلم ومحزن ومخيف قد عاصرناه وشاهدناه ولم يبق ما هو أقسى لنعايشه.
انتقلت إلى تركيا لأتابع دراستي واصطحبت أولادي معي، وحصلت على طلاقي حينها، وتخرجت من بعد طلاقي بشهرين من كلية الحقوق بمعدل جيد جدًا.
لم يقف الطلاق في طريق تحقيق أهدافي، ولا حتى التغرب عن وطني، ولا الحرب، ولا الضغوط، ولا المسؤولية في مدينة كبيرة، وكنت أحتاج أن أمارس دور الأب والأم معًا إلى جانب دراستي.
لم أكن أكتفي بالقراءة، إنما بحضور الندوات والمحاضرات، فتوسعت آفاقي، وبدأت تتكون لدي قناعة تنمو يومًا بعد يوم حول خلعي للحجاب، حيث لم أكن أرى أن الحجاب هو فرض تعبدي، إنما فرض لسبب اجتماعي كحل لمشكلة تعرض لها الصحابة.
حاولت كثيرًا أن أبقى على حجابي، لكنه لم يكن يشبهني قط، أو يشبه قناعاتي، فلقد وضعته وأنا صغيرة في السن، ولم أكن مؤهلة حينها للاختيار.
أردت أن يأتي ذلك اليوم الذي أثور فيه على كل ما أرفضه، ثورة شبيهة بهدير الثورة السورية، ثورة رأي، وثورة حرية، وثورة تُفهم الجميع أننا أحياء وعتقاء ولسنا بعبيد.
ثورة تشبه ما نحلم به، لكن علينا أن نحذر من انحراف مسارها أو ضياع بوصلتها.
ثورة نعلم تمامًا أننا سندفع فيها ثمن التغيير، وضريبة التفكير والخروج عن المألوف والمطالبة بالحقوق وقد يكون ثمنًا باهظًا ومكلفًا.
ولكننا سنحاول من خلالها أن نكون نحن، وكما نحلم ونرغب في أن نكون.
ولسنا أحدًا سوانا، سنكون نحن فحسب.
وسنزهر يومًا ما.

مشاركة: