الربيع العربي الذي لم يحن موعده، ولا سيّما في لبنان وسورية

تردّدت كثيرًا قبل أن أكتب، لأني ما زلت حائرًا في العثور على جواب عن سؤال الربيع العربي في ذكرى عشريته الأولى: هل هي مناسبة للاحتفال أم للعزاء؟ وهل يمكن للإقرار بالهزيمة، أن يؤسس لنصر ما، في مكان ما، من هذا العالم العربي.
أعرف أن كثيرًا من الكتاب والباحثين العرب ما زالوا يرفضون الاعتراف بأن الهزيمة مطلقة وشاملة في كل بلد عربي انتفضت أجياله الشابة على الاستبداد، وبأن الحال في هذه البلدان أسوأ بما لا يقاس بما كان عليه قبل شتاء العام 2011، وبأن المستقبل القريب على الأقل لا يعد بما هو أفضل. وأعرف أيضًا أن هؤلاء الزملاء ما زالوا مختلفين على مصادر ذلك الربيع وإلهاماته وحوافزه، وإن كانوا يتقاسمون المبالغة في تقدير مغزى خروج العرب إلى الشوارع والميادين، بكونه ثورة على الطغيان تندرج في سياق ثورات شعبية كبرى مثل الثورة الفرنسية أو الشيوعية أو حتى الإيرانية؛ بينما هي من وجهة نظري كانت فورة غضب شعبي على أجهزة الأمن والحكم الطاعنة في السن، أو الفارغة من أي محتوى أو دور.
لا أقصد التقليل من شأن تلك الحركة الشعبية، ولا طبعًا من التفاؤل بمستقبلها، عندما أجزم الآن بأن الربيع العربي لم يبدأ بعد، وربما لن يبدأ قبل عشرات السنين. لاحت بوادره الأولى قبل عشر سنوات، ثم أخمدت على الفور، من دون أن تحفر في الوعي العربي ثقافة سياسية جديدة. الانتفاضة على الشرطة لا تعني ثورة، حتى لو تطورت إلى شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي لم أفهمه إلا لاحقًا، عندما تنبهت إلى أن المتظاهرين لم يكونوا يخاطبون “النظام”، بل كانوا يناشدون رعاة ذلك النظام الخارجيين، المساعدة في التخلص منه، بعدما استنفد غرضه.
أحسب أن التاريخ هو الذي سيحسم ذلك النقاش المفتوح حول مصادر الربيع السياسي-الاجتماعي العربي. هو في نظري الخاص صدى للنهاية البائسة التي ختمت فيها الحرب الباردة بين الشرق الشيوعي والغرب الليبرالي، وسقطت فيها الجدران الحديدية والأسمنتية في أوروبا الشرقية، واستعادت دول ذلك الجزء من القارة الأوروبية هويتها التاريخية التي طمستها التجربة السوفياتية، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى دول حرة، ديمقراطية، طبقًا للمعايير والأعراف الغربية المنتصرة.
كانت أخبار ذلك التحول السياسي التاريخي في الشرق الأوروبي، الذي لم يتطلب سوى بضع سنوات من ثمانينيات القرن الماضي، مدوية في العالم العربي. ذُعر زعماء عرب كثيرون كانوا يتابعون تساقط قادة أوروبيين شرقيين، شيوعيين، ربطتهم بهم صداقات شخصية وصفقات عسكرية وأمنية وشراكات استخباراتية. في المقابل شعر الجيل العربي الشاب أول مرة بأن ثمة أملًا: إذا كان طغاة ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفيا وبلغاريا والمجر قد سقطوا، فلماذا لا يسقط طغاتنا؟ ولا سيّما أن الأحزاب الشيوعية العربية لم تكن يومًا حاكمة أو راسخة أو متجذرة وقادرة على الوقوف في وجه ذلك المد الغربي.
كان هذا الأمل مقرونًا بالإحساس بالانتماء، أو على الأقل بالرغبة في الانتماء إلى موجة عالمية كاسحة، موجة نهاية التاريخ الاشتراكي، وسيادة التاريخ الليبرالي. وكان متسلحًا بثقافة طاغية، تُعلي قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة. كان ذلك الجيل العربي الشاب يطمح إلى الاندماج في صفوف المنتصرين في الحرب البادرة، حتى قبل أن يمتلك أسباب الانتصار أو أدواته طبعًا. لكنه كان واثقًا، بأن العالم العربي لن يظل بمعزل عن روح العصر الجديد.
وهنا أضيف حدثًا تاريخيًا آخر ساهم في تكوين حلم الربيع العربي، هو هجوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الذي هز العالم بأسره، وأخرج أميركا عن رشدها، وحملها على إطلاق حملة عسكرية وسياسية واسعة النطاق على العالم العربي، توجت بإطاحة النظام في العراق، وترافقت مع مطالب أميركية لجميع الأنظمة العربية من دون استثناء، بالإصلاح والتغيير على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والتربوية والدينية طبعًا، وكادت تمس جوهر النص القرآني وتفسيراته المختلفة.
كان وجود أكثر من نصف مليون جندي أميركي على أرض العراق، بمنزلة إنذار لأنظمة الحكم في سورية ومصر وليبيا واليمن، مثلما كان أشبه بتحذير إلى بقية الأنظمة العربية، التي وجدت صعوبة في إيجاد طريقة للتعامل مع ذلك الحشد العسكري، وللتجاوب مع ذلك الضغط السياسي المصاحب له، خاصة أنها لم تكن تعرف ما إذا كانت أميركا قد قررت فعلًا التخلي عن حلفائها العرب، الذين كانت أنظمتهم تنتج الإرهاب، أم أن الأمر مجرد خدعة دعائية تستهدف الجمهور الأميركي والغربي بادعاءات مثل أن شن الحرب على العراق، لم يكن عملًا ثأريًا فحسب، بل كان مشروعًا لتحرير العرب وإخراجهم من قرون التخلف والاستبداد.
من هذه الخلفية، المخادعة طبعًا بحسب ما أثبتت التجربة العراقية نفسها، أطل الربيع العربي، ليعبر عن توق جديد إلى الالتحاق بثقافة الغرب المنتصر، وبشعاراته، الزائفة حتمًا، بالحرية والديمقراطية. وخرج المتظاهرون العرب إلى الشوارع متوجهين إلى ذلك الغرب بطلب “إسقاط النظام”. تجاوب الأميركيون مع النداء وألحوا، بدرجات متفاوتة من الحماسة، على زين العابدين بن علي وحسني مبارك وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي، بالرحيل. لكنهم سرعان ما بدؤوا بالتريث في دعم مطالب تغيير الأنظمة، بل حتى قادتها، لأسباب لا يمكن تعميمها على مختلف بلدان الربيع العربي التي كان لكل منها خصوصياته وحساسياته.
وهكذا انتهى بسرعة شهر العسل الذي لم يدم، فعليًا، بضعة أشهر بين الأميركيين ورواد الربيع العربي وطلائعه الشابة، ما أفسح المجال لقوى الثورة المضادة بأن تستعيد بالقوة زمام الأمور، وتعيد أحوال جميع الدول العربية إلى نصابها السابق، المبني على الاستبداد المطلق والمتجدد، بذريعة إضافية هي الاشتباك مع الإسلام السياسي الذي استفاد من جو الحرية النسبية، وانتهز الفرصة السانحة لتجديد حلم الخلافة.
كانت نهاية الربيع العربي، أو في الأحرى نهاية الحلم العربي، خاتمة حقبة عابرة استكشف فيها الجيل العربي الشاب فرصة التغيير، وعاد منها خائبًا، تائها، موزعًا على السجون والمنافي.. والمجهول، الذي يجيز الاستنتاج اليوم بأن مفاهيمَ مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية لم تتحول إلى قيم راسخة في وعي ذلك الجيل ووجدانه، ولم تتبلور في أشكال وصيغ تنظيمية طبيعية، تؤسس لأحزاب، ولو سرية، ترفع مثل هذه الشعارات وتطلق برامج تستوحي في حدها الأدنى التجارب المهمة التي انطلقت في بلدان أوروبا الشرقية فور تحررها من الهيمنة السوفياتية، وما زالت مستمرة بنجاح. حتى الشتات العربي الذي تضاعفت معدلاته في السنوات العشر الماضية، عجز عن إنتاج مثل هذه الصيغ في بلدان المهجر، التي توفر له هامشًا معقولًا للانتظام السياسي.
أعرف أن البعض يمكن أن يعدّ أحكامي قاسية، أو يائسة من إمكان خروج دول مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وغيرها من الإخفاقات والمآزق التي شهدتها طوال العشرية الماضية، لكني سأدافع عن هذه الأحكام باختصار شديد، استنادًا إلى تجربة لبنان المضحكة وتجربة سورية المبكية:
في الفترة ما بين العامين 2013 و2015 تحمس اللبنانيون لتقليد أشقائهم العرب، خرج الآلاف منهم إلى الشوارع أكثر من مرة مرددين الشعار الساذج إياه: “الشعب يريد إسقاط النظام”، فإذا بأحزاب “النظام” ومليشياته تسير في صفوفهم الأمامية، وتنادي بإسقاطه أيضًا، من دون أن يعرف أحد ما إذا كان المطلوب إسقاط نظام الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية على عجل، أم نظام الطوائف الذي يوزع الدكتاتورية على 18 مركزًا لصناعة القرار اللبناني. ولما ثبت أن هذا التحرك هو مجرد عرض كوميدي ساخر. أطلقت مجموعة من الشبان والشابات المتحمسين حركة أطلق عليها اسمٌ منفّرٌ: “طلعت ريحتكم”، هدفت إلى توجيه المعركة ضد مظاهر فساد السلطة، وليس جوهرها وتكوينها السياسي. استمر العرض الكوميدي الجديد بشكل متقطع لمدة سنة أو أكثر، وكان يحتوي على مشاهد تلفزيونية مشوقة، ولقطات سياسية باهتة. إلى أن جاءت “ثورة” 19 تشرين الأول / أكتوبر 2019، التي لم تدم سوى بضعة أسابيع، عبر فيها اللبنانيون أول مرة في تاريخهم عن ضيقهم بالنظام الطائفي وتوقهم إلى تغيير جذري، لم يتم الاتفاق حتى اليوم على عناوينه الرئيسة بين الثوار الذين توزعوا على ما يزيد على 180 مجموعة سياسية، لم يجمعها لقاء واحد، ولا برنامج موحد، وإنما مجرد شعار عفوي آخر هو “كلن يعني كلن”، كان المقصود به أن “الثورة” موحدة وتريد إسقاط جميع المسؤولين والسياسيين التقليديين من دون تمييز، على الرغم من أنها باتت اليوم، تتوسل هؤلاء المسؤولين البقاء في السلطة وتشكيل أي حكومة ممكنة، لوقف انهيار الدولة اللبنانية تحت وطأة الإفلاس المالي الذي تسببوا به “كلهم”.
لن أطيل أكثر، لأني أودّ إدراج سورية في هذا السرد السريع، ليس فحسب من زاوية الهزيمة التي منيت بها الثورة السورية، عندما طعنها الأميركيون في الظهر وعندما ذبحها الروس والإيرانيون من الوريد إلى الوريد، بل من زاوية أن ثمة حالة فريدة، هي أن النظام يضعف كل يوم، وكذلك المعارضة التي كان يفترض أن تخلفه. وليس لدى أحد من الجانبين أدنى فكرة عن المستقبل، عن الأشهر المقبلة، وليس عن السنوات الآتية؛ سوى تلك الفكرة المبسطة، والقدرية، التي تسلم بأن الحل مرهون بتفاهم أميركي روسي، من دون الأخذ في الحسبان مصاعب هذا التفاهم أو حتى استحالاته، ومن دون الأخذ في الحسبان دور كل من إسرائيل وتركيا وإيران في إنتاج مثل هذا التفاهم أو في نقضه.
طبيعة الحرب السورية بعد التدخل العسكري الروسي والإيراني، لا تسمح بإثارة الجدل حول قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما إذا كانت قد تقدمت أو تراجعت في سورية طوال العشرية الماضية. حجم الخسائر البشرية والمادية الهائلة، لا تبيح مثل هذا النقاش الآن. لكنها تطرح السؤال عما إذا كانت فضيحة المصالحات التي توصل إليها ثوار سورية مع النظام في مختلف المناطق السورية، يمكن أن تكون يومًا ما مدخلًا لمراجعة تجربة الثورة، وبناء سردية جديدة، تطمح إلى تغيير النظام وإنهاء حكمه المؤبد على الشعب السوري؛ بناء على موازين قوى فعلية، وليس موازين قوى نظرية أو مستمدة من الخارج.
المعضلة السورية اليوم هي أن شرعية النظام وصدقيته لدى جمهوره، تعادل شرعية المعارضة وصدقيتها. لكننا لا نشهد صراعًا بين شرعيتين. وهو ما يقود حتمًا إلى كارثة جديدة عنوانها تحول هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقًا، من أمر واقع فرضته وقائع الميدان إلى لاعب سياسي مرشح لدور رئيس في المستقبل السوري، يسد الفراغ المزدوج والمتزايد على طرفي المواجهة. وهو ما لا يمكن كبحه إلا إذا بادر المعارضون السوريون على اختلاف انتماءاتهم ومناطق انتشارهم ولا سيما من منهم في الشتات، إلى تنظيم مؤتمر وطني سوري عام يشكل مظلة سياسية ومرجعية وطنية، تتجاوز تجربة السنوات العشر الماضية التي انتهت إلى الهزيمة، وتبدأ بفكرة جوهرية إلزامية: كيف يمكن تحرير سورية من الاحتلالين الروسي والإيراني؟ وما الأدوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف؟ وما التحالفات التي تختصر الطريق إلى الحرية؟
تلك الأولوية المطلقة، تؤجل البحث في عناوين الربيع السوري، لكنها تقدم موعد استعادة الوحدة الوطنية التي باتت طموحًا مشتركًا لدى عامة السوريين، موالين ومعارضين، كي لا يفلت مصير سورية من أيدي الجميع، ويصبح أسير جيوش ومليشيات وجبهات طارئة على الأرض السورية، لا يمكن أن تحمي النظام إلى الأبد، ولا يمكن أن تنهي المعارضة إلى الأبد ايضًا.
الربيع السوري، خرج منذ سنوات عن مساره المنشود. الزعم بأن إكمال ذلك المسار ممكن هو ضرب من الخيال. ثمة حاجة إلى العودة إلى نقطة الصفر، إلى البدايات الأولى، التي تعري النظام وتفضحه، وتفسح المجال لخطاب جديد، يركز على استقطاب الموالين، عسكريين ومدنيين، بقدر ما يسلط الجهد على مقاومة الاحتلالين، من دون التورط بأي شكل من الأشكال في تحويل تلك المقاومة إلى سبب إضافي لنزاع أهلي سوري يمضي بلا نهاية، ومن دون المراهنة على تدخل خارجي يحسم الصراع على سورية، ويمهد بحسب موازين القوى الراهنة إلى تقاسم الأرض والنفوذ والمصالح.
سورية اليوم، تختزل مأزق الربيع العربي، الذي أجهضته قوى الثورة المضادة في الداخل السوري، واستدعت دولة كبرى مارقة فعلًا، لم تخف يومًا عداءها للثورات الملونة، في أي مكان في العالم. إخراج روسيا ومعها إيران من الأرض السورية لن يكون مهمة سهلة، لكن تجارب الشعوب التي خضعت لمثل هذا الغزو والاحتلال غنية بالتجارب والأمثلة المشرفة.
هي مهمة أصعب وأدق من تلك التي تواجهها بقية بلدان الربيع العربي التي لم تدرك أيضًا لا الحرية ولا الديمقراطية ولا العدالة الاجتماعية. لأن نيل الاستقلال الوطني السوري يستحق اليوم مرتبة القداسة، التي لا تحتمل التشكيك، ولا الانتظار.

مشاركة: