الربيع العربي؛ آمال وتحديات

لقد انطلقت شرارة الربيع العربي في لحظة ميتة من تاريخ الأمة، الأنظمة القابضة على السلطة تعيش لحظة وثوقية مطلقة، فقد حدث التوريث في سورية بيسر، وها هم في مصر وليبيا يهيئون الورثة، فيما تشكو أجهزة الأمن السآمة لطول الركود وإزمان الاستقرار بما يشبه الموات، ولذلك تجندت في الكثير من الدول لخدمة أميركا في حربها على الإرهاب، وشاركتها الجهد والخبرة والمرافق، وقامت بالأعمال القذرة على حد تعبير أحد ضباط الـ (إف بي آي).
لم يتوقع أحد أن تدب الحياة في هذه المنطقة! فلا الخبراء والمحللون السياسيون، ولا مراكز الاستطلاع، وعلماء الاجتماع، ولا المثقفون الميدانيون الذي كانوا في حالة يأس مقعد! لم يخطر لأحد إمكان تحرك الجمهور وقابلية هذه الأوضاع للزحزحة، فضلًا عن التغيير، وتكشف التحركات المعزولة الخجولة للنخب في مناسبات مختلفة هذا الوضع البائس، فالمنطقة تسير وفق وتيرة عادية من التحكم الأمني، المحروس من قبل المجموعة الدولية بما يضمن مصالحها، وحتى بعد تهاوي أول الأنظمة، قال عديدون إن نظامهم استثناء وحالة خاصة، وإن ما حدث في تونس لن يتكرر أبدًا، قاله الليبيون والمصريون، بل إن السوريين أعلنوا أن موقفهم (الممانع) يجعلهم خارج دائرة الاستهداف، لكنهم قاموا بالتعبئة العامة والنفير الأقصى لجهاز الأمن بحسب مشاهداتي، في استعداد ليوم يعتقدون جازمين أنه لن يكون بعيدًا!
إن انطلاقة الربيع العربي حتى الآن، تبدو شكلًا من ميتافيزيقا التاريخ، وكأن الأمور وصلت إلى حالة استعصاء على مستوى الإمكان البشري! فكان هذا الخارق في زمن لم يعد فيه خوارق! ولا بدّ أن الدراسات المستقبلية عندما يتم الإفراج عنها ستبين طبيعته والعوامل المطلِقة له، والتداخلات التي حدثت عليه، لإدارته والحدّ من تداعياته على مستوى المنطقة والعالم، إن موجة الاحتجاجات التي طافت عواصم عديدة في إثر قتل جورج فلويد من غير شك، ومثلها احتجاجات السترات الصفراء، لم تكن إلا صدى غير بعيد لنداء الربيع العربي.
ومن وجهة نظري، إن الربيع العربي رد تاريخي على سايكس بيكو، حيث تم تقاسم تركة الرجل المريض وتوزيعها والتوكيل عليها، بغياب أصحاب الحقوق، بينما في الربيع العربي حضر أصحاب الحقوق وأعلنوا وجودهم، واعتراضهم على القسمة، وبطلان الوكالة، وعدم شرعية الوكلاء، وحقهم في إعادة بناء عالمهم بما يخدم مصالحهم، وإدارة مواردهم بحيث لا يحرمون جل عائداتها، وحقهم في أنظمة حكم غير أبدية تسهر من أجل مصالحهم، وتقوم بخدمتهم كباقي خلق الله.
لم يصل الربيع العربي إلى مداه، فقد تمت إعاقته، لكنه زرع في المنطقة روحًا جديدة، على الرغم مما حدثت فيه من كوارث وما سالت فيه من دماء، لقد ولد في المنطقة إنسان جديد، لن يثنيه عن تحقيق طموحاته الوطنية والإنسانية قوة، ولا سبيل أمام الأنظمة العربية والنظام العالمي من ورائها، إلا التصالح مع هذه الروح الجديدة، إن بدء الموجة الثانية من الربيع العربي قبل أن تضع الموجة الأولى أوزراها، برهان هذه الروح ودليل هذه الحقيقة، إن ما تقوله الموجة الثانية من الربيع العربي: إن دوام الحال من المحال، وإن طريق الربيع لا رجعة عنه، وإن بعض النجاحات التي أصابتها الثورة المضادة لن تغير معادلة الربيع أبدا!
فلا بديل عن الإصلاح السياسي والاقتصادي، وإعادة كتابة معادلة الثروة والسلطة في المنطقة من جديد، والتحول نحو دولة القانون، لقد سئمت الأجيال الجديدة حياة الهامش، وهي لن تقبل بعد اليوم، أن تعيش على هامش الحياة في بلدانها، ولا أن تعيش بلدانها على هامش الحضارة في العالم، وبقدر ما كان في الربيع من مرارات وآلام بقدر ما أحيا في النفوس من آمال، وملأها ثقة بمستقبل أفضل.

أولًا: آمال الربيع العربي
إثبات أن التغيير ممكن
لقد كسرت ثورات الربيع حالة جمود واستعصاء في أنظمة الحكم امتدت نصف قرن، وأثبتت أن الأبد وهم، وأن التغيير ممكن، والتسليم بالإمكان هو الشرط اللازم للمحاولة، فلا يمكن للإنسان أن يفكر في المحاولة فيما يبدو مستحيلًا، لقد بينت تجربة الربيع العربي أن التغيير ممكن، وأن هذه الأنظمة ليست عصية على سنن التاريخ، فقد أثبت جهد ملايين المواطنين العزل، من شرائح واسعة مختلفة الأعمار والأجناس والانتماء، قدرتها على صناعة التغيير، لقد أصبحنا بعد الربيع على يقين أن التغيير ممكن، وهذ أمر مهم وأساس لحدوث التغيير، فالإيمان بإمكان التغيير يشجع على المحاولة ويقود إليها، وما دام التغيير أصبح ممكنًا من وجهة نظر الثقافة العامة، فإن محاولات التغيير لن تتوقف، ولن يكون بعيدًا اليوم الذي سيتمكن فيه المواطنون في المنطقة من إنجاز هذا التغيير، وطي صفحة الاستبداد، وبناء دول مواطنة يسودها القانون، ويتم فيها التبادل السلمي للسلطة، وينعم فيها المواطنون بالحريات الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن ضراوة الثورة المضادة في هجمتها، تعود في جزء كبير منها، إلى منع تجذر هذه المسلمة في الوعي العام، إنها سعي مستميت لإثبات استحالة التغيير، ولذلك كان هذا المستوى من الدمار والوحشية الذي طال عددًا من دول الربيع العربي، أو ربما في الحد الأدنى لاقناع الجمهور أن عواقب التغيير لاتطاق، وأن السلامة في الاستسلام، وأن تغيير هذه الأنظمة يجعل الحياة مستحيلة، وأن الشعار العدمي الذي ساد في بعض البلدان، ومورس في معظمها، هو خلاصة وجهة نظر النظام العالمي الذي لن يقبل هذه البلدان إلا في خدمته أو فلتواجه الخراب!
فقد بُذل جهد كبير من قوى متعددة محلية وإقليمية وعالمية، لتحويل الربيع العربي إلى شتاء قاس يعطي الشعوب درسًا لا ينسى، حول استحالة التغيير، أو الأثمان الخيالية التي يتطلبها، بحيث لا تفكر في الانتفاض على مستعبديها مرة أخرى! ويبدو أن هذه المساعي ذهبت أدراج الرياح، ففي خضم المجزرة، وقبل أن تضع الحرب التي شنتها الثورة المضادة على الشعوب الثائرة أوزارها، وعلى الرغم مما لاقت من نجاح، تجدّدت الاحتجاجات في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، متسلحة بخبرات الربيع العربي، في ما يتعلق بالحراك المطلبي المتحرِّر من الأيدلوجيا، والسقف الوطني المتحرِّر من الانتماءات دون الوطنية، والسلمية بعيدًا عن منزلقات العسكرة واختلاطاتها.

تطور أداء الموجة الثانية
كانت الموجة الثانية من الربيع العربي (2019) أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا لطبيعة المواجهة، ولدروس الموجة الأولى من الربيع العربي، ولذلك فإنها في الوقت الذي أثبتت فيه فشل مساعي إحباط التغيير الديمقراطي، تعلمت دروس الموجة الأولى عبر رفع درجة تنظيم قوى الحراك لنفسها والانفتاح، وعدم رفض المفاوضات مع النخب المهيمنة، من أجل تحقيق التحوّل الديمقراطي التدريجي، وقد أكدت الموجة الثانية ثلاث مسلمات هي جوهر الربيع:
الطابع السلمي للثورات، فلم يكن السلاح مطروحًا على أنه خيار حتى، ومجرد طرحه خيارًا بداية الكارثة كما في الموجة الأولى.
جذرية الموقف من الديمقراطية بوصفها شرط تحقيق أي إنجاز وطني على أي مستوى.
ضروروة تغيير علاقة النخب بالجمهور التي سادها، خلال نصف القرن الماضي، القطيعة والتعالي، حيث شاركت النخب أنظمة الحكم في التشكيك بقدرة الجمهور، والوصاية عليه، لكن الثورة أبطلت هذه الوصاية، ولا يمكن اليوم وضع فيتو على حركة الشعب لتأكيد وجوده والدفاع عن حقوقه، ولا يمكن للنخب الحاكمة، تجاهل رأيه ومصالحه، بل إن حركة الجماهير هي التي تقود عملية التغيير.
هذا ما قالته موجة الربيع الثانية، وما قاله صمود شبان السودان أمام المجلس العسكري، وما قاله انتفاض الجزائريين ضد العهدة الخامسة لرجل عاجز، وما أكده صمود العراقيين واللبنانيين أمام قمع الشرطة وبلطجة عصابات القتل، وهذا ما أكّدته تظاهرات درعا في عشرية الثورة السورية، التي قالت بكل وضوح إن زمن القهر والإذلال وغيبة الشعوب قد ولى إلى غير رجعة، فالثورات تفتح صفحات جديدة في تاريخ الشعوب، ولا تحسم مصائرها، لكن بمقدار ما تتعلم الشعوب من تجاربها، وتراكم من الخبرات والمعارف، بمقدار ما تقترب من الحالة المدنية التي تميّز الديمقراطيات الناجزة، فكل ثورة هي مشروع أمة حرة، تشكّل الانتفاضات فيها لحظة القطع مع الماضي، وهي لحظة ضرورية لتحويل مسار المجتمعات إلى سكّة جديدة، حيث تحرير الإنسان غاية الاجتماع.
إن نجاح الموجة الجديدة من الربيع العربي في تجاوز دول الطوائف في العراق ولبنان، يعزز هذه الآمال، ويشي بأن الجمهور قد حفظ درسه، وشب عن الطوق، وأنه لن يضيع هدفه، ولن يتراجع عن قضيته، وأنه لن يكون ممكنًا بعد اليوم جره إلى مستنقعات العنف والمحاصصة، وهذا يفرض على المثقف صياغة خطاب سياسي واقعي يعزز هذه الروح، ويتجنب استدعاء الانقسامات دون الوطنية، ويؤسس لثقافةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تعزز عملية التحوّل الديمقراطي.

ظهور قوة الجمهور
إحدى ميزات الربيع العربي في موجتيه، أنه حركة جماهير، وليس حركة نخبة مدنية أو عسكرية، وأن هذه الحركة، استندت إلى قوة الجمهور وتعبئته لاحتلال الساحات، والسيطرة على الفضاء العام، وقد سهل وجود بعض الأجسام التنظيمية (مصر وتونس) على امتداد هذا الحراك، وتحوله إلى حالة وطنية، وبالتالي إلى قوة فيها من الكثافة والامتداد ما يجعلها عصية على الهزيمة والقمع، بل المواجهة، ما حمل العسكر الذين تبينوا استحالة القمع إزاء هذه الجموع الغفيرة المصممة، على اتخاذ موقف (الانحياز للجمهور)، وهذا أهم الأسباب التي جعلت للثورة التونسية والمصرية مسارين متميزين، عن باقي دول الربيع العربي، حيث تضعف أو تنعدم الحياة السياسية!
كانت قوة الجمهور السلاح الحقيقي الذي واجه المستعمرين والمستبدين عبر التاريخ، لكنه أيضًا عبر التاريخ استخدم وقودًا لحركات الطامحين والطامعين، وخاض معاركهم فسجلت الانتصارات بأسمائهم، وحصلوا على العوائد والامتيازات، بينما هو دفع الأثمان.
ولم تلفت هذه القوة نظر علماء الاجتماع، (غوستاف لوبون) وتصبح محل الاهتمام والنظر والتحليل، أو ربما خضعت للبحث والتحليل دون نشر، فلم تخضع الثورة الإيرانية فيما هي حركة جماهيرية للقراءة والتحليل كما تستحق، ولم تخضع حركة الجماهير في غزة التي كسرت الحصار المصري المطبق على القطاع من خلال الانفجار إلى الخارج، ولم يذكر أحد إمكان تطوير هذا الانفجار ليحدث في كل الاتجاهات في غزة، ويتحول إلى قوة تحرير يمكن أن تجتاح كل معابر غزة، ويمكن أن تجتاح كل حدود استعمارية، ويمكن أن تفجر كل حالة انسداد داخلي، وإنهاء أي احتلال، وأنه لا توجد قوة داخلية أو خارجية، يمكنها الوقوف في وجه طوفان مليوني من المواطنين الذين يريدون العودة إلى ديارهم، ولا يوجد قوة أو نظام حكم قادر على مواجهة ملايين العزل بالقوة العارية أمام الإعلام؟، إن تجربة الغزاويين التي اقترحها أبو أرتيمة هي مثال على الإمكان، وإن لم تكن بالمستوى المطلوب لأسباب كثيرة.
إن إدراك أنظمة الحكم في الربيع العربي خطورة وعي الجماهير لحقيقة قوتهم، وأنها قوة لا قبل لأحد بها، جعلها تحرص على العنف وتشجعه بدس مرتكبيه بين الجماهير وتيسير تسليح المحتجين، إن إدراكها لهذه الحقيقة، وحرصها على عدم تجذر فعالية هذه القوة في الشارع، بحيث يصبح إخراجها منه مستحيلًا، جعلها تبذل المستحيل في نزع الطابع السلمي الجماهيري عن الاحتجاجات، كي يتاح لها تحييد الجمهور وعدم وعيه لطبيعة القوة التي يمتلكها، وإنما حكمت الأنظمة العربية بتذرير المجتمعات، وجعل كل مواطن عالم منفصل عن الآخر.
لقد كان الربيع العربي المرة الأولى في التاريخ الذي تتحرك فيه الجماهير بهذا الشكل الواسع، لتدافع عن مصالحها ومستقبلها، على امتداد دول عديدة بما يشبه انتشار الجائحة المرضية، إن هذه الموجة المتدحرجة تكشف المعادلة الحقيقية الخفية الواحدة التي تحكم هذه البلاد.
لقد أثبت الربيع العربي أن الجمهور قوة، قادرة على صناعة التغيير، وأنها تصلح ملاذًا حقيقيًا في مواجهة الاستبداد، كما كانت ظهيرًا حقيقيًا في حرب التحرير من الاستعمار، وأنها قد قطعت شوطًا واسعًا باتجاه التخلص من مرض العنف والتطرف.
وقد فتحت ثورة الاتصالات آفاقًا جديدة وعززت فعالية قوة الجمهور، ذلك أنها سهلت عمليات الحشد والتعبئة، كان الأمر واضحًا في الثورة المصرية، ولكنه كان موجودًا في كل الثورات، لكن بغض النظر عن دور التكنولوجيا، فإن المعاناة المشتركة والتطلعات الموحدة، هي العامل الموحد الأكبر.
إن الموجة الثانية من الربيع العربي دليل أن بذور الحرية قد نثرت في التراب العربي، وأن هذه الأرض حبلى بموجات جديدة، وأن الربيع لن يتوقف وأن روحه كامنة تنتظر اللحظة الملائمة لتنطلق مؤذنة بنهاية عصر الاستبداد إلى الأبد وبصورة نهائية.

فضح خرافة الاستثناء العربي
لقد سقطت كل الدعاوى التي يستند إليها الحديث عن الخصوصية العربية منذ زمن، إن كان في تناقض الإسلام والديمقراطية، أو سلطوية الثقافة العربية، أو خصوصية المجتمعات العربية، ولم يبق في جعبة منكري حق الشعوب العربية في التطلع إلى بناء الديمقراطية والحكم الرشيد سوى التذرع بغياب الحراك الجماهيري، وعندما بدأ الربيع العربي، كان المتوقع أن يغرب حديث «الاستثناء العربي» إلى غير رجعة، لكن ذلك لم يحدث، لأن غاية دعاة الاستثناء هي إدانة المجتمعات العربية سياسيًا لإغلاق أفق التحول الديمقراطي فيها، وإدانتها أخلاقيًا كونها لا تملك الفرصة لبناء حياة مدنية تستبطن معنى القانون والحرية والمسؤولية الفردية، ذلك أن جوهر ثقافتها متكيف مع الاستبداد!
لقد أثبت الربيع العربي أن الاستثناء العربي خرافة، وأن الأبد الذي تتحدث عنه أنظمة المنطقة وأمّلت به نفسها وهم، وأن شعوب المنطقة مثل كل شعوب الأرض تتوق للحرية والكرامة والعدالة، وأنها أصبحت تعي أن معركتها من أجل الحرية لا تنفصل عن معركتها من أجل التحرر من الاستعمار، وأنه كان من الخطأ البين الفصل بين المعركتين، فالاستبداد هو شرط الاستعمار المؤسِّس، لأن شعبًا ذاق طعم الحرية لا يمكن أن يستعمره جبار، فلاوجود لشعوب سيدة نبيلة، ولا وجود لشعوب خلقت لتكون مستعبدة ذليلة، بل الجميع يصدق عليهم قوله تعالى “بل أنتم بشر ممن خلق” تسري عليهم السنن والقوانين نفسها. وإذا كان لا بدّ من الحديث عن الخصوصية العربية، فإنني أميل إلى قول د. غليون: “الخصوصية العربية الوحيدة في ميدان الانتقال الديمقراطي، تكمن في الإجهاض المنهجي لمشاريع الانعتاق والتحرّر والتحديث، وتفريغها من مضمونها، بالتدخل العسكري المباشر، أو بالامتناع عن دعم الحركات الديمقراطية، أو بتشويه صورة ما يحصل منها وإدراجها جميعًا في دائرة الهبّات السلبية الطائفية أو الدينية أو القومية أو الإثنية”.
نعم يوجد فيتو عالمي على تطور هذه المنطقة وحدود التغيير فيها، وقد كشفت ذلك تطورات الربيع وأحداثه لكل ذي عينين، لكن ذلك لا يعني أن هذا هو قدر المنطقة، فأقدار المنطقة يصنعها أبناؤها، لكن العامل الخارجي قد يجعل العملية أصعب وأكثر تعقيدًا، وعندما تتوافر العوامل الداخلية المكافئة للتغير لن يستطيع التدخل الخارجي إيقاف ذلك التغيير، وسيضطر إلى التراجع أمامها كما حدث عند بداية الموجة الأولى للربيع العربي.

ثانيًا: التحديات التي واجهت الربيع العربي
غياب المشروع الوطني الجامع
إن غياب المشروع الوطني الجامع للمعارضة المدنية سهل المواجهة على الأنظمة، وكانت الصورة أكثر وضوحًا في مصر، حيث فرقت الأيديولوجيا شركاء ميدان التحرير الذي جمعتهم السياسة، وتمكن العسكر من التلاعب بهم، حيث أقنعوا كل طرف أنهم له حلفاء، وأنه يمكنهم الوثوق بهم، ونجحوا في تفخيخ العلاقة بين شركاء الميدان، وتبديد القوة التي شكلها الميدان، وقاموا بتأييد قسم من شركاء الميدان ضد الآخرين، بعد أن تصوروا أن العسكر يمكن أن يكونوا لهم حلفاء، وأنهم بصدد نزع السلطة من جماعة الإخوان، ووضعها في أحضان القوى الليبرالية، لكنهم كانوا يريدون الاستقواء بهم، للتغلب على المعارضة الأكثر قوة، لينقلبوا بعدها على الجميع، وهذا ما يسرته لهم القوى الليبرالية التي بلعت الطعم الذي ألقاه العسكر.
لقد كان من شأن وجود مشروع وطني محل إجماع الفرقاء السياسيين أن يسهل التوافق، وأن يساعد في انطلاق عجلة التغيير بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ويكبح جماح الدولة العميقة ويحد من تأثيرها، لكن تواطؤ القوى المدنية ضد نظام الحكم الوليد شكل رافعة للدولة العميقة، لإجهاض التغيير الديمقراطي، وساهمت حركة “تمرد” التي صنعها العسكر بتمويل الخليج في تأليب الجماهير التي تعطلت مصالحها.
لقد تصرف الشركاء في البناء الديمقراطي وكأنهم في ديمقراطية ناجزة راسخة مستقرة، ولذلك كانت الخلافات بين الفرقاء تفصل بروح حدية، أدت إلى تفرق الجموع واتهام كل فريق الآخر بأنه يريد الاستئثار بالسلطة، واستغلت الثورة المضادة حماقة السياسيين ونزوعهم الأيدلوجي إلى نسف أي احتمال لحوار وطني يقود إلى التوافق على المبادئ الأساسية لإدارة المرحلة الانتقالية وتوفير شروط العدالة الملائمة لها بما يتلاءم مع مبادئ حقوق الإنسان، وبدل ذلك رأينا الصورة التالية:
فالعلمانيون وجدوها فرصة للمطالبة بتجسيد أديولوجيتهم في تدبير قضايا المجتمع.
والإسلاميون المعتدلون عدّوا المرحلة فرصة تاريخية للبحث عن السلطة من خلال صناديق الاقتراع مفرطي الثقة في شعبيتهم وقدرة الشعب على حراسة الثورة وفي ذهاب النظام إلى الأبد.
والسلفيون الذين ظلوا لعقود ينتقدون العمل السياسي انتفضوا ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية.
في الحالة السورية كانت الأمور أكثر مأساوية، فلم تتمكن المعارضة بعد مضي عشر سنوات على الثورة، من التوافق على مبادئ مشتركة، تجعلهم قادرين على تشكيل جسم سياسي يشكل رافعة للثورة، يستطيع أن يمثلها أمام العالم، بل ما زالت الأجسام التي تنتمي إلى الثورة تتوالد وتتكاثر، وإن سادت نغمة في الآونة الأخير تدعو إلى التوبة لتلافي ما حدث من خسائر وما تمت إضاعته من فرص، وتدعو إلى تحمل المسؤولية عما صارت إليه الأوضاع في المعارضة خلال السنوات الماضية.
وحتى في تونس النموذج غير الدامي الوحيد في دول الربيع لم تنطلق عجلة الدولة أيضًا بسبب غياب المشروع الوطني الجامع، وانشقاق النخب الثقافية، وتغليبها الأيدلوجي على السياسي، ولذلك فإن التجربة التونسية على الرغم من تجنبها إلى الآن المسار الدامي، فإنها ما زالت تراوح مكانها وتعجز عن الانطلاق وتتفاقم أزماتها، بسبب عجز مؤسسات الحكم عن تكييف صلاحياتها، في تنفيذ إرادة الدولة، ودفعها للحركة، والنتيجة هي تعطيل المسار الديمقراطي ودفع الجمهور للكفر به وخلق بيئة تمكن من الانقلاب عليه! فما زالت الجموع المشاركة تعجز عن تأجيل المشاريع الخاصة لمصلحة المشروع الوطني الكبير.
إن ما حدث في مصر بوضوح، وما يحدث في تونس، وما يتم الحديث عنه في أوساط المعارضة السورية، من اختلاف المرجعيات وتعدد الولاءات يلخص لنا خلاصة القرن الماضي من تاريخ العرب، حيث:
فشل تجارب إعادة إنتاج الماضي بوصفه النموذج الأمثل في الحكم.
فشل دعاوى القطيعة مع الماضي والتسليم المطلق لنموذج ثقافي آخر.
إذًا الحاجة ملحة لمسار ثالث لا يقدس الماضي ولا يقيم معه قطيعة، بل يحرره ليصبح الأرض الصلبة التي يستند إليها، لبناء الحاضر الوطني، الذي يمكن من الاستجابة للتحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاشة، والتفاعل مع الآخرين كذاتٍ واعية لها تاريخها وخصائصها، متحررة من مشاعر الدونية والاستتباع.

العجز عن إدارة الاختلاف
هذا الموضوع يكشف عن الإعاقة التي تصيب المواطنين الذين يعيشون في ظل حكومات تصادر الكلمة وحق الكلام والتجمع والنشاط السياسي والفكري! وأعتقد أنه موضوع جدير أن يكتب فيه المؤهلون.
لقد كشف الربيع العربي عجز القوى المدنية، عن عقد تحالفات صلبة، وإجراء مساومات عقلانية، تمكنها من العمل المشترك وإدارة المرحلة الانتقالية بنجاح، كان هذا واضحًا في الحالة المصرية، ونراه اليوم في الحالة التونسية، ولن تشذ الحالات الأخرى عن ذلك، لقد ضاعف العجز عن إدارة الاختلاف صعوبات المرحلة الانتقالية، وجعل الأطراف تفشل في التوافق على مهمات المرحلة الانتقالية، وهذا قاد إلى التنازع والفشل في مصر والانسداد والعطالة في تونس.
إن العجز عن إدارة الاختلافات وعدم القدرة على التمييز بين التناقضات الرئيسة والتناقضات الثانوية، بما يدفع رموزًا ثورية للتحالف مع العسكر، ليس سبببه غياب الكفاءة لدى النخب السياسية، وعجزها عن اجتراح توافقاتٍ حول تكاليف التحوّل الديمقراطي!
إنه يعود بحسب تصوري للملاحظة التي أشار إليها د. حازم نهار في إحدى مداخلاته، بتعبير عدم الإخلاص للديمقراطية، وليسمح لي أن أقول: بتعبير مستعار من الفيلسوف مالك بن نبي مع بعض التحوير: إنها جبن في الإيمان بالديمقراطية.
فقد رأى معظم الفرقاء أن الفرصة متاحة لتوسيع النفوذ السياسي، وتصفية الحسابات الأيديولوجية، وخدمة المشاريع الخاصة، ولينتظر المشروع الوطني، عمل الجميع بهذه الروح، ومن المغالطة وانعدام النزاهة اتهام طرف بذلك وتنزيه الآخرين عنه، فلم يكن التحالف مع الانقلاب إلا خدمة المشاريع الشخصية والحزبية، على حساب المشروع الوطني الكبير، فالجميع حاول الحصول على تفاحة السلطة، والتحكّم في مفاصل الدولة، لخدمة مشاريعه الخاصة، هذه المشاعر المتبادلة وما نتج منها من سلوكات عززت التقاطب الحزبي، وجعلت التحول الديمقراطي مستحيلًا، فلا ديمقراطية بلا ديمقراطيين كما يقال، وكما بينته الحالة المصرية، وحتى في حال النجاح في حدوث الانتقال (الديمقراطي) كما في تونس، فإن الديمقراطية في هذه الأجواء تصاب بالشلل والعطالة، وتصبح غير فعالة في إدارة مؤسسات الدولة.
إن عدم الايمان بالديمقراطية، الذي يعني عدم القدرة على الاعتراف بالآخر، لا يمكن إلا أن يقود إلى التفكير في المشاريع الخاصة، وهذا شغل القوى الثورية عن الانشغال بالمهمات الملحة للمرحلة الانتقالية ووضع برنامج مواجهة يمكن من الخروج، فالاحتجاجات التي أسقطت الأنظمة، لا يمكنها أن تساعد في مواجهة أعباء المرحلة الانتقالية، وبناء المستقبل، لكنها بدل ذلك تاهت في مواجهاتٍ فكرية، ألهتها عن التحديات الكبيرة العاجلة، وسهلت للمتربصين العودة إلى الساحة والاستيلاء على السلطة وإبعاد الجميع بصورة أسوأ كثيرًا مما كان من قبل.

التورط في العنف
فاتني أن أذكر في سياق العرض الدور المدمر الذي تركه حضور الحركات المتطرفة، لكن مجرد حضورها هو إعلان لموت الثقافة، وغياب المثقف الذي لم يقم بدوره في تحرير تراث أمته من الأفكار الميتة التي أنتجت هؤلاء، بحسب تعبير مالك بن نبي.
لقد بدأ الربيع العربي في كل محطاته سلميًا، وقوبل بالعنف المفرط في أحسن الأحوال، وبالوحشية في معظمها، لكن ذلك لم يحرفه عن السلمية، وهذا حرره من المديونية للخارج، ومكنه من المحافظة على استقلالية القرار، وجعل إمكانية التدخل للغير محدودة جدًا.
كما منح هذا الوضع الثورات التفوق الأخلاقي، والتعاطف الشعبي، وجعلها تكسب الرأي العام العالمي، وأربك الدوائر الاستعمارية المناهضة لحرية الشعوب، الحارسة للنظام العالمي بترتيباته التي تواضعت عليها بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن ضمور ثقافة اللاعنف في الوسط الثقافي، ووجود تراث حاضر بقوة في الثقافة العامة يشيع قيم العصر الوسيط في ما يتعلق بمفهوم القوة، إضافة إلى وجود أدب ثوري عنيف سجل في القرن الماضي، وله حضور في الأدبيات والمناهج المدرسية، عزز كل ذلك تردد النخب الثقافية على العموم في الانخراط الواسع في الحركة الاحتجاجة، إضافة إلى تصالح هذه النخب اليسارية والإسلامية والقومية والليبرالية مع العنف ودوره في عملية التحرر.
كما عزز ذلك عدم وجود أجسام سياسية تحمل الاحتجاجات لتحولها إلى حالة وطنية منظمة، وعدم وجود موقف حاسم من المثقفين، في ما يتعلق بمخاطر التسلح على الثورة، من ناحية استقلالها، ومساراتها وقدرتها على الوفاء لأهدافها في ظل حاجتها إلى الجهات الممولة التي يجعلها التسلح ضرورة لا يمكن التخلي عنها، وأعتقد أن انزلاق الثورات باتجاه العنف في كل بلد أمر يتحمل مسؤوليته المثقفون وليس الجمهور:
فالمثقف لم يشارك الجماهير حركتهم، ولم يشرف على نشاطهم، ولم يقم بدوره الذي ينبغي أن يقوم به.
كما أن المثقف العربي عمومًا خان تاريخه الفكري عندما أمّلنا أن أكبر إمبريالية في العالم، والداعمة الأولى لكل الاستبدايات في العالم، طوال القرن الماضي يمكن أن تكون شريكة وراعية لمسار ديمقراطي في المنطقة العربية.
شابه المثقف – وأنا أتحدث وعيني على الحالة السورية- نظراءه في دول الربيع الأخرى، في جبن إيمانه بالديمقراطية، وظهرت عورات الجميع في النزاع على جلد الدب قبل اصطياده.
كل ذلك وكثير غيره، مما يستدعي أن تكتب فيه الأقلام المؤهلة، سهل انزلاق الحراك السلمي باتجاه العنف، تحت حجج وذرائع كثيرة وقابلة للجدل، ومع هذا الانزلاق بدأت قبضة الثورة ترتخي فيما يتعلق بحرية قرارها واستقلاله، وحرية حركتها وطبيعة مساراتها، وربما كان المظهر الباكر لهذا الفقدان للقرار والسيادة، انتقال المعركة من إسقاط النظام في العاصمة الذي قاب قوسين أو أدنى لوقت طويل، إلى حرب تحرير لكامل التراب السوري، بمعنى أن يعمم الخراب الذي كان يفترض أن يحدث في ساحة معركة وحيدة، إلى خراب يشمل كل الجغرافيا السورية، وهذه من وجهة نظري هي فلسفة النظام العالمي التي نفذناها بأيدينا: إذا كان لهذه البلد أن تستجيب لتطلعات أبنائها، في الحرية والكرامة والعدالة، وتخرج عن النظام العالمي فلتذهب إلى الجحيم.
إن تأثير العنف على مجريات الربيع العربي، ودوره في المعركة ضد الاستبداد، لم يخضع للدراسة والتحليل بما يستحق، ولقد كانت البدايات السلمية للربيع العربي قد أوحت أن العنف في معركة الاستبداد قد تم تجاوزه، لكن مع تفاقم القمع وزيادة الوحشية، وغياب القديسين بحسب تعبير توينبي، ويقصد بهم المؤمنين باللاعنف المستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل فكرتهم دون التورط في العنف، لم يبق غير المحارب الشجاع في الميدان، الذي يخوض معركته وسلاحه في يده، فإذا كان التورط في العنف في الحالة السورية خطأ وجريمة، فإن تجنب القيام بواجب الشهادة خطأ أكبر.
لقد كان من آثار التورط في العنف:
تحويل الثورة إلى ثورات تتبع كل ثورة فيما يتعلق بحركتها وبرامجها الممول.
تحويل السلاح إلى وسيلة تخاطب وأداة لحل المشكلات بين الفصائل، وضياع وجهته بصورة نهائية كما نلاحظ اليوم.
تحول السوريين إلى رقم غير مؤثر في ما يتعلق بالترتيبات النهائية للوضع السوري، وهذا تم بعد أن تم البيع بين الثوار والممولين، فالأوضاع الحالية تم دفع ثمنها بطريقة غير واعية ومقدمًا.
كذلك، فإن مستوى الخراب والدمار الحاصلين كان من الممكن تجنبهما لو أمكن الاستمرار في العمل السلمي، ولكانت أيضًا الأثمان الإنسانية أقل بما لا يقاس.

مشاركة: