مدخل
أرى أهمية تقديم مفهوم مختصر للربيع العربي بوصفه مدخلًا لا بدّ منه لنقاش الاستجابات الفلسطينية السلبية والإيجابية لانتفاضات الربيع.
عبرت الانفجارات الشعبية (الانتفاضات) عن احتدام التناقض بين أنظمة مستبدة قمعية فاسدة تدور في فلك التبعية للإمبريالية، وبين السواد الأعظم من الطبقات الشعبية، وقد اندلعت الانتفاضات عند لحظة عجز الأنظمة المطلق عن تلبية الحد الأدنى من حاجات الأغلبية الساحقة المعيشية والصحية ومن توفير الحد الأدنى من الحريات العامة والخاصة. واحتدم التناقض أكثر في ظل التزام الطغم الأوليغرشية العائلية بثقافة الاستهلاك وبالاقتصاد النيو ليبرالي الذي هَمَّشَ دور الدولة في دعم نظام الصحة والضمان والتعليم والسلع الأساسية وتأمين فرص العمل للأجيال الجديدة، وأطلق يد أصحاب الرأسمال الاحتكاري، مكرسًا بذلك متوالية “الفقراء يزدادون فقرًا وكمًّا، والأغنياء يزدادون غنى ويتقلصون كمًّا، فضلًا عن عجز تلك الأنظمة في الاحتفاظ بالاستقلال النسبي في ما بعد الاستعمار المترافق مع العجز الكامل في حل المسألة الوطنية.
مع بداية الانتفاضات انكشفت حقيقة غياب فكر تحرري علماني ديمقراطي يطرح قضية التغيير وعدم تداول الومضات المهمة لبعض المفكرين، وعدم امتلاك المنتفضين جهازًا سياسيًا تنظيميًا إداريًا يتكون من أحزاب ونقابات واتحادات شعبية ومنظمات نسوية وشبابية ومهنية وثقافية، جهاز يتولى مهمة نقل الانتفاضات من الحالة العفوية إلى الحالة المنظمة التي تضع الأهداف والبرامج وآليات عمل توفر في المحصلة “الحامل الاجتماعي الشعبي” الذي له مصلحة حقيقية في التغيير. السبب يعود لعجز قوى المعارضة العلمانية في بناء مقومات تغيير، بسبب القمع الدائم وعمليات استئناس الأنظمة لأحزاب المعارضة وإخضاعها، لشرط غياب حرية التعبير والحريات العامة والخاصة.
اعتمدت الأنظمة في فرض هيمنتها على خطاب وثقافة تضليل بالترافق مع قمع منهجي للمعارضين. ولكن مع انتهاء صلاحية الثقافة الديماغوجية في التضليل والتبرير، لم يبق في جعبة الأنظمة غير سلاح القمع، والمزيد من القمع الدموي. لم يملأ فراغ الفكر السلطوي وهشاشته الفاقعة، فكر تحرري علماني تنويري، ولم تتأسس إدارة ديمقراطية (حامل اجتماعي) تحمل الفكر وتستقطب قوى تغيير من داخل الطبقات الشعبية المنكوبة، الخطاب الأصولي الديني ملأ الفراغ، وكان محمولًا بأشكال تنظيمية دينية معززة بالمال وبجيش من الدعاة والداعيات، ومدعومًا بالغزو الوهابي المعزز بالبترودولار والغازدولار لبلدان وشعوب المنطقة. لقد تواطأ القطبان الممثلان لأجنحة الرأسمالية التابعة، النظام من جهة والإسلام السياسي من جهة أخرى في منع تشكل ديناميات التغيير الديمقراطي لمصلحة القطبين وتحويلاتهما الرجعية للمجتمع عبر تقاسم وظيفي بينهما، الإسلام السياسي يسيطر على المجتمع من خلال الخطاب الديني المتزمت، وأنظمة التعليم وقانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات والمؤسسات الخاصة التي حملت بصماته. ويحتكر النظام السلطة السياسية وأجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية. وكلاهما قد عملا في إطار علاقات التبعية ضد التغيير والتحرر الاجتماعي. ما أدى إلى تصدر الإسلام السياسي للانتفاضات خلال مراحل انتشارها وتعمقها.
الطغمة المستبدة وعسكرها في أكثر من بلد عربي رفضت رفضًا مطلقًا الاستجابة لمطالب المنتفضين، لأنها هيمنت بالمطلق على مؤسسات الدولة، خاصة المؤسسة العسكرية والأمنية، وأنشأت مصالح اقتصادية خاصة، معتبرة أنها صاحب الملكية الحصرية للبلد بموارده الاقتصادية والبشرية، وأنها وحدها من يقرر مصير البلد والشعب. ولهذا رفضت بالكامل تقديم التنازلات ذلك الرفض الذي عبر عنه في سورية شعار “الأسد أو ندمر البلد”، في حين ضحى النظام في مصر وتونس واليمن والسودان والجزائر برأسه الأول في سبيل بقاء هيمنته السياسية والاقتصادية وحلفه الطبقي الجشع. ولم يلجأ الناتو إلى إسقاط النظام السوري كما أسقط النظام الليبي، وكما أسقط الاحتلال الأميركي نظام صدام حسين خشية من توزع السيطرة بين أصولية دينية وقبائل وعشائر، ومن هيمنة المليشيات الطائفية الإيرانية بوصفها أداة سيطرة على المجتمعات، ومن عدم القدرة على إعادة بناء نظام في إطار علاقات التبعية.
بررت الأنظمة المستبدة استنكافها عن عملية التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية، وتتويج ذلك بدولة مدنية حديثة وديمقراطية، وسوغت تخاذلها بالانصراف إلى مواجهة الخطر الإسرائيلي والمؤامرات الخارجية. أقصى ما فعلته الأنظمة المستبدة، هو محاولة تحسين شروط تبعيتها الجديدة إما باستسلامها للشروط الأميركية كما حدث مع مصر كامب ديفيد وليبيا القذافي، أو باستخدام أوراق إقليمية خارجية (فلسطين ولبنان وإيران) كما حدث مع النظام الأسدي.
كان كعب أخيل المعارضات هو الاستقواء بالتدخلات الخارجية لإسقاط النظام أو تغيير شكل الحكم، قافزة عن طبيعة وأهداف دول التدخل (كدول الناتو ودول البترودولار والغاز دولار الرجعية التابعة)، التي التقت عند هدف قطع الطريق على التحول الديمقراطي المستقل، واستبقاء علاقات التبعية والهيمنة، ولهذا لم تحاول تأمين الحماية الإنسانية لملايين البشر الذين تعرضوا للتدمير والتهجير والموت والقمع الوحشي. ولم تلتفت قوى المعارضة إلى خطر الأصوليات المتغلغلة في المجتمعات العربية بمساعدة الأنظمة المستبدة، مساهمة في اختلاط الحابل بالنابل، وفي اختلاط الثورة بالثورة المضادة، وفي سيطرة الثورة المضادة على الأرض.
لماذا كانت الاستجابة الفلسطينية للربيع العربي سلبية؟
المفكر والناقد المصري إبراهيم فتحي الذي رفض ضمن مجموعة من الشيوعيين المصريين حلّ الحزب الشيوعي، والالتحاق بنظام ذي توجه اشتراكي مزعوم، قدم رؤية عميقة للنظام المصري الناصري والأنظمة العربية المتقاربة معه قال فيها: إن هزيمة 67 نقلت مهمة استكمال التحرر الوطني الديمقراطي من محور الأنظمة البرجوازية الوطنية إلى محور الطبقات الشعبية. وكان يستند إلى أن رأسمالية الدولة المتشكلة في مرحلة الصعود استنفدت دورها الوطني، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الانخراط في علاقات تبعية جديدة بعد الهزيمة المزلزلة في حرب 67 التي كان من نتائجها الإقرار بحق إسرائيل مركزًا إمبرياليًا في الوجود ضمن حدود آمنة، ومعترف بها بحسب قرار 242. عمقت الهزيمة فشل الأنظمة الوطنية الذريع في حل المسألة الوطنية، ولم تغير حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 من معدلات تحول الأنظمة نحو علاقات التبعية، بل عززت الفشل باستسلام (كامب ديفيد) وبالتدخل الأسدي في لبنان لمصلحة النظام الطائفي والقوى الفاشية.
ومن الجدير بذكره أن أول مقاربة عملية لانتقال عملية التحرر إلى محور الطبقات الشعبية، جاءت إبان صعود المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة 67 التي شكلت موضوعيًا حالة استقطاب جديد تحت عنوان استراتيجية حرب تحرير شعبية طويلة الأمد. حينذاك امتلأت قواعد المقاومة في الأردن ولاحقًا في لبنان بالثوريين من معظم الدول العربية ومن إيران وتركيا وبلدان أخرى. لكن هذه الحالة لم تعمر طويلًا في غياب فكر ثوري داعم للاستقطاب، وبفعل اعتماد تنظيمات المقاومة الفلسطينية على البترودولار الذي ساهم في تهادنها وتعايشها مع النظام العربي وتحولات بلدانه في الحقبة السعودية، وفي بناء أجهزة بيروقراطية عسكرية، وانتشار أشكال من البيروقراطية والفساد.
التحول الأخطر جاء عبر ربط مشروع التحرر الفلسطيني بالتسوية، وبالوساطة الأميركية التي زعموا أنها تملك 99 في المئة من مفاتيح الحل، بدعم الأنظمة العربية في ظل سيطرة الدول النفطية التابعة التي رعت اتفاقات كامب ديفيد والتوجه الفلسطيني للتسوية. شيئًا فشيئًا أصبحت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية جزءًا من النظام العربي المستبد والتابع. أصبحت الاستراتيجية الفلسطينية تعتمد ثلاث ركائز، الأولى الوساطة الأميركية، والركيزة الثانية النظام العربي الموغل في علاقات الاستتباع والتبعية، والركيزة الثالثة حزب العمل الإسرائيلي بزعامة رابين وبيرس، الذي أراد تكريس الاحتلال والاستيطان عبر مشروع تقاسم وظيفي تكون فيه الكتلة الأكبر من السكان تحت حكم فلسطيني مسيطر عليه وتابع اقتصاديًا وأمنيًا، في حين تبقى السيادة على الأرض والموارد والمعابر الداخلية والخارجية لدولة الاحتلال. في الوقت الذي كان فيه اليسار الفلسطيني عاجزًا عن تقديم البديل، ولم يتجاوز سقف برامجه ومواقفه مواقف محور الممانعة (النظام الأسدي والنظام الإيراني). أما الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون الذين تحولوا إلى حركة حماس) فكانوا جزءًا من مشروع الإخوان المسلمين في المنطقة، وقد استخدمت حماس سلاح المقاومة في إفشال الحلّ الفلسطيني مع حزب العمل، ليس لمصلحة بديل وطني فلسطيني، بل لمصلحة سيطرتها على المجتمع الفلسطيني ضمن العلاقات الاستعمارية ذاتها. وكان تنظيم الإخوان في الضفة والقطاع الذي تحول إلى حماس لاحقًا قد هادن الاحتلال على امتداد عقدين من الزمن، وأخذ ترخيصًا إسرائيليًا بوجوده وبنشاطه الدعوي، والمناهض لمنظمة التحرير. من جهة أخرى سمحت حماس، إضافة إلى تنظيم الجهاد الإسلامي، لإيران باستخدام القضية الفلسطينية كورقة سياسية بغية تعزيز مكانتها الإقليمية مقابل الدعم بالسلاح والمال. لقد ساهم الإسلام السياسي في رعاية ودعم التحولات الرجعية داخل المجتمع الفلسطيني. وفرض التدين المتزمت – النسخة الوهابية – بتواطؤ من السلطة، ومن الاتجاه المحافظ في حركة فتح. والتزم قواعد سلطة أوسلو للتنافس على الحكم، مقدمًا نموذجًا قمعيًا بائسًا للحكم في قطاع غزة، بما في ذلك التنسيق الأمني الموارب مع سلطات الاحتلال الذي جوهره الحفاظ على أمن غلاف غزة للمستوطنين الإسرائيليين مقابل الحقيبة الشهرية من المال القطري الذي يصل إلى قطاع غزة عبر دولة الاحتلال وبشروطها.
عندما اندلع الربيع العربي بدءًا من تونس ومصر، خيم الصمت على موقف القيادة الفلسطينية والجهاز البيروقراطي للسلطة والمنظمة. كان (الموقف الرسمي) الفعلي منحازًا للأظمة المستبدة. فقد أعلنت تأييدها ودعمها للسيسي بعد انقلابه وقمعه للمنتفضين العلمانيين واليساريين والليبراليين، فضلًا عن الإخوان المسلمين. وانتقلت القيادة الفلسطينية من موقف حذر من الانتفاضات إلى موقف مناهض لها، هو الموقف ذاته المعتمد من الأنظمة، مستخدمة مصطلح ما يُسمى بـ “الربيع العربي”. وقد أبرمت القيادة الفلسطينية صفقة مع النظام الأسدي، متبنية روايته الكاذبة حول “المؤامرة” التي تستهدف سورية ودولتها ووحدتها. ولم تطرح من قريب ولا من بعيد محنة اللاجئين الفلسطينيين من جراء الدمار والحصار، وعمليات القتل داخل المخيمات وفي المعتقلات. ولم تحرك ساكنًا إزاء عمليات التطبيع الفاقعة بين الدول الخليجية، بما في ذلك السعودية ودولة الاحتلال، خلال أكثر من عقدين، وعندما وقعت الإمارات والبحرين الاتفاقات مع دولة الاحتلال اتخذت القيادة الفلسطينية موقفًا رافضًا لها، لكنها سرعان ما تراجعت عنه بـ “تفاهم بين الكواليس” مع تلك الدول، وتوقفت عن رفض الاتفاقات اللاحقة التي ضمت السودان والمغرب إلى ركب التحالف والتطبيع مع دولة الاحتلال.
اليسار الفلسطيني (الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب والحزب الشيوعي في مناطق 48)، أيد الربيع في تونس وتلعثم في تأييد ربيع مصر، لكنه انحاز للقذافي ونظام حكمه وانحاز بالكامل للنظام الأسدي وحلفه غير المقدس مع إيران وحزب الله والمليشيات الطائفية من البداية وحتى الآن. تناغم اليسار مع الموقف الرسمي الفلسطيني، وقد تفوق في الدفاع الصريح عن النظام الأسدي، متجاوزًا استراتيجياته السابقة التي اعتمدت علاقة تحالف وصراع مع الأنظمة المعادية لإسرائيل. شطب اليسار الصراع وألغى بالمطلق حتى مجرد نقد النظام الذي يرتكب المجاز والتهجير والتدمير ضد شعبه، ويدمر ويهجر المخيمات الفلسطينية. انحاز اليسار للبرجوازية ونظامها المستبد والدموي وناصب العداء للطبقات الشعبية، متبنيًا رواية النظام الكاذبة، مسقطًا بذلك أهم مبدأ من مبادئ الماركسية والفكر اليساري. الذريعة التي اعتمدها اليسار ثنائية قطب نظام ممانع ضد إسرائيل وداعم للمقاومة، مقابل قطب داعش والنصرة – القاعدة- وتنظيمات تكفيرية بالترافق مع تدخلات إمبريالية ورجعية تحاول تفكيك سورية وتقاسم السيطرة عليها. مسقطًا من حساباته الشعوب وقوى التحرر بوصفها قطبًا أساسًا ثالثًا ضد القطبين المتناغمين والمتصارعين في آن، متجاوزًا الفكرة الجوهرية للربيع العربي، المتمثلة بإزاحة الغطاء عن ورقة تبرير الاستبداد والقمع والديكتاتورية وتخلف التنمية لمجرد رفع شعارات العداء لأميركا وإسرائيل وشعار دعم المقاومة. تلك الورقة التي بطل مفعولها نظريًا بعد هزيمة 67 المذلة، وكان الاستبداد أحد ركائز فكر الهزيمة. إبان صعود المقاومة لم يكن مصادفة أن أحد تنظيمات اليسار الفلسطيني رفع شعار (يا أنظمة الهزيمة والاستسلام نحن أصحاب قضيتنا). ذلك أن أي مواجهة جدية مع الاحتلال والإمبريالية تحتاج إلى إشراك الشعب في المعركة، وإلى بناء اقتصاد صمود، وبناء مؤسسات دولة مدنية تلتزم حقوق المواطنة، ولا يتحقق ذلك إلا بأحزاب ديمقراطية، وبحريات عامة وخاصة، وبتنمية بشرية تطال التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي، وتزيل التمييز ضد نصف المجتمع من النساء. هذه الاستراتيجية المبتغاة والمفترضة كانت على النقيض من استراتيجية النظام المضللة التي انحاز لها اليسار الفلسطيني والسوري والعربي ما عدا القليل. يجوز القول إن تنظيمات اليسار الفلسطيني أصابت في موقفها الرافض والمناهض لتنظيمات الأصولية السنية بمختلف ألوانها، لكنها لم تنبس بكلمة واحدة ضد ميليشيات الأصولية الشيعية التي انخرطت في الحرب إلى جانب النظام. وأصابت تنظيمات اليسار في مناهضتها للتدخل الخارجي (دول الناتو بما فيها تركيا) مضافًا إليها إسرائيل، لكنها لم تنبس بكلمة واحدة ضد التدخل الروسي المتفاهم مع إسرائيل على قواعد الصراع في سورية لمصلحة إسرائيل، الشيء نفسه ينطبق على الصمت اليساري المريب من التدخل الإيراني. وفي المحصلة يجوز القول: سقط اليسار الفلسطيني في موقفه من انتفاضة الشعب السوري شر سقوط.
كانت أكثرية النخب الثقافية والسياسية الفلسطينية -باستثناءات قليلة – تغط في صمت مريب، وتعيش في حالة انتظار لما ستؤول إليه الانتفاضات العربية، وكأنها تنشد عدم المسّ بمصالحها الضيقة، كالسفر والمشاركة في مؤتمرات ونيل جوائز المسابقات، وكل ذلك في لحظة تاريخية فارقة. ليس هذا وحسب، فقد انبرى اتحاد الكتاب الفلسطينيين وعدد من الكتاب في الدفاع عن النظام الأسدي، وبادر وفد من اتحاد الكتاب وبعض الأدباء إلى زيارة دمشق كي يعلن ولاءه للنظام، ولم يكلف الوفد نفسه عناء زيارة المخيمات المنكوبة والتضامن مع محنتها. هكذا، تناغم موقف النخب الثقافية -ما عدا القليل- مع مواقف التنظيمات اليسارية، ومواقف قيادة المنظمة والسلطة، ومواقف حركة حماس التي حاولت العودة إلى حضن النظام الأسدي بعد سقوط الإخوان المسلمين في مصر- ومواقف تنظيم الجهاد الإسلامي في الانحياز لنظام يقتل شعبه، مسجلين بذلك موقفًا تاريخيًا مزريًا مسيئًا للشعب الفلسطيني والشعب السوري والشعوب العربية، وهابطين بالفكر السياسي وثقافة التحرر والحداثة إلى الدرك الاسفل.
داخل سورية، قاتلت تنظيمات فلسطينية (كالقيادة العامة وأجزاء من جيش التحرير والمنشقين عن حركة فتح وغيرهم) إلى جانب النظام الدموي، جالبين الخزي والعار لفلسطين، مقابل ذلك تحول جزء مهم من أبناء المخيمات ولا سيما مخيم اليرموك في دمشق إلى جزء من انتفاضة الشعب السوري، فكانوا أمناء على علاقة التحالف التاريخية بين الشعبين، وهناك مجموعات فلسطينية في الضفة وغزة والقدس وحيفا وغيرها من المدن والمخيمات الفلسطينية آزروا الانتفاضات العربية خاصة الانتفاضة السورية، وكانوا أمناء في الانحياز للشعوب التي تواجه أبشع أشكال التنكيل والقهر.
الموقف الإسرائيلي
مع بداية الانتفاضات العربية طرحت دوائر الأمن الإسرائيلي سؤالًا جوهريًا، هل إسرائيل مع نظام عربي ديمقراطي، أم مع بقاء النظام المستبد؟ أجاب خبراء الأمن لمصلحة بقاء الأنظمة المستبدة. وكان أخطر ما توقعه الخبراء في حالة التحول إلى أنظمة ديمقراطية هو القطع مع مسارات كامب ديفيد الاستسلامية، وعلى أقل تقدير، إعادة فتح الاتفاقات والتفاهمات المبرمة المتضمنة إذعانًا للهيمنة الإسرائيلية، وإعادة ربط الحلول السياسية مع بعضها بعضًا، خاصة ربطها بحلّ القضية الفلسطينية. وكان ناعوم تشومسكي قد تندر في محاضرة له في الجامعة الأميركية قرب ميدان التحرير/ في القاهرة، بالموقف الأميركي الداعم للديمقراطية!، قائلًا إن التحول إلى نظام ديمقراطي سيطرح أول ما يطرح الهيمنة الأميركية على مصر والمنطقة العربية.
لقد تعاظم الدور الاستعماري الإسرائيلي بوصفه جزءًا من الهيمنة الإمبريالية على المنطقة ومواردها الحيوية، عبر تكريس الاحتلال المباشر (فلسطين والجولان)، وعبر الهيمنة على بلدان باتفاقات (كامب ديفيد/ مصر، ووادي عربة وأوسلو/ مع الأردن والقيادة الفلسطينية)، وعبر نقل التحالف والتعاون مع الأنظمة الخليجية (الإمارات والبحرين والسعودية وعُمان)، ومع أنظمة كالمغرب والسودان، إلى العلن والترسيم في إطار علاقات التتبيع والتبعية والهيمنة الإسرائيلية على الإقليم من خلال حلف رجعي صريح. في أثناء الانتفاضات سعت دولة الاحتلال وحلفها الجديد بكل ما أوتيت من جهد وخبرات لمنع إفلات دول المنطقة من علاقات التبعية والهيمنة الإسرائيلية. وعلى الرغم من الحضور الإسرائيلي الكابح للتغيير في سياق الدور الوظيفي التاريخي، بقي هذا الحضور على هامش الخطاب السياسي والإعلامي للمنتفضين في كل البلدان تقريبًا، متجاوزًا واقع أن دولة إسرائيل الاستعمارية العنصرية عقبة أمام انتقال الشعوب العربية إلى الديمقراطية والتحرر الوطني والخلاص من الاستبداد والديكتاتوريات. النموذج الفاقع للدور الإسرائيلي جاء في السودان الذي كان ربيعه مبشرًا، لكن اتفاق التطبيع مع إسرائيل عزز حكم العسكر والدولة العميقة.
لا شك أن مصالح الشعوب العربية تلتقي عند أهدافٍ من أبرزها الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلت في العام 1967. ذلك أن إنهاء الاحتلال يعني مستوى من التراجع الإمبريالي الإسرائيلي عن الهيمنة والتدخلات، ومستوى من انفكاك الشعوب العربية عن علاقات التبعية للمركز الإمبريالي الإسرائيلي، ويعني مستوى من فك التحالف الرجعي الخليجي مع دولة الاحتلال، فضلًا عن تسهيل مهمة استبدال أنظمة الاستبداد بأنظمة ديمقراطية، والانتقال من حكم العسكر والأوليغارشيات إلى الدولة المدنية لكل مواطنيها. ويعني وضع حد للأطماع الإيرانية والروسية ولدورهما في تثبيت أنظمة مستبدة دموية. إن فرض التراجع على الاحتلال التوسعي مهمة أساسية للانتفاضات، تشكل محطة مهمة في طريق إنهاء وظائف المركز الإمبريالي الممثل بإسرائيل، وفي فتح المجال أمام إعادة الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.
سأختم بحدث بسيط لا يخلو من مغزى بقي خارج الأضواء. عندما انتفضت الشعوب العربية، خاصة في مصر وسورية، وقدمت في أشهرها الأولى نموذجًا حضاريًا مدهشًا، أصدرت مجموعة من الإسرائيليين تضم عشرات اليهود العرب بيانًا جاء فيه: “إنهم ينتمون للحضارة العربية وإنهم جزء من عملية التغيير الديمقراطي في المنطقة، وفي الدول التي سلخوا منها”.