إنسانيتي وثورتي قبل كل شيء

خطة الهروب
الثلاثاء 14 شباط/ فبراير 2012 كنت في دمشق، أختي تتصل، قالت لي (بيسلمو عليك الغايبين، وبيقولولك معك لبعد بكرا تكوني برا البلد) فلم يعودوا قادرين على حمايتنا أكثر من ذلك، لقد كشف الأمر.
كانت أختي تتحدث عن أخي سالم المتخفّي منذ 5 أشهر تقريبًا ولا نعرف عنه شيئًا، أذكر أن أمي في تلك الفترة كانت مطمئنة أكثر منا جميعًا على الرغم من اختفائه.
خلال ذلك الاتصال قالت أختي: إما أن تأتي إلى إدلب أو فكري إلى أين تريدين الخروج! في تلك اللحظة شعرت أنني إذا خرجت من سوريا لن أعود قبل سنوات لأنني أعرف إجرام هذا النظام خاصة من خلال عملي في التلفزيون السوري طيلة 8 سنوات، فكلنا تحت المهجر، وقبضة الأمن فوق رقابنا دومًا، وفي 16 شباط/ فبراير 2016 بدأت تغريبتي السورية.
صرخات إدلب
(بشار ولاك ما بدنا إياك) بلهجة أهل إدلب، وهنا أعود للأشهر الأولى لانطلاق الثورة السورية، ما زال هذا الهتاف يتردد صداه في أذني، كنا نتجمهر في النقاط المتفق عليها للتظاهر، وفي إحدى المرات عند جامع سعد بن أبي وقاص تجمعنا للمسير، وسرنا مع خط التظاهرة والدموع تملأ عيناي فرحًا، إني أصرخ وأتنفس “حرية”. كنا نسير هاتفين ملثمين خوفًا من مخابرات النظام، نعم كنت أسمع أصوات إطلاق النار من بعيد، لكن الإحساس الذي كان يغمرني لم أعرفه سابقًا؛ خليط من الخوف والفرح والشجاعة والقوة.
تنفيذ الخطة
قلت لأختي في ذلك الاتصال: سأتدبر الأمر، (خفت أن أفصح عبر الهاتف عن مكان وجهتي)، كانت الأردن خطتي، وبدأت بالترتيب والتواصل مع صديقتي في عمان، هي صديقة أردنية من أم سورية، كنا نلتقي في دمشق، وأعلمتها بزياتي المفاجئة لها خلال يومين.
أمان مؤقت
وصلت عمان -أذكر تلك الليلة جيدًا- بعد معاناة وساعات من التحقيق والتدقيق عند الحدود البرية للنظام، كنت أرتعد خوفًا من اكتشافهم انشقاق أخي وتخفيه وربط ذلك بخروجي، لكن ما ساعدني هو حالة الفوضى التي كان يعيشها النظام آنذاك، خاصةً أنه كان هناك الكثير من الضباط المنشقين في تلك الفترة من الرتب المتوسطة، إضافة إلى أن النظام كان يحاول أن يلمع صورته في محاولة بائسة لإخماد الثورة، عبرت الحدود -ولم أكن أظن أني سأفعلها- وتنفست الصعداء، كانت صديقتي بانتظاري.
سوق العمل الإعلامي في الأردن لا بأس به، خاصة القنوات العراقية، حيث عملت في الإعلام العراقي منها قناة الشرقية في ظل ضعف الإعلام السوري الثوري المحترف ولعل هذا أحد أهم التحديات التي واجهتني وواجهت الكثيرين من العاملين المحترفين في الإعلام بعد انطلاق الثورة.
بعد ستة أشهر من وجودي في الأردن زرت أهلي في تركيا لأول مرة بعد تهجيري من سوريا، وهناك رأيت أخي الذي كان يقاتل في صفوف الجيش الحر ضمن لواء شهداء إدلب، والذي كان يتردد لتركيا لزيارة زوجته وأطفاله وأهلي أيضًا، كان ذلك في رمضان 2012 ولم أكن أعلم أنها ستكون المرة الأخيرة التي أرى أخي فيها.
جرح لا يندمل
1 أيلول/ سبتمبر هو تاريخ ميلاد أخي سالم وقدره أن يكون 1 أيلول/ سبتمبر 2012 تاريخ استشهاده، كنت في الأردن ولم نستطع أنا وأختي أو زوجته التواصل معه في ذلك اليوم، ظننا أنه على الجبهات أو ربما في مناطق خارج التغطية، لم يخطر في بالي أبدًا أنه استشهد، وأختي كانت تبحث عنه في مشافي تركيا على أمل أنه مصاب، فكلانا كان يرفض الاقتناع بخبر استشهاده على الرغم من الرسائل الكثيرة التي وصلت والتي أكدت ذلك. سيظل هذا التاريخ محفورًا بذاكرتي ما حييت، بقيت خمس سنوات بعد رحيله لا أقوى على لفظ اسمه، وذكرى رحليه التاسعة ستأتي بعد أشهر قليلة ومازلت أشعر بحرقة وغصة في الحديث عنه، حتى أنني ترددت كثيرًا قبل أن أكتب لكم هذا، لكن رسالتي إلى كل من مرّ بتجارب مشابهة -وهم ملايين في سوريا- أنه علينا نحن ذوو الشهداء ألا نكف عن تخليد ذكراهم والحديث عنهم دائمًا، وأعلم أن جراحنا النازفة لن تندمل حتى الخلاص من هذا النظام المجرم والعودة لبلدنا حرًا مستقلًا.

تغريبة مستمرة
وفي تاريخ 05 يناير 2015 حطّت رحالي مرة أخرى بتغريبة جديدة إلى تركيا بعد حصولي على فرصة عمل لدى إحدى القنوات العراقية أيضًا، حيث هرب أهلي إلى هناك منذ خروجي إلى عمان، ثلاث سنوات في تهجيري لم تغب الثورة لحظة عن حياتي، كانت موجودة دائمًا في عملي وفي نقاشاتي مع أصدقائي.

البدايات السياسية
في تغريبتي تعرفت على الكثير من الشخصيات المعارضة خلال استضافتي لهم في الأخبار وفي برامجي المخصصة للشأن السوري، كنت مركزةً على تطوير مسيرتي المهنية في العمل الإعلامي، ولم يكن لدي رغبةَ الانخراط في العمل السياسي لتعقيدات المشهد، لكن خلال تجربتي العملية طيلة تلك السنوات وزيادة وعيي السياسي وإحساسي بالمسؤولية نحو قضيتنا في ظل ضعف المشاركة الشبابية والنسائية، دخلت الائتلاف الوطني السوري بتوسعة نسائية في نهاية عام 2016.
هذه الخطوة نحو الحياة السياسية والتي أُلام عليها وضعتني أمام موجة من الهجمات الإعلامية من طرف جهات كانت تسعى دوما لإعطاء الثورة طابعًا إسلاميًا يهدف إلى تخريبها وتشويهها، كالنصرة وداعش وأخواتها ومن وصم الثورة بالطائفية، كلها لا علاقة لها بالثورة السورية ولا تمثل الشعب السوري، وإنما أجندات خُلقت لمصلحة النظام وتشويه صورة الثورة أمام العالم، وتأكيدًا على ذلك، فإن ضابطًا منشقًا من ريف إدلب قرية الفوعة وهو من الطائفة الشيعية استشهد مع أخي ودفناه معه.
كان دخولي إلى العمل السياسي انعطافًا كبيرًا في حياتي على جميع الأصعدة، خاصة أنه في تلك المرحلة كانت روسيا متدخلة عسكريًا بشكل مباشر في سوريا، وبدأنا نخسر الأراضي المحرّرة بفعل الهجمات الروسية، والعملية السياسية متوقفة ولا يوجد مفاوضات وأفق مسدودة، ومناطق تسقط، ومحاصرون ومهجّرون، وقوارب الموت، تشكيلات سياسية تظهر وأخرى تختفي، معارضة تتفكك، وأجندات دولية واضحة نُقلت إلى فوق الطاولة، والصوت السوري بين هذه الأجندات هو الأضعف، ومع كل هذه الصورة السوداوية ولحظات اليأس الكبيرة التي كنا نمرّ فيها، وأخرى نفقد الأمل فيها، لم أتراجع عن خطوتي بالعمل السياسي بل شعرت بمسؤولية أكبر تجاه سوريا، وسأبقى أحاول أن أقدم شيئا.
قد يقول البعض هنا أن أجسام المعارضة لم تقدم شيئًا، وتختلف وجهات النظر في ذلك، مع اعترافي بتقصير الأجسام السياسية وقلة الخبرة وجميع مشكلات المعارضة التي نعرفها ولست في صدد سردها، لكن لدي نظرة متفائلة بتوحيد البوصلة والعمل معًا كقوى للثورة والمعارضة، فهو الخيار الأفضل والأهم للمواجهة وأن نكفّ عن إقصاء وتخوين بعضنا بعضًا، كلنا في نفس المركب (رجلينا بالفلقة سوا)!

محطات جديدة
بعد ذلك، شاركت في مؤتمر الرياض 2 ومثلت الائتلاف الوطني السوري في هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، ما أدى إلى مصاعب إضافية، خاصة أني تفرغت بالكامل للعمل السياسي. وهنا تعرضت أيضًا لحملة تشويه وتخوين أخرى.
أعباء مضاعفة أُضيفت لي منذ عدة أشهر، حيث انتُخبت نائبة لرئيس الائتلاف الوطني، ونظرًا لكوني سيدة تكون الاعتبارات دائمًا أكبر، والتحديات أكثر، ولن أجمّل الصورة، ففي مجتمعاتنا على السيدات العاملات في الشأن العام عمومًا والسياسيات منهن خصوصًا أن يثبتن جدارتهن وكفاءاتهن كونهن الأكثر عرضة للتشهير والشتائم وتشويه السمعة، فما بالك بسيدة ليبرالية من إدلب تصل إلى موقع قيادي في أجسام المعارضة السياسية التي تتعرض للشتائم والسبّ مع تحميل تلك الأجسام مسؤولية تأخر الحل، ومسؤولية مشاركتها في مسارات لا يرى الكثير من السوريين أي نتيجة منها بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة، وبالتأكيد لا ألقي اللوم على السوريين، خاصة بعد كل ما مروا به من تهجير وتدميرٍ لمدنهم، ومليون شهيد وعشرات آلاف المعتقلين.

الذكرى العاشرة في سوريا
في الذكرى العاشرة للثورة حيث كنت موجودة في الداخل السوري في المناطق المحررة، وعلى الرغم من التحديات والوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني فيها إلا أن الوضع المعيشي على الأقل أفضل كثيرًا من مناطق النظام، فلا طوابير للخبز أو الوقود، هناك احتفلنا بذكرى الثورة السورية العظيمة، وعمّت التظاهرات بالهتافات الأولى للثورة كل المناطق، واحتشد السوريون بالآلاف ليجدِّدوا العهد وليقولوا للعالم والمجتمع الدولي أن الثورة مستمرة حتى رحيل النظام وكل التنظيمات الإرهابية والميليشيات الطائفية وبناء سورية دولة الحرية والديمقراطية والعدالة.
لا بدّ أن أقول هنا إن الربيع العربي عرّى الأنظمة المستبدة وكسر حاجز الصمت ودمر جمهوريات الرعب، ورغم كل محاولات تشويهه أثبت أن إرادة الشعوب هي الأقوى، وصرخته المطالِبة بالحرية والكرامة انتصار في حد ذاته، ربما ظنّ صناع القرار في العالم أنهم بتخليهم عن الشعب السوري الثائر سيجعلون منه عبرة لشعوب العالم المضطهَدة، وليقولوا لهم إن هذا مصير أي شعب ينتفض ضد حاكمه المستبد ويحلم بأن يصبح وطنه بلدًا ديمقراطيًا متقدمًا؛ لكن السوريين، وعلى الرغم من كل الخسارات والتشرد والتهجير، أكّدوا أنهم مثال لشعوب العالم في المطالبة بالحقوق وإرادة الشعب السوري وعزيمته الصلبة ستُدرَّس يومًا ما في كتب التاريخ على أنها واحدة من أعظم الثورات.
ربما من يقرأ كلماتي يظن أني أتحدث برفاهية أو أني لا أشعر بآلام الناس، قد لا تقارن تجربتي الشخصية خلال عشر سنوات من الثورة بتجارب مئات آلاف السوريين، ولكني أقول وبكل صراحة أني تعرضت لكثير من الآلام والأحزان والضغوطات، فقدت أخي الوحيد وقُصف منزل طفولتي بالبراميل وفيه ما تبقى لي من ذكريات مع أسرتي وهُجّرت من بلدي قسرًا، ولا أستطيع زيارة مدينتي إدلب لوجود هيئة تحرير الشام الإرهابية التي حاولت صبغ إدلب بالسواد على الرغم من أن أهالي المحافظة حتى اليوم يخرجون بتظاهرات ضد الهيئة ومشروعها الذي لا يمت لثورتنا بصلة، وأقول لهم: سنعود وسترحلون أنتم والأسد.
ألم جديد وأمل متجدد
يبدو أن القدر كتب لي أن أفقد أحبتي في منفاي-وهذا حال كل من وقف في صفوف الثورة- نموت في الغربة حسرةً وكمدًا على فراق أحبتنا فقد رحلت أمي منذ أشهر قليلة في غربتها وتهجيرها القسري لتكون بجوار سالم دون أن أودعها أو أزور قبرها هي أيضًا، ليفتح في قلبي جرح أخر كحال الملايين من السوريين، ومع ذلك تبقى تجربتي أقل كثيرًا من النازحين في المخيمات وكلهم أمل أن يعيشوا في سوريا الحرة والديمقراطية مستقبلًا.
في الختام
كل ما سبق لمحة مصغّرة وومضات مما مررت به على جميع الأصعدة إنسانيًا ومهنيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وسأعود لأسرد التفاصيل يومًا ما.

مشاركة: