15 آذار/ مارس 2011، هو نقطة انعطاف في تاريخ سوريا، ليس سياسيًا فحسب، بل في الوعي أيضًا.
ربما لا تبدو الصورة متفائلة الآن، لكن الكفاح الشعبي السوري المستمر وتوق الناس إلى التحرر وإرادتهم في التغيير سيدفع نحو مستقبل جديد، بما تُحدِثه الثورة من تغيير تاريخي في الواقع والأفكار.
تابعتُ زوجي وأنا، مثل ملايين العرب بانبهار أحداث الثورة في مصر وتونس واليمن وليبيا. وانبعثَ أملٌ في ربيع سوري، فجاء اعتصام السوريين أمام السفارة الليبية بدمشق في شباط/ فبراير 2011 إشارةً إلى أن حدثًا كبيرًا سينفجرُ في سوريا، وكان زوجي بحكمِ عمله مع وكالة رويتر في الأردن على علاقة مباشرة بالأخبار والصحفيين، فصار يتابع عن قرب آخر الأخبار وعاجلها بكل اهتمام وحماس، ويجعلني بصورةِ أي مستجد. وكالابتهاج بمولود جميل جاء الخبر والحدث العظيمان وظهر فيديو الشرارة الأولى في الحميدية يوم الثلاثاء 15 آذار/ مارس 2011. بكيتُ وأنا أسمع وأردّد من عمان القريبة من دمشق هتاف الشجعان السوريين الذين كسروا الصمت “الله سوريا حرية وبس…سلمية…سلمية…”
غمرتني فرحةٌ كبيرة لم أشعرْ بمثلها من قبل، إحساسٌ عميق بالأمل، سوريا تنتفضُ على حكم الاستبداد والقمع. واتصلتُ بوالدي في دمشق أستفسرُ منه، ردّ علي بالرموز وفهمتُ أنه غير مطمئن لما يحدث وقلق جدًا. وتذكرتُ الحديث الذي دار بيننا قبل شهر لما كنا جالسين في بيتنا في دمشق وقد استبعدَ حدوث ثورة في سوريا، بسبب الرعب الذي خلفه النظام القمعي المستبد وأجهزته الأمنية في قلوب الناس وعقولهم. وكان بحكم تاريخه الطويل في النضال السياسي الناصري، وخبرته المباشرة بممارسات النظام القمعية على يقين أن الأمر سيكون مأساة، وأن وضع سوريا يختلف عن مصر وتونس. ولا تغيير إلا بالحوار السياسي الجدي والعمل الطويل على بناء بديل ناضج.
توفي والدي بعد تسعة أشهر من شرارة الثورة، وأرهقه جدًا العنف الذي حصل، وكان يتوقع الأسوأ وظلت جملته الغاضبة عالقة في مخيلتي “سيصل الدم إلى الركب”، وفعلًا “فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب”. وفاته أثرت بي عميقًا؛ لأنه توفي قبل أن يتحقق ما كان يتمناه ويناضل له، الحرية والتخلص من الاستبداد، والعيش بكرامة، ولأني لم أتمكن من دخول سوريا ووداعه.
قررتُ، منذ شرارة آذار/ مارس، أنْ أدعمَ الثورة بما أستطيع من خارج سوريا. وتجرأتُ وكتبتُ هذا على صفحات التواصل الاجتماعي، وتأذى بعض أهلي وقتها بما فعلت. اتسعتْ الثورة، وأسميها ثورة، لأن فيها طاقةً كبيرةً استثنائيةً تبشر بحياة جديدة، وإرادةً جبارةً ستؤدي، على الأرجح، إلى مسار تاريخيٍ جديد. سعيتُ للصفحات الناطقة بالثورة مستفيدةً من تقنية الاتصال الجديدة أتواصلُ وأكتبُ فيها وأشاركها بما أحصل عليه من صور وفيديوهات جديدة. وحاولتُ جاهدةً تعريف مجتمعي المحيط بقصص الثورة وشرعية مطالبها. وبدأتْ تظهر في سوريا أصوات جديدة، لجموع نساء وشباب خرجت تدافع عن حقوقها الوطنية وحق شعبها في الحرية، تشارك بجرأة غير مسبوقة. حتى في دمشق ظهرت النساء بشكل لافت في التظاهرات ودعمت الحراك الثوري، على الرغم من المخاطر الكبيرة. وبدا أن الواقع السياسي الذي يحتكره الذكور والكبار يتغير، وأن انقلابًا على قوالب نمطية ثقافية واجتماعية بدأ يتشكل.
تركز اهتمامي على الجانب الثقافي لقناعتي بأهمية التوعية والمعرفة والثقافة في إنجاح العمل الوطني؛ فالتحرر السياسي وثيق الصلة بالتحرر الاجتماعي والفكري. والجهل يشرعن الاستبداد والعنف ويخدمهما. كانتْ الكتابةُ مجالي الذي ناصرت فيه مطالب الثورة في الحرية، كتبتُ بحماس في المواضيع التحررية الثقافية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالواقع السوري، ثم اتجهتُ نحو دعم أنشطة التعليم في مخيمات اللجوء، وبالتحديد في جنوب تركيا، مستفيدةً من خبرتي التربوية والتعليمية، بالتعاون مع الكتلة الوطنية الديمقراطية أولًا ثم مع تجمع نساء الثورة السورية.
لم أكنْ أعمل في حزب سياسي، لكني شاركتُ بما يدور من لقاءات وحوارات، واتسع ذلك بانتسابي القصير المثمر للكتلة الوطنية الديمقراطية التي كانتْ تضم اتجاهات فكريةً متنوعة، وتعرفتُ من خلالها بوجوه كثيرة في المعارضة وبدأتُ العمل تحتَ مظلتها في دعم أنشطة التعليم في مخيم بخشين والريحانية وداخل سوريا، ثم تركّز عملي في تجمع نساء الثورة السورية الذي أنشأناه كناشطات سوريات وطنيات متعلمات بهدف تقوية المرأة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا فيما يخدمها ويخدم أسرتها ومجتمعها، لتكون جزءًا من النضال الاجتماعي والسياسي والتمثيل القادم. لم يكن هناك جهة دولية أو دينية أو قومية أو سورية نتبع لها أو تدعمنا. موَّلنا عملنا من جيوبنا الخاصة وجيوبِ أهلنا وبعضِ أصدقائنا؛ مثل الكتلة الوطنية الديمقراطية التي ساعدتْنا في تغطية بعض الأنشطة في التعليم والتثقيف والدعم النفسي الاجتماعي. ولأننا لم نستطعْ بجهودنا المالية الضئيلة مدّ العون المستمر والمنظم، خصوصًا مع دخول الجمعيات الدينية والمنظمات الدولية لهذا المجال وتقديم خدمات مؤسساتية؛ فاقتصر عملنا على مبادرات وجهود فردية.
كان لجريدة الأيام السورية التي عملتُ في هيئة تحريرها، بالتوازي مع عملي في تجمع نساء الثورة السورية، دور كبير في توسيع عملي الثقافي والإعلامي وتعرفي بناشطين إعلاميين ومنظمات إعلامية وتيارات سياسية جديدة في الثورة السورية، كما أعطتْني فرصةَ المشاركةِ في كتابةِ ميثاق الشرف الإعلامي بمظلة الإعلام الأخلاقي، وهو ما وسَّع اطلاعي على ال مشكلات القابعة في قلب العمل الإعلامي الجديد، سواءً في أساليب الخطاب أو التمويل وإلزاماته؛ ورأيتُ أن المسعى المهني بتوحيد مبادئ العمل الإعلامي يصبح عبثًا أمام ما يتعزز على مساحة واسعة من الإعلام الجديد من فوضى وضحالة وتحيز وعنصرية وشمولية مفاهيمية شكلية.
تجمع نساء الثورة السورية الذي أسسناه للعمل على قضايا اجتماعية مهمة، خصوصًا في مسعى تثقيف المرأة وتعليم الأطفال لتجنيبهم طريق الحرب والانحراف، كان خطوةً مهمة، لكنه لم يستمرْ فعالًا أكثر من عامين ونصف لعدم القدرة على استجلاب تمويل لأعماله، بالإضافة لخلافات داخلية تشغيلية؛ فتعطَّل عمله. استقالتي منه بسب دخولي للعمل في الحكومة السورية المؤقتة كان تضحية كبيرة وخسارة ندمت عليها؛ فقد كان يستحق مني ومن صديقاتي مزيدًا من النضال لأجل لحمايته وتطويره وتطوير رؤيته السياسية وشبكة علاقاته. ربما الإخفاق في العمل الجماعي والسياسي المنظم من ال مشكلات التي جعلتنا الثورة نكتشفها بوضوح في تجاربنا؛ فحماسنا للحرية ولتحررنا لا يكفي. لابد من روح الجماعة ومن رؤية مستقبلية واضحة وخطة عملية وتمويل وقدرة على الاستمرار.
انتقالي إلى العمل في الحكومة السورية المؤقتة كوزيرة الثقافة وشؤون الأسرة في شهر كانون الثاني/ يناير 2015 حتى قبول استقالة الحكومة في النصف الأول من عام 2016 لم يكن سهلًا. ليس لأنه عمل بالشأن العام فحسب، بل لما في أجواء عمله من مشكلات متصلة بصراعات سياسية وفكرية واجتماعية للمعارضة داخل الحكومة وخارجها، ومن تحكم دولي في العمل وفي تمويله. فقد أثر توقف الدعم المالي والسياسي في تعثر العمل وتأجيج الصراعات الداخلية وشيوع الفوضى في الحكومة.
منذ اليوم الأول للعمل زلتْ قدمي وانزلقتُ على جليدِ الثلج بشكل مضحك أمام مدخل مبنى الحكومة في غازي عنتاب. ضحكنا كلنا من سخرية الموقف؛ لكنه كإشارة تحذير، فسرعان ما تبين لي أن وزارة الثقافة لا تحتل مكتبًا خاصًا في مبنى الحكومة، بسبب ضيق المكان وزحمة الحضور، ولا غرفة لي للعمل، ومعظم الموظفين التابعين للوزارة موزعون بين مكاتب الوزارات الأخرى، ومع أن الأمين العام كان كريمًا وعرض علي أنْ أستعير غرفته، فقد أصريتُ وعملتُ على إنشاء مكتب مستقل للوزارة أسوة بغيرها، وهو ماجر إلى مشكلات كثيرة لاحقًا مع توقف التمويل والدعم وظهور حملة إعلامية تتهمني بالفساد وحب المظاهر والاتجار بمأساة السوريين لإنشاء مكتب مُكلِف للوزارة، مع أنه كان بسيطًا جدًا يقل قيمة مادية عن مكاتب أخرى للحكومة، وقد استوعب الموظفين، الذين بقُوا، واستوعب الأنشطة والناس التي كانت تأتي للمشاركة في الأنشطة الثقافية، وكان معرضًا لإبداعات الأطفال والشباب والنساء، ومساحةً صغيرة آمنة لجلسات حوار وأمسيات أدبية.
ثم اكتشفتُ أن الحكومة لا تتلقى تمويلًا، مما أثر سلبًا في العمل والأنشطة الثقافية والاجتماعية المطلوبة، وفي رواتب الموظفين… وهذه قصة معاناة أخرى لها فصولٌ لا يَفْسَحُ المجالُ لذكرِها هنا. وحاولتُ تغيير النظرة المستهينة بدور وزارة الثقافة وشؤون الأسرة من داخل الحكومة وخارجها، واستصغار شأنها وعملها مقارنةً بالوزارات الأخرى، لكن ذلك لم يغير الواقع، ولم يوقف إنهاك عملنا وتهميشه، وأعطي الدور للمنظمات والجمعيات لتقوم به وفق أجندات الممولين.
قراري بالعمل في وزارة الثقافة وشؤون الأسرة، وبغض النظرِ عن دافع الائتلاف لاختياري لهذا الموقع، جاء بفعل عاطفة وطنية، وبرغبة في العمل الثقافي والاجتماعي بما يساعد مجتمعات السوريين في الشتات، لا بفعل انتمائي لحزب أو أقلية أو تيار. عملتُ مع وزراء محترمين ورئيس حكومة دمث وموظفين، كسبتُ منهم أصدقاء رائعين أعتز بهم، في ظروف صعبة اختلفنا واتفقنا، لكن عملي لوزارتي، كان، في أغلبه، صراعًا فرديًا من دون داعم. وكامرأة، برؤية مختلفة ثقافيًا، كان عليَّ أنْ أجاهدَ لأعززَ مكانتي المستقلة والمتزنة ولا أفقد ثقتي بنفسي أمام قسوة صراعات غير متكافئة. وللإنصاف فالوقت الذي عملت فيه كان صعبًا ومربكًا وضاغطًا على الجميع، وليس عليّ وحدي.
تجربتي علمتني وكشفتْ لي أنْ لا مكان للعمل المثالي والمستقل في واقع مكتظ بالإشكاليات والصراعات والانقسامات، وأن العمل في مؤسسات المعارضة والقائم على مصالح جماعة أو شلة أو جهة قوية تدعمه، لا يثمرُ إنْ لم يكنْ مرتبطًا بسند قوي واتجاه يحتويه، يظل في سيل الفوضى، وهو ما ذكرني بتوسعةِ الائتلاف التي كنت ترشحتُ لها وكثيرات، وفازت أسماء القائمة المدعومة.
الثورة السورية نقطةً فارقةً في حياة السوريين ونقطةً فارقة في حياتي، أفرحتني جدًا في البداية، وتحمستُ لها وعملتُ بوحيِها، ثم آلمتني آلامُها والمحن، لكني لم أفقدْ يقيني بأهميتها لأنها مقدمة تاريخ جديد ونظام جديد. الناس، عادة، لا تكتشف كل يوم أشياء بهذه الكثرة والكثافة والحدة والصدمة؛ لكن السوري بعد الثورة، أصبح مكتشفًا ببراعة، يحاول التغلب على صدماته والتعلم من فشله واغترابه، فأينما حضر هناك أشياء جديدة سواء عن صراعات بلده أو شعبه أو مجتمعه أو العالم. جعلتني الثورة أعيش مراحل نمو جديدة بالأحداث التي مرّت وبالأماكن الكثيرة التي تغيرتْ وبالشخصيات الكثيرة الجديدة التي عرفتها. وأهم ما تعزز لدي هو أن الحرية لا يمكن صناعتها من دون التحرر الفكري والاجتماعي، ولا معنى لها من دون إنصاف ومحاسبة.
صحيح أني لم أخسرْ شيئًا كبيرًا مقارنةً بالسوريين الذين فقدوا أولادَهم وآباءَهم وأزواجَهم، أو تعرضوا للاغتصاب والاعتقال، لكنهم دمروا بيتي وحرقوا مزرعتي واحتلوا أرضي الغالية. هي خسارة مادية لا يُحكى فيها أمام دمار البلد وقتل مئات الآلاف واعتقال وتغييب عشرات الآلاف. آلمني ذلك وآلمني أن أسرتي في دمشق انقسمت بين هاربين إلى المنافي خارج سوريا، وآخرين ظلوا في دمشق، ومرت سنوات عشر لم ألتق بهم، ولا أستطيع دخول سوريا، مثل ملايين غيري لأنني مطلوبة لشعبة المخابرات العسكرية.
تجربتي محاولة للعمل الوطني، ويسعدني أن أولادي فهموها وقدروها وزاد احترامهم لي كوني لم أفصلْ مصيري الشخصي عن مصير بلدي وأمتي.