جدلية الوصل والفصل بين الديني والسياسي في المجالين الإسلامي والمسيحي (شرعية السلطة نموذجًا)

1 – الأنثروبولوجيا والقدرة على تفكيك علاقة الديني بالسياسي
يؤكد علماء الاجتماع في تقسيمهم للفضاء الاجتماعي والتاريخي، أن الساحة السياسية تؤدي دورًا حاسمًا بالنسبة إلى الساحة الفكرية والعقلية، وبالنسبة إلى الساحة الدينية أيضا. وهنا نجد مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة تطرح نفسها بكليتها ولا نستطيع أن نغلب أحدهما على الآخر بالسهولة التي يفعلها بعضهم وإذا ما فعلنا ذلك، فإننا نهجر الأرضية الصلبة التي ينبني عليها التحليل، ونسقط في المتخيل أو الأيديولوجيا. وتؤكد اكتشافات الأنثروبولوجيين المعاصرين أن الأمور أكثر تعقيدًا وأن التاريخ لا يتحرك بوساطة عامل واحد، كما زعمت الماركسية الأرثوذكسية، وإنما بعدة عوامل، وأحيانا يكون أحد العوامل أكثر أهمية من بقية العوامل بحسب الأوضاع والأحوال الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن عامل الخيال أو الأسطورة أو ما ينتمي إلى البنية الفوقية قد يتحول إلى قوة مادية ضاغطة على مصير التاريخ والمجتمعات البشرية، مثله في ذلك مثل العامل المادي أو أكثر. فمثلًا ما يردِّده المسلمون عادة من أنه لا توجد سيادة سياسية على وجه الأرض غير مرتبطة بالسيادة الإلهية ومرتكزة عليها وخاضعة لها، هو نوع من المتخيل الواسع الكبير، أي ذلك الوهم الكبير المسيطر على وعي الأغلبية الذي يحذر محمد أركون – الموظف البارع لأطروحات الأنثروبولوجيا السياسية – الباحث من الوقوع تحت سطوته، لأنه يغشي البصيرة ويؤدي إلى ترك أرضية الواقع على أنها منطلق للتحليل، والغريب استمرار هذا الوهم المذكور الذي تكون في الفضاء الإسلامي منذ عهد الأمويين، عندما قبل الفقهاء أن يخلعوا رداء الشرعية على النظام الجديد الذي وصل إلى السلطة عن طريق القوة المسلحة لا عن طريق الشرعية الدينية. فالوهم قديم وله جذور، ولكن عندما يستمر منذ ذلك التاريخ إلى الآن فإنه يتحول إلى حقيقة مادية توجه مسار التاريخ. إن ما يردده الكم الأكبر من الناس داخل المجتمع من أن الله أو الدين الموحى به هو الذي يحكم أو ينبغي أن يحكم فإن الواقع يكذب هذا الخطاب الاجتماعي، يعلن أن الحكام ليسوا خاضعين لكلام الله، ولم يخضعوا له أبدًا حتى في القرون الوسطى بعد ما كانوا يستغلون الدين في ممارساتهم للسلطة. ثم يؤكد الباحثون في تاريخ الأديان أن ما ندعوه بكلام الله هو في الواقع عبارة عن مجموعة نصوص من توراة وإنجيل وقرآن، وأن هذه النصوص متروكة لتفاسير رجال الدين والفقهاء. هذا التحديد لكلام الله يعيدنا إلى سلطة اللغة وإلى التآويل والتفاسير التي هي من صنع القوى الاجتماعية الموجودة والمتنافسة من أجل السيطرة على الساحة السياسية، ثم على الساحة الفكرية. أما في ما يخص مسألة خلط الإسلام بين العامل السياسي والعامل الروحي، فيؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن الإسلام لا يخلط بين الروحي والزمني ولا يفصل بينهما، وإنما أوضاع المجتمع ودرجة تطوره هي التي تفرض الخلط أو الفصل. فعندما كانت المجتمعات الأوروبية تعيش مرحلة العصور الوسطى كانت تخلط بين الروحي والزمني، وعندما انقلبت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية عن طريق التصنيع والثورة العلمية والفكرية الحديثة راحت تفصل بينهما. هذه حقيقة الأمور وليست المسألة متعلقة بخصوصية للإسلام تميزه عن بقية الأديان، فالإسلام عندما كان يعيش الحضارة الكلاسيكية شهد بعضًا من العلمنة.
يرى أركون أن هناك خطين للالتقاء بين المسيحيين والمسلمين، أولهما الخط التقليدي المتمثل في مناقشات تتصل بمشكلات المقارنة الخاصة باللاهوت في كليهما، وكل ذلك يعالج بطريقة تقليدية ومن خلال مفردات المعجم اللاهوتي القديم، فحتى ما يسمى بالحوار المسيحي – الإسلامي يرفضه أركون، لأن كلمة حوار في نظره تخلع المشروعية على ذاتيتين اثنتين، وعلى متخيلين جماعيين يدخلان في صدام مباشر على صعيد تصوراتهما الموروثة. أما الخط الثاني فيسير ضمن ممارسة علم الأنثروبولوجيا والألسنيات والتاريخ على طريقة أحدث المؤرخين المعاصرين الذين يقدمون رؤى مختلفة عن الظاهرة الدينية، ولا يعتقد أن هذه الممارسات ستؤدي إلى تسفيه الإيمان في عمقه الأساس بكونه إيمان، بل إن ذلك سيوصلنا في نهاية المطاف إلى إيمان جديد أكثر اتساعًا ورحابة من الإيمان السابق، الضيق المتعصب في أحيان كثيرة، لهذا يفضل المؤلف التحدث عن ضرورة “التضامن” أي تحمل مسؤولية كل “تراثاتنا” الدينية والثقافية بشكل متضامن بدلًا من الحديث عن الحوار الذي يحيلنا إلى مفهوم التسامح الكسول واللامبالي بالرهانات التجديدية لإنتاج المعنى وتحولاته. إن تحمل المسؤولية بشكل متضامن عند كلا الطرفين من شأنه أن يجبرنا على طرح المشاكل بطريقة أكثر جذرية وأكثر عمقًا من ذلك المستوى السطحي الذي توقف عنده الفقهاء وعلماء اللاهوت التقليديون والميتافيزيقا الكلاسيكية، وكذلك أن نغوص في الأعماق حتى نصل إلى القاعدة المشتركة، أو الجذر الجامع الذي تأسست عليه تلك العقائد التي ينفي بعضها بعضًا. يعتقد أركون أن الإسلام بحد ذاته ليس مغلقًا في وجه العلمنة، وكي يدرك المسلمون حقيقة العلمنة، عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والأيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس بسبب رواسب تاريخهم الخاص فقط، وإنما بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي أيضًا، وحتى يتوصلوا إلى ذلك عليهم أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى. لقد وجدت في الإسلام بين القرنين الثاني والثالث للهجرة حركة ثقافية يتزعمها المعتزلة، وكان هؤلاء المفكرون قد عالجوا بعض المسائل الأساسية للساحة الفكرية التي تهمنا، وذلك بسبب مرجعيتهم المزدوجة والمتمثلة بظاهرة الوحي من جهة، والفكر الإغريقي من جهة أخرى. لقد وصل الأمر بهؤلاء وبمقتضى منطقهم الداخلي إلى طرح مشكلة تتعلق بأصل الوحي، وهو ما عرف بمسألة “خلق القرآن”. إن مجرد اعترافهم بأن القرآن مخلوق يمثل موقفًا فريدًا تجاه ظاهرة الوحي، إنه يعد موقفًا حداثيًا في عز القرن 2 هج/ 8 م. إن هذا الموقف المعرفي المبتكر الذي اتخذه المعتزلة يفتح حقلًا معرفيًا جديدًا قادرًا على توليد عقلانية نقدية مشابهة لتلك العقلانية التي شهدها الغرب الأوروبي بدءًا من القرن 13 م، لولا معارضة الأورثوذكسية الظافرة في القرن 5 هج / 11 م، وخصوصًا على يد الخليفة القادر (ت 422 هج/ 1031 م). إن القول بأن القرآن مخلوق بحسب أركون يعني إدخال بعد الثقافة واللغة في طرح مشكلة الوحي وهما، أي الثقافة واللغة، من صنع البشر لا من صنع الله، ويعني أخذهما بالحسبان في ما يتعلق بالجهد المبذول لاستملاك الرسالة الموحى بها، وذلك يعني أيضًا الاعتراف بمسؤولية العقل ومساهمته في هذا المجهود، في حين أن الموقف المضاد للمعتزلة يقضي كليًا على تاريخية النص، وينكر حتى ماديته اللغوية والحرفية وهو الموقف الذي انتصر وساد حتى اليوم. إن هذه الحركة الفكرية الأصيلة – المعتزلة – كانت بحسب أركون مرتبطة بالأطر الاجتماعية للمعرفة، وليس بالإسلام دينًا، بمعنى أن التطور الاقتصادي والاجتماعي للمراكز الحضرية الكبرى قد تحكم مباشرة بانتشار العلوم العقلية المؤدية إلى علمنة الفكر والوجود أو انحصارهما واضمحلالهما، وهنا تبدو مشروطية الفكر ووقوعه تحت وطأة الأوضاع والعوامل المادية المحيطة. ويفسر أركون اندثار الفكر المعتزلي بعوامل تاريخية وأيديولوجية وسياسية، وليس بلعبة تنافس الأفكار الطبيعية كما كان عليه الحال طوال القرون الهجرية الأربعة الأولى.
2 – في استنجاد العلمنة بالمقدس حتى تستمر السلطة في الاشتغال
بعد ذلك ينتقل علماء الأنثروبولوجيا للحديث عن الغرب، وعن الفصل الحاصل عندهم بين الكنيسة والدولة. ويحذرون منذ البداية من الوقوع في مطب المغالطات التاريخية عند بحثنا عن الأوضاع التاريخية والاجتماعية التي حفت بعملية الفصل بين الديني والسياسي. فطوال القرون الوسطى وحتى لحظة الفصل لم تكن مشروعية السلطة السياسية تحظى باعتراف المواطنين إلا ضمن مقياس خلع مشروعية السلطة الروحية عليها بواسطة القداس الكبير الذي كان يجري لملك فرنسا أو إمبراطورها في أثناء التنصيب على العرش في كاتدرائية مدينة رانس Reims الفرنسية، فهناك دائمًا ذروة السلطة العليا التي تتيح خلع القدسية والمشروعية على كل سلطة، فحتى مع مجيء عهد الجمهورية في فرنسا راحت الجمهورية تشهد طقوسًا للتقديس، وكان جورج بلاندييه Georges Balandier عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي قد بين أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعًا من الاحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني، دينيًا أكان المحيط الذي تمارس فيه السلطة أم علمانيًا، فإنها في حاجة إلى ذروة السيادة العليا والمشروعية. ويبين أركون أن مسألة السيادة العليا كانت محلولة طوال كل العصور الوسطى، حيث هيمن معطى الوحي واشتغل ومارس دوره بصفته مصدر كل حقيقة متعالية، ولكن بدءًا من اللحظة التي حل فيها حق التصويت العام محل الوحي مصدرًا للحقيقة والمشروعية، أصبحت للدولة طرائقها الخاصة لإثبات شرعيتها. في هذه النقطة التي بلغها أركون من تحليله للعلاقات الجدلية بين السيادة العليا والسلطة السياسية، يطرح سؤالًا مهمًا: باسم ماذا ومن يقبل إنسان ما أن يقدم الطاعة لإنسان آخر يتمتع بممارسة السلطة؟ الجواب يجده عند الباحث الفرنسي مارسيل غوشية Marcel Gauchet الذي يببن أن أصل العلاقة أي علاقة الطاعة هو “مديونية المعنى” la dette du sens ويعني بذلك أنني أقبل طاعة ذلك الشخص الذي يشبع رغبتي في التوصل إلى معنى مليء، طبقًا لضرورة داخلية وذاتية، وليس لإكراه خارجي. وعندئذ تكون للسلطة سيادة عليا تمنحها مشروعية كاملة لا تحتاج إلى اللجوء إلى القوة من أجل أن يطيعها الناس، وهذا ما حصل في التاريخ، فقد استمد الحكام مديونية المعنى طوال قرون عديدة من الوحي، وذلك في عالم المسيحية كما في عالم الإسلام، ويحاولون اليوم بكل قوة أن يستمدّوه من حق التصويت. في الواقع إن التاريخ في العصور الماضية يصنع عن طريق القوة، ثم تخلع المشروعية على السلطة المنتصرة فيما بعد، وذلك عن طريق محاولة إيجاد ” مديونية للمعنى ” في مكان ما، أي إيجاد مشروعية ما لسلطتهم. وهذه المحاولة في العثور على المشروعية قد أصبحت منذ الآن فصاعدًا، أي منذ الثورة الفرنسية، ملقاة على كاهل الإنسان المقطوع عن التعالي وعن الرمزية الدينية التي تتيح للإنسان أن يتأمل في المطلق، ويعيش في مناخاته. لا يتردّد أركون في الكشف عن البنى المشتركة لكل مجال اخترقته، تاريخيًا، ظاهرة الكتاب المقدس، بغية إبراز النقاط المشتركة بين الأديان التوحيدية الثلاثة. ففي الفضاء الإسلامي تحول القرآن الكريم من نص شفهي إلى مدونة نصية رسمية مغلقة، أي إلى مصحف، وأصبح عرضة للتأويل المنفتح باستمرار من أجل قيادة التاريخ وتوجيهه، أي التاريخ الأرضي المعيش ضمن المنظور الأخروي الذي يدعوه المسيحيون بتاريخ النجاة L’ histoire du Salut ، ثم يفرق أركون بين القرآن ومفهوم “كلام الله”. فكلام الله لا ينفد ولا يمكن استنفاده ونحن لا نعرفه في كليته، فأنواع الوحي التي أوحيت بالتتالي إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل ثم عيسى وأخيرًا إلى محمد ليست إلا أجزاء متقطعة من كلامه الكلي. فـ “الكتاب السماوي” يعني أن هناك كتابًا آخر يحتوي على كلية كلام الله – أم الكتاب – وبهذا المعنى يتحدث القرآن الكريم عن ” اللوح المحفوظ ” وهو يعني بذلك كل كلام الله الموجود فقط في السماوات. أما في ما يخص المسيحية، يؤكد أركون على أن يسوع كان قد تكلم طوال ثلاثة أعوام، وقال أشياء عن الأب – الله – نقلها إلى البشرية، لقد تكلم بالآرامية في فلسطين، حيث كان يوجد حاخامات اليهود، وكانت سلطة الإمبراطورية الرومانية قائمة وباسطة نفوذها على المنطقة، كان المسيح مضطرًا إلى أن يعطي “لقيصر ما لقيصر وما لله لله” لأن القوة لم تكن إلى جانبه، فلو استطاع المسيح عليه السلام أن يستولي على السلطة الزمنية لما اكتفى بالسلطة الروحية، وهذا ما فعله محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الأوضاع التي وجد فيها كانت مختلفة، وكانت تتطلب توحيد العرب، وبالتالي الانخراط في العمل السياسي المباشر. إذًا الأوضاع المختلفة هي التي فرضت ذلك الاختلاف الأولي بين تجربة المسيحية وتجربة الإسلام، ولكن ذلك لم يستمر طويلًا بالنسبة إلى المسيحية فسرعان ما استولى أتباعها على السلطة السياسية أيضًا عندما أصبحت الأحوال مواتية لهم. ففي لحظة نشوء المسيحية، وجدت قوتان تضغطان: قوة الكنيس معبد اليهودية القوي جدًا، وقوة حكومة أجنبية لا تقل جبروتًا وهيمنة، وهي سلطة الحاكم الروماني، وبالتالي لم يكن باستطاعة يسوع أن يحتل تاريخيًا إلا موقعًا هامشيًا في ما يتعلق بالقوة والسلطة، وبالتالي راح كلامه يحتل موقع الكلام الديني والتبشيري الروحي. ومما يلاحظ أيضًا في التجربتين المسيحية والإسلامية، هو أن التواصل اللغوي كان شفويًا في البداية، وكان هناك تلاميذ وحواريون وصحابة يصغون إلى كلام المعلم، وكانوا يحفظون عن ظهر قلب، أو في ذاكرتهم ما يسمعونه. ومما لاحظه أركون أيضًا، أنه بعد تشكل المدونة النصية الرسمية المغلقة راحت طبقة خاصة من المؤمنين يشمرون عن سواعدهم لاستثمار هذا النص، وراحوا يقرؤونه أو يفسرونه كي يستخرجوا منه الفقه أو القانون، ويشكلوا لاهوتًا أوعلم الكلام، وينجزوا منظومة أخلاقية… وهذا ما يدعوه أركون بتشكل “مدونات نصية مفسرة”، وقد ساد نفس هذا التعامل مع الكتاب المقدس في المجال المسيحي الأوروبي، حتى مجيء الثورة الفرنسية. فنحن نجد في المسيحية المرجعيات نفسها والمجريات العقلية والثقافية نفسها التي استخدمت في الإسلام لاستثمار معطى الوحي. ثم يوضح أركون استراتيجية الرفض التي يعتمدها التيولوجيون الدوغمائيون لاحتكار الحقيقة وادعاء امتلاكها كليًا، تقوم هذه الاستراتيجية على إنكار وجود الأرضية الرمزية والتاريخية المشتركة لدى أديان الكتاب. والتركيز على خصوصية التأويلات والتركيبات الدوغمائية، أي خصوصية كل تيولوجيا من هذه التيولوجيات الثلاث وانقطاعها عما عداها.

مشاركة: