الربيع العربي؛ ثورة في عقدها الأول

تاريخ وصول المادة: 7 نيسان/ أبريل 2021

الكلمات المفتاحية: الربيع العربي . الاستبداد العربي . الثورة . موجة ثورية . الانتفاضات العربية

مقدمة
ظل الاستبداد العربي مستقرًا لعقود طويلة إلى أن هزته هبات اجتماعية ثورية متفرقة لم تكتمل ولم تنته بعد. ولأول مرة في التاريخ الحديث للمنطقة يخرج المواطنون على نطاق واسع لمواجهة هذه الأنظمة، ما فرض إعادة ترتيب أدوات السيطرة والهيمنة وإعادة صياغة التحالفات، وتجديد الشرعيات، بالاستجابة والتنازل والقمع أو خليط من كل ذلك، وقد افتتح هذا الخروج مسارًا جديدًا من الصراع والتعلم لتطور المصالح والوعي.
وقد عبرت الانتفاضات العربية عن استجابة من أسفل لأزمة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية وأزمة شرعية الاستبداد، وسواء نُظر إليها بوصفها سيرورة سياسية واجتماعية طويلة الأمد أو لحظة فلا يمكن أن نخلع عنها وصف “الثورة” بالمعنى الأكثر عمومية الذي ترسخ منذ الثروة الفرنسية عام 1789. هذه الثورة فرضت تجديد تحالفات النخب والطبقات المهيمنة في المنطقة العربية، وتغيير قواعد ضبط العلاقات الاجتماعية، وخلفَّت عدم استقرار واضطراب عميق في أساليب وأدوات الهيمنة، وقد فرض الطابع الإقليمي لهذه الثورة واقعًا جيوسياسيًا غير مسبوق لن يبقي أي شيء في مكانه.
أزمة الثورة
أحدثت الثورات عبر التاريخ تغييرات سريعة في الدولة وأيديولوجيتها المهيمنة وفي الهياكل الاجتماعية؛ وقد تأزم المسلسل الثوري الراهن لمَّا عجزت قواه عن ابتكار وإنتاج الوسائل والموارد اللازمة لإنجاح التغييرات السياسية والاجتماعية، ورغم أن الاضطرابات البنيوية تمكن من استكمال التغيير العميق إذا كانت مدفوعة بانتفاضات، فالتحول الجاري لأسباب كثيرة ضلّ طريقه إلى ذلك.
لم يجد الثوار أي وسيلة فعالة لخوض الصراع إلا أن يملؤوا الميادين ويلقوا بأجسادهم أمام أجهزة القمع لتعطيل أدوات الإكراه والهيمنة، ولم يخططوا للاستيلاء على سلطة الدولة، واعتمدوا على التمرد الجماعي فقط، دون تفكيك أجهزة الدولة القمعية؛ وهو شرط أساس لانتصار الثورات.
بينت أحداث العقد الأول أن هناك أزمة مركبة؛ فالحركات الاحتجاجية العارمة لم تتمكن من فرض تغيير سياسي شامل، والاستبداد نتيجة ذلك يعيش أزمة عدم استقرار طويل الأمد؛ فالانتفاضات لا تستمر ولا تنجح في التغيير في غياب تحالفات شعبية واسعة تحل محل التحالفات السائدة، دون تفكيك الروابط الأهلية والوطنية التي عادة ما تعيد صياغتها الأنظمة لتقدم نفسها ضامنًا للسيادة والوحدة الوطنيتين؛ إذًا فالتغيير الاجتماعي والديمقراطي، والوطني، الذي مثلته شعارات المساواة والحرية، والسيادة بصورة ما، تعوقه طبيعة الدولة القائمة وتحفه بمخاطر تفككها، ما جعل الدولة القائمة تبدو سبب المشاكل وصاحبة الحلول.
وقد صارعت الثورات القوى المضادة للثورة والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي كافة، بيد أن اندلاع الثورات في المنطقة العربية كشف عديدًا من المعضلات وفتح الباب على مرحلة رمادية حادة اختلطت فيها أوراق “الثورة” و”الثورة المضادة”، والحرب الأهلية والأزمات السياسية والاقتصادية، ما كرس لدى قطاع واسع من الناس استحالة حدوث تغيير حقيقي في المنطقة، لكن الواقع يرجح احتمالات غير متوقعة.
أنفاس جديدة
من المثير للانتباه أن تعود إلى الظهور حركات جماهيرية عارمة تسعى للتغيير قبل أن ينتهي عقد خيبات الأمل، الذي خلق حالة من رهاب التغيير. فقد بدأت من السودان موجة ثورية جديدة عندما تمكن المحتجون من إطاحة عمر البشير الذي حكم ثلاثة عقود، وفرضت الجماهير المنتفضة ميزان قوى غير مسبوق.
وفي الجزائر يهدِّد الحراك جديًا وحدة الطبقة السائدة، تحت سيطرة الجيش التي تنعش هيمنتها من التطلعات التحررية السابقة؛ حيث يبني النظام شرعيته على سرديات السلام وإنهاء الحرب الأهلية، وقد تمكن الحراك من تحدي السلطة مبينًا أن هناك ذاكرة شعبية مضادة عن الاستقلال والحرب الأهلية.
وفي العراق انبثقت قوة اجتماعية من القاعدة تطالب بتغيير شامل للنظام السياسي، وإنهاء نظام المحاصصة العرقية والطائفية الذي أنشئ منذ الغزو الأميركي. كما خرجت احتجاجات عديدة في لبنان، منذ عام 2017، وتطورت من رد فعل على الفساد والأزمة الاقتصادية إلى تحد للنظام الطائفي.
تبين خارطة الاحتجاجات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن الأنظمة الاستبدادية تواجه موجات احتجاج قوية، باستثناء الاستبداد السلطاني في ممالك الخليج الذي ما يزال بإمكانه وأد أي معارضة، واستخدام الريع لشراء السلم الاجتماعي ومساندة الأنظمة الحليفة؛ إذ تسعى إلى تكوين معسكر إقليمي ضد الثورات الداعمة بعضها بعضًا، وفق الاتفاق الأمني بينها الذي يسمح لها بالتدخل بصورة قانونية لقمع المعارضة السياسية.
التدخل الخارجي
في التجارب التاريخية الماضية عصفت الثورات بكثير من الدول التي اعتمدت الدعم الخارجي، الذي من المرجح أن ينتهي لأسباب مختلفة. ودول المنطقة العربية تعتمد اليوم أكثر من أي وقت الدعم الخارجي، والمثال الذي بات مشهورًا هو الدعم الروسي والإيراني لنظام الأسد. لقد أنفقت القوى الإقليمية، خاصة السعودية وإيران، كثيرًا من الطاقة والموارد، لمواجهة هذا التغيير في المنطقة العربية، وقد ترجم ذلك مزيدًا من العسكرة في الشرق الأوسط.
فبين عامي 2013 و2017 بيعت 49 في المئة من صادرات الأسلحة الأميركية بقيمة 52 مليار دولار إلى دول الشرق الأوسط، خاصة المملكة العربية السعودية التي زادت من إنفاقها العسكري خلال العقد الماضي، لتصبح ثالث أكبر دولة إنفاقًا على التسلح في العالم عام 2016، متجاوزة روسيا؛ ويعني ذلك طبعًا تزايد النفوذ الأميركي ونشر القوات الأميركية على المدى الطويل، بموافقة الأنظمة الحليفة باسم “مكافحة الإرهاب” و”احتواء النفوذ الإيراني”؛ ما يضمن التدفق الحر للنفط واستقرار أسعاره والحفاظ على الأنظمة الموالية في السلطة.
ومن الناحية الاقتصادية فرضت مشاريع التحرير والخصخصة المدعومة دوليًا من صندوق النقد الدولي والبنك ووكالات المعونة مثل USAID، واتفاقيات الشراكة المتوسطية للاتحاد الأوروبي، في عدد من البلدان العربية، إجراءات تقشفية حادة لتخفيض التعريفات وفتح الأسواق، وبعد ثلاثة عقود من الإصلاحات النيوليبرالية تنامت فيها أنواع الفساد والمحسوبية كافة وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة وتعمق التفاوت الاجتماعي، ولم يكن مستغربًا أن تتطور الاحتجاجات الاجتماعية إلى انتفاضات شعبية وصلت أوجها مع ثورات “الربيع العربي”.
وفي عقب انتفاضات (2010-2011) سارع قادة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى إلى إطلاق شراكة دوفيل (Deauville Partnership) ليكون برنامجًا نيوليبراليًا شاملًا لدعم التحول السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مصر والأردن وليبيا والمغرب وتونس، ولم يجد واضعو البرنامج غير الإصلاحات النيوليبرالية المطبقة منذ ثلاثين عامًا لاقتراحها، وبعد فشلها تلقي المؤسسات المالية الدولية باللائمة على دور الدولة الموروث في هذه البلدان، دون الالتفات إلى دور الدولة في أربع ممالك خليجية تشارك في البرنامج مستخدمة قوتها المالية في محاصرة التغيير في بقية بلدان المنطقة.
خلاصة
اصطدمت الانتفاضات العربية بانسداد أفق غير مسبوق في التاريخ الحديث، بات معه التطلع إلى الديمقراطية يعني قبول الإملاءات الاقتصادية النيوليبرالية، بعد انقطاع الطرق البديلة للتنمية والديمقراطية، حتى أن التجارب القريبة لانتفاضات شعبية “ناجحة” في أوربا الشرقية قبل أكثر من ثلاثين عامًا لم تفض إلا إلى إعادة العلاقات السابقة، وإنهاء تحدي الرأسمالية والهيمنة الغربية.
واجهت الثورات العربية هذا الغموض بكثير من العفوية وسوء التنظيم، فلم يتمكن الثوار من الظفر بأي وسيلة فعالة لمواجهة العقبات الكبرى للثورات؛ الثورة المضادة والتدخل الخارجي والحرب الأهلية.
على الرغم من أن الثوار تمكنوا من تحدي الأنظمة وتجاوز القمع واحتلال الميادين، ما عطل مؤقتًا أجهزة الدولة القمعية، فإنهم بقوا خارج دوائر النفوذ ومن دون استراتيجية، ما مكن الأنظمة والقوى الخارجية من إعادة ترتيب الأوراق.
وبمساعدة العاملين السابقين؛ أي غياب سلطة ثورية والتدخل الخارجي، سقطت الثورات في متاهات الانقسام الداخلي وصراع الهويات؛ بفعل أجندات إقليمية ودولية لتنشيط عودة ظهور الهويات العرقية والدينية، والهجوم المحموم على السيادة الوطنية، ما نقل قطاعًا واسعًا من المترددين في تأييد “الثورة” إلى معسكر “الثورة المضادة”.
لكن بعد عقد تبين أن أسباب وعوامل التغيير السياسي والاجتماعي في المنطقة العربية ذات أهمية “تاريخية”، فقد شهدت بلدان عديدة عودة حركات احتجاجية قوية، وعاشت أخرى انتفاضات شعبية قبل أن يعطلها انتشار وباء كوفيد-19، وقد بينت تجارب الحركات الراهنة عن إمكانية تعلم جماعي من الأخطاء وعدم الوقوع في الفخاخ السابقة، خاصة اللجوء إلى الانتخابات والتعديل الدستوري قبل تغيير النظام السياسي، واللجوء إلى الجيش لتغيير النظام، والنزعات الطائفية لمواجهة الأنظمة يعني ترسيخها ممثلًا لـ “الوحدة الوطنية”، ثم إشكالية الدعم الخارجي.
ومهما تكن تكاليف كشف هذه المعضلات باهظة وشروط هذا التحول قاسية، فيجب أن ندرك حقيقة أن العوامل “التاريخية” التي تحقق التغيير الراهن تؤكد أنه لا بد لأحد اللاعبين أو مجوعة من أطراف الصراع أن تقوده إلى وجهة ما؛ فإما أن تجدد “الثورة المضادة” أو “الحرب الأهلية” ذات الامتدادات الاقليمية العلاقات الأساسية، أو تُرسى علاقات جديدة نوعًا ما عن طريق صفقات “ديمقراطية” بين المعارضة والنظام، أو إحلال ثوري لعلاقات اجتماعية جديدة.

مشاركة: