أطوار التاريخ الانتقالي؛ مآل الثورات العربية (مجموعة مؤلفين)

اسم الكتاب: أطوار التاريخ الانتقالي؛ مآل الثورات العربية
المؤلف: مجموعة مؤلفين
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مكان وتاريخ النشر: لبنان، بيروت، 2015

يحتوي الكتاب على اثني عشر فصلًا، وكل فصل منها يمثِّل ورقة أعدّها أحد الباحثين:

في الفصل الأول: “ما بــــــــعد الثورات العربية: زمن المراجعات الكبرى”، يبدأ كمال عبد اللطيف ورقته بمجموعة من المقدمات يناقش فيها مسألة التحقيب في التاريخ، خاصة ما اصطلح على تسميته بالمرحلة الانتقالية.
تستند الورقة إلى معاينة بعض ملامح الطور الانتقالي في كل من مصر وتونس، أما زاوية المعالجة فتعتمد على البعد الثقافي، انطلاقًا مما يسميه الباحث أزمنة المراجعات الكبرى، التي يمكن أن تفسح المجال لتأسيس قواعد جديدة في الفكر السياسي العربي، إذ يصبح الطور الانتقالي العربي مرادفًا في نظره لزمن المراجعات الكبرى في حاضرنا، بما يهدف إلى إصابة هدفين محددين، الأول هو “إعادة تأسيس مرجعية الحداثة السياسية في الفكر العربي”، والثاني “بناء نقط ارتكاز فكرية، تحاصر مأزق العودات والتراجعات التي ما فتئت تشكل مظهرًا ملازمًا لثقافتنا”.
في إطار هذه المقدمات، يسعى المحور الأول من الورقة: “فـي سمات الطور الانتقالي العربي” لاحتضان الحدث، والانخراط في متابعة تداعياته وتحدياته ومآزقه، عبر إعادة بناء أهم مفاصله، اعتمادًا على علامات بعينها تسمح بمعاينة الاختبار التاريخي الذي حصل لتيارات الإسلام السياسي في الحكم. يتناول هذا المحور عدة نقاط:
1-انفجارات 2011، ثورة أم مؤامرة؟: تتحدث الورقة هنا عن حصول ذهول كبير وسط النخب، نتيجة للانفجارات التي تتابعت في أغلبية البلدان العربية خلال سنة 2011، الأمر الذي أنتج مواقف رومانسية من الحدث وتداعياته، ومقابل ذلك، تبلورت مواقف أخرى ترى أن ما حدث تحكمت فيه خيارات خارجية.
2-الإسلام السياسي في الحكم، الذهول على المقاصد: انطلاقًا من نتائج الانتخابات التي حصلت بعد انفجارات 2011، في كل من تونس ومصر والمغرب، وفوز تيارات الإسلام السياسي فيها، يكشف البحث أمرين اثنين، يشير الأول إلى “عدم قدرة الفاعل السياسي على إدراك نوعية التحول الراسم لملامح أفق في الانتقال الديمقراطي المتدرج”، بينما يشير الثاني إلى عدم قدرته “على إدارة مرحلة تقع بين طورين مختلفين من أطوار التاريخ”.
3-الخطابات السياسية وصناعة مآزق الطور الانتقالي: فالشعارات وبرامج الإصلاح التي سادت في الميادين والساحات العمومية اختفت في الطور الانتقالي، لنصبح أمام سلطات تعمل على ترسيخ نفوذها وقيمها، من دون التفات إلى البرنامج المرحلي ومهماته المطلوبة، ولا إلى تعددية المجتمع وتعدد خياراته السياسية.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى المحور الثاني “مآزق وتحديات الطور الانتقالي العربي” الذي يتوقف أساسًا أمام جوانب من معركة إعادة كتابة الدساتير العربية، بما تطرحه من مفارقات وأسئلة.
1-الدساتير الجديدة، اختبارات التاريخ الانتقالي: وهنا تشير الورقة إلى المعارك التي أثيرت بمناسبة إعادة كتابة الدساتير، من قبيل الهوية والدين والدولة المدنية وموضوع الحريات الفردية، وقضايا الإرهاب والتكفير، على سبيل المثال لا الحصر.
2- المأزق السياسي الانتقالي في قلب الجدل الدستوري: من خلال متابعتها لقضايا الاستقطاب السياسي، التي تلت وصول الإسلاميين إلى الحكم، ترى الورقة أن الجدل شمل جملة من القضايا الكبرى من قبيل الدين والدولة، وهو ما يعني استمرار الصراع السياسي والثقافي في الفكر العربي. وترى أنه على الرغم من أن الدساتير الجديدة قد استوعبت بعض بنودها جوانب من المرجعية الدولية لحقوق الإنسان والحريات، إلا أن ما يظل ناقصًا في أغلبيتها هو “الوعي التاريخي بدولة الحق والقانون، ونقصد بذلك الأفق الفلسفي الحداثي المحايث للديمقراطية وقيمها”. وبالتالي تكشف مختلف الصور التي اتخذتها المعارك الدستورية في المشهد الانتقالي “حدة المعارك السياسية المطروحة وارتباطها بالبعد الثقافي، كما تظهر هشاشة مشهدنا الثقافي، وعسر تمثل النخب لأوليات الأفق الحداثي ومقوماته النظرية والتاريخية”.
3-إجراءات تفعيل مبدأ المراجعات الكبرى: فالاستقطاب السياسي القائم بين تيارات الإسلام السياسي والتيارات السياسية الحداثية، يتيح التقدم في معالجة الإشكالات الفكرية في إطار “بناء حداثة مطابقة لأسئلة تاريخنا، وتحديات طورنا الانتقالي”. وضمن هذا الأفق، وفي انسجام مع مقتضيات مبدأ المراجعات الكبرى، تشير الورقة إلى ضرورة وضع جميع القضايا الخلافية موضع تفكير جماعي، عقلاني وتاريخي، ومن دون مواربة ولا مخاتلة، خاصة ما يتعلق بالعلاقة بين الدين والسياسة ووظائف كل منهما.

في الفصل الثاني: “مراحل انتقال الثورات العربية: مدخل مؤسسي للتفسير”، يبدأ حسن الحاج علي أحمد ورقته بمقدمة يحدد فيها المشكلة البحثية للورقة، والتي تتمثل بتحديد العوامل التي تتحكم في “التوازن الهش للفترات الانتقالية للثورات بين مؤسسات الدولة القديمة – وتشمل النظم والقيم والقواعد الرسمية وغير الرسمية وتتضمن آليات تنظيمية- والنخب المستفيدة منها من جهة؛ والمؤسسات الجديدة التي تسعى بعض القوى التي أحدثت التغيير الثوري لتكوينها”. وتنطلق الورقة من فرضية اعتبار المراحل الانتقالية بعد الثورات مراحل مفصلية يتوقف عليها مسار الثورات المستقبلي، بحكم أن العوامل الهيكلية التي كانت تؤثر في المحافظة على بقاء الأنظمة السياسية القديمة في كل من تونس ومصر وليبيا قد ضعفت بدرجة كبيرة، الأمر الذي مكّن فاعلين سياسيين من السعي لإحلال مؤسسات سياسية جديدة مكان القديمة”. وتستخدم الورقة التحليل المؤسسي التاريخي.
تنقسم هذه الورقة إلى أربعة أقسام رئيسة، يتناول القسم الأول مفهوم الانتقال والقضايا المرتبطة به، ويستعرض القسم الثاني الإطار النظري ومنهجية البحث، أما القسم الثالث فيحلل أوضاع ما قبل الثورات، وفي القسم الرابع يتطرّق البحث لسمات وديناميات المراحل الانتقالية، ثم تتناول الورقة النتائج، وخاتمة تحتوي على أهم الآثار والدلالات النظرية والعملية لمخرجات البحث.
في القسم الأول “مفهوم الانتقال” ترى الورقة أن عددًا من دول الثورات العربية تعيش في حالات انتقال منذ ثلاثة عقود، غير أن مراحل الانتقال التي تعيشها دول الثورات العربية حاليًا مختلفة عن المراحل السابقة التي اتسمت بتغير تراكمي تدريجي، في حين جاءت مراحل الانتقال التي أعقبت الثورات بعد تغيّر نوعي انعكس في إطاحة الأنظمة السياسية.
وفي القسم الثاني “الإطار النظري ومنهجية البحث” تعتمد الورقة على مدخل المؤسسية التاريخية الجديدة. ويكمن الاهتمام الأساسي للتحليل التاريخي المؤسسي في معرفة درجة تأثير تباين الأشكال المؤسسية وترتيباتها على مخرج بعينه أو على مخرجات محددة. ويهتم التحليل بالتاريخ لأن المؤسسة بمجرد تكوينها في أي فترة تاريخية تستمر في البقاء لفترة طويلة وتؤثر على العملية السياسية وعلى المخرجات المرتبطة بها لفتراتٍ لاحقة.
تنتقل الورقة في القسم الثالث “إلى تحليل أوضاع ما قبل الثورات المؤثرة في المراحل الانتقالية، وهنا تعود إلى الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، عندما بدأت ملامح الدولة بالظهور، وأصبحت المؤسسة العسكرية إحدى القوى الفاعلة في عدد من البلدان العربية.
في القسم الرابع “سمات وديناميات المراحل الانتقالية”، ترى الورقة أن كل مرحلة انتقالية تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسة هي: إرث مؤسسات الدولة القديمة، وطبيعة التغيير الثوري، ودرجة تجانس النخب. أولًا، إرث مؤسسات الدولة القديمة: وهي المؤسسات التي أطاحتها الثورة، وهنا يشير الكاتب إلى ما قاله نزيه أيوبي بشأنها “إن ما يشاع عن قوة الدولة العربية فيه تضخيم لا يعكس الواقع، فهذه الدولة ليست قوية وإنما هي قاسية. فالأخيرة تكره وتعاقب، بينما الأولى لها القدرة على تحقيق أهدافها”. ثانيًا، طبيعة التغيير الثوري: وهنا يميز الكاتب بين الثورات الكبرى، وهي تلك التي تحدث تغييرات شاملة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي الأيديولوجية السائدة، أو ما سمّته سكوكبول “الثورات الاجتماعية”، والثورات في البلدان العربية، التي لا ترتقي إلى الثورة الاجتماعية الشاملة، بحكم كونها حدثت من غير ترتيب وقصد، ويؤكد على أن الطريقة التي انتهت بها الأنظمة التسلطية سيكون لها أثر قوي على تفاعلات الفترة الانتقالية ومخرجاتها. ثالثًا، درجة تجانس النخب: وهي النخب التي قادت الثورات، فقد برز الصراع بصورة جلية وطريقة مركبة في مصر بين التيارات الإسلامية والقوى الليبرالية. وعمّق الصراع وزاد فيه تحرّك النخب المرتبطة بما سمّي “الدولة العميقة”، وهي نخب عسكرية ومدنية.
أما النتائج التي توصلت إليها الورقة: أ- على الرغم من التغييرات المهمة التي طرأت على الأنظمة السياسية في مصروتونس وليبيا، إلا أن أوضاعها لم تستقر بعد، وما تزال مراحلها الانتقالية مفتوحة. ووفقًا للتحليل التتبعي، فإن مخاض التفاعل بين العوامل الثلاثة: إرث الدولة القديمة، وطبيعة التغيير الثوري، ودرجة تجانس النخب في الفترات الانتقالية سيؤدي في الغالب إلى إعادة إنتاج المؤسسات القديمة أو قيام نظام هجين في مصر، وإلى تكيّف المؤسسات في تونس مع البيئة السياسية الجديدة، وفي ليبيا ستفضي إلى قيام مؤسسات جديدة، أو الدخول في حالة من عدم الاستقرار. ب- كان الاستقطاب سمة غالبة في الفترات الانتقالية في الدول الثلاث، فعلى الرغم من أن مظاهره تختلف من دولة لأخرى، إلا أن طبيعته وجوهره واحد.
وتصل الورقة في الخاتمة، من خلال التحليل والنتائج، إلى أن المؤسسات تقوم بدور مهم في تحديد مخرجات الفترات الانتقالية في الدول الثلاث، وأن خيارات النخب الإستراتيجية تؤثر فيها البيئة المؤسسية، لتستعرض بعدها الدلالات والآثار النظرية والعملية للنتائج.

في الفصل الثالث: “قواعد الانتقال الديمقراطي في المجتمعات العربية: مؤشرات الديمقراطية وقياسها والتمكين في إطار التحولات العربية اليوم”، يبدأ انطوان نصري مسرّه بالتأكيد على أن الدراسات حول الانتقال الديمقراطي في المجتمعات الغربية لا تنطبق بالضرورة على الحالات العربية المستجدة اليوم، وأن عالمية المبادئ الديمقراطية تتطلب تكيفًا في التطبيق استنادًا إلى المعطيات المؤسسية والثقافية. ثم يقدم ورقته في أربعة محاور:
أولًا، مكونات الديمقراطية: تحدد الورقة مؤشرات الديمقراطية وقياسها بأربعة عناصر هي: انتخابات حرة ونزيهة، حكومة تعمل بشفافية ومسؤولة أمام مجلس النواب، حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية، مجتمع مدني فاعل، ويتفرع من هذه العناصر الأربعة الأساسية نحو مئة مؤشر فرعي. وتبين مقارنة أعمال مراصد الديمقراطية عالميًا وعربيًا نقصًا في تكيّف المعايير مع الواقع العربي، وبخاصةٍ في ما يتعلق بالبعد الثقافي. كما تحدد الورقة أبرز الشؤون في الثقافة الديمقراطية عربيًا، والتي يقتضي إدراجها وتثقيلها في المؤشرات والقياس والتحليل: 1. ثقافة القاعدة الحقوقية: العلاقات في البنيات التحتية في المجتمعات العربية، في العائلة والمدرسة ورفاق العمر والحي التي تقوم غالبًا على قوة ونفوذ وسلطة وموقع، وليس على قواعد حقوقية. 2. ثقافة المجال العام: فهذه الثقافة تشكو من التباس وتناقض، حتى في الفكر القانوني، نتيجة انتشار أيديولوجيات عربية كلية وتفسيرات متضاربة. 3. مؤشرات المدافعين عن المواطنين: إذ من الضروري أن تتضمن المؤشرات فاعلية الهيئات المختلفة والجمعيات والأفراد الذين يدافعون عن الآليات الديمقراطية وحقوق المواطنين. 4. مدنية المجتمع المدني: وهنا ينبغي التركيز على موضوعين أساسيين: الأول هو حرية تأسيس الجمعيات في الدول العربية، إذ يخضع التأسيس، باستثناء لبنان، لترخيص وليس لعلم وخبر. والموضوع الثاني هو مدنية المجتمع المدني، أي استقلاليته عن السلطة ونشره لقيمٍ مدنيةٍ في الممارسة والسلوك. إن ما تحتاجه المنطقة العربية في مجال قياس الديمقراطية ومؤشراتها والإصلاح هو وضع مؤشرات كمية ونوعية في آن معًا حول الثقافة الديمقراطية، وتخصيب ثقافي – تربوي للبحوث الديمقراطية كافة.
ثانيًا، من الإطار المعرفي إلى الفاعلية: دراسة الديمقراطية في الدول العربية هي الجانب المعرفي حول الإصلاح. أما الإصلاح الديمقراطي الفعلي فقد يحتاج إلى أبحاث من نوعٍ آخر، إلى ولوج في منهجيات وتمكين وقدرات وسلوكيات في الالتزام والدفاع وترسيخ المكتسبات والتثقيف والتعميم.
ثالثًا: الأطر المعرفية في دراسات الديمقراطية عربيًا: تطورت الأبحاث حول مؤشرات وقياس الديمقراطية عالميًا، وتمتّعت بخبرة في التطبيق والمقارنة على الرغم من الاعتراضات حول عالميتها وخصوصيتها. لكن ضرورة التمييز بين العالمية والخصوصية لا تقتصر على التباين بين الغرب والمجتمعات العربية. يجب أن يشمل التمييز كل مجتمع من دون استثناء من خلال إضافة واستكشاف معايير فرعية تفصيلية لا تناقض المؤشرات العالمية العامة، بل تجعل هذه المؤشرات أكثر استنتاجية. وفي جميع الأحوال، يتطلب انتشار الديمقراطية تكيّفًا مستمرًا لمؤشرات ومعايير فرعية، لأن العاملين في السياسة يطوِّرون، هم أيضًا، أساليب العمل السياسي، وأحيانًا يطوِّرون أساليب التلاعب بالآليات الديمقراطية ذاتها لضرب الديمقراطية بلباس قانوني شكلًا. ثم تستعرض الورقة أبرز الأبحاث العالمية والعربية حول مؤشرات ومقاييس الديمقراطية.
رابعًا: من الدراسات الديمقراطية إلى الإصلاح الديمقراطي: حاجات وأولويات ومنهجيات للمستقبل
إزاء التضخم في طرق قياس الديمقراطية يكمن التوجّه حديثًا في البحث عن نوعية المسار الديمقراطي بالذات من خلال مؤشرات تم تطبيقها في أكثر من عشرين دولة بالتعاون مع Human Rights Center at the University of Essex-United Kingdom Larger State of Democracy, Network.
وتعرض الورقة هنا عدة مسائل: 1. مؤشر التنظيمات المهنية والنقابية كعنصر توازن تجاه التسلّط الحزبي، 2. فاعلية القوانين، 3. الحريات الدينية وعلمنة ديمقراطية عربية، 4. التخصيب التربوي، 5. شمول الدراسات العربية حول الديمقراطية والإصلاح الديمقراطي الممارسات الإصلاحية النموذجية ميدانيًا من منطلق التمكين الديمقراطي.
وتستخلص هذه الورقة التوليفية ثلاثة توجهات: 1. الاستفادة من التراكم المعرفي وإجراء اضافات عربية فرعية مكملة، 2. التمكين الديمقراطي، 3. لا مؤسسات من دون ثقافة ديمقراطية داعمة.
ما تحتاجه المنطقة العربية في مجال قياس الديمقراطية ومؤشراتها والإصلاح هو:
– وضع مؤشرات كمية ونوعية حول الثقافة الديمقراطية، وليس مجرد استطلاع الرأي معرفيًا حول الإصلاح، وبخاصةٍ في المدارس والبرامج التعليمية المدرسية والجامعية والسلوكيات اليومية.
– رصد مبادرات وانجازات في الثقافة المواطنية، في الحي والبلدية والادارات العامة والمحاكم…، إذ يظهر التغيير في السلوك الذي هو المؤشر لفعالية الأبحاث حول الإصلاح الديمقراطي.
– مؤشرات المدافعين عن المواطنين.
– مدنية المجتمع المدني.
يستخلص من الورقة ضرورة اعتماد المؤشرات وقواعد القياس العالمية والعربية، والتي توصلت إلى درجة عالية من التقنية والاختبار. وهناك حاجة بشكل خاص في الدول العربية، وفي المجتمعات عامة حيث الأنظمة استبدادية، أو غير ديمقراطية، أو في طور التحوّل الديمقراطي، أو حيث الديمقراطية مهدّدة (في حالة لبنان)، إلى توجهين: أولًا، تثقيل مؤشر الإدارة الديمقراطية للتنوّع الديني. ثانيًا، إضافة مؤشرات حول عنصر المجتمع المدني الفاعل والديمقراطي.
وتختم الورقة بالتساؤل: ما العمل في سبيل إدارة التحول الديمقراطي وصوغ الدساتير في المجتمعات العربية في إطار المستجدات وبروز الشارع العربي؟ ما السبيل للتوفيق بين الموروث التاريخي والإدارة الديمقراطية للتعددية؟ يتطلب التحول الديمقراطي على مستوى المجتمع التوجهات التالية: نشر الثقة بدلًا من التشاؤم حول الوضع القائم، صحافة حرة ومستقلة وداعمة للمسار، تعزيز المواطنية خاصةٍ من خلال بناء ذاكرة وطنية مشتركة، حوارات وطنية لمعالجة التناقضات التي عملت الدكتاتوريات على إخفائها وقمعها، تفعيل دور النقابات التي توفر البوصلة حول قضايا الناس اليومية، التمييز بين التعبئة -التي قد تنتشر بفضل وسائل التواصل الاجتماعي- والمشاركة المواطنية الواعية والملتزمة والهادفة، فضح أساليب التلاعب، وبخاصةٍ من خلال خبراء في السياسة الطائفية وليس “الطائفية السياسية” كما هو متداول.

في الفصل الرابع: “تحديات التنظير للانتقال نحو المجهول: تأملات في مآلات الثورات العربية وواقع نظريات الانتقال الديمقراطي”، يعرض عبد الوهاب الأفندي ورقته في ملخص وسبعة محاور وخاتمة. تركز الورقة في الملخص على أوجه القصور التي يعانيها التنظير في مجال الانتقال الديمقراطي، وأبرزها مركزيته الأوروبية المفرطة، وندرة استخدام التجارب العربية لإثراء النموذج بإضافات نوعية للمعرفة، لذلك تسعى هذه الورقة لتقديم مساهمات متواضعة في هذين المجالين، انطلاقاً من إعادة صوغ فكرة الديمقراطية نفسها. وتشير الورقة إلى محاولات شجاعة تمت مؤخرًا لإعادة تصحيح السجل التاريخي، من أبرزها تاريخ الديمقراطية الذي أعده جون كين، وأثبت فيه أن جذور الديمقراطية سابقة للتجربة الأثينية، وأن الجمعيات التمثيلية كانت معهودة في بلاد ما بين النهرين والمدن الفينيقية قبل ظهورها في أوروبا بقرون.
1- تحديات التنظير للانتقال: لم تستطع محاولات التنظير الحديثة التأثير على التنظير السياسي حول الانتقال الديمقراطي، كما واجهت نظريات الانتقال في السنوات الأخيرة انتقادات حادة بسبب استنادها إلى جملة من الافتراضات الخاطئة، مثل الافتراض الذي يقول إن جميع الأنظمة التي تتداعى فيها الأنظمة الاستبدادية تتجه بالضرورة نحو الديمقراطية، وأن هذا المسار يمر بحقب محددة المعالم تمر عبر الانفتاح إلى الاختراق ثم ترسيخ الديمقراطية. وهذا يطرح بدوره سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كانت عملية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي ستتبع المسار الذي رسمته التجارب السابقة والنظريات المبنية عليها، أم أنها ستختط مسارًا جديدًا.
2- الخوف من الشعب: تشير الورقة إلى الذعر الذي أصاب البعض من جراء الاعتقاد بأن الربيع العربي، عوضًا عن تدشينه لحقبة ما بعد الإسلامية، هو بصدد التحول إلى “صحوة إسلامية زاحفة”. ولا شك أن هذا الظهور للإسلاميين في غمرة الاحتفال بعصر ما بعد الأيديولوجية قد أثار الذعر، وتحول الاستقطاب إلى مصدر خوف، بحيث أن كل طرف يرى في حرية الآخر خطراً على هويته ووجوده، وهذا بدوره يولد الخوف من الديمقراطية (أي الخوف من الشعب) مصدر هذا الخطر.
3- مخاوف الانتقال: هناك ما يشبه الإجماع بين منظري الديمقراطية على ضرورة تجاوز الاستقطاب السياسي الحاد والطمأنة المتبادلة بين أطراف العملية السياسية لتأمين الانتقال الآمن إلى الديمقراطية واستدامتها. فالخوف من هيمنة مجموعة منافسة قد يدفع البعض إلى الاصطفاف خلف الحاكم المستبد بدلاً من الدفع باتجاه الديمقراطية، أو قد يؤدي إلى تفجر حرب أهلية في حال سقوط هذا الحاكم. وتشير الورقة إلى دراسات حديثة ترى أن أساس مشكلة العالم العربي مع الديمقراطية هي أنه لا يستوفي شرط روستوف الأساس في توفر الوحدة الوطنية، وبحسب ذلك فإن العالم العربي “لا يعتبر فقط أكثر منطقة غير ديمقراطية في العالم، بل هو كذلك أحفلها بالإقصاء العرقي والتمييز”.
4- الديمقراطية وفضائلها المتعددة: لقد استخدمت حجج متنوعة لتبرير ودعم الديمقراطية، ومن منطلقات عدة بين مختلف الثقافات. إذ تتميز الديمقراطية على غيرها من النظم بأنها نظام لا يوجد فيه خاسر، فالجميع فيه رابحون، لأنهم متساوون في الحقوق، ومزودون بضمانة تحمي الحد الأدني من حقوقهم، والجميع مشاركون في السلطة، ولهم الحق في الترويج لمصالحهم وقيمهم والسعي لتطبيقها.
5- إعادة تقييم نظريات الانتقال: ترى الورقة أن العقبة الأساس في وجه التوافق الضروري للانتقال الديمقراطي في المنطقة تتجسد في الشعور بانعدام الأمان بسبب الاستقطاب على أساس الهويات الدينية والعرقية والطائفية والسياسية، وليس بسبب خلافات “دينية” بالمعنى الدقيق.
6- الانتقال الديمقراطي العربي: يرى كثيرون أن التحليل البنيوي القائم على قراءة خارطة المصالح الاقتصادية والهياكل الطبقية لا يصلح لتفسير الواقع العربي، وأن صعوبة الانتقال الديمقراطي تعود إلى البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات العربية، خاصة في ظل استمرار العقليات والمؤسسات القبلية والأبوية التي تناقض المرونة المطلوبة في المجتمعات الحديثة. كما تكفي نظرة سريعة إلى أوضاع العالم العربي لتؤكد غياب شرط الوحدة الوطنية، ووجود حالات استقطاب حادة، وأعقدها هو الاستقطاب الإسلامي-العلماني الذي يخبئ في ثناياه القلق وفقدان اليقين.
7- الانتقال وأنواع الأنظمة: توضع معظم الأنظمة العربية في خانة “النظم السلطانية” التي تعتمد على هوى الحاكم ومزاجه، وتفقتقد إلى بنية مؤسسية ذات شأن لتعين على إنجاح الانتقال. وتتفاوت الأنظمة العربية في “سلطانيتها”، وبالتالي في تراثها المؤسسي، إذ إن بعضها (سوريا وليبيا) أكثر سلطانية من الآخر (مصر وتونس). وكلما ضعفت المؤسسات كلما ثقل العبء على قادة الانتقال.
وفي الخاتمة تشير الورقة إلى أن التجربة العربية حالة متفردة من حيث نوع النظام منطلق الانتقال، ومآلات الانتقال الذي يمكن وصفه بأنه “انتقال مفتوح” يصعب التنبؤ بخواتيمه. خاصة بعد أن تبلورت المخاوف الناشئة عن صعود الإسلاميين في هيئة تحالف جديد من قوى داخلية وخارجية، وقد حقق هذا التحالف أكبر قدر من التماسك والنجاح في مصر، إذ مكن دولة الثقب الأسود من إعادة سيطرتها عبر أدواتها المحورية (المخابرات، الجيش، الشرطة، القضاء، والإعلام الرسمي)، ولكن هذه المرة في تحالف مع قوى سياسية ليبرالية وعلمانية وبعض الأقليات. وفي الحالة السورية أيضاً وحد الخوف من الديمقراطية طائفة من الفاعلين الدوليين (روسيا والصين) والإقليميين (إيران وحلفاءها في العراق ولبنان) مع فئات داخلية التفت حول مركبات دولة الثقب الأسود خوفًا من المجهول.
كما ركز كثير من منظري الانتقال على دور العامل الخارجي في تيسير أو عرقلة الانتقال، ولكن الحالة العربية تضيف أبعاداً أخرى، أهمها أن العامل الخارجي في العالم العربي هو داخلي أيضًا، سواءً من حيث دور “الدويلات” القائمة في كل بلد، أو بكون التدخلات الخارجية أكثر حدوثًا، وأشد شراسة هنا منها في أي منطقة أخرى.
لقد أثبتت تجارب الانتقال العديدة أن الطمأنة المتبادلة هي أهم شروط الانتقال الناجح. وهي لا تتأتي بمجرد بذل الوعود، وإنما تتولد من تقارب مواقف الفرقاء وزوال حالات الاستقطاب الحاد مع مرور الزمن، وهذا هو البعد الغائب في الأوضاع الانتقالية العربية، حيث مواقف الفرقاء تزداد تباعدًا، والاستقطاب يزداد حدة، وعدم اليقين في ازدياد. بالتالي، فإن المسألة لا تتعلق بالدين من حيث هو دين، ولا بالحركات الإسلامية خصوصًا، وإنما بمستوى عدم اليقين وحجم المخاوف المتبادلة. ومن هنا فإن الاستقراء الصحيح لمعوقات الانتقال الديمقراطي في الحالة العربية-الإسلامية لا يساعد فحسب في تطوير النظرية الديمقراطية، بل إن هذا التطوير بدوره يساعدنا في فهم أفضل لأوضاعنا.

في الفصل الخامس: “الدولة الوطنية العربية: حالة انتقالية مستمرة”، يبدأ رفعت رستم الضِّيقة ورقته بمقدمة يعرض فيها تمهيدًا نظريًا لترسيم الحقل التاريخي الأيديولوجي المهيمن على العالم لدى انفجار انتفاضات الربيع العربي من أجل مقاربة إشكالية أفق التحول الديمقراطي لهذه الانتفاضات، والذي تتحرك فيه مقولة “المرحلة الإنتقالية”.
ويرى في مقدمته أن الدولة الوطنية العربية “تواجه اليوم أزمة إعادة إنتاج ذاتها كوحدة سياسية-أيديولوجية-اقتصادية متكاملة قبل وبعد انتفاضات الربيع العربي”، وبالتالي “لا يمكننا الكلام عن مرحلة انتقالية نحو ثورة ديمقراطية اجتماعية انطلاقًا من الدولة الوطنية كمرجعية عليا لهذه الثورة”، وهو ما يترتب عليه “أن أي تغيير ديمقراطي حقيقي لن يكون ممكنًا داخل حدود الدولة الوطنية القائمة، بل لا بد لها أن تتجاوز هذه الحدود، وتعيد تأسيس الحقل السياسي العربي ككل”.
من هذا المنطلق، يرى أن مقاربة مقولة “المرحلة الانتقالية” اليوم لا بد لها “أن تتخذ من الحقل السياسي العربي ككل منطلقًا كمرجعية لأي تحول ثوري ممكن بعد التحرر من مقولة المرحلة الانتقالية ذاتها، ومن غواياتها التطورية النيوليبرالية الجديدة القائلة بالتطور التدريجي لتحقيق الديمقراطية والتنمية والعدالة الإجتماعية”. وبالتالي يثبت في مقدمته شرطين أساسيين متلازمين هما: نقطة التخلي عن الدولة الوطنية العربية كمرجعية قائمة بحد ذاتها، ونقطة التخلي عن الفهم التطوري النيوليبرالي لعملية التحول السياسي “الانتقالي” المتدرج، من أجل إحداث الاختراق الإستراتيجي المطلوب لكسر الحصار الإستراتيجي المعمم اليوم على الحقل الإستراتيجي العربي.
ثم تنقسم الورقة إلى ثلاثة محاور:
أولًا، الدولة الوطنية العربية والحصار الإستراتيجي المستمر: تقوم شرعية الدولة عادةً على الحدث التاريخي المؤسِّس لها في الماضي، كما في حالات الثورة الفرنسية والثورة الأميركية أو غيرها من الأحداث التاريخية المؤسِّسة. على العكس من ذلك، كانت شرعية الدولة الوطنية العربية منذ البداية قائمة على إمكانية التحرر من حدثها المؤسِّس، وذلك من خلال استبداله بحدثٍ مؤسِّسٍ موعود في المستقبل. حتى تحقيق ذلك الحدث المستقبلي الموعود تبقى شرعية هذه الدولة شرعية انتقالية مشروطة بما سوف تنجزه في المستقبل، وليس بما أرست أسسه في الماضي. في هذه الإشكالية التاريخية الأيديولوجية تكمن الأزمة الشرعية الدائمة لهذه الدولة. لا يمكننا اليوم مقاربة مستقبل الدولة الوطنية العربية بعد انتفاضات الربيع العربي إذا لم نشخص هذا المأزق التكويني لولادة هذه الدولة وعجزها المتكرر والمستمر عن الخروج من هذا المأزق. ولذا تؤكد الورقة على وحدة الحقل السياسي العربي اليوم واقعيًا، وترى أن الدولة الوطنية العربية كوحدة عضوية متكاملة هي العقبة التاريخية أمام تحول وحدة الحقل السياسي العربي من وحدة سلبية إلى إيجابية. أما مظاهر هذه الوحدة السلبية القائمة فيمكن اكتشافها ببساطة، فهناك أولًا صعوبة في التمييز بين الحدود الداخلية والخارجية لتلك الدول، وكل أزمة داخلية هي في الوقت نفسه أزمة خارجية وبالعكس، وهناك ثانيًا صعوبة في التمييز بين استمرارية النظام الحاكم و استمرارية الدولة ذاتها، فأي تفكك أو انهيار للسلطة القائمة، سواء كانت أسبابه داخلية أو خارجية، يحمل في طياته خطر تفكك وانهيار الدولة الوطنية ذاتها.
ثانيًا، مرحلة انتقالية أم ثورة مضادة: تواجه الدولة الوطنية العربية أزمة إعادة إنتاج ذاتها بعد أن استهلكت واستنزفت كل إمكانياتها الأيديولوجية والمادية. لم ترتق انتفاضات الربيع العربي التي إلى مستوى الثورات، وما زالت حبيسة الإطار الأيديولوجي/الأسطوري للدولة الوطنية كإطار تاريخي موحد ومرجعية شرعية عليا. من هنا استحالة التحول التدريجي الداخلي لهذا الإطار باتجاه بناء نظام اجتماعي ديمقراطي سياسي بديل عن النظام السابق المنهار، ولذلك تتحول كل مرحلة انتقالية عاجلًا أم آجلًا إلى ثورة مضادة تعيد إنتاج النظام السابق بعناصر وأشكال جديدة.
ترى الورقة –بحسب آصاف بايات- أن هناك ثلاثة مسارات معروفة تاريخيًا للتغيير، 1- المسار التغييري الإصلاحي التدريجي القائم على تراكمات مستمرة من النضالات، 2- المسار القائم على وجود حركة سياسية ثورية منظمة ذات برنامج سياسي ثوري بديل مع قيادة ثورية، 3- المسار التغييري السريع القائم على الانهيار الداخلي المفاجئ للنظام القائم تحت وطأة الإضرابات والعصيان المدني العام. كما ترى أن انتفاضات الربيع العربي لم تتبع أيًا من هذه المسارات الثلاثة، وبالتالي تكمن خصوصية هذه الانتفاضات، في مصر وتونس واليمن، في نقطة مركزية متمثلة في عدم نجاحها في تحويل الزخم الجماهيري الهائل الذي أحدثته إلى مؤسسات ثورية بديلة تأخذ مكان مؤسسات الدولة القائمة، ويعود ذلك إلى عاملين اثنين: الأول هو السرعة القياسية التي نجحت فيها الانتفاضة الشعبية في إسقاط رأس النظام، والتي لم تعط قيادات الانتفاضة الوقت الكافي للتنظيم السياسي الإداري لإقامة مؤسساتها الجديدة. الثاني، وهو الأهم، أن القوى والحركات الاجتماعية التي قادت ونظمت الانتفاضات لم تكن أصلًا في وارد تغيير النظام بقدر ما كانت تطالب بإصلاحات ديمقراطية من داخل النظام القائم ذاته.
ثالثًا، الربيع العربي وإشكالية الشعب – النظام – الثورة: بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على التجارب الانتقالية لبناء الشرعية الديمقراطية في دول الربيع العربي، فإن هذه التجارب ما زالت أسيرة النموذج الأيديولوجي الوطني التطوري السائد قبل الانتفاضات. هذا النموذج التطوري لإعادة إنتاج الدولة الوطنية لن يقود في نهاية المطاف إلا إلى إعادة حصار الطاقات الثورية الجماعية التي أطلقتها الانتفاضات.

في الفصل السادس: “محنة الانتقال الديمقراطي العربي: وعود الثورة، قلق المسارات ومعابر الأمل”، يؤكد الباحثان محمد سعدي، رشيد سعدي في مقدمة ورقتهما على أن ثورات الربيع العربي قد فندت مقولة الاستثناء الديمقراطي العربي المزمن، وأن التحول الديمقراطي ممكن وقابل للتحقق، لكن تعثر عملية إعادة بناء النظام في فترة ما بعد الثورات يثير العديد من الأسئلة المقلقة والإشكاليات حول مآلات التحول الديمقراطي في العالم العربي. كذلك، لا يمكن فهم حالة الاضطراب والارتباك التي تميز الانتقالات العربية إلا في ضوء البنيات العامة للتجارب الانتقالية العالمية، فقد اتسمت عمليات الانتقال الديمقراطي التي عرفتها العديد من بلدان العالم بدرجة كبيرة من التعقيد وعدم اليقين، وبتعدد مساراتها وسياقاتها. بالتالي، لا يمكن فهم تعقد عملية الانتقال في العالم العربي من دون الوعي بخصوصية الحراك الثوري ومجمل السياقات الثقافية والاجتماعية التي أنتجته. فالثورات العربية لم تمتثل في جميع جوانبها للنماذج الثورية التاريخية التي شهدها العالم، خصوصًا من حيث غياب نظرية ثورية وأيديولوجية تغييرية وزعامات كاريزمية.
ولذلك تعتمد الورقة مقاربة مركبة تنطلق من فكرة التعقيد القائم، والتخلي عن مبدأ السببية الخطية، وإقرار مبدأ الحلقة السببية حيث السبب يؤثر على النتائج وهي تؤثر بدورها في الأسباب. كما تستعين بمنهجية بنيوية تسعى لاستقراء الوقائع السياسية بحثًا عن المبادئ التفسيرية والمعاني العميقة المتحكمة في صيرورة الانتقال الديمقراطي. وتفترض الورقة بأن تعثر المسار الديمقراطي العربي يرجع في جزء منه لأزمة التواصلية وهيمنة ثقافة الانغلاق والإقصاء.
بناء على ما سبق تحاول الورقة ملامسة مختلف الإشكاليات المرتبطة بتأزم الانتقال الديمقراطي من خلال المحاور التالية:
أولًا- مأزق الانتقال الديمقراطي: في العجز عن بناء الوجود المشترك: دراسة العوامل التي حالت دون إرساء دينامية تواصلية كفيلة بخلق التوافق السياسي داخل المسارات الانتقالية العربية.
1- صدمة ما بعد الثورة: بعد إسقاط الأنظمة مباشرة سادت أجواء من التفاؤل، وارتفع سقف التوقعات وسط المطالبة بالتخلص الشامل من جميع رموز الاستبداد، لكن في ظل التدهور الاقتصادي، واتساع الانفلات الأمني انتشرت مشاعر عدم الآمان والسخط بسبب الإحساس بعدم الوفاء بالوعود، وعدم استشعار تغيير حقيقي بعد الثورة.
2- التغيير بين الممكن والمأمول: تشهد ديناميات الانتقال الديمقراطي ترابطًا وتفاعلًا بين مسارين متوازيين: هدم البنى القديمة وبناء النظام السياسي الجديد. لكن البدء بتفكيك منظومة الاستبداد لا يعني بالضرورة النجاح التلقائي للديمقراطية، إذ يبقى الهدم أكثر سهولة من البناء، لذلك فإن وهم البحث منذ البدء عن النقيض الشامل للأنظمة السابقة قد لا يكون في مصلحة الانتقال الديمقراطي.
3- في فتنة الاستقطاب: تعتبر الانقسامات السياسية والفكرية سمة ملازمة لكل مسارات التحول الديمقراطي، وهو أمر إيجابي لأنه يجسد التعددية والحركية داخل المجتمع. لكن تعمق هذه الخلافات في التجارب العربية وسوء تدبيرها في غياب قواعد سليمة لاستيعابها، أدى إلى تأكّل مساحات العمل السياسي المشترك، وأنتج تجاذبًا عنيفًا تجاوز الحدود المقبولة للتنافس السياسي، ليتحول إلى حالة تناحر ومكايدة سياسية تقوم على منطق الاستعلاء والغلبة.
4- انفجار الهويات “القاتلة” وسؤال العيش المشترك: لم تكن المطالب الهوياتية حاضرة بقوة في أثناء الثورات، فجيل الشباب الثوري تمرد على التشكيلات الاجتماعية الطائفية والعائلية والقبلية التي اعتمدت عليها الأنظمة الاستبدادية السابقة، ورفع شعارات تنادي بالمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية، غير أن مرحلة ما بعد الحراك الثوري شهدت انفجار الهويات بمختلف مستوياتها، وعادت لتصبح جزءًا أساسيًا من المشهد الانتقالي لما بعد الثورة.
5- هدير الميادين.. الشارع يريد: ساهم غياب فضاء مشترك للنقاش العام في نقل الصراع السياسي إلى الشارع بدلًا من التنافس داخل الأطر المؤسساتية وفقًا للقواعد التي تفرضها العملية الديمقراطية، ما أدى إلى تشتت الشرعيات ودخولها في صراع قاتل: الشرعية الثورية، الشرعية الديمقراطية الانتخابية، الشرعية الدينية، شرعية الشارع. لقد تحولت الشوارع والميادين الكبرى إلى فضاءات سياسية متوغلة، فحين لا يجد الأفراد والجماعات التي تعيش على الهامش السياسي مؤسسات سياسية وسيطة يلجئون إليها، فإنه لا يتبقى أمامهم غير الشارع للتعبير عن مطالبهم.
ثانيًا، ترشيد الانتقال والحاجة إلى ثورة داخل الثورة: وهنا تحاول الورقة تقديم إستراتيجيات تواصلية تسمح بترشيد التجارب الانتقالية العربية والعبور بها إلى مرحلة الترسيخ الديمقراطي:
1- من هوس الاختلاف إلى فقه الائتلاف: أكدت معظم التجارب الانتقالية الديمقراطية الناجحة على عاملٍ حاسمٍ يتمثل ببلورة توافق سياسي وطني على القواعد الدستورية والقانونية التي تنظم العملية السياسية والإصلاحات المؤسساتية داخل الدولة.
2- في البحث عن جوهر الديمقراطية: ﻳﺒﻘﻰ ترسيخ الانتقال الدﻳﻤﻘﺮاطي رهنًا ﺑﺎﻟﻤﺴﺎر اﻟﺬي يعطيه اﻟﻔﺎﻋﻠﻮن السياسيون الرئيسيون للتغيير والإصلاح السياسي. وقد أثبتت تعثرات الانتقال الديمقراطي أن النخب السائدة غير قادرة على فهم الأدوار الجديدة، وأننا أمام حالة انتقال من دون نخبة واعية بالشروط الأساسية للعملية الانتقالية.
3- في الحاجة إلى تخليق الانتقال الديمقراطي: استعصاء الانتقال الديمقراطي هو في جزء منه نتيجة طبيعية لتجاهل متطلباته الأخلاقية والثقافية، ما أفرز تفتت وتشرذم المجتمع، وانهيار صدقية المجال السياسي وانعدام الثقة بالمؤسسات. لذلك فإن الاعتراف المتبادل، الثقة والمسؤولية هي الشروط الأساسية للعملية الانتقالية في صيغتها العربية لأنها كفيلة بالحد من أجواء التناحر في المشهد السياسي الانتقالي.
4- المواطنة كمدخل لترشيد الهويات: إن إحدى الشروط الرئيسية للإدارة الجيدة للانتقال هي إعادة بناء الدولة بشكل تكاملي استيعابي للحد من نفوذ الانتماءات الأولية، وذلك بالإقرار بالتعددية والهوية المركبة للمجتمعات العربية. يطرح هذا إشكالية تعامل الأنظمة الانتقالية مع الفسيفساء الهوياتية بهدف بناء الدولة الوطنية على أسس جديدة يتم فيها استيعاب التعددية الثقافية والمجتمعية والدينية ضمن أطر دستورية وسياسية وقانونية توافقية، على أساس مبدأ المواطنة والعقد الاجتماعي.
ثالثًا، مآلات الانتقال.. لا مكاسب بلا آلام: ينبغي استشراف مآلات المسار الانتقالي الديمقراطي بتجاوز سطوة اللحظة الراهنة وحمولاتها التشاؤمية إلى رؤية أكثر انفتاحًا وتواصلًا مع الأفق التاريخي، إذ إن تعثر الانتقال الديمقراطي ليس نهاية المسار الديمقراطي بل يشكل شرطه التاريخي، ويجسد عملية بحث مؤلمة عن توازنات بعيدة المدى.

في الفصل السابع: “حول فرص بناء أفق سياسي تعددي في دول الثورات العربية”، يؤكد إميل بدارين في المقدمة على أن ورقته لا تمثل رؤية شاملة لما حدث ويحدث في العالم العربي من ثورات بقدر ما هي محاولة للتفكر في الوسائل التي تساعد في توسيع الآفاق السياسية، الآخذة في الانحسار شيئًا فشيئًا، لتكون منسجمة مع الواقع السياسي المتعدِّد كمدخلٍ لتأسيس مبادئ لحياة إنسانية من دون استبداد. كيف يمكن تحويل وتطوير التعدّد السياسي والاجتماعي من حسابات سياسة ضيقة إلى قوة إيجابية بناءة؟ هل من منهجية لإعادة روح العمل معًا؟ تحاول الورقة الاقتراب من هذه الأسئلة من خلال، أولًا، دراسة الجدل الفكري النخبوي الموجود على الساحة السياسية، وثانيًا، الاستنارة ببعض الأمثلة من الحوار النظري والعملي الذي تجسده الإدارة السياسية في الحالة التونسية كوسيلةٍ لربط الجانب النظري بالتطبيقي. فهذه الورقة ليست بصدد “تفسير” وجود أو “غياب” ظاهرة (الديمقراطية في الوطن العربي) بقدر ما هي محاولة أولية ومتواضعة للإسهام في التغير من أجل “صناعة” ظاهرة.
منهجية الورقة مبنية، أولًا، على النظريات السياسية التي تفسر التطور الاجتماعي من زاوية البناء السردي والظرفي، وهي أيضًا تتخذ التحليل النقدي منهجًا ضمنيًا. فالنقد يمثل محاولة دائمة للبحث عن التّـغير من خلال كشف التحـيّـزات والافتراضات الضمنية المسبقة. أي إن النقد لا يعني الرّفض السلبي للأشياء أو القول إن الأمور ليست صحية كما هي. ثانيًا، تبنى هذه الورقة على مبدأ “سياسة التحول معًا” المستوحاة من المُـنَـظِّر السياسي وليم كونولي. العمود الفقري لهذه النظرية يتمحور حول تشخيص معمق للعلاقات الاجتماعية في صورة علاقات وشائجية، أي مثل الجذور في منتهى التعقيد والتشابك والتعدّد. تهدف سياسة التحول معًا إلى ربط البعد النظري للسياسة بالبعد التطبيقي بهدف تكوين آلية للعمل والتعاون بين الأطياف السياسية والاجتماعية المختلفة من دون محو للخلاف والمواقف المتباينة، فطمس الخلاف يعني استنساخًا للنظام السابق بأدواتٍ وأشخاص مختلفين.
تنطلق هذه الورقة من سياق أنظمة الحكم العربية في فترات ما بعد الاستعمار المباشر الذي اتسم بتوغل أدوات الدولة لضمان استمرارية النظام الحاكم باعتباره نقطة الارتكاز لبقية الخدمات الوظيفية للدولة. فنتج من ذلك علاقة مختلة بين الدولة (كمؤسسات حكم) والمجتمع الذي صار في منزلة رعية (وليس مجتمع مواطنين) في نسق الدولة المتوغلة مقابل المجتمع الضعيف بحسب تحليل سلمان بونعمان. لذا، نفترض أن التخلص من عقود الظلم والبدء بتأسيس قواعد لحياة سياسية-اجتماعية تعكس طموح الأمة العربية هدف أساسي لأغلبية السكان.
قُدِّمت الورقة في أربعة أجزاء مترابطة. الجزء الأول يؤسس أرضية تفسيرية لمقاربة الوضع الراهن في العالم العربي ما بعد الثورة. هنا تقدم الورقة تصورًا إيجابيًا (بمعنى بناء) لهذا الوضع غير المستقر الغني بالتفاعل السوسيولوجي كعنصرٍ أساسيٍّ يفتح آفاقًا للتغير وطرح مفاهيم جديدة لإعادة صوغ الهويات السياسية والتأسيس لنظام العمل المشترك كمقدمة لديمقراطية فاعلة. أما الجزء الثاني، فيتناول العلاقة بين الشرعية والشريعة والديمقراطية في الخطاب السائد، ويقدم طرحًا مغايرًا لا يختصر مصدر الشرعية في ثنائية الأمة / المجتمع أو الدين / الشريعة لأن كلاهما مرتبط بعلاقات عضوية. الجزء الثالث هو في منزلة تحليل نظري مختصر تحاول فيه الورقة تقديم تصورٍ لحل جدلية الثنائيات الخطابية من خلال النظر إلى الواقع السياسي كبيئة مرّكبة ومتعدِّدة الأبعاد تستدعي ذهنية سياسية تفاوضية تتجسد في شكل حوار تعدّدي. الجزء الأخير هو استمرار للجزء النظري السابق مع إلقاء الضوء على التجربة التونسية لوضع النظرية السياسية في خدمة العمل السياسي لتسهل تحليل مكامن العمل المشترك.

في الفصل الثامن “التحول الديمقراطي في اليمن: روافع ضعيفة وكوابح قوية”، يقدم عادل مجاهد الشرجبي ورقته في مقدمة وإطار نظري وخمسة محاور. وتؤكد الورقة في المقدمة على اختلاف الثورة اليمنية عن بقية ثورات الربيع العربي الأخرى، من حيث أنها قامت على تسوية بين أنصار الثورة ورأس النظام القديم، ونظمت العملية الانتقالية على أساس حوار وتوافق وطني، ويرجع ذلك إلى انقسام الجيش إلى جيشين متعادلي القوة، جيش أعلن حمايته للثورة، وجيش ظل على ولائه لرئيس النظام القديم، فضلاً عن طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع اليمني، التي يغلب عليها الطابع القبلي التقليدي، والتي تميل دائمًا إلى حل النزاعات والخلافات عن طريق التسويات والحلول الوسطى.
وقد سعت هذه الورقة لوصف المسار الذي اتخذته الثورة اليمنية والعملية الانتقالية، وتحليل وثيقة الحوار الوطني، باعتبارها خارطة طريق للتحول الديمقراطي وبناء الدولة، والروافع التي تدعم تنفيذها، والكوابح التي تعيق تنفيذ عملية التحول الديمقراطي.
إطار نظري: الثورة ليست حدثًا، بل عملية، تتكون من ثلاث مراحل متمايزة ومتكاملة: مرحلة إسقاط النظام، المرحلة الانتقالية، ومرحلة التحول الديمقراطي. أما عملية التحول الديمقراطي فيمكن تصنيفها في اتجاهين رئيسين، وفقًا لمقاربتين في تعريف الديمقراطية، التعريف الضيق للديمقراطية أو ديمقراطية الحد الأدنى، وديمقراطية الحد الأعلى أو التعريف الواسع للديمقراطية، أو الديمقراطية النخبوية والديمقراطية الاجتماعية.
1- من تمرد النخب إلى ثورة الشباب: ترى الورقة أن ثورة 11 فبراير 2011 لم تكن نبتًا شيطانيًا في التربة اليمنية، بل جاءت بعد نضال طويل، منذ بدأت عملية التحول الديمقراطي في اليمن مع توحيد شطريه عام 1990، ففي عام 2005 اندلعت أعمال احتجاجية في معظم مدن اليمن، على خلفية رفع أسعار المشتقات النفطية، وفي 2007 تشكل الحراك الجنوبي، إلا أن هذه الحركات فشلت لأسباب عديدة. كانت الحركات الشبابية اليمنية مفعمة بروح الثورة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنها كانت تفتقر للأساليب والتكتيكات والبنى التنظيمية التي تمكنها من تحقيق هدفها، فقدمت لها الثورتان التونسية والمصرية نماذج لهذه التكتيكات، ودشن الشباب محاولتهم الأولى للثورة عشية نجاح الثورة التونسية.
2- رؤيتان للتحول الثوري: توصل شباب اليمن إلى أن التحول الديمقراطي عبر مسار تطوري قد بات شبه مستحيل، فقد سد النظام كل قنوات التحول الديمقراطي، لذلك فإن المسار الثوري هو السبيل الوحيد لإسقاطه، وكان هناك مساران ممكنان للثورة: الأول هو المسار العنيف، والثاني تفكيك النظام وإسقاطه عبر ثورة، وبالنظر إلى طبيعة النظام السائد في اليمن، فإن التحول الديمقراطي عبر ثورة عنيفة محفوف بالمخاطر.
أولًا، المرحلة الانتقالية وفقاً للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية: شكلت المبادرة الخليجية آلية لإدارة الأزمة بين القوى المتنافسة على السلطة، وبالتالي لنقل السلطة عبر التقاسم بين القوى المتنافسة، وصاغ مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة (السيد جمال بن عمر) آلية تنفيذية لها استوعبت مطالب وأهداف القوى المدنية والشبابية، لتتحول المبادرة من مجرد اتفاق على نقل السلطة إلى خارطة طريق للانتقال الديمقراطي، وعلى الرغم من أن المرحلة الانتقالية في اليمن وفقًا للآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية أطول وأكثر تدرجًا من مثيلاتها في دول الربيع العربي الأخرى، إلا أنها محددة بدقة. تتكون المرحلة الانتقالية من مرحلتين: تبدأ المرحلة الانتقالية الأولى مع التوقيع على المبادرة الخليجية (في 23 نوفمبر 2011)، وتنتهي بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة توافقية بمرشح واحد (نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي)، والتي أجريت في 21 فبراير 2012، وتبدأ المرحلة الانتقالية الثانية مع تنصيب الرئيس الانتقالي التوافقي، وتستمر لمدة عامين.
ثانيًا، روافع ضعيفة .. لكنها تعمل: حددت وثيقة الحوار الوطني ضمانات تنفيذ مخرجات الحوار الوطني والعملية الانتقالية، كما حددت عددًا من مؤسسات الدولة التي سوف تضطلع بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. يمكن القول إن كل روافع التحول الديمقراطي في اليمن ضعيفة، فالدولة ضعيفة، وقد تعاظم ضعف مؤسساتها بفعل الانتقال إلى المرحلة الانتقالية من دون استكمال مرحلة إسقاط النظام، ومجلس النواب الذي ينبغي أن يتحمل مهمات كبيرة في مجال التحول، هو مجلس ضعيف، معظم أعضائه من القوى التقليدية المحافظة، الموالية للنظام القديم. والجيش منقسم، وعوضًا عن أن يقوم بدوره في حماية الدولة، انخرط في النزاع. كذلك المجتمع المدني هو الآخر يعاني من الضعف، كمًا ونوعًا، فمعظم الأحزاب تهيمن عليها النخب التقليدية المحافظة، وباتت الأحزاب آليات لتحقيق مصالح أشخاص وعائلات أكثر مما هي آليات لتحقيق المصالح الوطنية.
ثالثًا، كوابح قوية .. لكنها ممكنة التجاوز: جاءت المبادرة الخليجية للانتقال بالثورة اليمنية إلى مرحلة بناء النظام الجديد، لكن من دون استكمال المرحلة الأولى من الثورة، المتمثلة بإسقاط النظام، وقبلت النخب التقليدية والحزبية بهذه الانتقال، وبهذه الترتيبات، وبالتالي فإن بقاء النظام القديم ومحاصصة السلطة بين النظام القديم والجديد يشكل أول عائق من عوائق التحول الديمقراطي، فضلًا عن أن هناك أطراف غير جادة في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وأطراف تسعى إلى التنفيذ الشكلي لمخرجاته.
شهدت الساحة اليمنية خلال العامين الأخيرين حالة من عدم الاستقرار الأمني، والاغتيالات السياسية، وخضع الرئيس عبد ربه منصور هادي في حالات كثيرة لضغوط مراكز النفوذ والنخب التقليدية. وشكل انضمام النخب التقليدية المنشقة على النظام القديم للثورة نقطة فارقة في مسارها، فعلى الرغم من حماية هذه النخب لساحات الاعتصام، إلا أنها في الوقت ذاته حمت الرئيس السابق، وهي التي وقفت وراء منحه الحصانة القانونية والقضائية، حماية لنفسها، لأنها كانت شريكة لعلي عبد الله صالح خلال سنوات حكمه، وبالتالي كانت هذه النخب ترغب في أن تقتصر عملية التحول على تسوية لتقاسم السلطة، لا أن تفضي إلى تغيير جذري للنظام، ما ولد حالة من عدم الثقة بين القوى الثورية.
رابعًا، دعم الأمم المتحدة للعملية الانتقالية: لعبت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن بشكل خاص، دورًا داعمًا لعملية الانتقال السياسي في اليمن، ولا سيما في ظل توافق الدول دائمة العضوية حول عملية الانتقال السياسي في اليمن، خلافًا للانقسام والاستقطاب الحاد حول دول الربيع العربي الأخرى.
خامسًا، فرص استكمال التحول الديمقراطي: على الرغم من ضعف روافع التحول الديمقراطي في اليمن إلا أن ذلك لم يجمِّد عملية الانتقال الديمقراطي، بقدر ما أدى إلى تأخير تنفيذ بعض ما كان ينبغي تنفيذه خلال المرحلة المنقضية من الفترة الانتقالية، وتشير التطورات التي شهدتها اليمن خلال عام 2012 إلى أن الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة طريق طويل، وأن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي كانت ترفضها القوى المدنية، ربما تحقق للثورة ما يمكن أن تعجز عن تحقيقه بإسقاط النظام عبر هبة شعبية، وتكرس نموذجًا يمنيًا متفردًا بين ثورات الربيع العربي. وبشكل عام، فإن المؤشرات المتوافرة تشير إلى أن عملية التحول الديمقراطي على الرغم من بطئها، تتحرك قدمًا، وأن القوى الاجتماعية الحديثة رغم ضعفها، تستطيع الدفاع عن مكتسبات الثورة، والضغط على النخب التقليدية باتجاه استكمال الانتقال الديمقراطي.

في الفصل التاسع: “البوسنة وكوسوفو وسورية: مقاربات ومآلات”، يقدم محمد م. غيغا الأرناؤوط ورقته من خلال مقدمة وثلاثة محاور وخلاصة. ويوضح في المقدمة الغاية الرئيسة للورقة المتمثلة بمحاولة تسليط الضوء على أحوال التدخل العسكري الغربي في البوسنة وكوسوفو وعلى مآل هذا التدخل، فالوضع النهائي لم يستقر بعد لا في البوسنة ولا في كوسوفو، وعن ما يمكن أن تستفيد منه سورية من هاتين الحالتين للخروج من أزمتها المستعصية في الوضع الراهن، في حال حصل أو لم يحصل التدخل العسكري أي ترتيب تصور لسورية الجديدة بالاستناد إلى حالتي البوسنة وكوسوفو يحفظ وحدة البلاد. ثم تنتقل الورقة إلى دراسة المحاور الثلاثة:
1- أحوال التدخل العسكري في البوسنة: كانت الحرب في البوسنة (1992-1995) أكبر مأساة شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (مئة ألف قتيل وتهجير نصف السكان) ومثلت تحديًا للاتحاد الأوروبي الجديد والرأي العام العالمي بسبب الفظاعات التي ارتكبت فيها وبسبب الخوف من انتشار “التطهير العرقي” والتهجير والتشطير إلى المناطق المجاورة، وهو ما أدى في النهاية إلى التدخل الدولي عن طريق القصف الجوي أولًا ثم بجرّ الأطراف المتصارعة إلى مؤتمر للسلام في دايتون تتوج بـ”اتفاقية دايتون”. وبسبب الفظاعات التي ارتكبت خلال الحرب، التي نسفت التعايش الإثني والديني الذي كان يميز البوسنة، سعت “اتفاقية دايتون” إلى هيكلة فترة انتقالية تعزز الثقة بين الأطراف وتؤدى مع الزمن إلى إعادة اللحمة بين مكونات البوسنة مما يسمح بترسيخ نظام جديد، وهو ما لم يحدث، إذ تحول الموقَّت إلى دائم.
2- أحوال التدخل الدولي في كوسوفو: وكان من تداعيات انهيار يوغسلافيا تفاقم النزاع الصربي الألباني حول كوسوفو (أغلبية ألبانية مسلمة وأقلية صربية أرثوذكسية)، إذ كانت صربيا قد ألغت في 1989 الحكم الذاتي الواسع لها وضمتها إلى صربيا بينما كان الألبان يطالبون باستقلالها عن صربيا. وقد أثارت ممارسات النظام الصربي في كوسوفو (المجازر والتهجير) خلال 1998-1999 المخاوف من تفجير الاستقرار في المنطقة (وخاصة مكدونيا) فجرى تدخل عسكري آخر لحلف شمال الأطلسي ضد صربيا لإجبارها على سحب قواتها من كوسوفو في ربيع 1999، وبذلك وجد الحلف في الذكرى الخمسين لتأسيسه مناسبة للتخلص مما تمثله صربيا من تهديد عسكري أخير في البلقان.
3- حالة سورية: وعلى الرغم من أن هذين التدخلين العسكريين (مع الفارق بينهما) قد جاءا في سياق إقليمي ودولي معين، وهو ما حاولت الولايات المتحدة أن تبرر به لاحقًا غزوها للعراق في 2003، إلا أن ماجرى في سورية في 2011-2013 جعل المعارضة تستدعي هذين التدخلين، وتطالب باستمرار بتدخل عسكري من دون قرار من مجلس الأمن على نمط ماحصل في البوسنة أو كوسوفو، من دون أن تدرك الفارق بينهما وتغيّر السياق الدولي وما آل إليه الأمر هناك (البوسنة وكوسوفو).
ومن هنا سعت الورقة إلى بعض المقاربات بين حالات البوسنة وكوسوفو وسورية مع التركيز على المآلات، ومالذي يمكن لـ “سورية الجديدة” أن تستفيد منه في ترتيب أوضاعها من تجربة البوسنة وكوسوفو في إعادة اللحمة بين المكونات الإثنية والدينية المختلفة. وبالتالي من الأفضل للسوريين أن يمتلكوا الجرأة والصراحة على طرح مايرونه لـ “سورية الجديدة” من أن يتولى ذلك الآخرون ويفرضونه على السوريين. فالمسألة السورية للأسف لم تعد بيد السوريين، وهي تحتاج إلى أن يستردوها من الآخرين، ويقرروا بأنفسهم ما يريدون لبلادهم.

في الفصل العاشر: “عبقرية الانتقال في ثورة الميجي1868م في اليابان والدروس المستفادة عربيًا”، يبدأ يحيى بولحية ورقته باستعراض إشكالية البحث ومحاوره الكبرى، ثم هدف البحث وأهميته ومنهجه، وتحديد مفهوم الانتقال المستخدم، ثم مقاربة عملية الانتقال من خلال ثلاثة محاور رئيسة، ويختم الورقة باستنتاجات عامة.
إشكالية البحث ومحاوره الكبرى: تُعدُّ عملية الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي وترسيخه على النحو الذي يضمن استمراريته واستقراره سيرورة معقدة وتستغرق فترة زمنية طويلة نسبيًا. ولذلك فإن مجرد رحيل نظام حكم غير ديمقراطي لا تعنى بالضرورة قيام نظام ديمقراطي راسخ ومستقر، ذلك أن المرحلة تستدعي توفر شروط ومتطلبات عديدة. وتشكل الفترة الانتقالية محكًّا حقيقيًا للقوى الصاعدة، فخلالها يمكن رصد مدى قدرتها على الاستمرار في وهجها الثوري وعلى التعبئة لمشروعها السياسي والمجتمعي.
تتباين الثورات في مسيرتها وطريقة إزاحة العقبات من طريقها، وضمن هذا الإطار تمثل ثورة الميجي 1868 في اليابان حالة فريدة في التجارب الثورية العالمية، بالنظر إلى السرعة الكبيرة التي مرت بها فترة الانتقال من نظام سياسي واجتماعي واقتصادي مغلق إلى نظام طموح ومتحفز للتغيير والتنمية. صحيح أن ثورة الميجي أحدثت ثورة مضادة من جانب بعض الساموراي المعارضين لسياسة الانفتاح على الغرب وفي مقدّمهم صايغو تاكاموري، إلا أن سرعة لملمة الجراح واقتصاد الجهد في بناء الدولة الجديدة يحتاج إلى وقفة تأملية خاصة.
هدف البحث: تهدف هذه الورقة إلى مقارنة التجربة اليابانية في الانتقال من نظام مغلق وسلطوي إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي جديد، بالتجربتين المغربية والمصرية في الانتقال، والاستفادة من التجربة الثورية/الإصلاحية اليابانية في مقاربة ما يعرفه العالم العربي من حراك عُرفت مقدماته وأسبابه ويستعصي فهم الطور الانتقالي الذي تمر به بعض بلدانه كمصر والمغرب وتونس واليمن وليبيا.
أهمية البحث: تحاول الورقة ردم النقص في الكتابات العربية التي اهتمت بالتأصيل لظاهرة الانتقال الديمقراطي ودراستها، إن كان على المستوى النظري، أو على مستوى الدراسة المقارنة.
منهج البحث: أخذت الورقة بالمنهج الاستقرائي للنصوص والوقائع والتعقيب عليها ومناقشتها والخروج باستنتاجات تناسب موضوع المقارنة، كما أخذت ببعض الأدوات الأنتربولوجية في تحليل مفهوم الجماعة والتوافق بيابان الميجي. وخصصت الورقة مساحة واسعة للانتقال خلال عهد الميجي، وتناولت أهم مرتكزاته التاريخية، واعتبرت التجربة اليابانية مرآة لقراءة عللنا ومشكلاتنا، وبالتالي استنتاج العناصر التي قد تفيدنا في تجنب العثرات التي يمكن أن نقع فيها، علمًا أن الورقة لا تؤمن بالحلول النمطية والجاهزة، بقدر ما تهدف إلى الكشف عن التجارب التاريخية السابقة والرائدة في هذا المجال.
مفهوم الانتقال: ويقصد به المرحلة الوسيطة التي يتم خلالها تفكيك النظام غير الديمقراطي القديم أو انهياره، وبناء نظام ديمقراطي جديد. وهذا الانتقال عملية معقدة، تتطلب تضحيات كبيرة، وتتسببت بصراعات بين القوى القديمة والجديدة، وبين مراكز النفوذ وشبكات المصالح. لا تحسم عمليات الانتقال دائمًا الشكل النهائي لنظام الحكم، فقد تؤدي إلى تحلل النظام السلطوي وإقامة شكل ما من الديمقراطية، وقد تتم العودة إلى بعض أشكال الحكم السلطوي. وضمن هذا المفهوم تحاول الورقة تحليل مضمون الانتقال في ثورة الميجي باعتباره تحولًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا يعمُّ مختلفَ الشرائح الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية والسياسية.
محاور الورقة: تحاول الورقة مقاربة عملية الانتقال في ثورة الميجي من خلال ثلاثة محاور رئيسة:
الأول، تجربة الانتقال خلال عهد الميجي، ويأتي تحته تسع نقاط: المقدمات الأولى لثورة الميجي، المثير الخارجي الأميركي ومرحلة المخاض الثوري، مرحلة التأسيس الثوري، القرارات الثورية، عبقرية الانتقال الثوري، الثورة المضادة وأسلوب التعامل معها، النخبة وصناعة التغيير، ثقافة الجماعة والتوافق، البناء الدستوري. الثاني، مسيرة التوافق السياسي بالمغرب، وهنا يتم تناول مسألتين: المغرب بين الصراع والتوافق في عهد الحسن الثاني، سياسة الانتقال في عهد محمد السادس بين الخطاب الحقوقي ومأزق الفعالية الحزبية. أما المحور الثالث، الانتقال في مصر، فيعالج نقطتين: الثورة والثورة المضادة، الإخوان ومطلب العدالة، وتختم الورقة باستنتاجات عامة.

في الفصل الحادي عشر: “الربيع العربي من منظور مقارن: دراسة في أثر نمط التحول على الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية”، تبدأ مروة فكري ورقتها بمقدمة، ثم تعرض تساؤلات الورقة وافتراضاتها ومنهاجيتها، ثم تنتقل إلى بحث المحاور الثلاثة للورقة، ثم تعرض الخلاصة في الخاتمة.
في المقدمة ترى الورقة أن دراسة خبرات بعض الدول في تحولها الديمقراطي يساهم في المزيد من الفهم، وربما التنبؤ، بمصير الربيع العربي الذي لا يبدو في أبهى حالاته حاليًا. جاء المد الديمقراطي في الدول العربية ليتحدى مقولة الاستثناء العربي من ناحية، ويفتح المجال من ناحية أخرى أمام الدراسات المقارنة بين الثورات العربية وغيرها من الثورات التي شهدتها دول أخرى. وقد تعددت النظريات المفسرة للتحول الديمقراطي تبعًا للعوامل والمتغيرات التي أعطيت لها الأولوية، وكذلك اختلاف المستوى التحليلي الذي يتم التركيز عليه. وبصورة عامة، يمكن تصنيف الاقترابات الخاصة بالتحول إلى ثلاثة أنواع أساسية: اقترابات تهتم بالعوامل الهيكلية في التحول مثل التنمية الاقتصادية -الاجتماعية، أو الثقافة السياسية ودور المجتمع المدني؛ واقترابات تهتم بدرجة أكبر بالعوامل السياسية خاصة تلك المتعلقة بخيارات واستراتيجيات الفواعل الأساسيين في عملية التحول؛ وثالثة تهتم بالسياق المؤسسي مثل دراسة أثر المؤسسات على رسم السياسات وأنماط الفعل السياسي. ويمكن بشكل عام القول إن نظريات التحول الديمقراطي يمكن تصنيفها في واحدة من الفئتين التاليتين: مجموعة تهتم بالسياق سواء الهيكلي أو المؤسسي، وأخرى تهتم بالعملية ذاتها من خلال دراسة آلياتها، أو الخيارات المتبعة والاستراتيجيات الموظفة. ويعتبر “نمط التحول” من الأبعاد التي نالت الكثير من الاهتمام نظرًا للدور الذي يلعبه ليس فقط في تحديد طبيعة النظام الناتج، بل أيضا في تعزيز الديمقراطية.
تساؤلات الدراسة: تسعى الورقة لاستقراء ما قد تقوله نظريات وخبرات التحول عن المسار التاريخي الذي تشهده دول الثورات العربية الآن. ولذلك فإن التساؤل الرئيسي لهذه الدراسة هو: في ضوء خبرات دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية (شيلي، بولندا، رومانيا، البرازيل) فيما يتعلق بنمط التحول للديمقراطية، ما هي المآلات المحتملة لثورات الربيع العربي؟ وما هي العوامل المهمة في هذا السياق؟ وينبع من هذا التساؤل الرئيسي عدة أسئلة فرعية.
افتراضات الدراسة: طرحت الورقة مجموعة من الافتراضات التي قد تؤكدها أو تكيفها أو تدحضها بالكامل. من هذه الافتراضات مثلًا:
كلما كانت النخب الوطنية توافقية، كلما زادت احتمالات التحول إلى الديمقراطية.
كلما كانت البيئة الإقليمية والدولية مشجعة على التحول، كلما زادت فرص نجاحه.
كلما كانت الضغوط الشعبية مستمرة ومنظمة معًا، كلما وقف ذلك حائلًا أمام عودة السلطوية.
المنهاجية: تعتمد الدراسة على دراسة أثر نمط التحول على طبيعة النظم السياسية الناشئة. وتصنف أنماط التحول بشكل عام استنادًا إلى معايير مختلفة مثل: توازن القوى بين النظام القديم والقوى المعارضة أثناء التحول، وسهولة وسلاسة التحول، وهوية الفواعل التي تقود عملية التحول، والاستراتيجيات التي يتم توظيفها.
أولًا: طبيعة النظام القديم
تعريف الشمولية والسلطوية
تمثل طبيعة النظام القديم أحد المحددات المهمة في عملية التحول الديمقراطي. وفي هذا السياق يمكن تحديد معايير معينة للمقارنة بين النظم (غير الديمقراطية) المختلفة تتمثل في ثلاثة أسئلة: من يحكم؟ كيف يحكم؟ بماذا يحكم؟.
النظم محل الدراسة
تتفاوت النظم في طبيعتها، فهناك النظم السلطوية وشبه السلطوية التي تتيح مجالًا محدودًا لوجود المعارضة لإضفاء الشكل الديمقراطي على حكمها، إلا أن هذه المعارضة تكون في الأغلب مفككة وضعيفة، كما تعمل هذه النظم على إحكام سيطرتها من خلال مؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية. وهناك النظم الشمولية (أو السلطانية) التي لا تسمح بوجود أي كيانات معارضة، ولا تعتمد على المؤسسات في الحكم، وإنما على إرادة الحاكم المنفردة. وبالتالي فإنه بينما تتميز النظم السلطوية بدرجة من المأسسة، فإن النظم الشمولية تتسم بالضعف الشديد لمؤسسات الدولة. ثم تعرض الورقة تجارب بولندا، رومانيا، شيلي، البرازيل وتقارنها مع مصر وليبيا.
ثانيًا، اختيارات الفواعل: تعتبر اختيارات الفواعل المنخرطة في عملية التحول من العوامل الحاسمة في تحديد النمط المتبع في عملية التحول، كذلك فيما يتعلق بفرص النجاح والفشل. ويتعلق هذا البعد أساسًا بالنخبة من الطرفين: المعارضة والنظام. وتركز معظم الأدبيات على تقسيم النخبة من الطرفين إلى معسكر معتدل وآخر متشدد، مؤكدة على أن نمط التحول بالتفاوض يتم فقط إذا ما وجد معتدلون على الجانبين (المعارضة والنظام)، ويكون لهم الكفة الراجحة في ميزان القوة داخل معسكريهما. وتعرض الورقة هنا تجارب بولندا، رومانيا، شيلي، البرازيل، وتقارنها مع مصر وليبيا.
ثالثًا، السياق: شكلت الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدهورة في الحالات محل الدراسة السياق الداخلي المحدد لنمط التحول الذي اتبعته كل دولة من الدول. أما فيما يتعلق بالسياق الخارجي المحيط بعملية التحول، فنجد أن هناك اختلافات من حالة لأخرى من حيث النطاق والأثر. إذ تعتمد طبيعة هذا الدور على توليفة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى طبيعة الفواعل المنخرطة، وكذلك نمط التدخل أو السياسات المتبناة. ويمكن بشكل عام تصنيف أثر السياق الخارجي في عدة أنواع: أثر العدوى، وجود محفز على التحول، وأخيرًا مساندة أو عرقلة جهود التحول.
الخاتمة: يتضح من الورقة كيف أن التطورات التي أثرت على توقيت وأسلوب التحول في كل بلد تساهم في تفسير السبل والنتائج المختلفة التي وصلت إليها كل دولة. وقد أوضحت الورقة أن التفاعل بين طبيعة النظام وخيارات الفواعل والسياق المحيط هو المحدد الأساسي لنمط التحول الناتج والذي بدوره يؤثر على فرص نجاح التحول من عدمها. ويتضح أيضًا أن هناك علاقة بين انقسام النخبة وعدم الاستقرار السياسي وتعثر التحول الديمقراطي. ويتخذ عدم الاستقرار السياسي هذا عدة أشكال: العنف السياسي والمظاهرات، وكثرة تغير الحكومات، وأخيرًا الانقلابات العسكرية. وهنا لا يهم أن تكون خطوات التحول سريعة بقدر كونها متصلة وغير منقطعة بحيث لا تعطي الفرصة للقوى المعارضة للإصلاح أن تستعيد قوتها وتعيد تنظيم نفسها مرة أخرى. ولا يعني توفر الإرادة السياسية ضرورة التوافق التام بين النخبة السياسية المعارضة، ولكن المطلوب هو الاتفاق على الحد الأدنى من المطالب الخاصة بعملية التحول، والأهم التوافق على الآليات التي يتم الاحتكام إليها عندما يفشل هذا التوافق.

في الفصل الثاني عشر: “العدالة الانتقالية وأثرها في التحوّل الديمقراطي: مقاربة لنماذج عالمية في ضوء الحراك العربي”، يبدأ إدريس لكريني ورقته بمقدمة، ثم يتناول فرضيات الورقة ومنهجها، ليعرض قضايا البحث وإشكالاته في محورين رئيسين، ثم الخاتمة.
في المقدمة تؤكد الورقة على أهمية العدالة الانتقالية بحكم تنامي الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي من جهةٍ أولى؛ ولجوء عددٍ من الدول في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية إلى هذه الآلية كسبيلٍ لتجاوز إكراهات الماضي من جهةٍ ثانية، ثم مراكمة الباحثين والخبراء لنظريات واجتهادات مهمة في هذا الصدد من جهةٍ ثالثة.
فرضيات البحث
تنطلق الورقة من أربع فرضيات أساسية متصلة في ما بينها؛ أولها أن الانفتاح على تجارب التحول الديمقراطي في العالم والاستفادة منها؛ من شأنه تعزيز ودعم الانتقال في الدول الساعية إلى تحقيق التحول الديمقراطي.
وثانيها؛ أن القبول بإعمال آلية العدالة الانتقالية في إطارٍ من التوافق بين الدولة ومختلف مكونات المجتمع من أحزاب سياسية ومجتمع مدني ونخب مختلفة؛ يعد مؤشرًا إيجابيًا يدعم التحوّل السّلس والمتدرّج.
وثالثها؛ أن كلّ تحوّلٍ سياسي في ظل المرحلة التي تعيشها المنطقة العربية يظل هشًّا ومرشحًا للتراجع أو إعادة إنتاج الاستبداد؛ طالما لم يتم بناء على مصارحة الذات واعتماد آليات بنّاءة تضمن انتقالًا سلسًا يرتكز على تجارب إنسانية رائدة في هذا الشأن.
ورابعها؛ يقضي بأن اعتماد العدالة الانتقالية في المنطقة العربية في ظل الاحتجاجات والحراك والثورات التي تشهدها المنطقة؛ يشكّل مدخلًا لتجاوز الارتباكات والاختلالات الراهنة؛ وللاستفادة من حجم التضحيات المبذولة؛ وتوجيه الحوادث بما يدعم مشاركة الجميع في بناء أسس دولة الحق والقانون؛ ويقطع مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومظاهر الاستبداد.
منهج البحث: إن طبيعة الموضوع المطروح للبحث وأهميته؛ واتساع مجال المفاهيم المرتبطة به؛ تفرضان اعتماد مناهج مختلفة يطبعها التكامل والانسجام؛ بما يسمح بمقاربة الإشكالية المطروحة بصورة معمّقة وشمولية؛ وبتناول مختلف الجوانب التي يطرحها المفهومان (العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي) من حيث سياقاتهما ومرتكزاتهما ودلالاتهما المتأرجحة بين العالمي والمحلي؛ إضافة إلى أهميتهما. وفي هذا الصدد؛ اعتمدت الورقة المنهج التاريخي كسبيلٍ لرصد الأوضاع التاريخية للمفهومين، وتطورهما في ضوء الأفكار الفلسفية والسياسية والتجارب الرائدة في هذا الشأن. إضافة إلى المنهج المقارن الذي سيتيح إمكان طرح بعض التجارب الدولية وتقويم أهميتها ومقارنة بعضها ببعض. كما استحضرت المنهج القانوني لتسليط الضوء على الأسس القانونية التي يرتكز عليها التحوّل الديمقراطي والعدالة الانتقالية في جوانبها الوطنية والدولية؛ والإشكالات المفاهيمية والقانونية التي يثيرانها. علاوة على ذلك، استخدمت الورقة المنهج التحليلي الذي يسمح باستخلاص الدروس والنتائج من مختلف التجارب؛ بما يدعم إيجاد حلول عملية للإكراهات والمشكلات التي يطرحها الانتقال نحو الديمقراطية في الأقطار العربية في زمن “الثورات” والحراك بالمنطقة.
قضايا البحث وإشكالياته: في ظل التحولات الحالية المتسارعة في المنطقة العربية؛ التي يصعب التكهن بمآلاتها؛ تزداد أهمية العدالة الانتقالية خلال هذه المرحلة الحاسمة بالذات بالنظر إلى أهميتها في تعبيد الطريق نحو الديمقراطية بأقلّ تكلفة؛ ولقدرتها على تحصين المجتمعات ضد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجارب القاسية للاستبداد.
تزايد لجوء كثيرٌ من الدول التي ترسخت لديها القناعة في بناء أسس وطيدة للانتقال الديمقراطي خلال العقود الأخيرة، إلى نهج مداخل وسبل مختلفة تندرج ضمن آليات العدالة الانتقالية تسمح بالحسم مع تركات الماضي والتخلص من الاستبداد؛ وتفتح آفاقًا ديمقراطية واعدة أمام الشعوب. وهو ما سمح بمراكمة تجارب وممارسات ساهمت في تطوير هذه الآلية؛ وعزّز من فرص اللجوء إليها من جانب عددٍ من الدول الطامحة للتغيير والإصلاح.
وفي هذا السياق؛ سردت الورقة في قسم أول “التحول الديمقراطي والعدالة الانتقالية في ضوء الممارسات الدولية” مجموعة من التجارب الدولية المرتبطة بالتحول الديمقراطي التي كانت مقرونة بتجارب العدالة الانتقالية في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا؛ أكان الأمر متعلقًا بالتحول من أعلى أو من أسفل أو بالتوافق بينهما، واستحضار الدروس والدلالات والعبر التي تطرحها هذه التجارب؛ من حيث تمتين أسس التحول السلس والمتدرّج نحو الديمقراطية ودعم الاستقرار داخل المجتمعات ومدى إمكان نقلها إلى فضاءات اجتماعية وسياسية أخرى. وهنا تتناول الورقة عنوانين اثنين هما: السياق النظري والتاريخي للتحول الديمقراطي، العدالة الانتقالية وأثرها في التحول الديمقراطي.
وتحاول الورقة التطرق في قسم ثان “أزمة الانتقال الديمقراطي في الأقطار العربية ومطلب العدالة الانتقالية” إلى الإشكالات والتحديات المرتبطة بمرحلة الانتقال في دول الحراك؛ من حيث البحث في أسبابها وخلفياتها وتداعياتها؛ مع طرح مجموعة من المداخل الكفيلة بتجاوز المرحلة الحرجة التي تمر بها مختلف هذه الأقطار والخروج من المأزق الراهن بأقل تكلفة؛ والسعي لبلورة مدخل نموذجي للعدالة الانتقالية ينسجم وخصوصية المنطقة؛ كسبيلٍ لطي صفحات الماضي وتأمين مرحلة الانتقال في ضوء التجارب الدولية الرائدة. وهنا تتناول الورقة عنوانين اثنين هما: أزمة التحول الديمقراطي ورهانات الحراك في المنطقة العربية، العدالة الانتقالية في المنطقة العربية: بين متطلبات المحاسبة ورهان المصالحة.

مشاركة: