على ضفاف حلم وثورة

ربما أستطيع القول بثقة إن ثورتي بدأت قبل أن تلتهم النيران جسد البوعزيزي، وقبل أن يعلن المضطهَدون بأن الأوان قد حان لخلع ثوب الاستكانة والخوف والانطلاق نحو حلم ارتسم صورًا شتى في المِخيالِ الجمّعي العربي المُستَبدْ به.
كنت لا أزال أعيش في دوامة الاستدعاءات الأمنية والاستباحة، وقد منعتني أجهزة الأمن السورية، قبل ستّ سنوات من انطلاق الثورة السورية، من السفر وقيدت حركتي ونشاطي وعملي الصحفي، وحولت باب بيتي لمزار يؤّمّه مخبرو أمن الدولة والأمن العسكري والسياسي في مدينتي دوما، بسبب نشاطي الحقوقي وثورتي المعلنة على واقع حقوق الإنسان والمرأة خاصة وقبله نشاطي السياسي.
نشأت في بيئة ذات طابع محافظ اجتماعيًا ومفتوح سياسيًا، كان عدد منتسبي حزب السلطة فيها قليل ومعروف وموصوم، تجد فيها الشيوعي والناصري والقومي الاجتماعي وسواهم، وفي فترة لاحقة تجد فيها الإخواني، وعلى أنقاضه السلفي الوهابي الذي تحول إلى الجهادي، وعلا صوته خلال فترة الثورة وفرصة جمع الغنائم. كان لحزب الاتحاد الاشتراكي الانتشار الأوسع في مدينتي منذ بداية السبعينيات، حتى لا يكاد يخلو بيت من أحد منتسبيه، لم أكمل الرابعة عشر من عمري حين نُسّبت إلى صفوفه، وقد كان يضم عددًا غير قليل من الإناث.
كان للعمل السياسي بصمته في تكويني الفكري التحليلي وفي توسيع مداركي، وقد ترك بصماته في سلوكي. وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع إقناعي بالاستمرار في العمل بعد خمس سنوات من انخراطي فيه وبلوغي مرحلة القدرة على النقد وإدراك ذاتي الشخصية وفهمها. فقد بدا لي كالقيد، جامد الأفكار، رهين سريته وناصريته، فيما كنت أميل إلى المساحات المفتوحة في الفكر الذي يشمل الإنسان كإنسان ومواطن من دون أي إطار.
جسّد عملي في جمعية حقوق الإنسان في سوريا مطلع عام 2003 شكلًا تعبيريًا أشمل عن ميولي، حيث التقيت بالناشطة الحقوقية رزان زيتونة في حراك وتظاهرات “النخب” مع تفتح ربيع دمشق عام 2001، وكانت جسرًا عبوريًا باتجاه العمل الحقوقي ضمن الجمعية.
تبلورت معارفي من خلال كمِّ الدورات التدريبية التخصصية التي أتاحها لي وجودي ضمن كوادر الجمعية، وتبلور بشكل أكثر تكثيفًا فهمي لطابع النظام السياسي السوري. عمّ ظنٌ في تلك الفترة عن تراخي قبضة النظام الأمنية، حيث سمح النظام ببعض التحركات والأنشطة في الشارع دعمًا لبعض القضايا القومية، وهو ما تغيّر جذريًا مع بدء التحول في موضوع تلك الأنشطة، عبّر عنه النظام من خلال مواجهته الشرسة لاعتصام النشطاء السوريين في يوم المعتقل السياسي في 12/6/2004، ولاحقًا من خلال مواجهته لاعتصام ساحة عرنوس 9/12/2004، بمناسبة الذكرى السادسة والخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي جرى وسط حضور دبلوماسي غربي. اعتصامان دعت إليهما أحزاب سياسية ومنظمة حقوقية، ومع ذلك هوجِم المعتصمون وتعرض عدد كبير منهم للضرب والاعتقال.
كنت حاضرة مع زملاء لي في الجمعية وزميلات في الحراك النسوي ضمن “لجنة دعم قضايا المرأة”، أحمل بيدي بيانًا يتحدث عن واقع المرأة السورية، ويطالب بتعديل القوانين التمييزية ضدها، كنت أهمُّ بتوزيعه عندما خُطفت الأوراق من يدي بعنف، وركِلتُ قبل أن أنجح بالهرب، لقد تشكلت خبراتنا من خلال هذين الاعتصامين كنشطاء سياسيين وحقوقيين، وعرفنا بدقة المساحة الممنوحة للتنفيس وما يمكن أن يصل إليه هذا النظام عندما تقترب بشكل حقيقي من محرماته.
لم تكن القيود الاجتماعية التي واجهتني كامرأة وناشطة مدنية أقل حدةً من ممارسات أجهزة الأمن وسلوك النظام، فلم أُعطَ وسام التقدير من أحد، بل كان نشاطي الحقوقي المعلن مثار غضب، وتذمر، وخيفة من محيطي الاجتماعي الذي يتوقع أن يتحمل أمنيًا وربما اجتماعيًا نتائج نزوعي ذاك.
كنت أرصد باهتمام الاحتجاجات في تونس ومن ثم مصر وأعُدّها مفصلًا مهمًا في السياق العام سيعمّ تأثيره التحرري كامل المنطقة، إن استطاع إحداث تغير نوعيٍّ وعميقٍ في بنية الأنظمة السياسية. نصرٌ سريع انتهى بتنحي الرئيسين وأعطى إشارات قوية بأن أحجار “الدومينو” هذه ستتهاوى وراء بعضها في المنطقة، فكان محركًا قويًا لشرائح وطبقات من السوريين والسوريات وخاصة الشباب ممن ضاقوا ذرعًا بأعباء الاستبداد على الرغم من أنه لم يكن لهم أي نشاط سياسي سابق.
بدأت إرهاصات التحرك في اعتصامات وتظاهرات دمشق الأولى، تبعتها أحداث درعا، وتتابع الانفجار في باقي المناطق. لم تخرج التظاهرات في الريف الدمشقي عفوية، بل سبقتها فترة تحضيرية كنت أتابع بعض فصولها عبر اجتماعات سرية في دوما التي اختيرت كنقطة تحرك وتجمع لكامل الريف الدمشقي بسبب صعوبة الوصول إلى العاصمة. ضمت الاجتماعات السرية عددًا من الناشطين السياسيين السابقين، لم يتح لي حضور أي من تلك الاجتماعات معهم، لكنني كنت على علم بتفاصيل ما يدور، وهو ما تغير بعد انطلاق التظاهرة الأولى حيث شاركت في الاجتماعات بعد دعوة وُجِّهت من رأس النظام إلى بعض الشخصيات التمثيلية من المدينة لسماع مطالبهم. شاركتُ في صوغ بيان الردّ الذي أصرينا على أن تكون مطالبنا فيه سياسية عامة، وليست مناطقية كما أراد لتشتيت الحراك السوري وتحويله إلى مطالبات خدمية عابرة، وقد تمحورت حول: رفع قانون الطوارئ، حفظ الحق بالتظاهر السلمي، عودة الجيش إلى ثكناته، وقف الاعتقال والإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والسجناء السياسيين السابقين، محاسبة قاتلي المتظاهرين وغيرها. ضم الاجتماع نحو 17 شخصًا، كنت السيدة الوحيدة بينهم.
ومع انبلاج صباح 25 آذار/ مارس 2011 كانت التظاهرة الأولى، نزلت ميمِّمة وجهي ساحة البلدية حيث موقع التظاهرة، وقفت على الرصيف أتأمل المشاركين، أعرف معظمهم، الوجوه النسائية قليلة جدًا، بينهم سيدتان أختان أعرفهما جيدًا، انضممت إليهما، سيدتان أخريين بعد ساعة من الاعتصام، فرحُ من حسمَ ترددهِ، وحذر من امتلك ناصية الحكمة، صوت الدكتور الشهيد عدنان وهبة يصدح بالهتافات محمولًا على الأكتاف، اهتز وجداني على وقع ازدياد الأعداد، وكاميرتي تجول، شعور بالتفاؤل والثقة يتملكني ويتجاوز إحساسي بالخوف الذي لم يزده وصول سيارة الأمن برفقة أحد المشايخ.
وقف الضابط يصرخ في الناس “حددوا مطالبكم وأخبرونا بها، عودوا إلى بيوتكم” بدأت الهتافات تتصاعد (حرية، حرية، الشعب السوري ما بينذل، بدنا المعتقلين) فيما صرخ الشيخ القادم معهم من السيارة “يا أيها الناس ارجعوا ولا تخربوا بلدكم بأيديكم”، مدّ أحد عناصر الأمن يده نحو هاتفي وسحبه وقالي لي “ممنوع التصوير، أنت تصورين سيارتنا”، تجمهر بعض المتظاهرين حولنا، خطف أحدهم الهاتف من يده وأعاده لي، تابعت التصوير دون اكتراث بما قاله، ركزت على الوجوه وجهًا وجهًا، كنت أرى بأننا نحن الواقفين هنا الآن نكتب تاريخ سوريا الجديد، سوريتنا وليست سوريا الأسد.
مقاومة عائلية واجتماعية بسبب مشاركتي في التظاهرة بعد ما أظهره النظام من عنف تجاهها، شارك فيها حتى بعض الجيران، حيث أوقفني أحدهم محذرًا وأنا أَهِمّ بتجاوز حارتي “يا أختي لا تفكروها سايبة، سيجمعونكم كلكم في ساعة، روحي لبيتك أحسن لك، الرجال بينهوها” ولمْ ينهها الرجال حتى الآن.
زادت مشاركة النساء بشكل مطرد خلال الأشهر الثلاثة الأولى للثورة، كان ذاك تطورًا نوعيًا، وقد أضفى وجودهن طابعًا مدنيًا حماسيًا، ونوعًا من الاعتراف والثقة، وتقدير الذات، لكن ذلك بدأ بالتراجع مع اشتداد القبضة الأمنية ومواجهة التظاهرات بالرصاص والقتل، والقصف، والاعتقالات والدخول في مرحلة العسكرة والأدلجة.
ومع ما ظهر من مؤشرات بتحويل سمة الحراك الشعبي وتلبيسه لبوسًا دينيًا وعسكريًا، كان جل تركيزي عبر منشورات تنسيقية دوما التي كنت أديرها منذ التأسيس حتى السنتين، مع ما أرفد به صفحات ثورية أخرى، وعلى الرغم من ثقل المهمة كنت أكتب معظم التقارير التي يخرج بها النشطاء الإعلاميين على المحطات من منطقتي، حتى أشاركهم في الظل بالإجابة على أسئلة لقاءات تلفزيونية مباشرة، كان همي أن يبقى التوجه العام للثورة واضحًا دون لبس، ثورة شعب أعزل في مواجهة نظام مستبد مدجج بالسلاح، ليست دينية ولا طائفية، بل ثورة تحرر.
كنت أدرك تمامًا أنها ساحة القوة بالنسبة إلينا كشعب يرنو نحو دولة القانون والمواطنة، وعلينا التمسك بهذا المعطى الأساسي السلمي أمام نظام عسكري لن يتهاون في ممارسة كل أنواع الإبادة، وهو ما كان يعيه النظام جيدًا، فكان التطييف والعسكرة أهم أولوياته، وقرر استخدام أعلى درجات العنف ليستثير العنف المقابل، بل ويصنعه بيده ويدعمه ويقويه كما فعل، باختراقه الحراك عبر أدوات مختلفة كانت جاهزة تجهيليًا، وشعبويًا، ووظيفيًا لذلك.
بدأت أتلمس أصابع النظام عبر حوامله الدينية التي اخترقت بقوة التظاهرات، من خلال تغيُّر الهتافات والرايات ووجوه المتظاهرين وخاصة النساء اللواتي كنت أعرف معظمهن من داخل وخارج المدينة ممن كن يتدفقن إليها من دمشق ومناطق الأخرى للمشاركة في التظاهرات. فعلى الرغم من إخفاء وجوهنا خوفًا من الملاحقة كانت أصواتنا وهتافاتنا هويتنا. تغيُّر بدت تظهر ملامحه مع دخول الثورة مسارها الجديد، لم أعد أعرف معظم المشاركات، ولا وجوههن، ولا مصدر تلك اللافتات والهتافات التي تحمل عبارات ورايات ذات مدلول ديني.
كان التعامل مع ثورة النساء مؤشرًا حادًا بالنسبة إلى تحديد موقعنا الآن، فقد بدأ تأطير المشاركة النسائية وحصرها، وظهور دعوات علنية على لسان بعض ممن يطلقون على أنفسهم اسم لجان تنظيم التظاهرات، ومعظمهم وجوه جديدة، فكانت الدعوة إلى عودة النساء إلى بيوتهن، والتضييق عليهن في ساحة التظاهر، مع غياب واضح للناشطين الأوائل بحكم الاستهداف، والاعتقال، والتخويف، والاغتيال.
بدأت معركتنا كناشطين سلميين تتسع، ففي حين كان كامل تركيزي منصبًا على النضال ضد النظام القمعي في بداية الثورة، بدأت جبهة أخرى تحاصرني بنيرانها “الصديقة”، أبطالها مروّجي العسكرة والأسلمة والتطرف، والإعلام المؤطّر والموجّه، كانت تلك المعركة الأصعب التي استنزفت كثيرين وأبعدتهم من حيث لم يستطع الأسد، وخلقت حالة نفور ويأس وابتعاد، كان هؤلاء يشاركوننا في كل شيء، أدواتنا، ومنابرنا، ومجموعاتنا، وصفحاتنا، وقد أخذوا يتحكمون في ما يقال وما لا يقال، وفي حركة الشارع وهتافاته، ولون رايته، وانتمائه، مدعومين بالمال السياسي المتدفق، والخطاب الديني الشعبوي العرعوري، وخُطب قياداتهم، والدعم التقني الذي كانوا الأبرع في استدراجه.
أخذ دورهم يزداد وضوحًا وبلورةً وتركيزًا في الإعلام، وفي الأوساط الشعبية كممثلين عن الثورة، وغدا كثير من الناشطين الإعلاميين الذين ساهمتُ بتدريبهم بنفسي في منطقتي بفعل حماسي وتخصصي، قبل أن يتضح جليًا فعل الأجندات التي يحمّلونها ويُستثمَرون فيها من طرف قياداتهم، فغدوا معروفين على الشاشات، يقدمون رؤية مُشغليهم وزاوية الصورة التي تخدمهم، فيما بدأ تقلص وغياب الوجه الآخر، وانحسار مساحة وجوده، وضعف أدواته التواصلية، وغياب الدعم المتاح للفئة المؤدلجة فحسب.
ثمة حروب حقيقية أعمق حاصرتني كناشطة سياسية ونسوية، سقفي دولة المواطنة والقانون، وشعاري الشعب السوري المواطني الواحد، والمرأة جزء أصيل من قضيتي، فقد تعرضتْ الثورة على امتداد سنوات للتضيق والحصار، والتنمر العلني، وعدم الاعتراف والإقرار بما قدمته من جهد نوعي، من طرف عديدين بينهم مؤسسات سياسية وشخصيات صنفتني وفق مصالحها، كما طالتني تهديدات شتى من طرف قيادات بعض الفصائل المتشددة بسبب دوري في تعريتها، ومثلها، قبلًا وبعدًا، ملاحقة النظام لموقفي المدافع عن الإنسان.
لم أكن أنظر إلى الثورة السورية من منظور كونها ثورة سياسية ضد نظام مستبد فحسب، كانت ثورتي تستهدف تطوير الفكر والثقافة والقانون والذهنية الاجتماعية ضد كل ما يكبّل فكر الإنسان من موروث، أو قوانين أو ممارسات قمعية تمنعه من أن يكون له موقف. راهنت على مساحة الثورة كفرصة تاريخية لإحداث قفزات نوعية في مستوى الوعي العام تجاه النساء ودورهن كشركاء حقيقيين في جميع المواقع والمؤسسات التمثيلية السياسية وغير السياسية، غير أن الواقع كان بخلاف ذلك تمامًا، فقد حلّ الخراب، وتكشّفت عورات الفكر التسطيحي الذي صنعه الدكتاتور عبر عقود في الشخصية السورية ذات البعد التاريخي والحضاري، ولم تستطع الثورة لملمة أشتاتها لتصنع منبرها وشهودها من الأحياء، فارتهنت ورهنت تحت ظل المصالح والصراع.
انكسر القمم الذي كانت تُحشر فيه النساء السوريات بفعل عوامل الدمار الذي لحق بالمجتمع السوري بأكمله، لكن ذلك لم يعطِ أُكلًا إيجابيًا على مستوى الدور والوظيفة، والمكانة. وعلى الرغم مما فُتح لكثيرات من فرص التمكين والتثقيف والفهم لحقوقهن في إطار المجتمع المدني، إلا أن دورهن بقي تزيينيًا وهامشيًا في الممارسة العملية ضمن المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للمعارضة.
لم تمنحني الثورة السورية على المستوى الشخصي أي مزايا، أو مكتسبات ولم أسع إلى ذلك، غير أنها منحتني فرصة لن تتكرر لكي أعيش منعطفًا تاريخيًا استثنائيًا بكل وجعه وألمه وأحلامه الكبيرة، لم يتحدد حتى هذه اللحظة متى سنرى النور في آخر نفقه المظلم، ومع هذا وذاك لم نتعب من المسير.

مشاركة: