القراءات الخاطئة والإخفاق في طمأنة السوريين

التحديات الوجودية الكبرى التي يواجهها السوريون اليوم، وهي تحديات تهدد آفاق تعايشهم المشترك ووحدة دولتهم، ومستقبل أجيالهم المقبلة، إنما هي حصيلة عقود من تراكمات الاستبداد والفساد التي بدأت بصورة جلية في عهد حكم حزب البعث الذي شدد حافظ الأسد عبر دستوره لعام 1973 على أنه “قائد الدولة والمجتمع”. وليس سرًا أن مرحلة الوحدة بين سورية ومصر، على الرغم من قصر مدتها كانت قد مهدت لهذه العقلية التسلطية.
ومن المشتركات بين المرحلتين الناصرية والبعثية أنهما ركزتا على الشعارات الكبرى، لتكون غطاء للانقضاض على الداخل الوطني عبر الأجهزة القمعية، التي استخدمت أساليب ووسائل أجهزة المخابرات الروسية، ومخابرات دول أوروبا الشرقية لقمع الناس، وغسل أدمغتهم، ليتحولوا إلى مجرد كتل جماهيرية تتفاعل بحماس مع الشعارات الشعبوية التي أثبتت الأحداث والتطورات لاحقًا خواءها وضررها. وما زالت شعوب منطقتنا تدفع ضريبتها.
وما يلاحظ راهنًا هو أن جملة من القوى القوموية وحتى اليسارية، وحتى الشخصيات، لم تتمكن من التحرر من المنظومة الفكرية- الأيديولوجية التي رسختها التجربتان المعنيتان هنا: (الناصرية والبعثية) في العقول والأفئدة، وذلك في ظل غياب، أو ضعف تأثير، العقلية النقدية التي كان من شأنها تفكيك خطاب الاستبداد، وبيان تهافته بصورة منهجية متماسكة، وتؤسس لرؤية موضوعية تساعد الجيل الجديد على فهم الأمور بصورة أوضح وأعمق.
فالمناهج الدراسية ما زالت تمجد الاستبداد، ووسائل الإعلام تمارس دورًا في تضليل الناس، والأجهزة القمعية تلاحق المعارضين الجادين، والأحزاب التي برمجت نفسها تحت حكم الاستبداد ما زالت تدور في الحلقات المفرغة ذاتها التي لم ولن تمكّن السوريين من بلورة معالم هوية سورية وطنية أساسها عقد وطني جامع، يطمئن الجميع من دون أي تمييز أو استثناء.
وعلى الرغم من البدايات الواعدة التي بدأت بها الثورة السورية من جهة تركيز المتظاهرين على أهمية الوحدة الوطنية السورية، ومطالبتهم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل السوريين، وحرصهم على سلمية الثورة، وإبعادها عن مظاهر العنف التي كان النظام يعمل على دفع الثورة نحوها ليسوغ لامحدودية عنفه التوحشي، إلا أن القراءات الخاطئة للمشهد، من جانب المجلس الوطني السوري، والقوى السياسية التي شاركت فيها، أو من جانب مختلف الأحزاب والشخصيات المعارضة، قد تكاملت مع استراتيجية النظام، وأبعدت الثورة عن مسارها الوطني الجامع، حتى بدت نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية، وكأنها معركة بين قوى متطرفة تهدّد وحدة النسيج المجتمعي الوطني، وأخرى انتهازية تبحث عن موقع ما بأي ثمن من جهة، ونظام مستعد لأن يفعل كل شيء، ويُقدم على كل أشكال القتل والتدمير من أجل البقاء حتى ولو على رأس سلطة شكلية، تحرص الأطراف الداعمة على المحافظة عليها لإسباغ الشرعية على وجودها، وتحكّمها بموارد سورية وقرارها، بل وتغيير واقعها السكاني بأبعاده المختلفة.
فقيادة المجلس الوطني السوري كانت تتصور في بدايات التأسيس أن الأمور ستحسم في سورية سريعًا كما حدث في تونس ومصر. وكان التدخل العسكري الغربي في ليبيا يعزز هذا التصور، ولم يؤخذ في الحسبان موقع سورية ودورها المحوري في منطقة الشرق الأوسط. كما لم تعط القيادة المعنية أي اهتمام للموقف الإسرائيلي، وحرصه على استمرارية النظام الذي أثبت، على مدى عقود، التزامه الشروط الإسرائيلية على الأرض، في الوقت الذي يدعي فيه النقيض في الإعلام.
أما القوى الإسلاموية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، فيبدو أنها كانت على “يقين” بأن ما حصل في تونس ومصر من جهة سيطرة الإسلاميين على المشهد سيسري مفعوله في سورية، وربما كان الاعتقاد بأن الغرب في طريقه إلى التعامل مع الإسلام المعتدل في ضوء التجربة التركية التي كانت في ذلك الحين واعدة في المنطقة.
في حين أن القوى الكردية السورية كانت تعتقد أن تجربة إقليم كردستان العراق ستتكرر في سورية، أو هكذا كانت تمني النفس، لذلك رفعت السقف من دون أن تمتلك أي أسس موضوعية لذلك سوى القراءة الخاطئة للمشهد.
وما أدت إليه هذه القراءات الخاطئة هو أن الجهد لم يُبذل، خاصة من جانب قيادة المجلس الوطني السوري الذي كان خلال عامه الأول في موقع مؤثر على الصعيد الشعبي، وتوفرت له ما لم تتوفر لأي جسم معارض سوري قبله وبعده.
فقد كانت أنظار السوريين تتطلع إليه، وتُعقد عليه الآمال، خاصة أنه كان يحظى باهتمام لافت غير مسبوق من جانب القوى الدولية والإقليمية. كما أن الإعلام العربي والدولي قد ساهم هو الآخر بالترويج له ولقياداته. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذلته قيادة المجلس على صعيد التواصل مع المجتمع الدولي، وطلب الدعم للسوريين الثائرين، ومساعدة وحماية المدنيين من بطش النظام، وعلى الرغم من الوعود الكثيرة التي حصل عليها، إلا أنه في الواقع العملي لم تترجم تلك الوعود على الأرض كما ينبغي. كما أن المجلس لم يركز على المطلب السوري الجوهري. فالمجلس لم يبذل تحت وطأة القراءة الخاطئة المشار إليها، الجهد اللازم لطمأنة السوريين جميعًا، كل السوريين من دون أي استثناء. ولا نذيع سرًا عندما نقول إن هذه القراءة الخاطئة قد تكاملت مع استراتيجية النظام، ومكنت هذا الأخير من بلوغ أهدافه بمساعدة مستمرة قوية على المستويات كافة من جانب حليفيه الأساسين: إيران وروسيا.
كانت استراتيجية النظام واضحة المعالم، بينة الأهداف، ترتكز على إبعاد المكونات السورية المجتمعية، خارج نطاق المكون العربي السني، عن دائرة التفاعل مع الثورة وبأي ثمن. وقد ركز النظام في هذا السياق على العلويين والمسيحيين والكرد بصورة خاصة.
والموضوع كان سهلًا بالنسبة إليه فيما يتصل بالعلويين والمسيحيين بصورة عامة، وقد استغل في هذا المجال عوامل الترغيب والترهيب، مستفيدًا من واقع اعتماده الشباب العلويين في الجيش والأجهزة الأمنية، ونجاحه في إقناع معظمهم بأن مصيرهم مرتبط ببقاء النظام أو زواله. فبقاؤه معناه استمرارية استفادتهم من الامتيازات، وزواله مؤداه خسارتهم لكل شيء، بل تعرضهم للمذابح. هذه هي الأفكار التي كان قد زرعها النظام في أدمغة أنصاف المتعلمين من الشباب العلوي. أما النخب العلوية، وأصحاب الكفاءات العلمية، التي كانت تدرك أبعاد خطورة المشروع الأسدي، فلم يكن لها التأثير الكبير بكل أسف في هؤلاء الشباب الذين تلازمت في أذهانهم الرغبات مع الهواجس، وكان بقاء النظام بالنسبة إليهم هو الضمان الذي لن يعوضه أي شيء آخر. والأمر ذاته، وإن بدرجات أقل، فعله النظام مع المسيحيين. واعتمد في هذا المجال بصورة أساسية على رجال الدين المسيحيين المرتبطين به في سورية أكانوا أم في لبنان.
أما بالنسبة إلى الكرد، فقد كانت الوضعية معقدة بعض الشيء. لأن واقع الاضطهاد المزدوج الذي تعرضوا له على مدى عقود من حكم البعث، خاصة في حقبته الأسدية، وعمليات القتل التي أقدم عليها النظام في مرحلة بشار الأسد، وإصداره لجملة من القرارات التعسفية التي استهدفتهم بصورة مباشرة، خاصة المرسوم 49 لعام 2008، كان من بين العوامل التي من المفروض أن تدفع بالكرد نحو التفاعل التام مع الثورة السورية، الأمر الذي كان يثير مخاوف النظام، ولا سيما أنه كان يدرك مدى صعوبة تسويق أكذوبة الإرهاب الإسلاموي هنا، أو الادعاء بأن القوى الإسلاموية المتطرفة هي التي تحرك الشارع المناهض له هناك.
فاعتمد في هذا المجال حليفه القديم- الجديد حزب العمال الكردستاني الذي أدخله إلى المناطق الكردية باسم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي استغل تردّد الأحزاب الكردية السورية في اتخاذ الموقف المساند للثورة؛ كما استغل المشاعر القومية الكردية عبر رفع شعارات تضليلية. وكان من الملاحظ أن هذا الحزب نفسه كان يتهم الناشطين الكرد والتظاهرات الكردية المساندة للثورة التي كانت حينئذٍ في عنفوانها، بأنهم من أتباع “عرعور” و”الإخوان المسلمين” وغيرهم من القوى الإسلاموية، وذلك في سياق عملية تنسيق واضحة مع ماكينة النظام الإعلامية.
كما تمكن النظام من استمالة كثيرين ضمن الوسطين التجاري والديني السني في دمشق وحلب، وذلك بناء على تقاطع المصالح. ثم بدأ باتهام الثورة بأنها مؤامرة، وأن القوى المحركة لها هي القوى الإسلاموية المتطرفة. ولتعزيز هذه الاستراتيجية أطلق النظام سراح المتشددين الإسلامويين الذي كانوا معتقلين لديه.
وفي مقابل كل ذلك، لم يتمكن المجلس الوطني السوري، ولم تتمكن القوى والأحزاب الأخرى المعارضة للنظام، من اتخاذ الخطوات المطلوبة لإفشال خطة النظام، وطمأنة السوريين بعقود مكتوبة، ومواقف واضحة، وخطوات عملية تعزز الثقة، على الرغم من وجود مفاتيح مهمة في هذا المجال. فقد كانت هناك إمكانية التواصل بصورة أفضل مع النخب العلوية. كما كانت هناك إمكانية لتوجيه خطاب وطني جامع إليهم. وكذلك الأمر مع المسيحيين والدروز. وكانت هناك إمكانية التواصل مع الكنائس المسيحية الوطنية ومع الفاتيكان، وحتى مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ولكن القراءة الخاطئة هي التي تسببت في عدم إعطاء هذا الموضوع الاهتمام الذي يستحق.
وحده الموضوع الكردي حظي ببعض الاهتمام، وذلك نتيجة الضغوظ والإلحاح والمبادرات من جانبنا وجانب بعض الأصدقاء، وبفعل وجود أحزاب وقوى كردية كانت ترغب في التواصل، وتؤيد الثورة السورية بوضوح. وقد بُذل جهد مركز من جانب المجلس الوطني السوري لإقناع المجلس الوطني الكردي بالانضمام إليه؛ ولكننا لم نتمكن من بلوغ المطلوب إلا في مرحلة الائتلاف، تشرين الثاني/نوفمبر 2013. ويُشار في هذا السياق إلى أن بعض التصريحات غير المدروسة من طرف المحسوبين على المجلس كانت تُستغل على الفور من جانب حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يستخدمها في ماكينته الإعلامية ضد الثورة السورية عمومًا، وضد المشاركين الكرد في نشاطها ومؤسساتها.
وعلى الرغم من صدور بعض الوثائق الخاصة بالقضية الكردية، من جانب المجلس الوطني السوري ربيع عام 2012، أو من جانب مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة صيف عام 2012، أو من جانب الائتلاف خريف عام 2013، فإن أطرافًا من المعارضة كانت تتجاهل ما صدر، بل تعلن من المواقف ما لا ينسجم مع ما تم التوصل إليه، والتوافق عليه.
ومع انتقال الثورة إلى العسكرة، وغلبة الطابع الإسلاموي عليها، وظهور كل من جبهة النصرة وداعش بقوة، إضافة إلى الفصائل الأخرى الإسلاموية المتشددة، واعتماد كل فصيل على “الشرعيين” في عمليات البت في الخلافات، ومحاسبة الخارجين على إرادة ورغبات قيادات الفصائل، أصبحت المناخات سوداوية تنذر بما كنا نحذّر منه، وندعو إلى اتخاذ الخطوات الاستباقية من أجل عدم الوصول إليه.
وما ساهم في المزيد من الانهيارات هو أن المجلس الوطني السوري، ومن ثم الائتلاف، لم يتمكنا من اتخاذ الموقف المطلوب من القوى المشتدِّدة، ولم يبيّنا بوضوح عدم موافقتهما على مشروعي كل من جبهة النصرة وداعش.
وكذلك فعل الإخوان المسلمون الذي كانوا جزءًا من المجلس والائتلاف؛ بل إنهم كانوا يبنون في الوقت ذاته، ولحسابهم الخاص مشروعًا عسكريًا، ومن دون إعلام المجلس بذلك أو أخذ رأيه أو موافقته. وكذلك فعلت الفصائل الإسلاموية الأخرى التي لم تكن تتبع أصلًا المجلس الوطني بشيء، وإنما كانت تلتزم بتعليمات وأوامر الجهات الداعمة، في حين أن المجلس، وكذلك الائتلاف، كانا في واقع الحال بعيدين عن صورة ما كان يجري على أرض الواقع.
كل ذلك ساهم في نجاح خطة النظام الذي تمكن بفعل ذلك من وضع العالم أمام بديلين سيئين فاسدين: الاستبداد أو الإرهاب. وما ساعد النظام في تمرير خطته هو غياب الموقف الأميركي الواضح من الموضوع السوري، واكتفائه ببعض التصريحات، وغض النظر في المقابل عن واقع دخول سورية في فوضى عارمة، خاصة بعد أن استمر النظام على مدى سنوات من قصف المدن والبلدات السورية ببراميل البارود، والصواريخ، والأسلحة الكيماوية.
إننا حينما نقوم بهذه المراجعات، فإنما الغرض منها هو فهم أسباب ما نحن فيه راهنًا، علنًا نتمكن من دفع أمور نحو ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري. ولكن هذه العملية المطلوبة، الحيوية حتى الحد الأقصى، لن تتحقق من دون وجود قيادة وطنية جامعة، تستند إلى حامل اجتماعي وطني سوري قوي، وتمتلك رؤية واضحة تتجسد في مشروع وطني يطمئن الجميع على أساس احترام الخصوصيات، والإقرار بالحقوق، وأخذ نتائج ما حصل على مدى عشرة أعوام في الحسبان، وذلك حتى نتمكن من بلورة هوية وطنية سورية، تمكّن السوريين من توحيد مواقفهم ورؤاهم، الأمر الذي سيمكنهم، في حال بلوغه، من التأثير في مواقف الدول، وذلك ضمن أي توافق دولي يمكن أن يتم مستقبلًا حول سورية.
فالمصير في نهاية المطاف مصير شعبنا، وأجيالنا المقبلة، ومصير بلدنا الوطن. وعملية الطمأنة لن تتحقق ما دامت المشاريع القوموية والإسلاموية فاعلة مؤثرة، هذه المشاريع التي تحاول منذ الآن فرض الهوية الخاصة بها على الدولة السورية المقبلة.
لقد علمتنا التجربة القاسية، التي ما زلنا نعيشها، أن الحل لن يكون من دون الدولة الحيادية التي تقف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم ووجهاتهم. دولة تجعل من سورية عنصر استقرار وتواصل في المنطقة. دولة تبني أفضل العلاقات مع مجتمعات المنطقة ودولها، وتدخل في مشاريع تنموية طويلة الأمد، تستثمر موارد المنطقة الطبيعية والبشرية بعقلانية وحكمة، وبما يضمن مستقبلًا واعدًا لأجيالها المقبلة.

مشاركة: