أنا والحشيش وهواك…

“سيتهمونني بأنني أجاهر بالمعصية” هكذا بدأت الحديث وهي تضحك، سمراء متوسطة الطول نحيلة جدًا وتقول إنها كانت يومًا سمينة، وهذا الجسد الرشيق هو جائزة (الحشيش).
“كانت المرة الأولى التي ذهبتُ فيها إلى (نايت كلوب) شديدة الغرابة، بل ساحرة، في أوائل أربعينياتي بدأت أتعرف على أماكن ومشاعر مختلفة جدًا عما عشته طوال حياتي، وأدخل عوالم من الموسيقى إلى الصداقات إلى تغير آلية تفكير بأكملها، بدأتُ أتعرف على شخصي الجديد، أحبه وأدافع عن خياراته. اليوم بعيدًا عن الطرب وعن التمايل الثقيل على أنغام الشيخ إمام، وكل ما عشناه من تمرداتنا الصغيرة التي باتت تثير سخريتي، دخلت عالم التكنو من أحد بواباته الخشبية الخافتة الأضواء. قاومتُ ارتجاف يدي وأنا أشعل سيكارة الحشيش الأولى في يدي ومشاعرَ الغثيان المرافقة، لئلا أبدو على حقيقتي، غرةً وغير ذات دراية بالأجواء (الكول).
لم أكن يومًا امرأةً جميلة ولا أدعي أنني صرت أحلى بعدما غيرتُ هيئتي، لكن مشاعري تجاه نفسي تغيرت اليوم قليلًا على الأقل، فقد صرت أدرك نوعًا ما أن الأمر كله يتعلق بالطريقة التي أبرز فيها ما أريد أن أكونه، بدأت أتعامل مع جسدي بطريقةٍ تتعلق به، لا بما يجب أن يكونه في عيون الآخرين، بعدما عشت حياتي كلَّها أدرس سلوكي، وقفتي، ملابسي، طريقة كلامي. كلُّ تفاصيل يومي كانت وثيقة الصلة بالصورة (الرزينة) التي اخترتها وأنا أكبر. وليس للأمر علاقة بتلك السهرة، فلو لم تحدث لحدث محفزٌ آخر ليقظتي أو لولادتي الجديدة كما أحب أن أدعوها”.
تحركتْ من مكانها ببطءٍ وانتباه كما لو كانت ستقوم بمهمةٍ شديدة الأهمية، أعدت فنجانين القهوة، لفت سيكارتين وقدمت لي إحداهما، أكدت أنها ستشعر باسترخاءٍ أكبر في الكلام مع بعض (الماريوانا)، وستتحرر من قيود اللغة، مشيرةً إلى أن باستطاعتي إبقاء أو حذف ما أشاء من قصتها، حتى لا تبدو ترويجًا لشكل حياةٍ يخشاها الورعون.
بعد بضع سحبات من “العشبة السحرية” بحسب وصفها، استندتْ بظهرها إلى الكرسي الوثير وابتسمت وعادت في سردها إلى الليلة الأولى:
“صوت الموسيقى في تلك الليلة كان مرتفعًا بطريقةٍ لم أتصورها من قبل، طرق الأدوات المعدنية في موسيقى التكنو بدا لي ضجيجًا لا يمكن احتماله، تناولت نصف حبة “إكستاسي” ناولتني إياها صديقتي ميرا “عرابتي” في العالم الجديد، وبعد وقتٍ قصير تخلّصَ مني جسدي وراح يتمايل بخفةٍ ليخترق حشد الشبان والشابات الهائمين مثلي على وقع ذاك الضجيج الساحر. العيونُ مغمضة، الوجوه مسالمة والأرواح تتهادى كما الأجساد.
أحببتُ زوجي أكثر بعد تلك التجربة، حتى بدأ يتغير هو الآخر، ليس بنظري ولا بسببي، ولكن لأنه هو الآخر راح يغير خياراته في الحياة، كنا كلانا مدرّسين للمرحلة الإعدادية في سورية، كل شيء كان واضحًا ومقدرًا في حياتنا، من الوقوع في الحب، إلى الزواج إلى العمل والأزمات المالية أو العائلية، أكبر مشاكلنا تبدو اليوم مثيرةً للبهجة والحنين.
عائلته ما زالت في سورية، في منطقة باتت “آمنةً” الآن، ليسوا جائعين ولا أعلم كم يمكن لتعبيرٍ كهذا أن يكون جيدًا وغير مثيرٍ للقرف. لكنّ بعده عنهم طوال السنوات الماضية كان يغذي شعورًا بالذنب يتآكل معه كل إحساس بالاستحقاق، وما بدأ بحالةٍ من التخلي المادي بهدف التوفير انتهى إلى تخلٍّ نفسي، ففقد الرغبة في كل شيء، وصارت المتعة أو السعي إليها تشعره بالخجل الذي انتفخَ بدوره شعورًا بالعار. حتى الجنس صار أمرًا يفوق طاقته، يمارسه مجبرًا بواجبٍ زوجيٍّ أعفيته منه لاحقًا.”.
بدأتْ بتسخين الماء لصنع الشاي لنا، صوتُ الغلاية المرتفع دفعنا كلانا لصمتٍ مريح. ملامحُ وجهها تغيرت قليلًا وهي تضع الفناجين على الطاولة الخشبية برلينية الطراز أمامنا، ثلاثةُ أقراطٍ صغيرة في حاجبها الأيسر، منحت وجهَها بعض الحيوية التي لا توحي بها ملامحها.
“هل تعلمين أننا فقدنا طفلًا؟” جفلتُ وانسكب الشاي من الفنجان في يدي، ضحكتْ وهي تناولني المنديل، وغيرت الموسيقى إلى شيء أخف وطأة على أذني، قالت إن ردة فعلي هذه تستدعي موسيقى تصويرية حزينة، وجهُها لم يحمل سوى ملمحًا صغيرًا من السخرية.
“لم يكن طفلًا حقيقيًا كان ما يزال في بطني، اكتشفتُ حملي بعد شهرٍ ونصف من رحلتنا، كنا قد بلغنا هنغاريا وهناك اتضح أنني في الشهر الثالث، كنت أعتقد أن الدورة فاتتني بسبب الرحلة وما واجهناه فيها من رعب، لكن السبب كان بيولوجيًا بحتًا، لو رأيتِ ردة فعله حين علم بحملي، كان مرعوبًا من فكرة الطفل في هذه المرحلة أكثر من رعبه من الرحلة بأكملها، أكثر حتى من فكرة الاحتجاز في هنغاريا، كنا سننجب لاجئًا صغيرًا جديدًا أعفانا العالم منه وأعفيناه منه نحن أيضًا.
اعتقدتُ في مرحلة ما بعد استقرارنا في برلين، أن إنجاب طفل هو أفضل ما يمكن فعله لتحسين علاقتنا الزوجية، على الرغم من أنني كنت أكثر رعبًا منه حينها، إذ خشيت أن يتكرر ما أصابني حين سقط طفل الرحلة بعدما سلبني كل طاقتي وتركني خاوية.
بالنسبة إليه، إنجاب طفلٍ كان يعني عملًا أكثر، وعبئًا جديدًا يقلق لأجله. سحقني رفضه الذي خرج بصيغة عداءٍ كلي واتهامٍ بالأنانية، فلم أجرؤ على الاعتراف بأنني أريد الإنجاب لأجله هو فقط، وأنه يشعرني بالشفقة وهو يتحول إلى برغي في هذه الآلة التي تهرسنا. كان أيُّ دفاع عن نفسي تجاه تهمة الأنانية هزيلًا تمامًا لأنني فعلًا كنت في تلك اللحظة أنانية، أريد مخلوقًا يمنحني ذاك الحب غير المشروط، وكنتُ شريرةً أيضًا دون قصد لأنني أردت حقيقةً أن أستبدل به حب زوجي.”.
كانتْ قد مدّتْ خيطًا من الكوكايين على موبايلها، سحقته بهدوء بواسطة بطاقة البنك ورصَّته بشكل خطٍ طويل رقيق، استغرقت العملية وقتًا وهدوءًا لا يشبه مشاهد متعاطي المخدرات التي اعتدتها في الأفلام المصرية، بدت بعدما سحبته أكثر اتساعًا وصوتها أكثر رخامةً كحكواتي قادرٍ على رواية حكايا العالم بأجمعه.
“أثقُ الآن بأن أفضل ما فعلتُه حينها هو الرضوخ والتخلي عن الفكرة بأسرها. ربما سأكرهه لاحقًا بسبب ذلك، ففرصي بالحمل تتناقص كل ساعة، وهو أمرٌ لا أقلق حياله الآن، ولكنني سأفجر ندمي في وجهه لاحقًا حين أصبح أكثر وحدةً.
ما زلنا مع بعضنا بالشكل الذي تتيحه لنا هذه البلاد، فكرت بالطلاق مرات عديدة، لا لأيٍ من الأسباب التي تطلق لأجلها النساء عادةً فيغفر لها الآخرون، بل بالذات لكل ما يمكن أن يشتمني لأجله قرّاؤك لاحقًا. أستيقظ أحيانًا مع شعورٍ خانق بالحقد، لا أريده قربي، في سريري، لا أريد أن أسمع شخيره المتعب، أنفاسه المكسورة، ما يجمعنا الآن هو الخوف من البرد والسرير الفارغ المجهول فقط، ورغبة طفيفة في الحفاظ على أحاديثنا الصغيرة في أثناء الطعام أو كأس الشاي أمام فيلم نهاية السهرة السخيف، فليس لأيٍّ منا أصدقاء حقيقيون هنا نحتمي بحضورهم وننشغل بقصصهم. أعتقد أنه يشعر بالمثل، هو يراني شخصًا آخر أيضًا، وربما يكرهني دون أن يجرؤ على الاعتراف خشيةَ أن أعترف بالمثل أمامه.
نصحتُه بالحشيش لتخفيف شدّ أعصابه قبل أن تتقطع في لحظةٍ ما، لكنه لم يعرف كيف يسحب، فهو لا يدخن حتى، تجرأت ودعوته لزيارة طبيب نفسي، فكل ما مررنا به كفيلٌ بتحطيم نفسية أي إنسانٍ في هذا العالم المتمدن، لم يرفض، لكنه ما زال يؤجل منذ عامين، هو فقط لا يريد تغيير أي شيء، وكأن التغييرات الهائلة التي أصابتنا امتصت جرأته على مواجهة أي جديد.
اليوم، كل الملاهي الليلية حيث كنت أمارس احتقاري لهذا العالم وأستعين بالرقص على متابعة أيامي، مغلقة. لكن الجائحة لم تؤثر على تناوب سكائر الماريوانا وقشة شم الكوكايين مع بعض أصدقاء الأمر الواقع المحيطين بنا، بعد ما أصبح التعاطي من مجريات الحياة اليومية، لا لشيء سوى لأنه يجعل عدم انتظار شيء من الحياة أقل وطأة فقط.”.

مشاركة: