تاريخ العلويين، من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية (ستيفان وينتر)

اسم الكتاب: تاريخ العلويين، من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية
المؤلف: ستيفان وينتر
ترجمة: باسل وطفة، أحمد نظير الأتاسي
الناشر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر
مكان وتاريخ النشر: إسطنبول 2018

محتويات الكتاب:
مقدمة
الفصل الأول: النصيريون في سورية القرون الوسطى: من فرقة دينية إلى مجتمع مذهبي (من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر للميلاد)
الفصل الثاني: ما وراء الملاذ الجبلي: العلوية والدولة السنيّة (من القرن الثالث عشر إلى الخامس عشر)
الفصل الثالث: المسح والعقاب، إدماج العلويين في الإمبراطورية العثمانية (1516-1645)
الفصل الرابع: عهد السيادة الذاتية، أعيان علويون بصفتهم ملتزمين عثمانيين
الفصل الخامس: إصلاح إمبراطوري واستعمار داخلي، المجتمع العلوي في مواجهة الحداثة (1808-1888)
الفصل السادس: ليسوا مواطنين بعد، العروبة، والكمالية، والعلويون (1888-1936)
المصادر والمراجع

يقول الكاتب، في مقدمة كتابه: إن ما سبّب هذا الاهتمام بالعلويين، أكثر من أي شيء آخر، هو دورهم في تاريخ سورية الحديث؛ إن صعود طبقة جديدة من الضباط العلويين في جيش سورية المستقلة، ودورهم المهيمن في حزب البعث، واقتناص اللواء العلوي حافظ الأسد الصريح للسلطة عام 1970، وحكمه الطويل رئيسًا متبوعًا بحكم ابنه بشار عام 2000، والدور غير المتكافئ مع عددهم الذي أداه العلويون في الدولة، هذا الدور الملحوظ بصورة خاصة منذ دخول سورية في حرب أهلية وفوضى طائفية عام 2011، هذه العوامل كلها ألقت الأضواء على الأصول المتوهّمة، والتحولات، والهوية السياسية لهذه الجماعة بحد ذاتها (…) فإن مساندي الأسد أنفسهم قد بدؤوا يلعبون على وتر هذه الرؤية، ويُلهبون الخوف بين العلويين ومجموعات أخرى من الكراهية التاريخية والمنفلتة من عقالها التي تُظهرها الأغلبية السنية تجاههم، وسيلة لتكريس الولاء للنظام الحاكم.
يدحض الكاتب في كتابه هذا -بحسب زعمه- مشكلة “الاضطهاد التاريخي” ويرى أن السرديات التاريخية المتجهة دائمًا نحو التركيز على انعزال العلويين، فإن الدلائل التاريخية لا تدعهما “إن المؤرخين، في تأسيسهم تصوّراتهم على قاعدة فتاوى، ومدونات دينية، وكتابات تاريخية سردية، قد اتجهوا دائمًا نحو التركيز على انعزال العلويين القيمي عن بقية المجتمع، وعلى صراعات مجتمعية عرَضية وذات طبيعة نادرة. إن التركيز على الاختلاف المذهبي -وهو جزء من نسق تفسيري أوسع يفترض ألا شيء حقيقةً يعلو على الدين في الشرق الأوسط- لم يعد مُرضيًا أكاديميًا، بل لا يمكن تبريره أيضًا في ضوء تجييش الأساطير ذات النفس الطائفي عند الأطراف المشاركة في الحرب الأهلية في سورية جميعها. هناك عدد من المصادر تشير إلى إدماج العلويين ضمن المجتمع السوري الأعرض على طول التاريخ. وبشكل خاص، فإن عددًا كبيرًا من الكراسات التعليمية عن الإدارة المملوكية، ومن الوثائق الأرشيفية العثمانية والتركية، ومن أدبيات التراجم المكتوبة بأيدي علويين تطعن بالتصوّر القائل إن “المجتمع” العلوي، هذا إذا كان هناك شيء من هذا القبيل، كان معزولًا عن العالم المحيط به، أو كان متمايزًا عن غيره من الجماعات الريفية، أو كان خاضعًا لتمييز عنصري منتظم.”
كما يكثف الكاتب هدف كتابه هذا بالقول: تهدف هذه الدراسة إلى إعطاء رواية أقل جوهريةً وأكثر ماديةً للتاريخ العلوي، وذلك من خلال التركيز على منشأ الدعوة العلوية في سورية وانتشارها، وعلى وضع العلويين المحدد تحت إمبراطوريات مسلمة متعاقبة، وعلاقاتهم بغيرهم من الجماعات، وعلى الاختلافات المناطقية والطبقية ضمن المجتمع العلوي نفسه، وليس من خلال التركيز على الأسس المذهبية لهذا المجتمع.
يقدم الكتاب مقاربة “علمانية” لتاريخ العلويين، ويتم ذلك بحسب الكاتب: من خلال تفضيل السياقات السوسيو-اقتصادية والسياسية والإدارية لتطور الهوية العلوية الحديثة على سماتها الدينية البحتة، ومن خلال اعتماد منظور الأمد الطويل، والقرون المتعددة من أجل تقييم التحوّل، العميق بطبيعته، للهوية الجمعية العلوية على مَر الزمن.
يبدأ الكاتب في دراسته بتناول “التصورات الكلاسيكية للعلوية، المصطلحات، والتقية” ومن الناحية الزمنية، يبدأ الكتاب مع إقامة السلالة الحمدانية في حلب عام 947، التي بدأ تحت رعايتها أول انتشار للتعاليم العلوية في سورية الجغرافية. ويضيف الكاتب: إن نتيجة مثل هذه التصورات أن معظم الدراسات عن الماضي العلوي كانت إما شديدة التركيز على المعتقدات، أو أنتجت تاريخًا إخباريًا يحاول حبك سردية كاملة من حفنة من الإشارات إلى ما يبدو أنه حالات نزاع واضطهاد وعنف طائفي، من النوع الذي تفضّله التواريخ الإخبارية والسردية، المنتشرة في كل مكان وزمان، في حين إنه كان نادر الحدوث، وذلك من أجل إنتاج قصة صراع لا يبدو أن له نهاية. لكن الفصول المقبلة تركز بالتحديد على دلائل تاريخية أقل بروزًا -لكنها في النهاية عادية- تشير إلى تفاعل عادي، روتيني، يشبه ما يحدث كل يوم، بين العلويين وجيرانهم، أو بينهم وبين سلطات الدولة. على وجه التحديد، ستلقي هذه الفصول الضوء على ثروة من الوثائق الإدارية من إسطنبول وطرابلس على حد سواء، وثائق لم يستخدمها أحد من قبل، لأسباب من بينها عدم دعمها للسردية المعتادة، منها: كداسترو (دفتر سجلات) الضرائب وأوامر تنفيذية تدلّ على أن المماليك والعثمانيين اعترفوا بالعلويين ودمجوهم في الدولة بوصفهم صنفًا من الرعايا يدفع الضرائب؛ عقود التزام ضريبي من أرشيفات المحكمة الشرعية في طرابلس تدلّ على أن طبقةً عثمانية-علوية مستقلة من ملاكي الأراضي الأعيان كانت تهيمن على المنطقة، هذه الطبقة كانت مدينة بنجاحها لتطوّر زراعة التبغ بشكل تجاري في القرن الثامن عشر؛ وثائق تشير إلى قيام الدولة ببناء مدارس، وبجهد آخر غرضها الضبط الاجتماعي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ وسلسلة جديدة من الوثائق من الأرشيفات العسكرية في أنقرة تكشف روابط وظيفية بين ثورة علوية ضد الفرنسيين في نهاية العهد العثماني وبين القوات الكمالية في الأناضول.
يُكمّل هذه المصادر، خاصة في الفصلين الافتتاحيين عن المرحلة القروسطية، معجم تراجم علوي فريد وغير منشور (يبدو أن الوصول إلى نسخته الأصلية غير ممكن الآن بسبب الحرب الأهلية) يحتوي على إشارات عدة متناثرة هنا وهناك إلى علويين يتفاعلون على مستوى يومي معتاد مع موظفين أيوبيين ومملوكيين ومع جيرانهم من الإسماعيليين.

الفصل الأول: النصيريون في سورية القرون الوسطى: من فرقة دينية إلى مجتمع مذهبي (من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر للميلاد)
يقوم هذا الفصل على محاججة رئيسة، وهي: أن العلوية لم تكن (فرعًا) من (الأصل) الشيعي الإثني عشري العراقي، لكنها شكّلت أحد اتجاهاته المركزية التي صُوِّرَت من خلال أثر رجعي على أنها إحدى (اقتناصاته) أو هرطقاته بعد مأسسة اتجاه شيعي اثني عشري في القرن الحادي عشر موسوم بأدبياته الواسعة. علاوة على ذلك، فإن انتشار العلوية على طول وادي الفرات ثم إلى شمال سورية، فحلب، فحماة، ثم في النهاية إلى المرتفعات الساحلية من عكا إلى اللاذقية (بهذا الترتيب) لم يكن نتيجة هرب متخيَّل من الاضطهاد، لكن نتيجة جهد تبشيري مستمر (دعوة). كانت هذه الدعوة في تنافس مع دعوات الإسماعيليين والإسحاقيين وعدد من الجماعات الفرعية الشيعية، لكنها لم تتمايز بوضوح من التشيع الإمامي إلا في العصور القروسطية اللاحقة، ما يشرح سبب تجاور الأراضي العلوية والشيعية الاثني عشرية في سورية ولبنان دون أي تقاطع إلى يومنا هذا.
وانطلاقًا من هذا المحاججة، يبحث الكاتب في “الأصول في غلاة الشيعة” و “الدعوة النصيرية، الخصيبية” ويليها تناول “التحول الديني للمرتفعات السورية”، ثم يدرس الباحث علاقة العلويين “بين الاسماعيليين والصليبيين”. كما يتناول الكاتب “المكزون السنجاري” أبرز الشخصيات في التاريخ العلوي.
وفي خلاصة الفصل الأول، يقول الكاتب: في سورية، حظيت الدعوة العلوية بالدعم العملي من سلالة الحمدانيين الشيعية في حلب، وسرعان ما تمكنت من تأسيس موطئ قدم لها في البلدات القريبة. ولعل ما هو أكثر أهمية هنا، هو الفراغ الديني-السياسي الفعلي الذي كان مناخًا عامًا من تقبّل الأفكار المغالية وغير الأرثوذكسية بين الفلاحين، وعلى الأقل مناخًا متسامحًا من ناحية زعمائهم العلمانيين في جزء كبير من الأراضي السورية الداخلية حينذاك. أما في المرتفعات الجبلية النائية التي يتعذر بلوغها، حيث لم يكن للسيادة البيزنطية ولا الحمدانية ولا الفاطمية أي قوة حقيقية، تمكنت العلوية من الانتشار تحت الرقابة المتسامحة لزعماء القبائل مثل التنوخيين وبني محرز الذين كان إسلامهم مبهمًا ولم يكونوا يكترثون بالسجالات السكولاستيكية (المدرسية) والمذهبية الدائرة في القاهرة أو بغداد. انتهى هذا العهد الملحمي من الحرية والاحتمالات بالضرورة مع وصول الصليبيين، حين تحولت المرتفعات الجبلية الساحلية من حالة مجتمعية هامشية إلى ساحة حرب مادية وأيديولوجية احتدم عليها النزاع بين الجيوش الإمبراطورية للأمة المسيحية اللاتينية، والفدائيين الإسماعيليين، وأخيرًا الزنكيين والأيوبيين بوصفهم وكلاء للنزعة السنية الناهضة. تحت وطأة الضغط المالي والعسكري، رصّ العلويون صفوفهم وسلّموا زمام أمرهم لأي قيادة ممكنة، فتارة دعموا الزعيم الإسماعيلي حين اقتضت الضرورة، وتارة رضخوا لسلطة المكزون السنجاري الجديدة بهدف حماية مجتمعهم من العالم الخارجي. خرج العلويون من القرن الثاني عشر على شاكلةٍ لم يكونوا عليها من قبل؛ لكنها ستعرّفهم (بوصفهم أقلية).
بوصفهم أقلية، لم يكن العلويون استثناءً بقدر ما كانوا توضيحًا نمطيًا للتطور العام الذي شهده المجتمع في الشرق الأوسط خلال القرون الوسطى: فهم لم يكونوا شديدي (الهرطقة) قبل أن يؤسس الفقهاء العباسيون والبويهيون معايير الدين القويم؛ ولم يكونوا (مذهبيين) بصورة فاضحة قبل مجابهتهم نظراءهم الدروز، والإسماعيليين، والإماميين، وأخيرًا السنّة؛ كما لم يكونوا (قبليين) بصورة حادة قبل أن يُجبَروا على الانتظام عسكريًا في القرن الثاني عشر.

الفصل الثاني: ما وراء الملاذ الجبلي: العلوية والدولة السنيّة (من القرن الثالث عشر إلى الخامس عشر)
يظهر هذا الفصل مسيرة الانطواء على الذات وما جلبته معها من مناقشة داخلية حول حدود السلطة الدينية العلوية وحدود الأرثوذكسية العلوية، “هذه المناقشة التي كان لها أثر تكويني أبعد من أي صراع مزعوم مع التيارات الشيعية أو السنّية الأخرى؛ لم تذكر التواريخ العربية القروسطية الجماعة العلوية على الإطلاق، وقد استفادت هذه الجماعة، بحسب مصادر التراجم الخاصة بها، من لامبالاة المسؤولين الأيوبيين والمملوكيين في العصور الوسطى المتأخرة أو حتى تسامحهم. يركز هذه الفصل بصورة خاصة على حملة تأديبية ضد العلويين في منطقة جبلة في عام 1318، هذه الحملة التي أصبح من المعتاد تقديمها مثالًا عن سياسة مملوكية عامة ضد العلويين، لكنها كانت في الحقيقة نتيجة تمرد ضريبي محلي، وتمت لاحقًا إعادة تفسيرها في الأدبيات السنية (المتديّنة) بوصفها صراعًا دينيًّا. لقد تحوّلت فتوى ابن تيمية الشهيرة، وهي أحد المصادر السنية القليلة في تلك المدة التي ذكرت ملّة العلويين، لتصبح اليوم تعبيرًا عن الرأي الواحد والثابت للأرثوذكسية المسلمة حول العلويين، في حين إن ابن تيمية نفسه كان منبوذًا، ولم يكن لآرائه أي تأثير في الفكر المملوكي أو العثماني حتى القرن الثامن عشر، ويمكن إثبات هذا الأمر”. وفي نهاية هذا الفصل، يحاجج الكاتب “بأن كداسترو الضرائب العثماني المبكر يعد أفضل مصدر لـ (السياسة) المملوكية تجاه العلويين، فقد تابعت هذه الوثائق ومأسست الممارسة المملوكية المتمثلة بتحصيل ضرائب خاصة بالعلويين، ما يثبت أن السلطات المملوكية اعترفت بهم جماعةً.”

يعالج هذا الفصل “ما يمكن عده في الواقع تكريسًا للمجتمع العلوي بصيغته (المتماسكة) الجديدة.” ويناقش “أن تراجع المدّ الشيعي لم يعرّض العلويين لردة فعل سنّية أو مملوكية، بل العكس، أتاح لذلك المجتمع تعزيز قيادته وهويته الدينية وموقعه في مواجهة الدولة على المستوى المحلي”. كما يعرض هذ الفصل ما شهد القرن الثالث عشر “جدالًا حادًا في ما يتعلق بحدود الأرثوذكسية العلوية؛ جدالًا ساهم في إعطاء العقيدة قوامها النهائي وتكريس العلماء بوصفهم سلطة دينية للجماعة بلا منازع، ما أفضى بالمحصلة إلى إزاحة الدين عن مجال الحياة اليومية”. ويبند الكاتب السياق التاريخي لهذا الفصل تحت عناوين فرعية هي: هزيمة الاسحاقية والخلاف الحلولي-الثامنة. العلاقات مع سلطات الدولة والإسماعيليين. ابن تيمية وسياسة الاضطهاد. انتفاضة 1318. سياسة المماليك المالية تجاه العلويين.
وينهي الكاتب هذا الفصل بالحديث عن “متلازمة الاضطهاد”، فيقول: ” وأن العلويين في نهاية المطاف لم يختلفوا، من وجهة نظر إدارية، عمن سواهم من (الفرق) الدينية أو القبلية أو المحدّدة اقتصاديًا. ولم يكن ممكنًا، من جانب آخر، لدولة تدّعي شرعية دينية أن تقرّ علنًا بالابتداع المجافي لهذا الدين. كان مصطلح (نصيري) عند استخدامه في النصوص القروسطية دائمًا (وهو مصطلح لم يُستعمل مطلقًا من قبل العلويين أنفسهم) جوهريًا وتمييزيًا، وُظِّف لتبرير فروض جمعية معينة، إجراء تأديبي تقوم به الدولة، أو إدانة أخلاقية بسيطة وذاتية النفع. وتؤكّد المحدودية المتأصلة في مصادرنا المكتوبة عن هذه المدة أهمية عدم فرض سردية شاملة حصرية تتمحور حول (الاضطهاد) و(الملاذ جبلي) على تاريخ العلويين تحت الحكم المسلم السنّي. إضافة إلى الحكم الذاتي الواضح لأي من سكان الأرياف القاطنين في أراضٍ يتعذر بلوغها، والضعف الحتمي للدولة ما قبل الحديثة، لم يشترك العلويون كلهم بوضع منتظم وموحد في ظل السيادة المملوكية أو العثمانية: إذ لم يمنع العنف المجتمعي بينهم وبين الإسماعيليين في منطقة معينة وجود تعاون وحسن جوار بينهما في منطقة أخرى؛ كما لم تنعكس ثورة الضرائب في جبلة سلبًا على العلاقات الودية مع ممثلي الحكومة في حماة؛ والأهم من هذا كلّه، لا يمكن مساواة الخطب اللاذعة والذائعة الصيت لعلماء منفردين بموقف سنّي شامل تجاه الطائفة.

الفصل الثالث: المسح والعقاب، إدماج العلويين في الإمبراطورية العثمانية (1516-1645)
يظهر هذا الفصل من الكتاب، مدى هيمنة الدولة العثمانية على المنطقة في القرن السادس عشر، كما يقوم الكاتب بإثبات امتناع العثمانيين عن أي محاولة لإبادة السكان العلويين، بل تحصيل أكبر مبلغ ممكن من العائدات الضريبية. ويقدم هذا الفصل أوامر تنفيذية عثمانية من أجل البرهنة على أن الحكومة في الإمبراطورية العثمانية نظرت إلى حوادث قطع الطريق في الجبال الساحلية التي قام بها علويون بوصفها مشكلة اجتماعية وليست دينية.

الفصل الرابع: عهد السيادة الذاتية، أعيان علويون بصفتهم ملتزمين عثمانيين
يبرهن هذا الفصل أن ضعف سلطة المركز العثماني في الأطراف، أو اكتساب الأقاليم سلطة أمير على حساب المركز، أثناء القرن الثامن عشر، قد رافقه استخدام هذه السلطات عائلات علوية معروفة أنها ملتزمة ضريبيًّا في المنطقة، هذه العائلات استفادت بدورها من التطور غير المسبوق لزراعة التبغ التجارية، لتصبح طبقة حقيقة من ملاكي أراضي الأعيان؛ يحاجج هذا الفصل أيضًا بأن تعاظم الفروق الاجتماعية ضمن المجتمع العلوي، وليس تعاظم الاضطهاد الخارجي، أدى إلى تصاعد (التحوّل العشائري) في هذا المجتمع، وإلى اتساع الهجرة العلوية نحو السهول الساحلية والداخلية، إضافة إلى استيطان العلويين في إقليم هاتاي في تركيا الحالية.

الفصل الخامس: إصلاح إمبراطوري واستعمار داخلي، المجتمع العلوي في مواجهة الحداثة (1808-1888)
يتصدى الفصل الخامس للقرن التاسع عشر، ولحقبة الإصلاحات العثمانية. يبدأ الفصل بإظهار دخول طبقة الأعيان العلويين المتزايد في صراع مع مسؤولين عثمانيين شبه مستقلين خلال مرحلة تفتت السلطة الإمبراطورية العثمانية في بداية ذلك القرن، ما أدى إلى عدّ المجتمع العلوي للمرة الأولى جماعة من الهراطقة والمنبوذين من المجتمع العثماني. ثم ينتقل الكاتب ليحاجج بأن المجتمع العلوي بدأ بعد ذلك بالتعرض المتنامي لإجراءات هندسة اجتماعية قمعية تحت سلطة التنظيمات ثم تحت سلطة عبد الحميد الثاني، من بينها التجنيد الإلزامي والتحويل الديني. لكن وفي الوقت نفسه، بينما كان العلويون يقاومون الجهد الرامي إلى استيعابهم، بدؤوا باستخدام فوائد التعليم العمومي الحديث والتمثيل النسبي ضمن المجالس البلدية حديثة الإنشاء، وربما ساعدهم ذلك على اكتشاف صوتهم الخاص بوصفهم جماعة سياسية للمرة الأولى.

الفصل السادس: ليسوا مواطنين بعد، العروبة، والكمالية، والعلويون (1888-1936)
يقوم الفصل السادس “بتعقّب الازدواجية المستمرة لجهد حكومات العهد العثماني المتأخر، والانتداب الفرنسي، والعهد الجمهوري التركي الرامي إلى إدماج العلويين في الدولة الحديثة. وبعد فحص مفهومات المواطنة في العهد الحميدي وعهد تركيا الفتاة على حد سواء مثل ما تم تطبيقها على العلويين أو لم يتم، يلقي الفصل الضوء على (اليقظة) الأدبية والفكرية العلوية التي قادتها باسم المجتمع العلوي طبقة جديدة من المثقفين العلويين عشية الحرب العالمية الأولى”. و يقول الكاتب: إن المقاومة العلوية الكبيرة لقوات الاحتلال الفرنسي في مرحلة 1918، والتي ظهرت من رحم هذا الحدث الجمعي المفصلي، لم تشكّل رفضًا محليًا لسلطة الغريب أو نسخة محلية من القومية العربية، بحسب ما تزعم الأدبيات الموجودة، وإنما كانت بخلاف ذلك جهدًا بُذل بالتنسيق مع القوات التركية الكمالية، ويجب بناء عليه النظر إليه بصفته جزءًا من حملة “الجبهة الجنوبية” (لحرب التحرير) التركية”. ويُختَم الكتاب “بنظرة مقارِنة إلى المصائر المختلفة للمجتمعات العلوية في كل من سورية وتركيا ما بعد الحرب العالمية الأولى، ويقترح أن علويي سورية كانوا منقسمين من حيث المبدأ حول مسألة دعم، أو مقاومة، تشكيل دولة (علويين) منفصلة تحت الحكم الفرنسي؛ وقد كان لهذا الانشطار الثنائي تبعات مهمة خلال مفاوضات الاتفاقية السورية الفرنسية في عام 1936، وينتهي بها هذه العرض المتسلسل زمنيًا، ويمكن القول إن أصداء هذه التبعات ما تزال تتردد إلى يومنا هذا. أما السكان العلويون في جنوب تركيا فقد أُخضعوا لسياسات استيعاب جذرية، وحتى عرقية، تحت سلطة القبضة الحديدية لحزب الشعب الجمهوري، ربما كان لها آثار بعيدة المدى متناقضة بعض الشيء، تتمثل بكونهم يشكلون الآن ضمن تركيا أقلية طائفية آمنة ومدركة لذاتها إلى درجة أكبر من أقرانهم في سورية”.

وفي الخلاصة، يقول الكاتب: يستدعي إنتاج تاريخ للعلويين، أو أي جماعة أخرى التُعرّف جوهريًا على أساس دينها، ومواجهة التحيّز المذهبي للمصادر نفسها. إن أي نصّ مكتوب، أطروحة لاهوتية أكان، أم كتابًا في الملل والنحل، أم سردًا لوقائع تاريخية، أم فرمانًا إمبراطوريًا، أم روايات رحّالة، يحدد العلويين (أو النصيريين) على هذا النحو سيوجّه الاهتمام تلقائيًا إلى تفرّدهم وتنافرهم المحتمل مع بقية المجتمع. بالنتيجة، فإن أي تاريخ مؤسَّس على نصوص كهذه سيركز بالضرورة على حوادث مُثبتة لكنها بالنهاية معزولة، حيث كانت معتقداتهم الدينية عاملًا مؤثرًا في تفاعلهم مع الآخرين، ومبالغًا أحداثًا متفرقة من النزاع المذهبي، ومفسرًا القمع الضريبي اضطهادًا، وآخذًا الآراء التحقيرية لفقهاء الأرثوذكسية بوصفها تجربة حقيقية مُعاشة. وبهذه الطريقة أصبح من الطبيعي، في الأدبيات الأكاديمية معظمها وفي جزء كبير من الصحافة التي تكتب عن سورية اليوم، عرض ألف عام من التاريخ العلوي كما لو أنها ممثَّلة ومختزلة في فتوى من فتاوى ابن تيمية، أو إلى مجزرة في حلب لم تحدث قطّ في واقع الأمر. وكما أصبحت النزعة الطائفية نبوءة تحقق ذاتها في الحرب الأهلية الدائرة حاليًا، فإن بناء تاريخ العلويين بوصفه تاريخًا من التهميش والاضطهاد هو في الحقيقة برهان دائري، أي برهان يستخدم كحقيقة ما يريد إثباته”. ويضيف الكاتب: إذا كان صعود الأنظمة المملوكية والأيوبية وتعاظم سماتها ومهاراتها البيرقراطية أواخر القرون الوسطى قد فرض قيودًا مالية وسياسية جديدة على العلويين، والإسماعيليين، وغيرهم من الجماعات السكانية غير السنية، فإن المصادر المتوفرة لدينا لا تدعم الزعم القائل بتزايد الراديكالية الدينية أو وجود اضطهاد ديني معمّم. بصورة خاصة، فإنه من الممكن البرهان على أن الآراء التشريعية لابن تيمية وغيره من فقهاء الأرثوذكسية المتشددين لم تحظَ باهتمام النظام المملوكي، ولم يأخذها العلماء العثمانيون بالحسبان إلا في القرن الثامن عشر؛ إننا أمام حالة وحيدة من عنف الدولة المنظّم ضد العلويين عام 1318، حالة كشفت عن طيف واسع من التفسيرات قدّمها مؤرخون متدينون وغير متدينين من تلك الحقبة، نتجت من تمرد ضريبي، وادعاء ظهور المهدي المنتظر، فلا يمكن أخذ هذه الحالة دليلًا على قمع مذهبي مستمر. بدلًا من ذلك ارتأينا أنه لا ينبغي استنتاج طبيعة (السياسة) المملوكية المتأخرة والعثمانية المبكرة من كتابات تاريخية مبعثرة، وإنما من دفاتر الإحصاءات العثمانية التي تشير إلى أن كلا النظامين قد فرضا ضريبة خاصة بالعلويين، هي ضريبة درهم الرجال، على القرى العلوية معظمها في المنطقة بوصفها جزءًا من واجباتهم الضريبية العامة. إن تطوّر (وأحيانًا تعليق) مستحقات الدرهم، إضافة إلى ضرائب أخرى استهدفت النبيذ الذي ينتجه العلويون بصورة خاصة، واستخدام وجهاء علويين بوصفهم ملتزمين أو جباة ضرائب عثمانيين، إنما يدلل على المدى الذي بلغه إدماج المجتمع العلوي في الإدارة المحلية العثمانية خلال الحقبة الحديثة المبكرة.
ويختم الكاتب كتابه هذا بالقول: مع بلوغ الدمار في سورية مستويات جديدة يصعب تحمّلها، فإن السعي إلى البت في طبيعة التاريخ العلوي يغدو عديم المعنى أكثر من أي وقت مضى. وبينما يبقى مستحيلًا للأسف تصوّر مآل الصراع الحالي في سورية، فضلًا عن آثاره على المدى البعيد، إلا أن أمرًا وحيدًا، بناءً على التجارب الحديثة لبلدان عايشت أوضاعًا مماثلة، يبدو أكيدًا: ستضع الحرب أوزارها في النهاية، وحينما تفعل، سيعيد سكان سورية، استمروا في العيش ضمن الحدود الجيوسياسية نفسها أم لا، مجتمعين بناء بلدهم، وسيستأنفون بعض التعاون الاقتصادي والتجاري، وسيحاولون في النهاية، ربما في مستقبل بعيد، إيجاد مقدار ما من الحقيقة والمصالحة. عندما يأتي ذلك اليوم، سيكون أمام العلويين، والسوريين مجتمعين، خيار يتعلق بالنماذج التاريخية التي سيعتمدون عليها؛ هل سيعرّف موقع العلويين ضمن المجتمع الأكبر تاريخيًا أمثال ابن تيمية ومحمد المغربي أم أمثال مدحت باشا وضياء بيك؟ هل سيختار المرء أن (يتذكّر) انتفاضة جبلة عام 1318 ومجزرة حلب عام 1516، أم سيجد ما يدعو إلى التفاؤل في السيرة المهنية لعلي الشلّف وقارا محمد باشا، وفي لجان التعليم المشتركة والمجالس البلدية لحقبة الإصلاح العثماني، وفي الرؤية السياسية لأشخاص مثل صالح العلي أو سليمان الأحمد؟ كما نعلم، الماضي ليس ميتًا ولا هو ماضٍ، وإنه من الأهمية بمكان أن يستعيد العلويون، وجيرانهم، وأبناء وطنهم امتلاك ماضيهم.

مشاركة: