نحو مواطنة يحتاج إليها السوريون

أولًا: مدخل
ثانيًا: ما بين الوطنية والقومية
ثالثًا: اضمحلال مفهوم المواطنة في سورية
رابعًا: نحو مواطنة سورية ممكنة
خامسًا: خاتمة

أولًا: مدخل
يكتنف مفهوم المواطنة في سورية، كما مفهوم الشعب، كثير من اللبس وسطحية التحديد، لأن هناك الكثير من الكلام حول المواطنة والشعب في الدستور والقوانين والخطاب الرسمي، لكنها باهتة على المستوى الواقعي، فالكلمات فقدت مدلولاتها، والإنسان السوري لا يعدو أن يكون واحدًا من رعية، يتحكم فيها ذلك الراعي، الذي يحوز بالقوة كامل السلطة، وهو من يقرر الحقوق التي يتكرم بها على أفراد رعيته، غير آبه بالحديث عن الشرعية والحقوق وسلطة القانون.
ثمة مسيرة تزيد على قرن من الزمن، عانت منها محاولة بناء الدولة الوطنية الحديثة في سورية، بما تنطوي عليه من قيم حديثة، ومنها مفهوم المواطنة، من التعثر والإحباط، وحتى تلك الفواصل الزمنية القصيرة التي تقدمت بها تلك المحاولات، سرعان ما انتكست لعوامل كثيرة تاريخية واجتماعية، داخلية وخارجية، عبرت في الحصيلة النهائية التي نقف عندها، عن فشل ذريع للمشاريع النهضوية وللنخب الحداثية التي حملتها حتى الآن، ثم جاءت ثورة الحرية والكرامة لتكشف عن وطنية هشة لدرجة لم يكن هناك من يتوقعها، حيث طفت على السطح ولاءات وبنى ما قبل وطنية، على المستوى الداخلي، وعن تقبل للخارج وإدراجه في الصراع، وضعت أو تكاد مستقبل الكيان السوري تحت السؤال.
لقد بينت مسيرة تطور مفهوم المواطنة لدى الأمم الناجزة، وعلى اختلاف الطرق التي سلكتها تلك المسيرة، أن مفهوم المواطنة لا يمكن أن يوجد أو يأخذ شكله الواقعي خارج مفهوم الأمة، فحيث نكون أمام أمة ناجزة ومجتمع مندمج، يمكن أن تكون هناك مواطنة قابلة للتطور والرسوخ، وإلا فأي حديث عن المواطنة مهما كان مهمًا وضروريًا، فإنه سيبقى في إطار التنظير والتبشير، وهو غير كاف بطبيعة الحال، ومن هنا يمكن أن نفهم أن أحد أهم أسباب غياب مواطنة حقيقية في بلداننا، يكمن في أننا لم ننجز مشروع أمة بعد لا على المستوى الوطني، ولا على المستوى القومي، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا يدور حول الكيفية التي يمكن للسوريين من خلالها بناء وطنية سورية، جوهرها مواطنة واقعية محمية بقوة القانون، وبإرادة مجتمعية فاعلة.

ثانيًا: ما بين الوطنية والقومية
ذهب منظِّرو القومية العربية الأوائل المتأثرون بعصر القوميات الأوروبية وبالنظرية الألمانية للأمة بعيدًا في رومانسيتهم، التي لا تخلو من تعصب، أمثال ساطع الحصري وغيره، فقد طابقوا بين القومية والأمة، واعتبروها وحدة ناجزة بفعل التاريخ، وأن ما يعوق انتقالها من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، هو القوى الخارجية الطامعة، وسندهم العياني اتفاق سايكس-بيكو نهاية الحرب الكونية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية، الذي قسم الوطن العربي إلى دول زاد عددها على العشرين، وأبت النخب العربية الاعتراف به أمرًا واقعًا، وبدلًا من أن تتفرغ لبناء أوطانها الجديدة، ثم الانطلاق منها لتحقيق دولة الأمة القومية وفقًا للطريقة أو الطرائق، التي تسمح بها حقائق السياسات الدولية وتستطيعها القوى الذاتية، فإنها عمدت إلى عدّ هذه الوطنية “القطرية” واقعة مرفوضة نظريًا وموقّتة، في حين عملت أنظمة الأمر الواقع على تثبيتها واقعيًا بوصفها الحيز الجغرافي والمجتمعي، الذي يحافظ فيه كل من هذه الأنظمة، على اختلاف أيديولوجياتها وطبيعة نظمها السياسية، على إقطاعته التي يتحكم فيها، ولم تظهر النخب العربية أدنى اهتمام للتباينات في الثقافة أو درجة التطور أو الإمكانات، وضعف الاندماج القومي بل المجتمعي أيضًا بين قطر عربي وآخر، وبين المجموع القومي، ولا حتى للجغرافيا العربية المنبسطة والممتدة، التي لا تساعد في التوحيد، كما أنهم “تجاهلوا كليًا وجود أقليات قومية” وازنة تشاركهم الجغرافيا العربية، ولها خصوصيات تريد أخذها في الحسبان، وكلما زاد العرب في تجاهلها، كلما ازدادت إعاقتها للمشروع العربي. ومن جهة أخرى، هناك تباينات فكرية وسياسية انقسمت إليها النخب العربية، ما بين أيديولوجيا قومية لا تعترف بقوميات أخرى في الجغرافيا العربية، وأن هذه الأمة الخالدة هي منجزة، وما يمنع تحققها هو فحسب القوى الاستعمارية المعادية، التي زرعت إسرائيل في فلسطين، لتعوق عملية التوحيد العربي، وقد رأت أن الطريق البسماركي هو الطريق الأمثل، بل الوحيد لها، بما يعني تسخير كل الإمكانات لمواجهة القوى الاستعمارية، كما أنها بالغت في خطابها لأهمية ودور الدولة المركز وهي هنا مصر، واعتبرته دورًا محوريًا في عملية التوحيد القومي، وهذا يخالف ما بينته التجربة حتى الآن على الأقل، وأخرى ذات أيديولوجيا إسلامية ذات امتداد واسع في الطبقات الشعبية المتدينة، وهي إذ تشارك القوميين العرب في رؤيتهم للتاريخ العربي بأنه تاريخ ناجز بإرادة إلهية، وكل ما يعتريه من هزائم لا يعدو أن يكون مجرد عثرات طارئة، بحسب ما يقول عبد الله العروي، لكنها تختلف معه في نظرتها إلى مفهوم الأمة، فالأمة الإسلامية هي كل مجموعة بشرية تجاوزت الثلاثة أشخاص، وليست محددة في نطاق جغرافي معين، بل مفتوحة على مستوى العالم ورابطها الأساس هو الدين، أما النخبة الاشتراكية واليسارية بمروحتها الواسعة وانتشارها الضيق، فقد ركزت في مقاربتها لمفهوم الأمة على الحياة الاقتصادية المشتركة، والاقتصاد المركزي الموجه وهيمنة الطبقة العاملة، بغض النظر عن درجة تبلور هذه الطبقة ومدى وعيها لذاتها، وتقديمها التناقضات على المستوى الدولي على تناقضات الواقع الداخلي واستحقاقاته، أما النخب الليبرالية ونتيجة لطبيعتها الكمبرادورية وقصورها البنيوي، فقد خسرت معركتها في مواجهة النخب العسكرية والقومية، التي هيمنت على السلطة والقرار السياسي، في أغلب الدول العربية مع مرحلة الاستقلال، لكن الثابت والمؤلم هو أن هذه النخب على تنوعها، قد تشاركت في موقفها السلبي من الإنسان الذي تدعي تمثيله والنضال من أجله، عندما نظرت إليه بوصفه مجرد وسيلة أو وقودًا في صراعاتها الأيديولوجية، كما أن حصيلة صراعاتها على المستوى الداخلي، كانت أضعف من أن تشكل رافعة في خدمة مشروعها القومي المزعوم، وهكذا جرى التضحية بمفهوم الأمة، وتاليًا الوطنية والمواطنة على مذبح القومية.

نحو وطنية سورية
لقد فشل العرب في إنجاز مشروعهم القومي، وما زالوا قومًا مشتتين في دول كثيرة، ليس بينها نسق يعتد به، إذا لم نقل إنها تزداد تباعدًا، وتاليًا فشلوا في بناء أمة حديثة في دولة أمة “توحد الناس بوساطة روابط مدنية، قائمة على الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية لمواطنيها، وأن توجد تجانسًا من نوع ما بين الاختلافات القائمة على أساس قومي أو طبقي أو عرقي أو ثقافي أو ديني أو إقليمي”.
لقد بينت تجربة القرن الماضي، أن أكثر ما يعانيه الواقع العربي، والسوري عيِّنة نموذجية عنه، هو ضعف الاندماج المجتمعي، الأمر الذي حولنا إلى مجموعات بشرية حقيقة روابطها العشائرية أو الإثنية أو الجهوية أو الطائفية، أقوى بكثير من رابطها الوطني الجمعي، وينطبق عليها توصيف المجتمع الأهلي، كل جزء فيه حريص على خصوصيته، أكانت هذه الخصوصية ظاهرة أم كامنة، كما عانى مجتمعنا من تشتت الخطاب الذي تطلقه النخب ما بين الوطني والقومي، وعندما نضيف إلى ذلك ممارسات الأنظمة التسلطية التي عمقت الشروخ المجتمعية، بما يخدم ديمومتها وتحكمها في مجتمعاتها، فإنه يقودنا إلى مشروعية السؤال، حول ضرورة فك الربط الرغبوي ما بين الدولة القومية المتخيلة، والدولة الوطنية القابلة للتحقق وبنائها على أسس حديثة تستطيع التعبير عن أمة يوجد ما يجمع بين مكوناتها، مع العلم بأن مثل هذا الطرح يُتوقع له أن يثير الكثير من الاعتراضات والزوابع، من قبل أصحاب المشاريع العابرة للوطنية، كالمشروعين القومي والإسلامي، اللذين لا يريدان مراجعة تجربتهما، لكن المصلحة الوطنية تستدعي الخروج من هذه الحلقة المفرغة ما بين خطاب نخبوي حالم، وواقع قومي في حالة تراجع دائم، بخاصة بعد هذه التجربة المرّة التي عرت المجتمع السوري وحقيقة تفتته وانقساماته الأفقية والعمودية، بما يقودنا إلى حالة يقر فيها السوريون بأن سورية وطن نهائي لهم، ما يرتب عليهم العمل بجد وفاعلية، وبما يوحدهم وجودًا وهدفًا على المسار السياسي والاجتماعي والقانوني في إطار دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، دولة تجمعهم في ظلها خياراتهم الحرة، “يشكلون فيها مجتمعًا منفتحًا على التطور، وغير منغلق على خصوصياته الجزئية”، وهذا يتوقف على مقدار وعيهم لصعوبة هذه المهمة، ليس بحكم الإرث التاريخي الثقيل فحسب، ولكن لحجم التحديات السلبية التي أفرزتها العولمة، ألا وهي بروز الخصوصيات على مستوى العالم، وأيضًا رواج الخطاب الشعبوي المتطرف، الذي سيدفع لزعزعة الاستقرار العالمي، ويفتح الأبواب لحروب مدمرة.
لقد كان من الطبيعي أن تفرض العولمة على أصحاب المشاريع العابرة للوطنية، أن يعيدوا قراءة مشاريعهم في ضوء معطياتها واستحقاقاتها، الأمر الذي عجزت عنه النخب العربية صاحبة المشاريع الكبرى حتى الآن، لكنه سيبقى على جدول أعمال التاريخ، كما فرضت تواضع المشروع القومي إلى مستوى مشاريع وطنية بعديد دوله، بوصفه واقعًا جرى تجاهله طوال العقود الماضية، من دون أن يعني بالضرورة، نفي التنسيق والتعاون والتعاضد بين الشعوب العربية، في مواجهة التحديات والمعضلات التي تخصها.

ثالثًا: اضمحلال مفهوم المواطنة في سورية
بداهة، تعني المواطنة أن يتمتع الشخص بحقوق وواجبات، يمارسها في بقعة جغرافية محددة، ومعترف بها كعضو في المجتمع الدولي، تدعى بالدولة الوطنية أو الدولة القومية في حال تحققها وفي هذه الحالة “يتطابق الوطني والقومي”، وتستند إلى حكم القانون.
في دولة المواطنة “جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، ولا تمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو العرق أو النوع أو اللون أو الموقع الاجتماعي، والقانون الذي يخضع له الناس طوعيًا هو أداة تحقيق هذه المساواة وفرض النظام العام”.
في الدستور السوري، وبخاصة دستورا 1973 و2012، تضمن نصوصًا تبدو واضحة نحو المواطنة وحقوق المواطنين السوريين، الذين يشغلون حيزًا كبيرًا في الخطاب الرسمي، إلا أن هذين الدستورين بقيا من دون تطبيق، لأنهما يتعارضان ومصالح السلطة، التي وضعتهما وفرضتهما على الدولة والمجتمع، والسؤال الذي يطرح نفسه يتحدد، بالكيفية التي أعيقت المواطنة في سورية؟
في الإطار العام، فإن نظام البعث الذي استولى على السلطة بانقلاب 1963 العسكري، عمل كسابقيه من أنظمة الاستقلال، لكن بوتيرة مبالغ فيها، عندما رفض الواقع القطري نظريًا وعززه واقعيًا، ليس أدل على ذلك القطيعة، التي استمرت لأكثر من ثلاثين عامًا بين نظامي البعث في سورية والعراق، وبما أن النظام السوري حظي بدور وظيفي خارج حدوده، الأمر الذي سمح له بإهمال الداخل وقمعه بشكل شل كل نشاط اجتماعي من خلال تحكمه في مفاصل الدولة والمجتمع عبر الأجهزة الأمنية والحزبية والنقابات، فكثيرًا ما ردَّد الموالون له عن قناعة أو خوف مقولة إن النظام ناجح في سياسته الخارجية، متعثر في سياسته الداخلية، التي كانت مؤجلة إلى الأبد على ما بينت التجربة، فالنظام لم يمنع قيام دولة وطنية في سورية فحسب، بل إنه حطم ما كان قائمًا من روابط تجمع السوريين إما بالقمع أو الإفساد. كذلك فإن السلطة التي أكلت الدولة، تعاملت معهم على أساس جهوي أو عشائري أو طائفي، وهذا النهج شكل أكبر وأخطر إعاقة ممنهجة لقيام مواطنة فاعلة في هذا البلد.
وجريًا على العقلية التي تعامل بها البعث تجاه قضايا الدولة والأمة والشعب، من حيث هي مجرد مفردات تحضر بمقدار ما تستدعيه الضرورة، وهي هنا ضرورة استمرارية النظام لا غير، ولا يأبه مسؤولوه إلى الارتدادات والعواقب، التي قد تتركها مثل هذه التقلبات بالطروحات التي تأخذ صفة التكتيك وتغيب عنها الاستراتيجية بالمفهوم الوطني، ولعل ما صدر عن رأس النظام، ثم وزير أوقافه، يعبر عن هذا النهج. فرأس النظام في لقائه بفاعليات دينية من مختلف الطوائف في 4 كانون أول/ ديسمبر 2020، وتوظيفًا لأزمته البنيوية بعد هذا الصراع المدمر، الذي أوصل سورية إليه، وربما في محاولة استمالة التيارات الإسلامية قبيل موعد الانتخابات الرئاسة منتصف العام المقبل، قد هاجم وحاجج أصحاب الدعوات الفيسبوكية التي تستهدف عروبة سورية، بأنها ذات هوية سريانية أو آرامية أو فينيقية، وعلى إسلاميتها من خلال الهجوم على لغة القرآن وردها إلى السريانية، وليؤكد بأن سورية كهوية هي “عربية ومسلمة”، ثم تابع وزير أوقافه في خطبة جمعة له في أحد مساجد طرطوس، مكرِّرًا المقولات ذاتها حول هوية سورية العربية والإسلامية، وأن كل ماعدا ذلك “ضئيل وقليل”، ثم تبع ذلك ردود صاخبة صبت جام غضبها على وزير الأوقاف من ضمن نزعة أقلوية سواء بالمعنى الاثني أو السياسي، وهنا يمكن الوقوف عند هذا الهوس النخبوي عند السلطة وخارجها في القفز فوق حقائق التاريخ والجغرافيا، وتجاهل دور الإنسان الذي يمنح الجغرافيا هويتها وقيمتها، فسورية لكل السوريين الذين يعيشون على أرضها، ويشكلون فاعليتها على المستويات كافة، ومن ذا الذي يمتلك الجرأة والركون إلى هذا اليقين الوهمي بصفاء عرقه بعد مسيرة آلاف السنين للبشر، وحركتهم واختلاطهم بفعل الحروب أو الهجرات والتجارة، فالأمم الحديثة بنيت على تعاقدات ومصالح اجتماعية، ووضعت والتزمت القوانين التي تكفل ضمان سير هذه التعاقدات والمصالح، وليس ما يمكن أن يتوهموه عن ذواتهم، ويستدعونه من غاير التاريخ، وعلى من يدعون الحرص والحفاظ على سورية، وإخراجها من هذا المآل المؤلم، الذي أوصلها إليه النظام والتدخلات الدولية، مغادرة هذه الرؤى الأحادية أو الأيديولوجية أو العنصرية، وأن ينطلقوا من قاعدة واقعية، تقر بأن سورية دولة مثلها مثل كل دول العالم متعددة الهويات، فهي عربية وكردية وأشورية وفينيقية، وهي مسلمة ومسيحية، واليقين الوحيد الذي يسمح بانطلاقة بناءة نحو المستقبل هو الإنسان السوري المندمج والمنفتح على المستقبل في دولة مواطنة ودولة حق وقانون، وماعدا ذلك لا يعدو أن يكون أحلامًا.

غياب المشاركة السياسية
المشاركة السياسة عادة هي رائز المواطنة والانتماء إلى وطن، وهي مؤشر مهم يدل على كفاءة عمل النظام العام، وتجعل المواطنين يبذلون- بكامل الرضا- كل جهد من أجل تقدم وطنهم وإعلاء شأنه على المستوى الدولي، والمشاركة السياسية يعبر عنها واقعيًا، من خلال اهتمام الفرد بالشأن العام وتقديمه الصوت الانتخابي، والاستعداد لإشغال المواقع السياسية بحسب قدرته، وبقدر تفويض الناخبين له، هذه المشاركة السياسية جرى خنقها من خلال تجفيف الحقل السياسي، وملاحقة ناشطي المعارضة، وزجهم في السجون سنوات مديدة، تستفز المنطق نظرًا إلى المبالغة فيها، والغاية منها كانت تأديب كل من يفكر في الاقتراب من حقل المعارضة، إلا بما يسمح به النظام كمعارضة كاريكاتيرية أو ديكور في أحسن الأحوال وفقًا لما حددته المادة 8 من دستور 1973. فالنظام الاستبدادي لا يستوعب وجود أحزاب ومعارضة، يمكن أن تقف حدًا على تفرده بالسلطة، أو تسعى لمشاركته فيها، فعلى سبيل المثال اشترط عبد الناصر لقبوله الوحدة مع سورية عام 1958 حل الأحزاب السياسية، كما فعل في مصر، مع التنويه أنه كان في سورية حراك سياسي فاعل، يدلل عليه أن بيان الأحزاب السياسية التي اجتمعت في حمص عام 1954 أدت إلى سقوط دكتاتورية الشيشكلي، ثم تابع البعث بعد انقلاب 1963 النهج ذاته، وكبل الحركة السياسية عبر إعلانه الأحكام العرفية وقانون الطوارئ اللذين استمرا 49 عامًا، وعندما ألغيا في دستور 2012، استبدلا بقانون الإرهاب الأشد سوءًا، وفي السياق ذاته أحدث النظام عدة محاكم استثنائية لا يحدها قانون، كان أسوأها محكمة أمن الدولة والمحكمة الميدانية، اللتين أصدرتا أحكامًا بالإعدام على آلاف الأشخاص لأسباب سياسية، يضاف إليهما المحكمة العسكرية، التي امتد عملها إلى النشاط المدني السياسي، على عكس ما يدل عليه اسمها، هذا عدا أن النشاط السياسي المعارض ملاحق بالأجهزة الأمنية والحزب والنقابات المهنية، التي جرى الاستيلاء عليها بشكل نهائي بعد بيان النقابات عام 1980.
مجمل إجراءات السلطة على مدى عقود، جعلت عمل المعارضة محفوفًا بالمخاطر، وكلفتها أثمانًا لا تتناسب مع انجازاتها المتواضعة على المستوى السياسي، لكن ربما كانت عظيمة بالمعنى الأخلاقي، وهذا النهج السلطوي، جعل المشاركة السياسية في أدنى درجاتها، وخلق حالة عزوف وسلبية، بخاصة بين الفئات العمرية الشابة.

ج- غياب دور القانون
في مسيرة التطور البشري، تطور القانون ليؤدي أهم وظيفة له، ألا وهي حماية حقوق الناس وضمان المساواة في ما بينهم، لكن عندما تضمحل هذه الوظيفة، لسبب أساسي بأن يصبح القانون، وكل ما يسن من تشريعات في خدمة الفئة المتسلطة، التي صاغتها أو فرضتها، يفقد القانون هيبته وثقة الناس به، سواء عبروا عن استيائهم من التجاوز على حقوقهم، أم سكتوا خوفًا أو نفاقًا، وربما هذه من أكبر المصائب.
في الدولة الحديثة يضمن القانون حق المواطنة لأفراد شعبها وحملة جنسيتها، وهي تتضمن حقوقًا سياسية واقتصادية واجتماعية ومدنية، وهذه عادة تكون مكفولة بالدستور، فالسياسية منها تشمل الحق في الاجتماع والتنظيم والمشاركة السياسية والترشح والانتحاب، وتشمل المدنية الحريات الشخصية واحترام الخصوصية، والحق في التعبير والوصول إلى المعلومة، عدا عن حرية الاعتقاد، في حين أن الحقوق الاقتصادية لا تقتصر على حق التملك والعمل بأجور عادلة، بل أيضًا حق التنعم بالثروة الوطنية على قدم المساواة مع الآخرين.
في العقود الستة الأخيرة اضمحل بشكل تدريجي دور القانون في حياة السوريين، إن لم نقل إنه غاب، ولم يعد هناك من ثقة فيه، ما أدى إلى تعميم الشخصانية والأنانية والتملق، والاندراج في منظومة الفساد لمن يريد ويجد مدخلًا، وكلما تعمقت هذه الحالة، كلما ازدادت السلبية، وتوسعت مساحة الفوضى.

رابعًا: نحو مواطنة سورية ممكنة
يمكن بقدر كبير من الصحة وصف عالم اليوم بأنه عالم الدول، وأن تكون الدولة حديثة بحكم السلم الزمني، لا يعني أبدًا أنها دولة مواطنة، فهناك دول حديثة توصف بأنها دول شمولية أو دكتاتورية او استبدادية، متقدمة أو متخلفة أو فاشلة، وكما ذكر سابقًا، بأن المواطنة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الأمة، وحيث لا نكون أمام أمة، فلن نكون أمام دولة مواطنة، وهذا ينطبق على الدولة السورية، التي ولدت في عهد الاحتلال الفرنسي، حيث اقترح أول دستور عام 1928 من قبل الجمعية التأسيسية السورية وصدر عام 1930، ثم وجدت الأحزاب السياسية الحديثة ابتداء من العام 1932، حيث كانت تدعى قبل ذلك جمعيات وروابط وحركات، كما تم بناء المؤسسات الإدارية والقضائية، التي تمثل الدولة من حيث هي تعبير عن العمومية الوطنية لمجموع السوريين، من دون أن يعني ذلك أن هذه المسيرة كانت مثالية، فهي مسيرة نمت في ظل الاحتلال. نعم لقد حاز السوريون دولة، تحولت مع الزمن على قصره إلى دولة استبدادية، ليس فحسب بسبب الإرث التاريخي الثقيل لمجتمعاتنا، بل أيضا بقرار سياسي وعنفي، اتخذته النخب العسكرية، التي سيطرت على سلطة القرار وعلى الدولة، وطابقت بين سلطتها والدولة، ومنعت تطور هذه الدولة إلى دولة مواطنة لكل مواطنيها، بل على العكس عمقت الشروخ المجتمعية، وشجعت العلاقات ما قبل وطنية، ورسخت المجتمع الأهلي، على حساب المجتمع المدني الذي كان مفترضًا به أن يتطور، على الأقل بحكم التطور العالمي بعد الحرب الكونية الثانية، فعندما تيقن الإنسان السوري بالتجربة العيانية، أن هذه الدولة لم تعد دولته، سوى أنه يحمل جنسيتها، بل هي دولة العسكر المتحكمين فيها وفيه، بغض النظر عما يبثه إعلامها الرسمي، فإنه لاذ مكرهًا عن وعي أو من دونه، إلى مجتمعه الأهلي الصغير عشيرة أو طائفة أو عائلة أو حارة وهكذا، لأنه بات يفتقد للحماية وشبكة الأمان التي يحتاج إليها.
تجربة السنوات الماضية المرّة، والتي كلفت الشعب السوري الذي ثار من أجل حريته وكرامته كثيرًا، عرت حقيقتين لا تقلان مرارة، ويتحمل النظام الاستبدادي المسؤولية التاريخية ببعديها السياسي والأخلاقي عنهما، أولاهما انكشاف حجم الانهيار والتصدع المجتمعي، الذي وصلت إليه الروابط المجتمعية بين السوريين، وتحولهم عمليًا إلى جماعات فرضت الجغرافيا تجاورها، ومنع التاريخ اندماجها حتى الآن، ليس أدل على ذلك من انفلات التوحش والقتل والتشبيح والتعفيش بينهم، وثانيهما أن النظام قدم استمرارية تحكمه وبقائه على مصلحة البلاد والعباد، مستفيدًا من دوره الوظيفي والخدمات التي أداها طوال العقود الماضية، فدوَّل الصراع عندما عجز عن ضبطه والسيطرة عليه، واستدعى التدخلات الخارجية، التي تحولت بحكم الأمر الواقع ومنطق العلاقات الدولية، التي تحكمها المصالح والبحث عن مناطق النفوذ إلى دول احتلال متصارعة، جعلت من دماء السوريين وعمرانهم وانجازاتهم وقودًا لهذه الصراعات، بشكل وضع مستقبل الكيان السوري برمته تحت السؤال.
من الواضح أن الدول المتدخلة في الصراع السوري والمؤثرة فيه، لا تريد انفراط عقد الكيان السوري، ولم تظهر أي مؤشرات حقيقية على ذلك، وهذا جيد على الرغم من المكر في السياسات الدولية، التي تدفع باتجاهه، لأنه يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، ومنها ضمان الأمن القومي لإسرائيل، وللسوريين مصلحة حقيقية في ذلك، لأنه سيوفر عليهم عبء إعادة بناء دولة، ذلك أن بناء الدول أصعب بما لا يقاس من عملية تحطيمها، والمثالان العراقي والصومالي ماثلان في الأذهان، وسيضع السوريين مباشرة أمام تحدي بناء الأمة السورية، كي تصبح سورية دولة أمة أو دولة مواطنة، على الرغم من أنه سيكون استحقاقًا ليس من السهل تحقيقه، يتطلب جهدًا نظريًا وعمليًا، سوف يستغرق اختباره زمنًا ليس بالقصير ولا بالهين، لكنه تحدٍّ يستحق من السوريين خوض غماره والانتصار على واقعهم، الذي وضعوا فيه بإرادة دولية ظالمة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، يدور حول الكيفية التي يمكن أن تخاض بها معركة بناء دولة مواطنة في سورية؟، وهذه القراءة النظرية لحقائق الواقع السوري، تحاول تلمس الطريق نحو هدفها، وتذليل الصعوبات عبر تحديدها ثم تفكيكها.
تحديد النموذج أو الطريقة
يحدِّد ريتشارد مينش في كتابه المواطنة والأمة في عصر العولمة أربعة نماذج ناجحة لدولة مواطنة، والقوى والفكرة التي قامت بواسطتها وعليها، “ففي بريطانيا كان المجتمع المدني هو رافعة عملية الدمج الاجتماعي، التي أفضت إلى بناء دولة الأمة أو دولة المواطنة البريطانية، أما في فرنسا فكانت الدولة هي الرافعة، في حين تكفًل السوق بهذه المهمة في الولايات المتحدة الأميركية، أما في ألمانيا فقد لعب القانون دور الأداة الناجحة”. لكن أي من هذه النماذج يمكن أن يملك قابلية لتحقيق هذا الهدف في سورية؟
لقد حقق النموذج الأميركي أكبر وأنجح عملية دمج اجتماعي لمجتمع مهاجرين متعدد الثقافات في تاريخ الدول، فالمعروف أن الولايات المتحدة تكونت منذ عهد ليس بالبعيد من خلال الهجرات للباحثين عن الثراء في العالم الجديد، أو ممن هجروا لخدمة هذا الثراء، ثم باتت بحكم نموذجها الناجح مقصدًا لمختلف الجنسيات، فـ “االمفهوم الأميركي عن الأمة يتحدَّد بأنه اتحاد طوعي بين بشر من مختلف أصقاع الأرض، واتحادهم في نمط اندماجي يوفره السوق، الذي أنتج علاقة مميزة بين الانفتاح والتوسع في الاقتصاد الخارجي وضعف الاحتواء الداخلي، بحيث أن المشاركة الحقيقية في الحياة الاجتماعية مرهونة بتحقيق منجزات على صعيد المنافسة”. لقد قدمت الولايات المتحدة نموذجًا للدمج الاجتماعي، يقرن الإقصاء الخارجي باحتواء داخلي محدود، أي لا مساواة داخلية أكبر في تحقيق الإنجازات على عكس دول الرفاه الأوروبية، التي قرنت الدمج الداخلي القوي بمساواة أكثر واقعية بكثير بإقصاء خارجي، إلى درجة أن شبكة الفاعلين الأميركيين العاملين في مجال سياسات الدمج، عملت بتعدد كبير في المستويات والميادين، كما لو أن الدمج يصبح ساحة معركة متعددة المستويات والحقول لتحسين الحقوق والمصالح”، كما كان هناك نقطة أخرى تميز “الاندماج المجتمعي الأميركي المتخطي للحدود القومية والعرقية، بأنه تشكل بوصفه عملية علاقات فردية ضمن شبكات، وليس بوصفه عملية بناء دولة ما فوق قومية”. فالفاعلية المجتمعية الأميركية وفرتها كمية الفاعلين في الأحداث، الذين يمارسون نشاطهم من خلال منظمات مجتمعية “كونفرنس منظمات”، وبالمجمل فإن سياسة الدمج الأميركية قامت على ثلاث خطوات أساسية (1- وعاء الصهر، 2- فكرة التعددية الثقافية، 3- فكرة التعايش بين الثقافات).
أما النموذج الألماني، فقد قامت فكرة الأمة فيه على أنها فكرة “الثقافة”، تمييزًا لها عن فكرة الدولة الغربية، ولعبت عملية إحياء اللغة دورًا أساسيًا في هذا السياق على يد النخبة الألمانية، بحكم أن اللغة هي وعاء الثقافة المشتركة بين الألمان، لدرجة يمكن القول معها “إن المفكرين الألمان اخترعوا أمة قبل أن توجد واقعيًا، اعتمادًا على أن التربية بلغتها وثقافتها هي الوسيلة الأساسية في إيجاد الإحساس المطابق للانتماء إلى القومية الألمانية”، ومع الأخذ في الحسبان الشرط التاريخي، الذي توحدت فيه ألمانيا، ووفر الشرعية التاريخية لدولة الأمة الألمانية، فإن الألمان أولوا القانون احترامًا ومكانة كبيرين، كما كانوا الأكثر قبولًا للأجانب ودمجهم في المجتمع الألماني قياسًا ببقية الدول الأوروبية، والأكثر انفتاحًا وتفاعلًا مع الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عدّهم العرق الجرماني مكونًا من مكونات نظريتهم في الأمة.
في إنكلترا “اتحدت الأرستقراطية والطبقة الوسطى ضد استبداد الملكية، وبذلك شكلتا رافعة القومية ومن اتحادهما انبثق مجتمع المواطنين، ولاحقًا في بريطانيا العظمى تطورت القومية الإنكليزية في سياق إدراج قطاعات أوسع فأوسع من السكان في المجتمع السياسي من حقوق متساوية في الحياة الاجتماعية، كما جرى تقليص التباين الطبقي بوصفه عملية إدراج للطبقة العاملة في المحاصصة المنصفة للثروة والسلطة”، إلا أن الظروف التي توحدت فيها بريطانيا أبقت على الدوام الهوية القومية الصاعدة في حالة تأرجح حتى الآن، لعب الصراع مع المنافسين الآخرين دورًا في تماسكها، كما ساهم الاستعمار الخارجي جزئيًا في حل مشكلة الطبقة العاملة.
في تتبع التطور التاريخي للهوية القومية البريطانية، “يمكن رصد تراجع سطوة الملكية تدريجًا في محطات تاريخية، كان آخرها عام 1689 حين حصر البرلمان دور التاج بالتمثيل الرمزي للأمة”، وقدم الفلاسفة الفكرة التشريعية القائلة: “إن جذر السلطة السياسية وأسسها قائمة في مجتمع المواطنين، الذي انبثق من أفراد مستقلين يخلون طواعية في عقد (هوبز)، يصبح معها نقل السلطة إلى مرجعية سياسية مسؤولة أمرًا لا مناص منه”.
في فرنسا “تكونت الأمة وفقًا لنظرية العقد الاجتماعي لروسو، التي قامت على فكرة دمج مواطنين أحرار ذوي حقوق متساوية”، وقد بني الفهم السياسي للهوية القومية الفرنسية، التي لم تعر للأصل أي قيمة على بندين “أولهما يقر بأن العضوية في مجتمع الدولة كمواطن فرد ومستقل بصرف النظر عن الأصل، وثانيهما الكفاح من أجل هدف مجتمعي عام”، فالإرادة العامة بحسب روسو تجد تعبيرها في جماع الشعب.
ليس من الضروري أن تمرّ الشعوب بالمراحل نفسها التي مرت بها شعوب سبقتها اعتمادًا على فكرة التمثل الواقعي، لكن بالقدر نفسه لا يجوز الانجرار وراء إرادوية قد تكون قاتلة عبر تبني خيار حرق المراحل. لذلك، من المفيد للسوريين أن يبنوا مواطنيتهم على نموذج أو مزيج من عدة نماذج، تكون قابلة للتطبيق في الواقع السوري، وتعقيداته بأقل قدر من الصعوبات والعراقيل.
يتضح من النموذج الأميركي الناجح أن هناك ثمة فروقات جذرية بين الواقعين الأميركي والسوري في سياق تطورهما التاريخي، تجعل عملية الاقتداء بهذا النموذج، غير واقعية وغير مضمونة النجاح، فالسوريون ليسوا مجتمع مهاجرين، يستدعي العمل على دمجهم، بل على العكس أصبح نصف الشعب السوري مهجرًا بفعل الحرب، التي شنها النظام وحلفاؤه على الشعب السوري، الأمر الذي يطرح تحدي إعادتهم أو إعادة القسم الأكبر منهم. كما أن المجتمع السوري لا يعاني مشكلة تعدد عرقي أو ثقافي، فالجميع يعيش بحكم التاريخ في مناخ ثقافة إسلامية. لدينا مشكلة تعدد ديني وطائفي ومشكلة تباين محدود في أنماط العيش والإنتاج ما بين المدينة والريف والبداوة أو نصف البداوة، والأهم أن مساهمة الاقتصاد السوي في دورة الاقتصاد العالمي لا تكاد تذكر، ومن ثمّ، فإن دورنا في مسيرة العولمة، لا يتعدى دور الانفعال، وكان على العموم بدوافع أيديولوجية انفعالًا سلبيًا. أما النموذج الألماني فقد فاتتنا فرصة الإفادة منه نظرًا إلى اختلاف الشروط التاريخية، لتكون كل من الكيانين الألماني والسوري.
على الرغم من حالة التشتت التي يعانيها المجتمع السوري، وبحكم أن العلاقات بين مكوناته ينطبق عليها توصيف مجتمع أهلي، تطفو إلى سطحه عينات غير فاعلة عن مجتمع مدني، كالنقابات أو الأحزاب وبعض الجمعيات والمنظمات، فإنه يمكن المراهنة على اعتماد مزيج من نموذج المجتمع المدني البريطاني ونموذج العقد الاجتماعي الفرنسي، ويبقى السؤال الأساس ما المرتكزات التي يمكن أن تساهم في ترجيح نجاح هذه المراهنة في سبيل بناء مواطنة في دولة أمة في سورية؟

مرتكزات بناء مواطنة سورية
ب-1- إعلاء فكرة التنظيم الاجتماعي
لعل من أهم عوامل قوة الدول وتماسكها هو درجة تنظيمها وانتظامها الاجتماعي، فالأمم المنظمة هي بالضرورة أمم قوية وذات قابلية عالية للتطور، فمن المهم والضروري لمجتمع كالمجتمع السوري، أن يخرج من حالة الانكفاء، التي فرضها الاستبداد والانخراط في كل أشكال التنظيم التي تؤطر وتطور العمل الجماعي، مهنيًا كان أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو حقوقيًا في منظمات وروابط، يعترف بها وينظم عملها القانون العام، بحيث تؤمن للفرد الإلمام والوعي بحقوقه، وآلية تحصيلها ضمن عمل جماعي منظم. ومن نافل القول إنه على النخب السورية الصاعدة، أن تلعب الدور الريادي في دفع كل سوري، للانخراط في الشأن العام من أي مستوى أو باب يختاره، بحيث يكتسب خبرة وحماية من خلال هذه المنظمات أو الروابط الاجتماعية العابرة للطوائف والجهويات، التي تزيد من تلاحم السوريين، وتخليهم التدريجي عن جزء من هوياتهم الخاصة على تنوعها لصالح هوية وطنية عمومية تجمعهم، وتشكل لهم شبكة حماية مجتمعية ضامنة، وهكذا في حال توافر مناخ استقرار وحرية العمل وإرادة للعمل، فسوف نكون أمام عملية تطور تدريجي لمجتمع مدني فاعل، يشكل تعبيرًا واقعيًا عن درجة التنظيم الاجتماعي المطلوب.
ب-2- تفعيل المشاركة السياسية
تشكل المشاركة السياسية، والانخراط في الشأن العام تعبيرًا واعيًا عن الفاعلية المجتمعية، ليس بصفتها حقًا لا يجوز التنازل عنه، بل واجبًا يجب الاندفاع لتلبيته، وبمقدار ما يكفل القانون العام، حق التنظيم وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وحرية الصحافة والإعلام في مناخ ديمقراطي، تزداد المشاركة السياسية، وتزداد معها الأحزاب والبرامج السياسية، وتتنافس على كسب ثقة المواطن الناخب، وتخضع لمحاسبته من ضمن آليات العملية الديمقراطية. كذلك، إن تعميم ثقافة الحوار، واحترام الرأي والرأي الآخر، تعدّ آليات فاعلة في تنمية المشاركة السياسية، وربما من المفيد التذكير بربيع دمشق مطلع الألفية وظاهرة المنتديات، التي عمًت كل المدن السورية بشكليها المنظم وشبه المنظم، ما دلَّل حينذاك على حيوية سورية كامنة تنتظر المناخ الملائم، سرعان ما عمل النظام إلى قمعها.
تكفل المشاركة للمواطن الفرد حق الانتخاب والترشح وتبوّء المسؤولية، التي تؤهلها له قدراته ومهاراته وثقة الناخبين به، وبمقدار ما تتوسع شبكة الناشطين السياسيين، بمقدار ما نكون أمام حيوية مجتمعية واعدة، بحكم أن السياسة هي تكثيف أعلى لمجمل النشاط والمعارف البشرية.
ب-3- احترام القيم الحديثة
لعل من أهم القيم الواجب تعزيزها في دولة المواطنة، أو في الطريق إليها، هي احترام القانون، لأن القانون هو المظلة الوحيدة، التي تطمئن المواطن الفرد، بأنه محمي من التجاوز على حقوقه المنصوص عنها، بمقدار ما يكون هذا القانون عموميًا، وساريًا على الحاكم والمحكوم، في إطار دولة حق وقانون، وعندها تتلاشى ثقافة الخوف والتزلف والنفاق والأنانية، ولا تقل ثقافة تعميم احترام قيمة العمل والوقت عن قيمة القانون، فهذه تجعل الفرد، يشعر ويفتخر بقيمته الإنسانية، بصفته فاعلًا في مجتمع منتج، وليس فردًا عاجزًا اتكاليًا وسلبيًا.
ب-4- التنمية الشاملة المستدامة
من الضروري لاستقرار المجتمعات، أن تحظى بتنمية شاملة محورها وهدفها الإنسان قبل أي شيء آخر، تغطي التعليم والصحة والخدمات والإنتاج، والاستثمار المجدي للثروة الوطنية والثروات الطبيعية المتاحة، بما يؤدي إلى توسع ورسوخ الطبقة الوسطى، لأنها معيار استقرار أي مجتمع، فكلما توسعت هذه الطبقة، كلما دلت على استقرار اجتماعي، يفتح أبواب التطور أمام الكل الاجتماعي، كما يدلل على عدالة اجتماعية نسبية، لكنها مقبولة، ذلك أن سياسات الإفقار والإفساد وغياب الخدمات أو تدنيها، يعوق حركة المجتمع نحو حياة ديمقراطية مستقرة، ويدخله في متاهات التأكّل الداخلي، الذي يولد الشقاق، ثم العنف، خدمة للطبقات المتنفذة. فالديمقراطية ابنة البحبوحة وليست ابنة الإفقار والشعارات والأكاذيب، والإنسان غير المطمئن على حياته وأمنه وسبل عيشه واحترام كينونته، هو بالضرورة إنسان منكفئ وسلبي، وعندها يصبح التحدي الأكبر أمام الفاعلين الاجتماعيين أو السياسيين، هو إخراجه من هذه الحالة، وزجه في معمعة حركة التغيير المنشود نحو دولة أمة، دولة مواطنة.

خامسًا: خاتمة
يأخذ الحديث حول المواطنة ودولة المواطنة في بلدنا على الأغلب بعدًا نظريًا، كون هذا الهدف ما زال هدفًا، لكن الناس أصبحوا يدركون أهميته لهذه الدرجة أو تلك، بحكم تجربتهم المرة مع الاستبداد، وبحكم التطور العالمي وثورة المعلومات والاتصالات، التي حولت الكوكب إلى قرية صغيرة، وسمحت بتعميم الوعي حول الأزمات التي يعانيها عالم اليوم، وعلى الأخص منها حقوق الإنسان، وعلى الرغم من النكسات التي يلاقيها من حيف وتجاوز، يصل إلى حدّ الجريمة المنظمة أحيانًا، إلا أنه يُعدّ منجزًا عالميًا يدفع شعوب الأرض لتمثله.
الحديث النظري على أهميته لا يغني عن التجربة العيانية، التي يمكن إسنادها وإغناؤها بالمقدمات والاستنتاجات الضرورية، بغية تركيز العمل، وتبديد اللبس والتشويش، الذي ساد التجربة السورية في العقود الماضية، ومن هذه المقدمات:
المواطنة ابنة دولة الأمة، وحتى نستطيع بناء أمة لا بدّ من فك الرابط الرغبوي ما بين القومي والوطني، وأن يقر السوريون بأن سورية وطنهم النهائي، وهذا يرتب الانطلاق من الواقع السوري، بكل مكوناته والاعتراف بحقيقته وحقوقه، في إطار وحدته الجغرافية والبشرية.
بناء دولة الأمة ليس أمرًا يسيرًا يمكن أن يتم بقرار، إنه عمل دؤوب وتراكمي قد يمتد زمنًا طويلًا، وكلما ازداد عدد الفاعلين في هذا الاتجاه، كلما قصرت مسافة الهدف، كذلك بمقدار ما ينمو وعي الأفراد والجماعات، بضرورة التخلي عن بعض هوياتهم الخاصة، لصالح هوية عمومية تجمعهم، كلما قصرت مسافة الوصول إلى الهدف.
يمكن الترجيح أنه، بعد توقف الصراع، فإن كل جماعة وكل سوري سوف يقف أمام نفسه سرًا أو علنًا، ويراجع كمية الأوهام والأضاليل التاريخية منها، أم المحدثة بفعل الاستبداد، والتي كلفت السوريين أثمانًا باهظة، كان يمكن استثمارها في تطوير بلدهم، وهذه المراجعات، قد تفتح أفقًا واعدًا وجديدًا للإجماع السوري.

مشاركة: