الطائفية والتطرف ما بعد الربيع العربي.. الأسباب والمسارات والمآلات

الكلمات المفتاحية: الربيع العربي . الطائفية . التطرف . الهوية . الفوضى الخلاقة

مقدمة
فرضت الطائفية والتطرف نفسيهما على المشهد العربي بعد الربيع العربي، فأصبح مشهد الأحداث في كثير من الدول التي حدث فيها تحولات سياسية عميقة نتجت عن انهيار أنظمة الحكم بسبب الحراك الشعبي العربي (الربيع العربي). فهذه الأحداث في معظمها خلقت صراعًا طائفيًا وعرقيًا دينيًا وهويّاتيًا مصحوبًا بنزعة عالية من التطرف الفكري والديني والعقائدي تجاه الآخر في كثير من دول المشرق العربي، نتيجة ضعف البناء المجتمعي، وغياب المواطنة، وانتشار مظاهر الفساد والمحسوبية.
لقد مثلت الطائفية والتطرف وجهتين لعملة واحدة؛ تمثلت الوجهة الأولى في غياب مؤسسات الدولة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية بعد أن تحصن المواطن العربي في الهوية الفرعية لتوفير الحماية الأمنية والمظلة السياسية والاجتماعية. بينما تمثلت الوجهة الثانية في حالة الصراع الطائفي والصدام المباشر بين القوى السياسية والدينية والاجتماعية، التي نتج عنها بروز الطائفية والتطرف في الحياة السياسية والاجتماعية في كثير من المجتمعات العربية.
ويطرح هذا التطور في الانقسام الطائفي الذي حصل في المجتمع العربي بعد انطلاقة موجات الربيع تساؤلات جوهرية عن مرجعية هذا الانقسام وجذوره، والأسباب التي مكَّنته من اختراق الكيان الاجتماعي، على الرغم من وجود ميراث طويل ومهم من التعايش والقبول، فهل بات من المقدَّر للحالة الطائفية أن تكون نمطًا اجتماعيًّا مسيطرًا في المستقبل؟
أدت مأسسة الهويات الطائفية إلى نشوب صراعات حول مكانة وحدود وقوة كل طائفة، وقد كان لهذه الصراعات أثر مزعزع للاستقرار، خاصة عندما كانت تضفي مشروعية على أعمال الجماعات التي تمارس العنف وتدعي تمثيل طوائفها.
في هذه المقالة سوف نحاول تسليط الضوء على الأسباب التي دفعت الطائفية والتطرف لتصدر المشهد في المجتمعات العربية، والمسارات التي سلكتها الطائفية والتطرف، ومآلات الظاهرة في ضوء الواقع العربي والإقليمي والدولي.
أولًا: الطائفية والتطرف.. من الخفاء إلى العلن
صاحب انطلاقة الربيع العربي بروز الطائفية والتطرف وتصدرهما المشهد العربي، بعد تراجع دول ا(لدولة الوطنية) وتفكك أركانها ولجوء المواطن العربي إلى الهوية الفرعية المتمثلة في الطائفة والجماعة الدينية لحمايته وتوفير متطلبات الحياة له ولأسرته في ظل اختفاء دور الدولة ومؤسساتها في توفير المتطلبات الأساسية للمواطن بعد أن ضربت الموجة الأولى من الحراك الشعبي مفاصل الدولة الوطنية، وأُسقطت معظمها نتيجة غياب المؤسسات، وتركز السلطة والثروة في يد فئة قليلة من الطبعة السياسية.
الطائفيّة ببساطة تعني في معانيها اللغويّة والاصطلاحيّة تعصّب، أو تجمّع طائفة مُعينَة من الناس على أمر ما. ونحن حينما نذكر مصطلح الطائفيّة يتبادر إلى الذهن مباشرة الطائفيّة الدينيّة، أو المذهبيّة، لأنّها هي السائدة والظاهرة في حياتنا.
الطائفيّة الدينيّة: ويقصد بها التعصّب والولاء لدين واحد دون غيره، وهذه العصبيّة تكون بين أبناء الديانات المختلفة، وليس بين أبناء الدين الواحد، وفيها نلحظ كلّ جماعة تتمسك بدينها وتحاول ضرب الآخر. أما الطائفيّة المذهبيّة: فيقصد بها التَزَمُّت والنصرة لمذهب واحد دون غيره، وتكون بين أبناء الدين الواحد، لا بين أبناء الديانات المختلفة().الطائفية تعني وجود نظام سياسي اجتماعي يرتكز على معاملة الفرد على أنه جزء من فئة دينية تنوب عنه في مواقفه السياسية، بناء على ذلك تتحكم الطائفة في حياة الفرد السياسية والاجتماعية، وتحكمه وفق قوانينها وشرائعها الدينية، التي يقوم بها رجال الدين بوصفهم الحاكم والوسيط().
ينظر كثيرون إلى الاضطرابات في الشرق الأوسط في سياق الطائفية الدينية، مع التركيز على الانقسام السني الشيعي. لكن عزمي بشارة في تناوله عن أسباب نشوء الطائفية السياسية في السياق العربي، يؤكد أن الطائفية ليست من إنتاج الطائفة بل العكس. فالطائفية هي التي تستدعي الطائفة من وعي الناس، وتعيد إنتاجها كيانًا متخيلًا في شروط تاريخية وسياسية حديثة، مؤكدًا أن فشل الدولة الوطنية وعجزها عن دمج الجماعات على أساس المواطنة، في محيط إقليمي يتسم بالصراع، أديا إلى استثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة، ليتطور لاحقًا إلى صراع على تاريخ البلاد ومشكلة “نحن” مقابل “هم”.()
ويمثل بروز الطائفية والتطرف في المشهد العربي أحد نتائج المشروع الأميركي في المنطقة، هذا المشروع الذي حاول تغير الوضع القائم من تعزيز النعرات الطائفية والمذهبية بهدف تغير الواقع وإنتاج واقع جديد يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة من خلال ما عرف بنظرية الفوضى الخلاقة.
وجاء المشروع على أنه خليط أو مزيج من التجارب الأميركية السابقة لزعزعة الأمن والاستقرار في العالم إبان الحرب الباردة على شكل حروب أهلية أو داخلية كان للأمريكيين دور فيها بشكل أو بآخر، فأخضعوها للتحليل والتركيب والدمج، مستخلصين من كل واحدة درسًا مفيدًا وتجربة ناجحة تصلح للتصدير لدول ومناطق أخرى(). وتهدف نظرية (الفوضى الخلاقة) إلى إجراء حملة طويلة من الهندسة الاجتماعية تفُرض بالقوة، بحسب (مايكل ليدن) العضو البارز في التيار المحافظ، حيث قال “حان الوقت لكي تصدر الثورة الاجتماعية من أجل إعادة صياغة المنطقة العربية عبر تغير لا يشمل الأنظمة فقط! بل يشمل الجغرافيا السياسية؛ انطلاقًا من رؤية خاصة تهدف إلى بناء مختلف”. وكانت تستند هذه الرؤية إلى أفكار المستشرق الغربي برنارد لويس، الذي كان يرى في المنطقة عبارة عن تجمعات لأقليات عرقية ودنية غير قادرة على العيش سوية في كيانات وطنية().
وحاولت (كونداليزا رايس) وهي وزيرة الخارجية الأميركية (2004-2008) رسم سياسة خارجية جديدة قائمة على مجموعة من المبادئ الأساسية، منها بناء قوة عسكرية مؤهلة لضمان استمرارية وتوطيد التفوق والهيمنة الأميركية. ووظفت الولايات المتحدة الأميركية قوتها العسكرية للدفاع علن مصالحها الحيوية وتحقيق أهداف سياستها الخارجية، حيث جمعت بين التهديد باستخدام القوة العسكرية واستخدامها فعلًا(). وتقوم نظرية الفوضى الخلاقة على عدة دعائم وركائز أساسية، هي على النحو التالي():
إطلاق الصراع العرقي: فهي تقوم على بث الشرخ العرقي الحاد في الدول التوافقية، القائمة على فكرة التوازن بسبب تركيبتها العرقية. (والنموذج العراقي خير دليل على ذلك، لأن العراق مكون من مكونات عرقية بين العرب والأكراد، والشيعة والسنة).
إطلاق صراع العصبيات: بهدف ضرب استقرار الدولة بجميع مؤسساتها وأجهزتها، واستبدالها بولاءات حزبية أو عشائرية قائمة على انتماءات قبلية. (والأمثلة على ذلك كثيرة منها النموذج الليبي، والسوري، واليميني).
ضرب الاستقرار الأمني: عبر إطالة أمد الاحتلال العسكري، لإعطاء انطباع بعدم استحالة عودة الأوضاع السابقة.
زعزعة الاستقرار الاقتصادي: بهدف ضرب الاستقرار الاجتماعي وخلق تنافس على الموارد.
التعبئة الإعلامية: لأن التعبئة الإعلامية العرقية والطائفية خاصة كفيلة بتغذية حالة الصراع الطائفي والعرقي في المنطقة.
وارتكزت نظرية الفوضى الخلاقة على خطاب الإصلاح السياسي الجديد تجاه المنطقة العربية، ومثلت قضية نشر الديمقراطية نقطة جوهرية، حيث أصبح على الولايات المتحدة الأميركية وانطلاقًا من قناعة مفادها أن غياب الديمقراطية والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في منطقة الشرق الأوسط هي السبب الرئيس في انتشار الإرهاب والتطرف، حيث ظهر ذلك في خطابات بوش المتعددة بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث بربط بين غياب الأنظمة الديمقراطية وتنامي ظاهرة الفقر ، وأكد على أن غياب الحرية والتمثيل الديمقراطي يمثل تحديًا بالنسبة للولايات المتحد الأميركية، ورأى أن الانتخابات وحدها لا تصنع الديمقراطية بل المهم تطور المجتمع المدني، والإصلاح السياسي والثقافي والإعلامي().
الغزو الأميركي للعراق والمنطقة عبر القوة العسكرية أدى إلى شيوع الطائفية والعرقية وتفوق قانون القبيلة على الدولة، كما ساهم غياب المواطنة والاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وسوء توزيع الثروة والنظرة الدونية إلى أصحاب الأقليات الدينية والعرقية لبروز الطائفية في المجتمعات العربية، فغياب التعايش السلمي وغياب منظومة الحقوق عبر إيجاد عدالة اجتماعية حقيقية ساهم في بروز الطائفية بعد أن تحصن المواطن العربي في هويته الدينية والطائفية على أنها بديل عن الهوية الوطنية الجامعة.
ثانيًا: مسارات الطائفية والتطرف
أخذت الطائفية والتطرف مسارات متنوعة ومتعددة نظرًا لتشابك الأدوار والتدخلات الدولية والإقليمية، وانتشار ثقافة العنف وبروز ظاهرة الجماعات المسلحة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي. في ضوء ذلك بدأت مسارات الطائفية تأخذ أكثر من شكل واتجاه، كان أهمها الاتجاهات والمسارات التالية:
مسار داخلي
اتخذ العنف والتطرف الناتج عن الصراع الدائر في كثير من المجتمعات العربية مسارات كثيرة، لكن كان المسار الداخلي أحد أهم هذه المسارات الذي ساهم في تفكك النسيج الاجتماعي لكثير من دول المنطقة وخاصة العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين وبروز الطائفية السياسية بكونها محدد رئيس في بناء عراق ما بعد صدام.
كانت سلسلة ثورات الربيع العربي أقرب إلى انفجارات اجتماعية في البلدان التي حكمتها أنظمة استبدادية عسكرية النشأة، حظرت معظم الأنشطة السياسية والاجتماعية، واعتمدت خطابًا دعائيًا لتأبيد سلطة الزعيم الأوحد الذي امتزج وحزبه وحاشيته في هيكلية الدولة ووظفوها لحماية سلطتهم.
جاءت هذه الممارسات في عصرٍ تسارع فيه التطور الاقتصادي والاجتماعي، وغذته وسائل التواصل، واجتاحته العولمة، ما كشف عن اتساع الهوّة بين حرية التفكير التي فرضت نفسها على امتداد معظم أنحاء الكرة الأرضية، وواقع الاستنقاع الفكري المعيش في منطقتنا العربية، وما نجم عنه من تضاؤل الإبداع والتجديد، والتفكير الممسوخ المقتصر على فرض سياسة اللون الواحد بما يتناسب واحتياجات الهيمنة على مقدرات البلاد والعباد().
فقد انتشرت في المنطقة ظاهرة فرق الموت و”المرتزقة” ومشاهد القتل على الخلفية المذهبية والدينية، وأصبح العراق وغيره من الدول ساحة للصراع الطائفي بين الشيعة السنة من جانب، والعرب والأكراد من جانب آخر. فقد طالت التفجيرات الكنائس والمساجد(). وتدلّ هذه التفجيرات على حدوث تغير نوعي في شكل الأهداف التي يختارها من يلعبون على وتر الطائفية داخل العراق وخارجه، حيث تطوروا من استهداف الأشخاص إلى استهداف الرموز الدينية التي تتمتع بقداسة خاصة، مثل ضريح علي الهادي والحسن العسكري (رضي الله عنهما) المقدس لدى الشيعة والسنة في العراق لكونه يقع في مدينة سُنية (سامراء) ويزوره الشيعة من كل أنحاء العراق().
بشكل عام، لقد ارتبط حجم التداعيات المرافقة لهذه الظاهرة، ولاحقًا حجم الخراب الناجم عنها، بدرجة القمع وكبت الحريات السياسية السائدة في بلدان الربيع العربي، علاوة على الظلم والعوز المرافق لكل استبداد، ومنه سوء توزيع الثروة الوطنية والسطو عليها، من قبل قلّة في رأس الهرم السلطوي. كما أنّ وجود تباينات اجتماعية ودينية وقومية، في ظلّ غياب ثقافة المواطنة، مكّن بعض القوى الداخلية والخارجية من اللعب على هذه التباينات، واستثمارها في محاولةٍ لإذكاء نار الصراع الأهلي، بعيدًا من المسار التاريخي المفروض للتحرّر من الاستبداد وبناء الدولة الديمقراطية – العلمانية التي تحمي مواطنيها وتساوي بينهم تحت سلطة القانون، ما يساعد في قيامهم بواجباتهم ونيل حقوقهم وتجلّي إمكاناتهم().
مسار الصراع الإقليمي
الصراع الطائفي الذي بدأ في العراق تحول إلى صراع إقليمي بين السعودية وإيران، واتجه نحو التحول إلى مواجهة عسكرية مفتوحة، حيث بلغ الاستثمار في الحرب بالوكالة بين الطرفين مراحل متقدمة في الساحات المختلفة، في سورية ولبنان واليمن والعراق، حيث يعمل الطرفان على تأجيج الصراعات الطائفية عبر شركائهم المختلفين، في حين تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن دورها في الحدّ من هذا الصراع، واختارت بدلًا من ذلك السماح للجهات المتصارعة إلى إرهاق بعضها بعضًا(). بدأ التنافس السعودي الإيراني على النفوذ في منطقة الخليج منذ الثورة الإسلامية في طهران عام 1979، واستمر مع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) عندما قدمت السعودية دعمًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا للعراق في مواجهة إيران، ويغلف صراع النفوذ بين البلدين طابع مذهبي، إذ تعمل كل دولة من الدولتين على دعم طائفة معينة في العراق، فالسعودية تريد إقامة دولة سنية محافظة في العراق، كما تعمل إيران على بقاء هيمنة الشيعة على النظام السياسي بعد الانسحاب الأميركي منه().
ويتحرك المعسكران السني والشيعي في اتجاهين متعاكسين، من جهة يحشد معسكر شيعي أصغر حجمًا لكنه أكثر تماسكا واتحادًا، وهو ما يصوره قادته على أنه إعادة توازن تاريخية متأخرة للقوى الطائفية في الشرق الأوسط، بينما يحد القتال الداخلي وتضارب المصالح في المعسكر السني من فاعليته، ويمكن الجهات الشيعة أكثر فأكثر من السيطرة على مناطق نفوذه(). لقد سعت إيران إلى الوجود الفعلي من خلال شبكاتها العاملة في العراق على الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية مع العراق؛ وعملت على إيجاد مراكز سيطرة على حدودها الجنوبية مع اليمن لتشكيل طوق جغرافي من هاتين الجهتين الحدوديتين؛ إضافة إلى الحدود الشرقية للسعودية على شاطئ الخليج العربي قبالة السواحل الإيرانية في امتداداته إلى خليج عدن ومضيق باب المندب، بما يمثله هذا المضيق من تهديد للأمن القومي السعودي، ما دفع لتشكيل تحالف عربي في آذار/ مارس 2015 لمنع حركة أنصار الله (الحوثي) الذراع الإيراني في اليمن من السيطرة على مضيق باب المندب وعدن ومدن أخرى على الساحل الجنوبي لليمن().
بروز حركات وجماعات متطرفة عابرة لحدود الدولة
كان من أبرز نتائج بروز الطائفية والتطرف في المشهد العربي ظهور الجماعات الإرهابية المتطرفة، وعبورها حدود الدولة الوطنية وسيطرتها على مساحات واسعة من الأرضي، هذا الأمر سمح لها بتطبيق فكرها المتطرف على السكان، وممارسة أعمال قتل وقمع وحشية. وجاء تنظيم داعش ردة فعل على بروز الطائفية والتطرف في المنطقة.
العنف الممارس باسم الطائفية والصراع الطائفي والمذهبي أدى إلى أن مجموعات من المجتمع قامت “باستكشاف معنى الماضي من جديد، وإقامة شعائر الأجداد، ومن هذه الفئة يخرج “المسفّلون” أي السفلة غير القابلين للتهذيب، الذين استعملوا الدين مذهبًا للانتقام من الاحتلال والدولة والمجتمع. ومن هنا أخذ تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” الدين أيديولوجية لتبرير أعماله، وورّثها تنظيم “دولة العراق الإسلامية”.()
(الدولة الإسلامية في العراق وسوريا) (ISIS)، المعروفة أيضا باسم (الدولة الاسلامية في العراق والشام) ISIL)، وهي مجموعة جهادية سنية تتبنى أيديولوجية عنيفة، حيث تطلق على نفسها اسم الخلافة، وتدعي السلطة الدينية على كل المسلمين. وانبثق تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من تنظيم القاعدة في العراق الذي أسسه “أبو مصعب الزرقاوي” في العراق عام 2004، وتمكن التنظيم من السيطرة على الموصل، وتوسع تجاه الرقة في الأراضي السورية، وأظهر وحشية مفرطة في قتل الخصوم، أكانت عبر قطع الرؤوس أم تعليق الجثث، أم حرق الأحياء.
وجدد (حسن أبو هنية ومحمد أبو رمان) في كتابهما (تنظيم “الدولة الإسلامية”: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية) بأن التنظيم وعنفه نتاج البيئة العربية في واقعها الراهن؛ بسبب تسلط الأنظمة السياسية وفسادها، والمنظومة الفقهية الفكرية. وهو ما أدى إلى توترات اجتماعية وسياسية، تحولت إلى صراع هوياتي() فنتجت “أزمة سنية”، أعادت إحياء تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”. هذا التطرف والعنف هو نتاج أزمة طائفية.
وساهم في تمدد التنظيم الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في العراق، خاصة التهميش الذي عانت منه المناطق السنية، حيث مكنت التنظيم من التوسع والسيطرة على أجزاء واسعة من العراق وسورية(). بديات ظهور تنظيم (داعش) ترافق مع الاحتلال الأميركي للعراق، فقد أسس زعيم خلية القاعدة في بلاد الرافدين “أبو مصعب الزرقاوي” التنظيم الذي حمل في البداية اسم “جماعة التوحيد والجهاد”، ثم تعاون مع عدد من المرتدين على حكم الأغلبية الشيعية، حيث تمدّد التنظيم في محافظات نينوى وصلاح الدين، والأنبار وديالي وشمال بابل وبغداد، وهي محافظات ذات أغلبية سنية وجدت نفسها بلا عمل نتيجة سياسات اجتثاث حزب البعث().
وقد نجحت القاعدة في توسيع نطاقها من خلال الشراكات مع منظمات أخرى أيضًا في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما وصفه منسق وزارة الخارجية الأميركي لمكافحة الإرهاب، “ديل ديلي”، بأنه “حقوق الامتياز من القاعدة”. وتشمل هذه المنظمات المنتسبة: (القاعدة في العراق، والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة القتال الإسلامية الليبية).
وأعلنت أكثر من 40 منظمة إرهابية تشكلها بين كانون الثاني/ يناير 2005 ونيسان/أبريل 2007، وتعهدت بالولاء للقاعدة وأسامة بن لادن(). ويشكل الإرهاب والتطرف تحديًا للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، فهو يعمل على إرباك التجمعات، بالرجوع إلى الفكر الإرهابي المتطرف الذي تعاني منه المجتمعات، ويأتي العراق في مقدمة الدول التي عانت من انتشار الجماعات الإرهابية المتطرفة، المتمثلة في تنظيم داعش الذي سطر على الموصل في بداية العام 2014، وما نتج عن ذلك من أعمال قتل ونهب وتخريب للممتلكات العامة والخاصة، وتهجير السكان والطوائف وهدم الآثار الأشورية، التي تمثل تاريخًا عظيمًا للعراق يمتد نحو 9 ألاف سنة().
شكل ظهور تنظيم داعش نقله نوعية في العنف الديني القائم على أساس مذهبي، فقد قام التنظيم بأعمال إجرامية بحق الأقليات الأخرى، ومسيحيي الشرق، حيث كانت أسوأ مذبحة للمسيحيين العراقيين على الإطلاق. في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2010، اقتحم إرهابيون من تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق كنيسة سيدة النجاة في بغداد، ما أسفر عن مقتل 58 شخصًا بينهم مصلون وقساوسة. وقبيل زيارة البابا فرانسيس للكنيسة تحدث مراسل CNN، بن ويدمان إلى بعض الناجين، الذين يقولون إن المجتمع المسيحي النابض بالحياة في المدينة بات يختفي بسرعة، ويهرب من هذا البلد.
تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” و”داعش” مجموعة من البنى الاجتماعية والأفراد نزعت إنسانيتهم بفعل الاستعمار والاستبداد وقسوة العولمة. خرجت قوى الشر من بواطنهم الإنسانية وسيلةً للثورة على هذا النظام العالمي، ومارسوا أبشع أنواع القتل والعنف. اتبعوا منهج الثأر بدلًا من مناهج أخرى متاحة، فالحلول العسكرية الخالصة تؤدي إلى توحش الفكر() . وكان يمثل تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين نمطًا شاذًا هرب من حقل مقاومة الاستعمار إلى حقل التكفير والقتل والتوحش. حيث استغلت لحظة الاحتجاج ضد الحكومة العراقية، وهيمنت بالقوة والعنف على مساحات واسعة من العراق().
جاء تنظيم داعش والجماعات الإرهابية المسلحة انعكاسًا لانتشار الطائفية والاستبداد في المجتمعات العربية ما بعد الربيع العربي، كما شكل تمدّد تنظيم داعش وسيطرته على أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية والسورية دليلًا على فشل أنظمة الحكم القائمة على الاستبداد والمحسوبية في خلق واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مستقر.
ثالثًا: المآلات
في استشراف مستقبل الظاهرة أي ظاهرة الطائفية والتطرف لا بدّ من ربط أي قراءة موضوعية لمآلات هذه الظواهر بالوضع الدولي والإقليمي، والسياسات الأميركية ومدى قدرة المجتمعات العربية على بناء أنظمة سياسية قادرة على تعزيز قيم المواطنة والمشاركة السياسية والمجتمعية في صناعة القرار.
لا شك أن ما تشهده المجتمعات العربية من حاله تفكك داخلي، وانتشار لمظاهر التطرف والطائفية، واستمرار حالة الصراع الإقليمي، والتضارب في السياسات الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط لا يبشر بقرب انحسار هذه الظواهر، وإن كان الوضع في الوقت الحالي أفضل بكثير من الأوضاع قبل سنوات، فعقب انطلاقة الربيع العربي مباشرة تصاعدت حدة العنف المبني على الطائفية والعامل الديني، إلا أن ذلك لا يعني قرب انتهاء الصراع، خاصة أن الوضع السياسي والاجتماعي يزداد تأزما في العراق وسورية ولبنان واليمين، كما أن الصراع بين إيران والسعودية ما زال يتصاعد في إطار ما بات يعرف بحرب المحاور.
المسار الذي انتهى بانتكاسة بعض التجارب، أو تعثُّرها، لم يكن بمنأى عن الدور الـمُعَطِّل الذي نهجته القوى الإقليمية والدولية بدعم الثورة المضادة سياسيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، والسكوت على الجرائم التي ارتكبتها سلطة الانقلاب ضد المعارضين والمواطنين المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والزَّج بهم في السجون، ومصادرة حقهم في حرية الرأي والتعبير، وهو ما سمح باغتيال الاعتدال، وبروز التنظيمات المسلحة والجماعات الجهادية المتطرفة.
وقد كشفت مسارات التغيير أن القوى الدولية الكبرى لا يعنيها دَمَقْرَطَة المجتمعات العربية، وإنما تحركُّها مصالحها السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية؛ فتخلَّت عن مبادئها وقيمها وسمحت بتحوُّل المنطقة إلى ساحة مفتوحة (النموذج السوري) لمشاريع بعض القوى الإقليمية والدولية؛ حيث يتصارع المشروع الروسي والإيراني والإسرائيلي، ويبدو المجال العربي مكشوفًا أمام هذه المشاريع، لا يملك سوى ردود الأفعال().
الطائفية سمة بارزة في المشهد الشرق أوسطي. ابتداءً من الحروب الأهلية المستعرة في العراق وسوريا واليمن، إلى منطقة المنافسة بين إيران والمملكة العربية السعودية، إلى استراتيجيات الحكم في البلدان المختلطة دينيًا، الطائفية تشكل التطورات الإقليمية. الطائفية، التي يصعب قياسها أو فصلها عن العوامل الأخرى التي قد تتفاعل معها، الافتراض الأساس بشأن مستقبل الهوية في الشرق الأوسط هو ظهور لهويات مختلفة، وسيستمر التنوع مع الوقت وفقا للأوضاع. . ولا يمكن القول بكل تأكيد إن الشرق الأوسط في السنوات المقبلة سيكون أقل أو أكثر طائفية، أو بالمقابل أقل أو أكثر قومية، ما يمكن أن يُفترض بشكل آمن هو أن الشرق الأوسط سوف يستمر تحديده من حيث عدة عوامل، أهمها الدين، والعرق، والدولة القومية، والطبقة الاجتماعية والاقتصادية، والجنس().
خاتمة
لم يكن انتشار الطائفية والتطرف في كثير من المجتمعات العربية بعد الربيع العربي إلا انعكاسًا لفشل تجربة الدولة الوطنية في خلق تنمية مستدامة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بما يحقق المواطنة الكاملة للجماهير العربية في أماكن وجودها كافة، لذلك صاحب انهيار هذه الدولة بروز الطائفية بعد أن تحصن المواطن العربي في هويته الفرعية على أنها بديل عن الهوية الكلية لتوفير الحماية الاجتماعية.
كما أن الطائفية والتطرف جاءت في سياق مشروع أميركي كان يهدف إلى إعادة ترتيب أوضاع المنطقة على أسس جديدة تقوم على أساس تفجير الصراعات المذهبية والطائفية العرقية والدينية لخلق واقع جوسياسي جديد يخدم المشروع الإمبريالي الأميركي والإسرائيلي ويجعل إسرائيل من المنطقة.
لذلك يمكنا القول إن الطائفية والتطرف كانت وليدة بيئة محلية غير صحية، وفرت التربة الخصبة لنموها وتصدرها المشهد، كما إن المشروع الأميركي ساهم في تعزيزها وتصدرها المشهد من خلال سياسات دولية، وفرت الأوضاع الداخلية لتصدر الفكر الطائفي المشهد، بعد أن أصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة للحصول على الحدّ الأدنى من الحقوق.

مشاركة: