المسألة الوطنية في سورية, مقاربة ثقافية

مقدمة
لا تفيدنا القواميس العربية وثقافتنا التقليدية وتراثنا الشفوي والمكتوب، ولا تاريخنا السياسي و”الثقافة القومية الاشتراكية” المتسيّدة عندنا، منذ أكثر من نصف قرن، في تحديد معنى الوطن والوطنية والمواطنة، ومعنى المجتمع المدني والدولة الوطنية والشعب والسلطة السياسية، إذا كنا سنذهب معًا، نحن السوريات والسوريين، نحو تدبير مصيرنا وتحديد مستقبلنا. ذلك لأن مفهوم الوطنية هو مفهوم حديث مقترن بمنجزات الحداثة بوجه عام، والحداثة السياسية بوجه خاص، أي إنه مقترن بالمجتمع المدني والدولة السياسية الحاملة جنين الدولة الديمقراطية، ومقترن بسيادة الشعب والقانون وحقوق الإنسان والمواطن، والمواطنة بالطبع.
المسألة الوطنية، في سورية اليوم، هي مسألة المصير قبل أن تكون مسألة المستقبل، بعدّها مسألة علمانية- ديمقراطية ومسألة تشكل مجتمع مدني سوري وشعب سوري وأمة سورية ودولة وطنية سورية، وجمهورية سورية هي فضاء عمومي مشترك بين جميع السوريات والسوريين بالتساوي. لقد انبثقت الوطنية الحديثة، مفهوميًا وواقعيًا، من جملة من التحولات التاريخية التي وسمت الأزمنة الحديثة بميسمها، وأولى هذه الوقائع انتقال مركز ثقل المعرفة من السماء إلى الأرض وصيرورة الطبيعة، لا السماء والنصوص السماوية، مصدرًا وحيدًا للمعرفة، وصيرورة المجتمع، لا التراث والنصوص التأسيسية للأديان والمذاهب، مصدرًا وحيدًا للقيم. لذلك، تنحّت أساطير الخلق والخليقة والنعم الإلهية من وحي وإلهام وظهرت الإنسانيات، ونعني هنا الاتجاهات الإنسانية وعلوم الإنسان، وظهور الفرد الإنساني الحر والمسؤول عن أعماله على مسرح التاريخ.
الثانية هي ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي على أنقاض النظام الإقطاعي وتحلل البنى الإقطاعية، وتطور هذا النظام وصيرورته نظامًا عالميًا مقترنًا بالثورات العلمية التكنولوجية واندماج المعرفة والعلم في الإنتاج. الثالثة هي الثورة الديمقراطية البادئة بتشكل المجتمع المدني، والتقسيم الحديث للعمل وما ولده من انتظامات وتنظيمات اجتماعية وثقافية وسياسية، مثل الجمعيات والنقابات والأحزاب، وتشكل النظم الديمقراطية وصيرورة هذا المجتمع الحديث فضاءً من الحرية، ابتداءً من حرية المبادرة الفردية والتنافس الخلاق، في مجالات الاقتصاد والمعرفة والثقافة والعمل الجماعي التطوعي. من ذلك، النقابات وجماعات المصالح أو جماعات الضغط والجمعيات والأندية والأحزاب السياسية، وكلها مؤسسة على مبادئ المساواة والحرية والتكافؤ والتزام القوانين المقبولة من جميع أفرادها، ما يشير إلى آليات أو ميكانيزمات التشكل الذاتي أو الانتظام الذاتي الذي يُفترض أن يتعاشق والنظام العام ويساهم في إعادة إنتاجه، وفقًا لمعدلات النمو في جميع المجالات، فلا يشبه المجتمع نفسه ما كان عليه قبل حين.
هذا الفضاء من الحرية النسبية هو ما اقتضى دولة سياسية محايدة إزاء اتجاهات أفرادها، وميولهم ونشاطهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأصولهم الإثنية والطبقية ومعتقداتهم الدينية. فبقدر ما يكون المجتمع المدني فضاءً من الحرية، تكون الدولة السياسية ديمقراطية قوامها المساواة النسبية والحرية النسبية والعدالة النسبية، والنسبية هنا حد على المطلقات التي لا وجود لها إلا في الذهن. وتجدر الإشارة إلى أن المساواة أمام القانون كانت أول تعبير فعلي عن العدالة (وقد تأخرت مساواة النساء بالرجال في الحقوق المدنية والسياسية، حتى الربع الأول من القرن العشرين).
هذه التحولات التي صارت منجزات إنسانية عامة، لا غربية ولا شرقية ولا شمالية ولا جنوبية، هي شروط إمكان الوطنية، عندنا وعند غيرنا. فــ “نحن” لسنا استثناءً من البشرية العاقلة والأخلاقية، إلا بقدر ما تكون هذه الــ “نحن” جوفاء خاوية، ولا تعني أفرادًا مختلفات ومختلفين وجماعات مختلفة وفئات اجتماعية أو طبقات مختلفة واتجاهات مختلفة ومصالح مختلفة وغايات مختلفة، وليست سيروة نتاج ونمو وتغير وتحول، بل تحيل على جوهر مطلق وثابت، وهو الأمة العربية أو الأمة الإسلامية أو صيغة تلفيقية منهما، وهي “الأمة العربية الإسلامية”، بعدّ “العروبة مادة الإسلام والإسلام روحها”، والأمة في ثقافتنا لا تنهض إلا بجناحيها: العروبة والإسلام.
على هذا الأساس، لا يمكن أن تتشكل وطنية سورية، ولذلك دعوت منذ أكثر من عقدين إلى التفكير في الأمة السورية، والمجتمع السوري والشعب السوري والجمهورية السورية، ولكن ليس على طريقة أنطون سعادة ومحازبيه، فلا تظنوا أن مفهوم الوطنية مستقل عن مفهوم الأمة الحديثة والدولة القومية الحديثة أو الدولة– الأمة، قبل أن نتحدث عن الدولة الديمقراطية. السؤال المطروح علينا اليوم، في ظل الكارثة التي نعيشها، هو: ما الشروط الموضوعية والذاتية التي تجعل الوطنية السورية ممكنة وقابلة للتحقق؟ أو ما الشروط اللازمة التي تجعل إرادات السوريات والسوريين كافة تتجه نحو إنتاج عقد اجتماعي قانوني وسياسي وأخلاقي جديد، لا للخروج من هذه الأزمة الكارثية فحسب، بل لتدبير المصير وتحديد معالم المستقبل؟
وإذ لا وطنية، بالمعاني التي سنبسطها في ما يأتي، من دون ثقافة وطنية، فإن عدم تشكل ثقافة وطنية حديثة، علمانيةً وديمقراطية، كان وما يزال عقبة كأداء في طريق تشكل وطنية سورية، علمانيةً وديمقراطية. ولعل من أهم الأسباب الكامنة خلف هذا العدم، أي عدم تشكل ثقافة وطنية وعدم تشكل وطنية سورية، هو سيطرة السياسة، بالمعنى الضيق للكلمة، وسيطرة السلطة السياسية على الثقافة والمثقفات والمثقفين، وعد الثقافة أداة سياسية للهيمنة على العقول والضمائر، أي للسيطرة على الأجساد. ذلك لأن “السياسة” عندنا هي القاطرة التي تجر جميع العربات وتتحكم في مجالات الحياة جميعها، بدلًا من الاقتصاد أو الإنتاج الاجتماعي في البلدان المتقدمة. فالمسألة برمتها هي مسألة المبادئ التي تقوم عليها السلطة، بمعناها الواسع، وآليات إنتاجها وأساليب ممارستها. إن من طبيعة السلطة أنها تصنع الأفراد الذين ينتجونها والجماعات التي تنتجها، وتعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية التي أنتجتها.
يبدو لنا في هذه المسألة، مسألة إنتاج السلطة بمعناها الواسع، اتجاهان تاريخيان يتحدد كل منهما بالعلاقات الاجتماعية التي تنتج السلطة: يتلخص الأول في أن العلاقات الاجتماعية، الرأسية أو العمودية، تنتج سلطة شخصية يغلب أن تكون سلطة مستبدة، وهي من تضع “القوانين” وتقرر مبادئ الحق والأخلاق، وفق اقتناعها الذاتي ومصلحتها الخاصة، وتتحكم في عملية اصطفاء المعاني والرموز والدلالات وعملية إنتاجها وإعادة إنتاجها. هذه السلطة الشخصية تحتاج دومًا إلى شرعية لاهوتية يغدو الحاكم بموجبها “ظل الله على الأرض” ويغدو “الوطن” بالمعنى القاموسي امتدادًا لجسده، والرعايا أدوات لإنتاج ثروته وتعزيز ملكه والتسبيح بمجده وإظهار عظمته (راجعوا كتب الآداب السلطانية) أو تحتاج، مثل الأيديولوجيا القومية، إلى “لاهوت علماني” يقوم بالوظيفة ذاتها التي تقوم بها الشرعية اللاهوتية.
تُؤسّس آليات إنتاج هذه السلطة الشخصية على مبدأين متضامنين: العلاقات الأبوية، بل البطركية، أي علاقة الأب بأولاده والبطرك برعايا أبرشيته، والعلاقات المشيخية، أي علاقة الشيخ بمريديه. لنا أن نفترض أنه حين تكون السياسة هي القاطرة التي تجر جميع العربات، لا تنتج السياسة سوى سلطة شخصية مستبدة، كما تقدم. أما حين يكون الإنتاج الاجتماعي، ولا نريد أن نقول الاقتصاد، هو القاطرة، فإن السياسة يمكن أن تنتج سلطة لاشخصية، وهي سلطة القانون في الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. الحاكم في الحالة الأولى هو الأب وسيد الوطن وسيد الشعب، وموته يعني موت الوطن وموت الشعب، وهذا ما اقتضى مبدأ التوريث. أما في الحالة الثانية، فالحكام مفوضون من الشعب بالانتخاب الحر وموظفون لديه، وللشعب حق مطلق في الرجوع عن هذا التفويض.
يحيلنا هذا التأويل على علاقة كل من “المجتمع الأهلي” بالنظام السلطاني، والمجتمع المدني بالدولة الوطنية الحديثة، إذ تتسم هذه العلاقة في الحالة الأولى بأنها علاقة استتباع أو استعباد وتسلط وقهر وإكراه، وبأنها في الحالة الثانية علاقة جدلية أو تفاعلية تغدو معها الدولة تحديدًا ذاتيًا للمجتمع وصورة لحياته الأخلاقية أو حياته النوعية (الإنسانية). ويلاحظ أن التطرف هو الغالب في الحالة الأولى، والاعتدال هو الغالب في الحالة الثانية، وإن مصدر التطرف في اعتقادنا هو الوعي الأيديولوجي وما يصدر عنه من خطابات هذيانية وممارسات عصبوية ويولده من نزعات إقصائية واستئصالية. أما مصدر الاعتدال، فهو الوعي الواقعي وما يصدر عنه من خطابات عقلانية وأحكام موضوعية وممارسات مدنية وأخلاقية. لذلك، نرى أن الأيديولوجيا نسق مولد للتفاصل والتجنب والكراهية والعنف، سواء أكانت الأيديولوجيا دينية– مذهبية أم “علمانية”.

الثقافة والسلطة
الثقافة حقل غير محدود، حتى عندما نسميها “ثقافة وطنية” أو ثقافة قومية؛ لأنها تنطوي على بعد إنساني عام لا يمكن نفيه، سواء أكان ظاهرًا أم ضامرًا وأساسًا أم ثانويًا، ولأنها تشمل الفنون والآداب والعلوم والعقائد الدينية وغير الدينية، السماوية منها وغير السماوية، والأفكار والمعارف والتصورات والمبادئ والقيم والأعراف والعادات والتقاليد وأنماط السلوك. لكن هذه الفروع أو المجالات المختلفة جميعها تقوم على أسس ومبادئ معرفية تتشكل منها على مر الزمن نماذج معرفية ناظمة لهذه المجالات كلها، ولكل منها على حدةٍ. سنتوقف عند أربعة حقول مختلفة من الحقول المعرفية- الثقافية لتعيين الخصائص الأساس لكل منها، بدلالة السلطة؛ مسلِّمين في ذلك بأن الثقافة سلطة وتنتج سلطة: الأولى معرفية وبيداغوجية، والثانية اجتماعية وسياسية.
سلطة الفكر التي تتسم بأنها: – تقوم على اقتناع ذاتي شخصي يؤسس سلطة الذات على ذاتها أو سلطة الضمير. – تعين اتجاهًا أو سمتًا في الحياة قد يترجم إلى علاقات اجتماعية إنسانية وسلوك مدني أو سلوك مميز، وقد تتعارض سلطة الفكر مع السلطات الاجتماعية والسياسية القائمة، بحكم الطابع النقدي للفكر. – تنطوي على أي عنصر من عناصر الإكراه والإرغام في معرفة تنتج معرفة بحكم قابلية التأويل، على الرغم من وجود سلطة بيداغوجية ذات تأثير حاسم في حياة الأفراد، ومن ثم في حياة المجتمع، ونعني المربيات والمربين والمعلمات والمعلمين في جميع مراحل التربية والتعليم.
سلطة الفنون والآداب: – تقوم على الإبداع والابتكار والتلذذ والاستمتاع، فهي أكثر السلطات الناعمة نعومةً. – تعين اتجاها اجتماعيًا– إنسانيًا. – هي سلطة أخلاقية خالصة يتعين بها استقلال الشخصية وحريتها وذوقها أو وذائقتها الجمالية، وبهذا كله تكون مناهضةً أي سلطة قسرية ومناهضة العنف ومتضامنة مع المضطهَدين والمستغَلين؛ لأن شفافيتها ورهافتها تنبع من الروح الإنساني الطليق ومباهج الحياة.
سلطة العلم التي تتسم بأنها: – تقوم على الفهم أو الإدراك العقلي، فتضع حدًا لسلطة الحواس والإدراك الحسي الذي يمكن أن يكون خادعًا. – تعين اتجاهًا في العمل والإنتاج والابتكار والإبداع. – محايدة حيادًا تامًا، ومبذولة لفائدة الناس جميعًا.
سلطة الأيديولوجيا، أكانت دينية الأيديولوجية أم غير دينية، ومن أبرز سماتها: – تقوم على الإقناع أساسًا، لا على الاقتناع. -تعيّن اتجاهًا سياسيًا- منحازة كليًا، وتنطوي على إمكان التعصب العنف والإكراه.
وفقًا لهذه الخصائص، يمكن تعيين بعض ملامح الحياة الثقافية في سورية، وسنترك الحكم فيها معلقًا. لكن، تجدر الإشارة إلى أن السلطات الثلاث الأولى جزء من “الخيرات الاجتماعية” التي ينبغي لها أن توزّع توزيعًا عادلًا بين جميع الفئات الاجتماعية، بلا استثناء ولا تمييز، وألا تخضع لأي سلطة خارجة عن طبيعتها ومجالها، وهي التي ينبغي لها أن تحدد مبادئ السلطة العامة وتضع قواعدها، وتعين أشكال ممارستها وتعمل على نقدها وتقويمها. هي، إلى ذلك، حدود على الأيديولوجيا ويجب أن تكون واضحة وصارمة، بقدر ما تكون لب الافتراضات التداولية في المجتمع والمبادئ المعرفية للحوار العام والمناقشة العامة.

حدود المسألة الوطنية
أولًا: الوطنية، على الصعيد الحقوقي، منظومة حقوقية قوامها الانتماء إلى دولة (قائمة بالفعل)، واكتساب جنسيتها أو هويتها السياسية، والتمتع بالحريات والحقوق التي يعينها الدستور والقانون، وتأدية الالتزامات القانونية والأخلاقية المقابلة لهذه الحريات والحقوق، والشعور بالمسؤولية السياسية والأخلاقية عن النظام العام، والدفاع عن القوانين والعمل على تحسينها باطراد بالوسائل السلمية، بغية تحقيق العدالة القانونية والسياسية والاجتماعية. فالذين لا يدافعون عن قوانين بلادهم لا يحسنون الدفاع عن البلاد، وقديمًا قال سقراط: “القانون فوق أثينا”، وكان يعني أثينا المدينة الدولة وإلهة المدينة وحاميتها، وقد آثر تجرع السم على مخالفة قوانين بلاده.
ثانيًا: الوطنية، على الصعيد الاجتماعي- السياسي، انتماء جذري إلى الوطن يتعدى جميع الانتماءات الفرعية، ولا سيما الانتماءات ما قبل الوطنية، الإثنية منها والعشائرية والدينية والمذهبية، من دون أن يحذفها أو ينفيها، ولكنه يصير حاكمًا عليها ويصبغها بصبغته ويمنحها خصائصه، فيدمجها في الفضاء العام المشترك، لتكف عن كونها حواجز بين الأفراد والجماعات أو “المجتمعات الصغيرة Communities”. فليس من الضروري أن يكف المسلم، مثلًا، عن كونه مسلمًا ليكون وطنيًا، مثلما ليس ضروريًا أن يكف النجار عن كونه نجارًا ليكون وطنيًا. ولأن هذا الانتماء الجذري إلى الوطن لا يكون انتماءً سليمًا وقويًا وراسخًا ولا يكون ديمقراطيًا ولا يصير كذلك، إذا لم يؤسّس على الانتماء الجذري إلى النوع الإنساني، فالإنسية أو الإنسانية أساس الوطنية ورافعتها وعامل انفتاحها على الكونية أو العالمية، وإلا يمكن أن تتحول إلى عنصرية مقيتة، على نحو ما بينت التجارب الاستعمارية والفاشية والنازية، وما تبين السياسات الإمبريالية والهوياتية.
هذا يحيلنا على معنى أساس من معاني العلمانية التي لا تكون الديمقراطية من دونها، ويمنح الوطن الذي نصبو إليه معنىً جديدًا يتعدى كونه مكانًا أو رقعة من الأرض أو حيزًا أو امتدادًا إلى كونه “الشكل الأخير لوجودنا في كل لحظة من لحظات الوجود”، وأبناؤه وبناته بالطبع ليسوا مجرد سكان، بالمعنى اللغوي للكلمة، وليسوا مقيمين إقامة دائمة أو موقتة فيه، بل مواطنات ومواطنين. الوطن هنا هو تركيب معقّد من الأرض والناس والمجتمع والدولة والشعب والسلطة العامة؛ لأن علاقة الإنسان بالأرض، وقل بالطبيعة، ليست مجرد علاقة ذات فاعلة بموضوع منفعل، بل هي علاقة اجتماعية وسياسية وثقافية وأخلاقية قوامها تذويت الطبيعة وأنسنة الذات. لذلك، يكتسب كل من العمل أو النشاط والفاعلية والإنتاج صفة العمل الاجتماعي والنشاط الاجتماعي والإنتاج الاجتماعي، وكلاهما (العمل، والنشاط والفاعلية الإنتاج الاجتماعي) يحددان معًا العلاقات الاجتماعية الاقتصادية السياسية والأخلاقية وعلاقات الإنتاج، فيكون الوطن كما يكون أهله. الوطنية المنبثقة من هذا المعنى للوطن مشاركة ومتساوية في الوجود، على اختلاف أشكاله الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، أو هي تشارك حر ومبدع في المجتمع المدني والدولة السياسية، على قدم المساواة.
لذلك، رأينا أن الوطنية كالإنسانية، فهي صفة لا تقبل التفاوت والتفاضل في الإنسانية والوطنية، فذلك عيب أخلاقي واستبداد فكري وسياسي ليس له سوى تسويغ أيديولوجي. والأيديولوجيا، أي أيديولوجيا، أكانت قومية أم دينية، نسق مولد للصراع والتفاصل والعنف. إن الوطنية لا تكون أيديولوجة، إلا بقدر ما تكون عنصرية.
ثالثًا: الوطنية، على الصعيد الثقافي، منظومة ثقافية حديثة وعصرية، بالمعنى الواسع للثقافة، بما هي نظام علاقات متكامل من العادات والتقاليد والممارسات والمهارات والمعارف والقواعد والمعايير والمحرمات والاستراتيجيات والمعتقدات والأفكار والقيم والأساطير، التي تستمر من جيل إلى جيل ويستعيدها كل فرد وتولّد “التعقيد” الاجتماعي وتجدّده، وتجمع في داخلها ما هو محفوظ ومنقول ومكتوب، وتتضمن مبادئ الاكتساب ومناهج الفعل، وهي نظام متسق داخليًا بنحوه الخاص الشبيه بنحو (قواعد) اللغة التي تتكلمها هذه الجماعة أو تلك وهذه الأمة أو تلك، فالثقافة أول اقتصاد إنساني، بها امتاز الإنسان من الحيوان. الحداثة والمعاصرة، بكل منطوياتهما، ركنان أساسان من أركان الثقافة الوطنية وشرطان أساسان من شروط إمكانها، بهما ترقى الثقافة إلى مستوى إنساني رفيع، وتتمكن الأمة المعنية، وهي هنا الأمة السورية، من المشاركة في إنتاج الحضارة الإنسانية، وهما (الحداثة والمعاصرة) علامتان على تمدن الأمة ومعياران من معاييره.
الثقافة بمعناها الواسع ممارسة اجتماعية وسياسية، مثلما هي ممارسة فكرية وعلمية وأدبية وفنية، وفقًا لمنظومة القيم الأخلاقية والجمالية التي يتبناها المجتمع المعني، في شروط تاريخية معطاة. فالمجتمع من هذه الزاوية نسيجٌ حيّ من منظومات ثقافية هي حقول قوى مختلفة ومتفاوتة في حالة تشكل دائم وتغير مستمر، وقد يصدق على آليات تشكّلها وعوامل تغيّرها “مبدأ عدم اليقين”؛ لأن الناس لا يستطيعون التحكم في نتائج أقوالهم وأفعالهم والسيطرة عليها. لقد لفتنا إلى ما يجري في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر وغيرها، منذ خمس سنوات، فقد تمكنت النظم التسلطية والسلطات المستبدة، استبدادًا كليًا، في هذه البلدان من السيطرة على أقوال محكوميها وأفعالهم سيطرةً شبه تامة، وتمكنت من “الاحتكار الفعال لمصادر الثروة ومصادر السلطة ومصادر القوة”، وحققت درجة عالية من الانضباط الاجتماعي القسري، الكلي أو شبه الكلي، في جميع مجالات الحياة، وهو ما مد في أعمارها عقودًا. لكنها لم تتمكن من السيطرة لا على نتائج أقوال المحكومين وأعمالهم، ولا على نتائج أقوالها وأفعالها هي نفسها، فكانت الثورات والانفجارات الاجتماعية والثورات المضادة.
تعلمنا الأنثروبولوجيا أن لكل مجموعة بشرية، أيّا كان مستوى تطورها، ثقافتها الخاصة وبناها وهياكلها الثقافية، وأن هذه الثقافة تنمو وتتطور بفعل نمو المعارف العلمية والتقنية والخبرات الإنتاجية ونمو الآداب والفنون، وتصبح أكثر تنوعًا وتعقيدًا. كما تعلمنا أن الثقافة مرآة الحياة الاجتماعية وسجل التجارب الإنسانية، ولذلك نجد في جميع الثقافات بعض العناصر المشتركة والخصائص المشتركة. المشترك بين الثقافات هو قوام الثقافة الإنسانية العامة والقيم الإنسانية العامة. من ثم، لا تفاضل بين الثقافات وليس من حق أي ثقافة أن تفرض نفسها على غيرها من الثقافات أو أن تعد نفسها ثقافةً معيارية، على نحو ما سعت المركزية الأوروبية بعنوان “المعجزة الأوروبية”.
لكن الثقافة قد تصاب بالجمود والانحطاط نتيجة عوامل مختلفة، ومن أهمها الاستعمار والاستبداد والحروب والصراعات الداخلية، العرقية منها والدينية أو المذهبية، إذ تتراجع الثقافة إما أمام الثقافة الوافدة، وهي ثقافة الغالب، أو الثقافة الكامنة في المجتمع نفسه، وهي تنبثق من خلفيته الجمعية وذاكرته المعتمة. في الحالين، تتوقف عملية التثاقف التي تغني الثقافة الإنسانية، إما بفعل عملية التدمير الثقافي الخارجي أو بفعل التدمير الذاتي، على نحو ما نشهد اليوم. لا بد أن نضيف إلى ذلك أثر الاستبداد المحدث أو السلطانية المحدثة في جمود الثقافة وانحطاطها، إذ تعمل السلطات الشمولية كل ما في وسعها لفرض ثقافتها الخاصة وقيمها الخاصة على المجتمع وقمع كل ما عداها أو تهميشه. هذا ما يقتضي مواجهة ثقافة السلطة بسلطة الثقافة، ومعارضة استبداها بديمقراطية الثقافة، بوصفها روح المجتمع وقوام الأمة.
الاستبداد الثقافي هو الذي يتيح الاستبداد السياسي والسلوكي، بحسب علي حرب. ومؤدى ذلك أن يقع الأفراد والجماعات أسرى أفكارهم أو حبيسي أصولهم وثوابتهم، وأن يتعاملوا مع مرجعياتهم الفكرية بعدها سلطة مطلقة لا تخضع للجدل والمساءلة أو يتصرفوا إزاءها بمنطق التسليم والطاعة. “يكمن أساس الاستبداد في فقدان المرء حريته الفكرية إزاء شخص أو نص أو حدث يجري التعامل معه على أنه أصل ثابت أو مرجع مطلق أو رمز مقدس”. وقد شهدنا في القرن العشرين أشكالًا من الاستبداد الثقافي الكلي في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلدان “المنظومة الاشتراكية” السابقة وفي معظم بلدان العالم الثالث، ولا سيما البلدان العربية ذات الأنظمة التسلطية، مثل سورية والعراق، حيث فرض حزب البعث العربي الاشتراكي أيديولوجيته القومية على المجتمع والدولة ومؤسساتهما، ولا سيما المؤسسات الثقافية ونظام التربية والتعليم.
على الرغم من أن الصراع على السلطة داخل حزب البعث الذي أفضى إلى انقلابين عسكريين عامي 1966 و1970 لم يتغير الطابع الحصري للثقافة القومية، ولم تتغير الأسس المعرفية والفكرية التي قامت عليها العقيدة القومية التي اعترضت سيرورة التطور الثقافي في سورية وعطلتها. ونرى أن عدم تشكل ثقافة وطنية سورية كان وما يزال عقبة في طريق الاندماج الاجتماعي والتنمية الإنسانية الشاملة والعادلة، وقطع الطريق عن أي إمكان لتحول ديمقراطي. وفي ما يأتي نماذج من الفكر القومي الذي ساد عندنا منذ أكثر من نصف قرن، في مسألة الأمة أو المسألة القومية:
يعد ساطع الحصري (1880- 1968) أحد مؤسسي “الفكر القومي” ومنظِّريه، في العصر الحديث، ومع أنه فند “وحدة الأصل” أو العرق؛ مؤكدًا أن “جميع الأبحاث العلمية المستمدة من حقائق التاريخ ومكتشفات علم الإنسان ومكتسبات علم الأقوام لا تترك مجالًا للشك في أنه لا يوجد على وجه البسيطة أمة تنحدر من أصل واحد فعلًا، ولا توجد على الأرض أمة خالصة الدم تمامًا”. وقد انتهى إلى القول: “إن المهم في القرابة والنسب ليس رابطة الدم في حد ذاتها، بل هو الاعتقاد بها والنشوء عليها ]….[ إن الاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة يعمل عملًا ]مهمًا[ في تكوين الأمم، سواء ]أكان[ ذلك موافقًا للحقيقة أم مخالفًا لها؛ لأن القرابة بين أفراد الأمم تكون قرابة نفسانية معنوية أكثر مما تكون جسمانية ومادية”، وإن العوامل التي تؤدي إلى تكوين هذه القرابة المعنوية هي اللغة والتاريخ. إن “اللغة هي روح الأمة وحياتها ]….[ والتاريخ هو شعور الأمة وذاكرتها”.
يتبين من قول الحصري أن وحدة الأصل ورابطة الدم وهم من الأوهام، ولكن لا بأس أن تقوم الأمة على الاعتقاد بهذا الوهم والإيمان به. لم يفطن الحصري، في وقته، ولا يفطن كثيرون اليوم إلى أن الإيمان بالوهم هو أحد أركان الاستبداد وأحد مصادر العنصرية، إذ يقوم الاستبداد على جملة من الأوهام، ومن أبرزها وهم مركزية الإنسان في الكون ووهم المركزية الإثنية، وهي مركزية ذكورية بالطبع وتعبر عنها أفكار “شعب الله المختار” و”خير أمة أخرجت للناس” و”الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة”، وكلها تنويعة على مبدأ الاصطفاء الإلهي (العنصري) ووظيفة الأيديولوجيا تبرير هذا الاصطفاء. الله يختار شعبه والحاكم، بصفته ظل الله على الأرض، يختار شعبه أيضًا، وهذا شيء مطرد ومستمر في التاريخ. السلطة الشمولية في سورية اختارت شعبها من المؤمنين والمؤمنات بعقيدتها، وجعلت من النظام التربوي والتعليمي خاصة أداة من أدوات غرس هذه العقيدة التي لا نشك في أنها محولة عن عقيدة دينية ذات بعد أسطوري، في أنفس الناشئة.
الأمة العربية، عند زكي الأرسوزي (1900- 1968)، مشتقة من الأم، ما يحيل على فكرة الأصل التي تنكشف لأفراد الأمة بالحدس، فـ “الاختلاف بين فرد وفرد من أبناء الأمة، إنما هو اختلاف في درجة الوضوح في الأمور المتعلقة بالأصول، فما هو حدس مبهم عند الجمهور يتحول إلى بصيرة نيرة عند القادة، وذلك ما يحمل على الاعتقاد أيضًا بأن ما يتجسد من شبه بين الأفراد المنحدرين من الأصول ذاتها، وما يظهر من انسجام في المؤسسات العامة، يرجع إلى آية الأمة المتحققة، عبقريةً في الطبيعة، ويرجع إلى تجربة الأجداد المثلى في أصول الحياة، وليس التاريخ إلا سجلَّ هذا التحقيق مصيرًا حصل من انتصارات الحياة على القدر” ]…..[ تلك هي الأمة العربية عبقرية أبدعت أداة بيانها، فأفصحت بهذا الإبداع عن حقيقتها ]…..[ إن الحدس في الكلمة العربية من صرح الثقافة بمنزلة البذرة من الشجرة. ذلك ما دعانا إلى القول: إن أمتنا ليست حصيلة ظروف تاريخية، بل إنها معنى يبدع تجلياته ويوجهها نحو المزيد من الحرية، وذلك ما دعانا إلى الاعتقاد بأن مثل ظهور الأمم على مسرح التاريخ كمثل ظهور الأنواع الحياتية على مسرح الطبيعة”.
إذًا، الأمة العربية والقومية العربية تنبثقان من اللغة والتاريخ بحدس العبقرية الكامنة فيهما، فـ “الفكر في حد ذاته قوة تاريخية لا تقدر، ومجرد وضع القضية العربية القومية في صيغة فكرة شاملة كان أول مساهمة في تركيز الحركة الثورية العربية على أسس صلبة”، بتعبير ميشيل عفلق (1911- 1989) . “الفكرة القومية فكرة مطلقة وحية”، بتعبير عبد الله عبد الدايم، والإطلاق والحياة فيها هما طابعها الجوهري، لا مجرد نعتين من جملة نعوت يمكن أن تطلق على القومية العربية. “إنها فكرة حية؛ لأنها فكرة قومية قبل كل شيء، وتريد أن تبعث أمة فلا تنسى الروابط التاريخية الحية التي تربط بين أفرادها، وفكرة مطلقة لأنها تريد أن تجعل من الحياة القومية حياة حية لا ضيق فيها ولا فقر، وتستمد قوتها من قوة العقل وحقائقه”.
يبدو هذا كله مفهومًا، إذا عرفنا أن القومية عند ميشيل عفلق “ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة للفن بل نبعه وروحه ]…..[ كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة، يكون تفسيرًا ضالًا جامدًا ميتًا ]…..[ لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه، حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل. القومية ليست علمًا بل هي تذكر؛ تذكر حي ]…..[ ما عسى أن تكون دهشتهم، عندما تظهر فيهم نقية كاملة بسيطة بساطة المعجزات”. القومية عند ميشيل عفلق حب قبل كل شيء، وكان يخشى أن تصير إلى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي، فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة، فالإيمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل إنه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها”. يمكن أن نضيف إلى هؤلاء الأعلام المؤسسين قائمة طويلة من المفكرين القوميين الذين لم يخرجوا عن هذه الأسس، وإن عبروا عنها بصيغ مختلفة، ومن أبرزهم عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وطيب تيزيني وغيرهم.
الأمة، كما نراها اليوم في سورية، تتجسد واقعيًا في المجتمع الأهلي الذي يحمل جنين المجتمع المدني، على ما فيه من تنوع واختلاف وتفاوت. إن سيرورة تطور المجتمع الأهلي إلى مجتمع مدني حديث هي التي يجب أن تحظى باهتمام المفكرات والمفكرين والباحثات والباحثين والفاعلات والفاعلين في الحقل العام، وهذه سيرورة تاريخية تتماشى مع إيقاع سير المجتمع ومدى حيويته وانفتاحه على منجزات الحضارة الإنسانية، ولا تخلو من انتكاسات على هذا الصعيد أو ذاك. إن عملية/ عمليات تحول المجتمع الأهلي إلى مجتمع مدني حديث هي ذاتها عملية/ عمليات تشكل الوطنية السورية الحديثة العلمانية- الديمقراطية. المجتمع هو مسرح التاريخ الواقعي والمستقبل هو ممكناته فحسب.
رابعًا: أما القومية، على الصعيد التاريخي، فهي نتاج سيرورة انتقال من “حالة الطبيعة” إلى “الحالة المدنية”، بحسب فلاسفة العقد الاجتماعي، من ميكيافلي (1469- 1527) إلى هيغل وماركس، في القرن التاسع عشر، مرورًا بتوماس هوبز (1588- 1679) وجون لوك (1632- 1704) وجان جاك روسو (1712- 1778)، ومن ترسموا خطاهم وانتهجوا نهجهم، ومن هؤلاء جون رولز وروبرت بوتنام وفرنسيس فوكوياما وأمارتيا صن وغيرهم في أيامنا، أو هي نتاح عملية الانتقال من حالة اللاعقل إلى حالة العقل، بحسب تعبير كنت (1724– 1804)، وهو الانتقال الذي أفضى إلى تشكل المجتمع المدني الحديث والدولة السياسية الحديثة، وظهور مفهومي الأمة الحديث والجمهورية Republic علَمًا على الدولة الحديثة يدل على العمومية، ومفهومات المواطنة وسيادة الشعب وسيادة القانون وما يتصل بها. من ثم فإن الوطنية أو القومية (ولا فرق) مرادفة للعمومية، ما يعني أن الدولة الحديثة هي المجتمع السياسي العمومي Public أو الفضاء العمومي المشترك بين مواطناتها ومواطنيها جميعهم بالتساوي. ويدل تطور الدولة الحديثة على أنها لم تستقر إلا على قاعدة علمانية– ديمقراطية، مع عنصر طبيعي غير مرفوع تجلى في الصراعات والحروب القومية في أوروبا وغيرها، وفي ما يسمى “اللاهوت العلماني”، إذ يعد بعضهم أن العقيدة القومية محوّلة عن عقيدة دينية وأن لها طقوسها ورموزها ومقدساتها، ومن المؤكد عندنا تضامن العقيدة القومية والعقيدة الدينية، كما سبقت الإشارة.
الوعي السياسي الذي أنتجته الثقافة القومية الاشتراكية ومؤسساتها هو فصل المسألة الوطنية عن المسألة العلمانية– الديمقراطية، أي إنه فصل المسألة القومية عن شروط إمكانها. مرد هذا الفصل القطعي هو كيفية تأويل “الدولة القومية” التي بلورتها الحداثة، في أواخر القرن الثامن عشر، في الفكر السياسي العربي عامة ولدى النخبة السورية خاصة، وتفريغها من محتواها العلماني– الديمقراطي واختزالها في “الدولة العربية” الواحدة، دولةً مركزية للعرب الأقحاح من المحيط إلى الخليج. يتصل بذلك أوثق اتصال فصل مفهوم الأمة عن مفهوم المجتمع المدني، ومن ثم فصل مفهوم السلطة عن مفهوم الشعب، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى بعث الاستبداد والتسلط من جوف التاريخ وتحديثهما في صيغة “دولة البعث” و”سورية الأسد” و”الشعب العربي السوري”، حتى بات الكردي والآثوري والأرمني والشركسي والتركماني عربًا سوريين، في البطاقات الشخصية وجوازات السفر، قسرًا وإرغامًا.
يقول جورج طرابيشي في إحدى هرطقاته: كانت ثورة الحداثة قد ابتكرت مبدأ العلمانية وطبقته وطورته، حلًا لمشكلة الأقليات الدينية والطائفية. لكن هذا الحل، على عبقريته، كشف عن قصوره في مواجهة مشكلة الأقليات القومية، وهكذا وجدنا أوروبا تقدم، في القرن التاسع عشر، مشهدًا غريبًا ومتناقضًا لدول متسامحة على الصعيد الديني ومتعصبة على الصعيد القومي. ثم جاءت التجارب التوتاليتارية في ألمانيًا وإيطاليا وإسبانيا، في النصف الأول من القرن العشرين، لتكشف عن مدى طغيان النزعة القومية وقابليتها للتحول إلى شوفينية عدوانية، إذا لم تستند إلى ركيزة من الثقافة الديمقراطية، إضافة إلى العلمانية. وقد تأدى سقوط التجارب الفاشية في هذه البلدان إلى توسيع مفهوم الديمقراطية”، لتشمل حق الجماعات القومية في تقرير مصيرها بنفسها.
في الحالة العربية عامة والسورية خاصة ما تزال العلمانية موضوع أخذ ورد، على الصعيد الثقافي، بل الأيديولوجي، وتوصم بمناهضة الدين عامة و”الإسلام” خاصة، ويرى فيها بعضهم أدلوجة أقلوية تخفي عداوة مستحكمة للإسلام السني، ويعارضونها بديمقراطية صندوق الاقتراع وحق الأكثرية (العددية الإثنية أو المذهبية) في الحكم. ليس ذلك إلا لأن الطائفية المذهبية متجذرة في الثقافة والاجتماع والسياسة والأخلاق، وليس من دليل على ذلك أكثر سطوعًا من الحرب الدائرة منذ خمس سنوات. فإذا كانت مسألة التعدد المذهبي لم تحل علمانيًا بعد، ولا يبدو حلها مطروحًا في الأفق المنظور، فما بالكم بمسألة التعدد الإثني وحق الجماعات الإثنية في تقرير مصيرها بنفسها؟!
خامسًا: الوطنية منظومة أخلاقية والإنسان كائن عاقل؛ أجل. العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بحسب ديكارت؛ أجل. لكن الإنسان كائن أخلاقي قبل أن يكون عاقلًا، بالمعنى الأرسطي، فما كان للعقل أن ينشأ إلا على قاعدة أخلاقية مبتداها التفريق بين النافع والضار، وذروتها التفريق بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة وبين العدل والجور وبين الجميل والقبيح. فقبل أن يتمكن الإنسان من معرفة الأشياء والظواهر كان يضفي على كل منها معنى خاصًا وقيمة خاصة، بحسب ما يفيد منها أو يضار، ولا ننسى أنه تعبّد بعضها. من ثم، فإن المنظومات الأخلاقية هي أساس المنظومات المعرفية والفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، إذا تجردت منها هذه المنظومات تتجرد من نسغها الإنساني ووظيفتها الإنسانية وغاياتها الإنسانية. نعني بالعقل عملية/ عمليات التعقل الفردية التي تصير عملية/ عمليات تعقل جمعية، بحكم الطبيعة النوعية للكائن البشري التي هي قوام إنسانيته. “فليس الإنسان في حاجة إلى علم ولا إلى فلسفة ليعرف ما ينبغي له أن يفعل، كي يكون أمينًا وخيرًا، لا بل ليكون حكيمًا أو فاضلًا، فملكة الحكم العملية تتقدم، في الفهم الإنساني، على ملكة الحكم النظري”، بحسب كنت.
يتجلى البعد الأخلاقي في الوطنية في ما يسميه روبرت بوتنام “رأس المال الاجتماعي”، أي الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات، بالكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق والثقة المتبادلة والاحترام المتبادل والتعاون والشبكات وتبادل المنافع، ومعها الأفكار والقيم، وكلها من سمات المجتمع المدني. وتتجلى في ما يسميه بيير بورديو “رأس المال الثقافي” الذي توضع القوانين على أساسه. لما كانت العدالة أم الفضائل الأخلاقية ولا تعلوها سوى المحبة؛ لأنه “لا يحتاج إلى العدالة إلا من فاته شرف المحبة”، فإن مبادئ العدالة، أي المساواة والحرية والتوزيع العادل للخيرات الاجتماعية والقدرة على التمتع بها، هي ذاتها مبادئ المواطنة ومبادئ الوطنية التي تنبثق منها “الصداقة المدنية” و”أخلاق العناية” التي قوامها التعاطف والمؤازرة على الحق، والمشاركة في السراء والضراء.
هذا كله علاوة على ما يسميه كنت أخلاق الواجب، وفي مقدمها ألا تعامل الناس إلا كما تحب أن يعاملوك، وألا تتعامل معهم على أنهم أدوات لتحقيق مصالحك وغاياتك، وأن تعمل بحيث يكون سلوكك نموذجًا لما ينبغي للسلوك الإنساني أن يكون عليه، أي أن تفعل الخير لأنه خير وفقًا لمعيار إنساني عام، لا معيار خاص، وأن تقول الحق وتنتصر له وفقًا لمعيار إنساني عام لما هو الحق، لا معيار خاص. ينجر عن ذلك إيثار المصلحة العامة والخير العام على المصلحة الخاصة والشخصية والخير الخاص والشخصي، فالمصالح الفردية والمصالح الخاصة عمياء دومًا، إن لم تستهد بالمصلحة العامة وتستنر بنورها. تتصل هذه القيم جميعًا بنوع العلاقة بين الحيوات الشخصية للأفراد، ذكورًا وإناثًا، وحياتهم النوعية العامة، أي الإنسانية التي لا تتحقق إلا في نطاق المجتمع المدني والدولة الوطنية والمؤسسات، وفي نطاق المجتمع الدولي والجماعة الإنسانية. العلاقة بين الحيوات الشخصية للأفراد وحياتهم النوعية العامة هي التي تحدد نوع العلاقة بين المجتمع المدني والدولة السياسية، فلا تكون الدولة السياسية وطنية حقًا ومملكة للقوانين العامة العادلة التي يتساوى أمامها المواطنات والمواطنون، بلا استثناء أو تمييز، إلا بقدر ما يكون المجتمع المدني فضاءً من الحرية.

الرؤية الثقافية واستراتيجية السلطة
يبين التطور التاريخي، في سورية، تبلور رؤيتين ثقافيتين يمكن وصفهما بالرؤية التقليدية والرؤية التحديثية، ويتعلق الوصف بالموقف من التراث واللغة والتاريخ، وكيفية التفكير والإدراك أو التمثل، وكيفية التقدير والتدبير أو العمل والتفاعل. ولما كانت الرؤية التحديثية أقرب إلى رؤية الدولة وسلطتها السياسية، وهي رؤية مركبة من عناصر غير متجانسة كما أشرنا، يمكن وصف هذه الرؤية بأنها رؤية أيديولوجية قوامها ماضويات ومستقبليات تناسب وضعية اجتماعية (طبقية) هشة وتطور رأسمالي طرفي وتابع، وإن بإهاب “اشتراكي” وسلطة كليانية تعمل بلا كلل من أجل السيطرة على الفضاء الاجتماعي برمته؛ متوسلةً بالنظام التعليمي والسلطة الثقافية الناعمة والإعلام والاقتصاد الموجّهين، ما وسم كلًا من النظام التعليمي والسلطة الثقافية بسمة أداتية وسلطوية فاقعة، وجعل الفكر ينحل في الأيديولوجيا والثقافة تتحول إلى إعلام ناقص وكاذب. الأيديولوجيا والإعلام ركنان أساسان من أركان البنية التسلطية أو الشمولية، والركن الثالث هو الجيش والبوليس السري، بحسب تحليل حنة أرندت وخلدون حسن النقيب وغيرهما.
إذ يجب التفريق بين الرؤية والاستراتيجية، فإن واقع الحال هو اندماج الرؤية والاستراتيجية الثقافيتين في استراتيجية السلطة والسلطة المضادة (المعارضة) التي يخضع الإنتاج الثقافي وكيفية توزيع موارده بين الفئات الاجتماعية لمعاييرها الحزبية والأمنية، وكذلك المنتوجات والمنتِجون. لذلك لم ينعكس ما سمي “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وهو اقتصاد امتيازات واحتكارات، على الحياة الثقافية؛ لأن حرية الثقافة لم تكن أساسه ولم تكن من العوامل الأساس التي دفعت إلى تبنيه، فلعله كان استجابة لمنطق العولمة واتفاق التجارة الحرة، لا حاجات الواقع السوري. هذا ما يقتضي استقلال الثقافة واستقلال المثقفات والمثقفين، واستقلال المؤسسات التثاقفية والتربوية والتعليمية عن السلطة السياسية وأيديولوجيتها، وإشاعة مناخ من حرية التفكير والتعبير وحرية الرأي والضمير، فلا تنمو الثقافة ولا تزدهر إلا في مناخ الحرية النسبية المقترنة بالمسؤولية عن مصير الإنسان والوطن، وهذه المسؤولية هي معنى نسبية الحرية وشرط تحققها في الواقع.
خلاصة القول: الوطنية صفة للدولة تدل على عموميتها، فلا يسوغ أن تكون صفة للشخص الطبيعي (زيد أو عمرو أو هند)، إلا عندما يوصف السوري من قبل غير السوري. هذا معنى القول: إن القومية صفة للدولة من خارجها. أما من داخلها، فتوصف بأنها دولة حق وقانون ومؤسسات، وإلا لا تكون دولة، بل سلطة اعتباطية فحسب. والشخص الوطني يساوي الشخص السوري، مهما كانت صفاته وأيًا كان اتجاهه وميله وتفضيلاته. اللاوطني هو فحسب من يجرد من جنسيته بحكم قضائي معلل وعادل أو من يجرد من الأهلية والحقوق المدنية والسياسية، بحكم قضائي معلل وعادل، وغالبًا ما يكون هذا من قبيل التعليق الموقت. إنه من غير المنطقي ومن غير الأخلاقي أن يصنف المواطنون وطنيين ولا وطنيين، بسبب اختلاف آرائهم ومواقفهم أو اختلاف مصالحهم وغاياتهم، والمواطنات كذلك بالطبع.
لا تبنى الوطنية على التكفير والتخوين، وهما وجهان لعملة واحدة ومؤسسان على مبدأ “الولاء والبراء”، عند الجماعات الإسلامية، ويقابله مبدأ “الالتزام الثوري” المجافي للحرية، عند الأحزاب العقائدية التي تصف نفسها ويصفها بعضنا بالعلمانية، وهي ليست كذلك لأن العقيدة هي العقيدة، دينيةً كانت أم غير دينية، من مثل العقيدة القومية أو الماركسية أو الليبرالية، وتقتضي ولاءً خالصًا لما نراه ومن نواليه، وبراءً خالصًا من المختلف وتصديقًا تامًا لما نرى أنه الحقيقة، وتكذيبًا تامًا لما يرى الآخر أنه الحقيقة، وقبولًا تامًا بادعاءات الذات ورفضًا تامًا لادعاءات الآخرين. لا شفاء من هذا المرض، إلا بحرية الفكر واستقلال الضمير ومساءلة الذات ونقدها، قبل مساءلة الآخرين ونقدهم.

مشاركة: