مقدمة
تتناول هذه المقالة مشاركة المرأة السودانية في ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، في محاولة لفهم دوافع وأسباب تلك المشاركة الواسعة للنساء في إنهاء حكم الإنقاذ العضوض، من خلال تتبع جذور ونشأة وتطور الحركة النسوية السودانية منذ الاستقلال وحتى انقلاب الإنقاذ في 1989، ضمن القسم الأول والثاني من المقالة، أما القسم الثالث فهو محاولة لفهم أوضاع النساء في فترة حكم الجبهة الإسلامية، وتشريح سياسات النظام البائد في فرض طابع اجتماعي وديني واحد عليهن بشكل قسري، ويتناول القسمين الرابع والخامس من المقالة الأثر الحاسم لمشاركة المرأة السودانية في ثورة ديسمبر 2018، ويعنى القسم السادس بمناقشة تمثيل المرأة السودانية في مؤسسات الحكم الانتقالي، والإصلاحات القانونية التي كسبتها، وما ترتب عليها من تصاعد لحالة العنف المجتمعي والأسري ضد النساء والفتيات، إلى جانب خاتمة استشرافية لمستقبل الحركة النسوية في السودان.
الحركة النسوية السودانية تاريخيًا
يعود تاريخ الحركة النسوية في السودان إلى ما قبل استقلال السودان في عام 1956، وكانت نواتها خريجات مدارس الإرساليات والمدارس الأهلية والحكومية، وارتكزت قاعدة الحركة النسوية على النساء المتعلمات من بنات الأسر التي استوطنت المدن الكبيرة، وبنات الموظفين الحكوميين وكبار ضباط الجيش، وهي الفئة من النساء المتعلمات اللائي أسسن لاحقًا الاتحاد النسائي في 1952. وفي عام 1953 أفلح جهد الاتحاد النسائي السوداني في ضمان حق التصويت للمرأة المتعلمة في الانتخابات العامة، وتواصل جهده ليثمر كفالة هذا الحق لكل نساء السودان عقب انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1964، التي أطاحت بحكومة الفريق إبراهيم عبود، ودخلت أول امرأة سودانية منتخبة البرلمان في عام1965.
أوضاع النساء خلال مرحلة النظام البائد
مارس النظام المخلوع طوال فترة حكمة إذلالًا ممنهجًا ضد النساء والفتيات السودانيات، فبعد ستّ سنوات من انقلاب الجبهة الإسلامية، سنت ولاية الخرطوم ما يسمى “قانون النظام العام”، استنادًا إلى نص المادة (152/1) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991، وتبعتها بقية ولايات السودان مستنسخة ذات المضمون والمواد، ولتنفيذ هذا القانون الجديد أُلِّفت محاكم وفرق شرطية خاصة تقوم بمطاردة النساء في الشوارع والأماكن العامة، وفحص أزيائهن إذا ما كانت مطابقة للشرع أم مخالفة، وفق تقديرات شخصية لأفراد تلك الفرق، تخضع لأمزجتهم الشخصية، ما أسفر عن كثير من التجاوزات والانتهاكات، والاستغلال، والابتزاز للنساء.
ولدت سياسات العنف المفرط التي انتهجها نظام البشير تجاه النساء السودانيات إحساسًا قويًا بالغبن، وشعورًا متناميًا بالظلم ظل يتشكل يومًا بعد يوم، يتنامى مع كل فيديو استعراضي لسلطات إنفاذ القانون وهي تقوم بتطبيق عقوبة الجلد على إحدى النساء بوحشية على الملأ، تقطع أصوات صراخهن وأنينهن قهقهات ولعنات أفراد شرطة إنفاذ القانون.
منذ استقلال السودان وحتى مجيء انقلاب البشير في 1989، كانت الهوة واسعة بين نساء الريف والمدن، المتعلمات منهن وغير المتعلمات، في مستويات الدخل والتمتع بالحقوق المكتسبة مثل حق العمل والتعليم والتنقل، لكن سياسات النظام البائد الاقتصادية والاجتماعية قلصت إلى حد بعيد تلك الهوة، حتى كادت أن تتلاشى الفوارق، إلا من استثناءات قليلة ارتبطت بأوضاع فئات قليلة من النساء المنحدرات من أسر أرستقراطية أو لها ارتباط بالسلطة الحاكمة، وصار العنف الممأسس بواسطة أجهزة السلطة القمعية هو السمة السائدة في حياة قطاعٍ واسع من النساء السودانيات.
وعلى الرغم من تقلص الفوارق بين نساء الريف ونساء المدن في عهد النظام البائد، ولا سيما في السنوات الأخيرة منه، إلا أن أوضاع نساء الأقاليم التي كانت تعاني من الحرب الأهلية التي أشعلها النظام ضد مواطنيه –دارفور، جنوب السودان، جبال النوبة، النيل الأزرق وشرق السودان- كانت هي الأكثر هولًا ومأساوية، فقد جلبت الحرب لنساء هذه المناطق صنوفًا جديدة من العذاب، تبدأ من التشريد والنزوح وفقدان العائل وأفراد الأسرة، وتنتهي بالاغتصاب تشفيًا والقتل، فلا يمكن بأي حال مقارنة معاناة نساء هذه المناطق المنكوبة من جراء الحرب بنساء بقية أقاليم السودان.
بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشها معظم السودانيين منذ الاستقلال في عام 1956 التي استفحلت في فترة نظام الجبهة الإسلامية الانقلابي، اضطرت المرأة السودانية إلى الخروج إلى العمل مبكرًا في مهن ظلت هامشية على الرغم من أهميتها في التكوين الاقتصادي والاجتماعي للبلاد –عملت النساء السودانيات مبكرًا في الزراعة والرعي والخدمة المنزلية والأسواق- واجتذبت هذه المهن التي ظلت “هامشية” قطاعًا واسعًا من النساء المتعلمات وغير المتعلمات. إلا أن نظام البشير كرس خالص جهده لمحاربة جهد المرأة السودانية في العمل المأجور داخل أو خارج المنزل، وواجهت مهن مثل بائعات الشاي والقهوة “ست الشاي” وصانعات الأطعمة الشعبية في الأسواق، حملات مستمرة ومسعورة، شكلت هذه الحملات المتكررة موردًا ماليًا هائلًا لشرطة النظام العام ومحاكمه التي كانت تثير الفزع والرعب في أنفس النساء السودانيات العاملات في هذه المهن، من خلال مصادرة معدات عملهن وتقديمهن إلى محاكم النظام العام، وإجبارهن على دفع غرامات باهظة لاسترداد معدات العمل –مقاعد لجلوس الزبائن، أدوات صنع الشاي والقهوة، أواني الطعام وغيرها- إن يلاحظ هنا أن إجراء المحاكمة يشمل دفع غرامة مالية لاستعادة معدات العمل، وهي آلية تضمن لأولئك النساء الاستمرار في عملهن ليحافظن على تغذية هذا الجهاز القمعي بالإتاوات المالية المقتطعة من دخولهن الشحيحة.
خلقت هذه الحالة من التعدي المستمر من قبل السلطة الحاكمة على الفضاء العام الضيق بطبعه وعلى جهود النساء السودانيات في العمل المستقل، حالة من التضامن الطبيعي بين المواطنين السودانيين وهؤلاء النسوة الكادحات، انعكس هذا التضامن غير المعلن خلال السنوات الأخيرة من عمر النظام البائد، في مقاومة المواطنين لهذه الحملات بالتصدي لها، وحماية النساء العاملات، وإنقاذهن من تلك الهجمات المسعورة، حيث كان زبائن هؤلاء النسوة والمارة في الشوارع يقومون بتحذيرهن قبل وصول الحملات لحماية معدات وأدوات العمل وإخفائها حتى مضي الحملة.
خلفت هذه الأجواء من القمع المنظم للنساء التي أوجدها النظام البائد كمًا هائلًا من المرارات المتزايدة في أنفس النساء وقطاع كبير من السودانيين، وساهمت في إيجاد وضع من الظلم وانعدام العدالة ظل محتقنًا قابلًا للانفجار في أي لحظة، علاوة على أنها وحدت النساء وأزالت لحد كبير الفوارق الاجتماعية بينهن.
مشاركة أصيلة يغذِّيها غبنٌ تاريخي
كانت مشاركة المرأة السودانية في ثورة ديسمبر المجيدة 2018، مثار إعجاب واستغراب لمراقبين عديدين، لفرط أهميتها ومركزيتها في هزيمة نظام 30 يونيو 1989. لكن بالنظر إلى المشهد الكلي لأوضاع النساء السودانيات في ظل النظام البائد، نستطيع أن نفهم دوافع ذلك الانخراط الواسع للنساء السودانيات في الثورة، كانت هذه المشاركة الواسعة واللافتة والحاسمة للمرأة السودانية في الثورة، هي نتاج نحو 30 عامًا من القمع والظلم والإقصاء الممنهج والمقنن لمحاولات المرأة السودانية القيام بمسؤولياتها ومقتضيات حياتها وفقًا للأوضاع التي وجدت نفسها فيها.
عكس اختيار المرأة السودانية ضمن مشاركتها في ثورة ديسمبر 2018، لأيقونة “الكنداكة” التاريخية التي تعود إلى عصور ما قبل الميلاد في الممالك السودانية القديمة، وعيها الكبير بتراجع أوضاع المرأة السودانية، ليس في ظل نظام الإنقاذ البائد فحسب، وإنما كذلك في وعي المجتمعات السودانية التي ساهمت بشكل واعٍ أو غير واع في ترسيخ نظرة دونية للمرأة، تراجعت معها أدوارها السياسية والاجتماعية وأوضاعها الاقتصادية، ما عزز من حالة الظلم الذي تعيشه، فرفعت النساء السودانيات أيقونة الكنداكة وحملن اسمها كسقف لا يمكن أن تقل عنه طموحاتهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الحرية والمساواة والعيش الكريم.
خرجت جميع المواكب التي رفعت شعار إسقاط النظام “تسقط بس” استجابة لنداء معلن يتضمن تحديد موعد ومكان انطلاق الموكب، وكانت مشاركة النساء فيها لافتة للانتباه، وطوال ثلاثة أشهر أصر السودانيون على تطبيق تكتيك المواكب المركزية المعلنة مسبقًا في تحدٍ سافر للسلطة، وهي المواكب التي انطلقت من قلب المدن الحيوية، إلى أن تبنى الثوار تكتيك المواكب المعلنة غير المركزية، وتركوا للمشاركين حرية اختيار وقت ومكان انطلاق الموكب على حسب بعدهم عن قلب العاصمة الخرطوم.
ونسبة لأن مواكب الثوار السودانيين في الأشهر الأولى للثورة كانت معلنة، حرصت أجهزة الأمن على إحاطة الميادين والمساحات المعلن عن انطلاق المواكب منها بكامل قوتها القمعية، بحيث لا يمكن لأي موكب أن يتجمع أو ينظم صفوفه ويتحرك قبل أن تتمكن الأجهزة الأمنية من قمعه. وكانت كل التقديرات الأمنية تقول بفشل هذا التكتيك الثوري المكشوف، ولا سيما أن القوات الأمنية للنظام تحيط بمكان انطلاق الموكب إحاطة السوار بالمعصم. لكن المشاركة النوعية والكمية للمرأة السودانية في مواكب المرأة السودانية هي التي غلبت كفة الثوار على القوة القمعية للنظام، ليس بالإمكان شرح الاختراق الثوري الذي أحدثته مشاركة جموع السودانيات من مختلف الأطياف –نساء عاملات، طالبات المراحل الثانوية والجامعية، ربات منازل، وخريجات جامعيات- وجميعهن كن ممن اختزن في ذاكراتهن كل تجارب النظام البائد في القمع. كانت “الزغرودة” كصافرة وإشارة لبدء المواكب التي أسقطت نظام البشير، تنطلق في تمام الساعة الواحدة ظهرًا في كل مدن السودان، من ألسن وأفواه النساء اللائي كن يسرن في الشوارع.
وبالعودة إلى ثقافة السودانيين وفولكلورهم الشعبي، فالزغرودة أو الزغاريد هي أصوات نغمية تُصدر فمويًا للتعبير عن البهجة أو السرور –هي تعبير مشترك في وادي النيل بين السودان ومصر والمشرق العربي- واستخدمت الزغاريد على مر السنوات تعبيرًا عن فرحة الناس بقدوم المواليد الجدد وفي الأعراس أو الفرح بالنجاح، لكنها كذلك استخدمت منذ القدم في السودان لإثارة الحماسة، وبث روح الثبات في الناس لحظة مواجهة المخاطر.
ليس بمقدورنا الحديث عن الأثر الذي أحدثته الزغاريد التي كانت تصدح بها النساء السودانيات إيذانًا بانطلاق المواكب الثورية، دون رؤية هذا الأثر بالعين، لكن بالإمكان الحديث عن حالة جزئية غير مكتملة يمكن ملاحظتها ضمن المشهد الذي يلي انطلاق الزغاريد: “كانت الزغرودة تبث في أنفس المشاركين في الموكب حالة استثنائية من الحماس يدفعهم إلى أقصى مدى من الهياج الثوري، فيتحول سريعًا السيل الساكن والبطيء من جموع الناس المتحركين في الشوارع إلى كتلة مشتعلة من المقاومة، وفي المقابل كانت الزغرودة تحدث فعل السحر ضد حشود قوات الأمن المخصصة لقمع المواكب، كانت تشل حركتهم، تصنع منهم تماثيل حجرية غير قابلة للحركة، تقيد أيديهم المسلطة ضد الثوار والممسكة بـالعصي، والسياط، وقاذفات عبوات الغاز المسيل للدموع والبنادق المحشوة بالرصاص المطاطي والحي، كانت زغاريد النساء السودانيات تحول جميع ذلك إلى ما يشبه الكتل الحجرية الصماء، فتحيد لثوانٍ ليست طويلة، لكنها حاسمة في تماسك الكتل الثورية وانسياب سيلها، بحيث يصعب على أفراد أجهزة الأمن -بعد أن يستيقظوا من جمودهم- قمع حشود الثوار وكبح جماحها أو تفريقها.
إدراك متأخر لقوة مشاركة المرأة
أدرك النظام البائد في وقتٍ متأخرٍ جدًا قوة مشاركة المرأة السودانية في الثورة، فاتجه إلى حياكة مؤامرة بغرض تحجيم مشاركة المرأة السودانية في الثورة وتعطيل قدراتها التي لم تستطلع قواته القمعية مواجهتها. حينها سرب النظام تسجيلًا صوتيًا لمدير جهاز أمن النظام البائد “صلاح قوش” –المطلوب الآن عن طريق الإنتربول- يعلن فيه ضمن تنوير لقواته أنهم تمكنوا من كشف هوية الشخص الذي اغتال الشهيد الطبيب “بابكر عبد الحميد”، اغتاله أحد منسوبي جهاز الأمن في أثناء أداء واجبه كطبيب بإسعاف المصابين من الثوار، وعلى مرأى ومسمع من شهود عيان في حادثة كشفت حجم وحشية النظام تجاه المتظاهرين السلميين- وادعى مدير الأمن قوش حينها أنهم كشفوا واقعة مقتل الشهيد بابكر، وأن من قتلته هي “فتاة استخدمت بندقية موريس أخرجتها من حقيبتها”، وتوعد قوش فتاة مجهولة بالويل بمحاكتها وإعدامها!!
في غضون ساعات فقط في عقب خروج التسريب المقصود للتسجيل الصوتي الخاص بمدير جهاز أمن البشير حينها، كشف الثوار المغزى من هذا التسريب الذي قصد منه إحباط وتقليل مشاركة النساء في مواكب الثورة، حيث أن كل فتاة سودانية كانت ستصبح متهمة وفقًا لإفادات قوش.
حينها تفجرت قدرات المرأة السودانية المشاركة في الثورة أمام هذا الادعاء، وازدادت مشاركتهن في المواكب ولم تغب مساهمتهن البارزة حتى سقوط النظام.
محاولة موؤودة لإنصاف النساء
في عقب سقوط النظام البائد كفلت الوثيقة الدستورية لنساء السودان المشاركة في مؤسسات الحكم –تنفيذية وتشريعية وسيادية وولائية- حصة أثبتت بـ(40 في المئة) من المقاعد، لكن رفاق نضال الأمس في الحرية والتغيير لم تتوافر لديهم الإرادة السياسية الكافية لتنفيذ نص مشاركة النساء على أرض الواقع، فمثلت النساء بشكل صوري وغير منصف في مجلسي السيادة والوزراء، ولم يتبق من مؤسسات الحكم الانتقالي سوى المجلس التشريعي الذي تعتزم النساء الآن نيل حصتهن فيه كاملة غير منقوصة.
يُعيد عديدٌ من النساء السودانيات المنخرطات في العمل في الفضاء العام خاصة السياسي، ضعف تمثيل النساء في مؤسسات الحكم الانتقالية، إلى سيادة التفكير الذكوري داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية السودانية، إلى جانب ضعف تمثيل النساء داخل هذه الأحزاب والتنظيمات نفسها، وسيادة منظورات نمطية للمرأة تصمها بعدم الأهلية، وتحصرها في أدوار ثانوية داخل ميدان العمل العام، على أفضل تقدير.
مطالب النساء بالعدالة والمساواة
حمل وضع الاقتصاد السوداني المتردي، الحكومة الانتقالية على البحث عن دعم بلدان العالم لاقتصادها المنهار، فقامت الحكومة الانتقالية بقيادة “عبد الله حمدوك” بإلغاء بعض القوانين السارية منذ عهد النظام البائد وتعديل أخرى، فألغت الحكومة قانون النظام العام، أدخلت الحكومة تعديلات على القانون الجنائي ليتضمن تجريم ختان الإناث، لكن تظل تلك التغييرات ضعيفة جدًا مقارنة بتطلعات النساء نحو العدالة والمساواة، إذ لا يزال قانون الأحول الشخصية للمسلمين ساريًا بالنصوص ذاتها التي صاغها النظام البائد، ويتضمن عدم الموافقة على سفر النساء والبنات من دون محرم، وعدم قدرة النساء على السفر بمعية الأطفال الذين يحظون بحضانة أمهاتهن، ويشمل ذلك عدم قدرة النساء على استخراج وثائق السفر اللازمة إلا بموافقة والد الطفل/ة، بجانب استمرار هذه القوانين التي تحد من قدرة المرأة على مواصلة تعليمها وترقيها في سلم العمل أو حصولها على وظائف أعلى بأجور مساوية للرجل، ما تزال النساء السودانيات يتطلعن إلى مزيد من الإنصاف في ما يخص التشريعات المتعلقة بالحماية من مختلف أشكال العنف، وهي مطالب تزداد يومًا بعد يوم مع كل حادثة عنف جديدة تظهر للإعلام.
عنف مجتمعي وأسري متزايد
على الرغم من ضعف الإصلاحات القانونية المشار إليها أعلاه، ومحدودية تأثيرها، وعدم ارتقائها إلى مستوى مطالب النساء، والتي انتهجتها الحكومة الانتقالية تجاه القوانين المقيدة لحرية المرأة والمطالبة، إلا أنها سرعان ما انعكست على واقع النساء والفتيات السودانيات، في أشكال مختلفة من العنف المجتمعي والأسري القاسي بما يشبه التشفي والانتقام، خاصة ضد من هن في قيادة مسيرة المقاومة.
وفجرت حادثة القتل المأساوي للطفلة السودانية “سماح الهادي” على يد والدها لمخالفتها أوامره بالخروج من المنزل، وما تلاها من تواطؤ أسرتها وبعض سكان المنطقة وتواطؤ الشرطة، وعدم قيامها بواجبها تجاه الجريمة على الوجه الأكمل، فجرت موجة من الغضب في أوساط الرأي العام، وداخل الحركة النسوية على وجه الخصوص، قاد إلى المزيد من التضامن النسوي، وحمل سلطات إنفاذ القانون على إعادة فتح التحقيق في الحادثة، وتشريح جثة القتيلة، وتوجيه الاتهام بالقتل العمد لوالدها، والتستر وتضليل العدالة إلى بقية أفراد أسرتها الذين شهدوا الحادثة.
أحدثت جريمة قتل الطفلة سماح الهادي هزة كبيرة في وجدان معظم السودانيين، وحملت على ظهور ما عرف بـ”البيان النسوي” الذي أحدث حالة انقسام كبير في أوساط السودانيين، ولا سيما بين الناشطين سياسيًا منهم، ما سمح لأول مرة بانكشاف أصوات عديدة انخرطت في الثورة، لكنها في حقيقة الأمر تستبطن منظورًا تقليديًا، ومحافظة جدًا تجاه قضايا تحرر المرأة. هذا بالطبع مع وجود تيار واسع يعارض أي مساس بالقوانين المقيدة لحرية المرأة، قوامه أساسًا من أنصار النظام البائد والقوى السلفية الدينية والعديد من أنصاف المتعلمين والتكوينات العشائرية والقبلية من المدافعين عن القيم التقليدية التي لا ترتكز إلى أي مرجعية دينية.
خاتمة
حملت حالة العنف المجتمعي والأسري الممارس ضد النساء والفتيات في الآونة الأخيرة -كما مر معنا في هذه المقالة- على عودة الحركة النسوية بشكل أقوى مما كانت عليه طوال الفترة الانتقالية، وأدت إلى حالة من التضامن الواسع، كانت إحدى نتائجه المباشرة حالة الجرأة والشجاعة التي اعترت الفتيات السودانيات، وقادت إلى الكشف عن عدد لا يستهان به من جرائم الاعتداء والقتل ضد النساء والفتيات، التي كانت تتم في السابق بتكتم وتواطؤ واسع داخل إطار الأسر والمجتمعات الضيقة، كما ساهمت حالة الانتفاضة الحالية التي تعيشها الحركة النسوية السودانية في بروز أصوات قوية تطالب النساء والفتيات بالدفاع عن أنفسهن في الشوارع ضد أي من أشكال التعدي والتحرش المحتمل، ما عزز الثقة في أنفس كثير من الفتيات والنساء وجعلهن ينخرطن بقوة في حركة التضامن النسوي الحالية. لكن في المقابل حركت هذه الانتفاضة النسوية الأخيرة مخاوف عديد من القوى المحافظة والمتدثرة بدعاوى الدين والعادات والتقاليد، وحملتها على بث خطابات الكراهية وتهييج العواطف في مواجهة ما تعدّه خطرًا تمثله مطالبة النساء بحقوقهن، إلا أن نشاط هذه المجموعات المعادية لمطالب النساء الحقوقية يتوقع أن يدفع إلى المزيد من الصلابة وقوة التضامن داخل الحركة النسوية السودانية، بما يعني أن ثورة نساء السودان ما تزال في بداياتها، وهي “ثورة متجددة” بتجدد التحديات والعقبات التي تقف في طريقها، كما يفيد عنوان هذه المقالة.