مساهمة في الحوار حول الوطنية السورية

ملخص
انطلقت الدراسة من سؤال رئيس هو: ما التحديات التي أعاقت ولادة الدولة الوطنية السورية؟
تكمن أهمية الدراسة في أهمية مسألة الوطنية السورية بذاتها، وارتباطها بالهوية الوطنية السورية، فضلًا عن أصالة البحث في جذور الوطنية السورية، وفي التحديات التي حالت دون قيامها، وبحث علاقتها بالثورة السورية ومتطلبات قيامها.
فرضية الدراسة: يبقى فضل الثورة السورية في إحياء حق السوريين ببناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية–تعددية، عبر طريق أصيل قد لا يشبه طريق الدول-الأمم الأوروبية، تصون هوياتهم الفرعية عبر هوية مواطنة تعددية نهائية.
اتبع الباحث منهجية الدراسات النظرية- المكتبية، المعهودة من خلال قراءة الوقائع التاريخية المتعلقة بالموضوع المطروح في المراجع والوثائق المتاحة المعنية بالتاريخ السوري خلال مئة عام وبلوغ الاستنتاجات حول المسألة المطروحة.
النتائج: تم التوقف عند عدد من المحطات التي كانت تمثل وعدًا بقيام الدولة الوطنية، وبخاصة إعلان قيام المملكة السورية في 8 آذار/ مارس 1920، في مقابل الوقوف عند أبرز تحديات قيامها بداية على يد سلطة الانتداب الفرنسي من خلال محاربة العوامل الموحدة للسوريين، واعتماد مبدأ التقسيم، والعبث بالمكونات السورية المختلفة، وتحويلها من إمكانية تطويرية إلى مشكلة حقيقية، وأخيرًا فشلها في إقامة سوق رأسمالي موحد في سورية.
فضلًا عن التحديات المتمثلة بـ “التناقض بين الجغرافيا المتخيلة، والواقعية لسورية من جهة، وبينهما وبين الولاء السياسي من جهة أخرى”.
وأخيرًا جرى تحليل لآثار تفرد حزب البعث في إدارة البلاد، واعتماده الأيديولوجيا القومية العربية المتشددة لإدارة الدولة والمجتمع.
مثَلت الثورة في 2011 إمكانية واقعية لإقامة الدولة الوطنية ذات الطابع الديمقراطي. ولكن الصراع ما زال محتدمًا ومآلاته مفتوحة على احتمالات عديدة. يمكن لوحدة القوى الوطنية السورية أن تخفف من ترجيح الاحتمالات الأشد سوءًا على مستقبل بلدهم.

أولًا: مقدمة
مع شعار “الشعب السوري واحد” في آذار/ مارس 2011 بدأ النقاش حول مسألة “الوطنية السورية”. فقد كان من أكثر الشعارات الموحدة للسوريين، وكأنه جاء معبّرًا عن “ولادة ملامح هوية وطنية سورية تعددية تتبلور ديمقراطيًا من خلال مناهضة الاستبداد” أو ربما كان تعبيرًا عن رغبة الشباب في استحضار وطنيتهم المفقودة، وقد راهنوا على مغزاها الموحد لهم.
وعلى الرغم من تعطل سيرورة الثورة على مدى عشر سنوات تقريبًا، ما زال شعار الوطنية السورية حاضرًا بقوة بين أوساط المثقفين والناشطين والسياسيين السوريين بوصفه يمثل مهمة كبرى لا يمكن إزاحتها أو تنحيتها جانبًا. فقد أصدرَ عددٌ من المفكرين السوريين مُسودة ورقة حملت عنوان “في الوطنية السورية”، تضمنت خلاصة أفكارهم بشأن سورية، بوصفها وطنًا مفترضًا يتطلب العمل على تحقيقه، وقد تفاعل مع هذه الدعوة عدد من المفكرين والمثقفين الذين ساهموا في النقاش المُثمر.
حظيت بعض المقولات والمفاهيم بحصة مهمة من النقاش والجدل الدائر أذكر منها على سبيل المثال: العلاقة بين الهوية الوطنية السورية وباقي مستويات الهوية أو الهويات، أكانت فوق وطنية، أو ما دونها…الخ
ثانيًا: أسئلة الدراسة
السؤال الرئيس: ما التحديات التي أعاقت ولادة الوطنية السورية؟
ويتفرع عن السؤال المذكور جملة من الأسئلة الفرعية من مثل:

  • هل يمتلك السوريون حق النقاش في الوطنية السورية، بمعنى هل للوطنية السورية جذور في تاريخ بلدهم وجغرافيته؟
  • لماذا لم يكتمل نمو الوطنية السورية؟ ما دور الانتداب الفرنسي في إعاقة نمو الوطنية السورية؟
  • ما دور الاستبداد في إعاقة نمو الوطنية؟
    هل كان للتركيب المتنوع الأعراق والديانات والمذاهب أثر ما في منع بلورة الهوية الوطنية؟
    ⦁ ما شروط ومتطلبات قيام الوطنية السورية في المستقبل؟ 
    ثالثًا: أهمية الدراسة: تنبع أهمية البحث في مسألة الوطنية السورية وتعرفها من أهمية الهوية الوطنية للسوريين، فالهوية هي الرابطة التي تجمعهم، ومن خلالها يميزون ذاتهم كسوريين عن باقي الهويات، إنها الرابطة التي تجمع السوريين على مختلف مكوناتهم الثقافية: الإثنية والدينية، وهي الشرط اللازم كي ينجح السوريون من الانخراط الناضج في عالم يزداد انفتاحًا وتقاربًا ويتجه نحو الهوية العالمية. 
    فضلًا عن أصالة وجدّة البحث في جذور الوطنية السورية، وفي التحديات التي حالت دون قيامها، وبحث علاقتها بالثورة السورية ومتطلبات قيامها.
    رابعًا: فرضية الدراسة: من فضائل الثورة السورية إحياء فكرة الهوية السورية، ووضعها في مركزها الملائم بين زحمة الهويات المؤسسة على أيديولوجيات فوق وطنية، وهويات ما تحتها.
    وعلى مآلات الثورة، ومصيرها سوف تتوقف مسألة قيام الوطنية السورية ذات الطابع الديمقراطي – التعددي الأكثر ملائمة وقدرة على تأمين دخول البلاد في أفاق الحداثة، عبر طريق أصيل قد لا يشبه طريق الدول – الأمم الأوروبية.
    خامسًا- منهجية الدراسة: إنها من نوع الدراسات النظرية- المكتبية، يتبنى الباحث لإجرائها المنهج المادي التاريخي في قراءة الوقائع التاريخية وبلوغ الاستنتاجات حول المسألة المطروحة، والتي توفرها مجموعة من الوثائق والمراجع المتاحة عن الموضوع.

1- ما الوطنية؟
الوطنية هي تلك الرابطة الوجدانية بين أفراد الجماعة الإنسانية والوطن/ الموئل الذي يقيمون فيه، وتُعدُّ مشاعر الانتماء إحدى أهم تعبيرات الوطنية. وكأية عاطفة إنسانية تولد الوطنية عاطفة فردية، سرعان ما تُعمم وتغدو ذات بُعد اجتماعي في سياق كيان سياسي يسمى الدولة. 
تولد عاطفة الوطنية لدى الإنسان، وتنمو في سياقات معقدة من الخبرات والعلاقات التي يعيشها ويقيمها مع غيره من أفراد الجماعة/الجماعات التي ينتمي إليها، ومع المحيط- الوطن–حيث يستمد منه مقومات حياته. وتختلف شدة العاطفة الوطنية وطبيعتها بحسب طبيعة الخبرات، حيث تترافق الخبرات الإيجابية مع مشاعر العزّة والفخر بالوطن وبالانتماء إليه على خلاف ما ينتج من الخبرات السلبية.
وفي سياق سلسلة من العمليات الذهنية المعقدة التي يمارسها الأفراد بصورة مستمرة حيال خبراتهم المعيشة: من تحليل وتركيب ومقارنة وتجريد وعبر سياقات ومسارات متعددة ومعقدة وطويلة المدى يتمكنون خلالها من استنباط خصائصهم الجوهرية ووعيهم لها وتغدو هوية لهم تميزهم عن غيرهم من الشعوب وتوحدهم.
والوطنية بوصفها عاطفة انتماء وولاء وإن كانت ذات طبيعة نفسية فهي مفهوم دينامي ومركب يتضمن أبعادًا متعددة، منها: الوعي بموضوع العاطفة/الوطن، والاعتقاد به، والاستعداد للعمل والممارسة الحية. إنها أبعادُ متفاعلة في ما بينها، تؤثر وتتأثر ببعضها بعضًا، وهي من جهة أخرى عاطفة مكتسبة غير فطرية أو مورثة، تولَدُ وتنمو وتكبر لدى الأفراد ويمكن لها أن تضعف وتموت.
تتجلى الوطنية -كما وُصفت- من خلال القيم والمواقف والمشاعر التي يحملها الفرد/ الجماعة تجاه الوطن-الدولة التي ينتمي إليها، وبالطبع تتجلى في سلوكه الفعلي ومدى اتساقه مع القيم والمواقف والمشاعر التي يُكنّها لهذا الوطن-الدولة. وماذا عن السوريين هل تمكنوا من بناء دولتهم الوطنية؟

2- الأصول التاريخية والجغرافية للوطنية السورية
كانت سورية قبل الحرب العالمية الأولى جزءًا من السلطنة العثمانية، تضم ثلاث ولايات: دمشق وحلب وبيروت، إضافة إلى ثلاث متصرِّفيات: القدس، وجبل لبنان، ودير الزور منفصلة عن بعضها، فالدولة العثمانية كانت عمليًا دولة لا مركزية وإن بدت مركزية، ومرد ذلك إلى افتقارها للتلاحم الاقتصادي الداخلي، وإلى الوحدة الوطنية. فكان الولاة يتمتعون بالحكم المطلق في ولاياتهم تقريبًا.
 

الخارطة (1) الولايات السورية في أواخر العهد العثماني حتى سنة 1918

بلغت مساحة سورية هذه، وبحسب التقديرات الألمانية لعام 1915، 338600 كم2 وعدد السكان فيها 4 مليون نسمة يتوزعون إلى ديانات وطوائف وإثنيات متعددة:  
فعلى الصعيد الديني والمذهبي، شكَّل المسلمون أكبر كتلة سكانية، سوادهم من السُنّة، وإلى جانبهم أو على حواشيهم عاشت أقليات مسلمة، تنتمي إلى طوائف متنوعة: علويّة، وشيعيّة إثني عشرية، وإسماعيليّة، ودرزية. إضافة إلى وجود أقليّة سكانية مسيحية توزعت بين مذاهب شرقية وغربية، وتقاسمتها ولاءات كنائسها بين شرقية وأخرى غربية، فضلًا عن وجود سكان ينتمون إلى أقليات دينيّة أخرى تشمل المرشديين والإزيديين.
أمّا على الصعيد الإثني، فقد شكَّل العرب أغلبية سكان سورية، مع وجود أقليات إثنية كالسريان والآشوريين والكلدان، فضلًا عن سكان ينتمون إلى أقليات هندو أوروبية، تمثل أغلبيتها الأكراد، إضافة إلى الأرمن والغجر والإزيديين، وأقليتين من جماعات أخرى هما الشركس والتركمان.
لقد عدد فان فروزن العوامل التي أدت إلى تراكم التنويعات الثقافية المذكورة في سورية نذكر بعضها بتصرف
موقع سورية الكبرى من منابع الأديان الثلاثة التوحيدية الرئيسة، وقد أدى تكوين المذاهب والمدارس المختلفة داخل هذه الأديان إلى اختلافات كبيرة في العقائد فضلًا عن تعرض هذه المنطقة لغزوات عديدة عبر التاريخ مثل العرب والأكراد والمغول والأتراك. وفي الوقت نفسه كانت سورية في بعض الأحيان ملجًا للمضطهدين سياسيًا أو دينيًا من الأقاليم المجاورة، كالكرد والأرمن والشركس.
كثيرًا ما تم الحفاظ على الاختلافات الدينية والعشائرية واللغوية التي قويت نتيجة المحلية، أي نتيجة ولاء محلى مكثف تركز في بعض المناطق بسبب التكوين الجغرافي، ولا سيما في جبال وأودية منطقة اللاذقية وجبل الدروز التي يصعب الوصول إليها، فضلًا عن نقص سبل الاتصال في المناطق التي يصعب الوصول إليها وعدم وجود سلطة مركزية قوية الأمر الذي ساعد في الحفاظ على الطابع المتميز والمستقل للمجموعات الدينية والقومية، واستطاعت الجوالي التي لم تكن ترغب في الخضوع لرقابة الدولة المركزية أن تنسحب إلى مناطق يصعب الوصول إليها إلى حد ما وتمكنوا من العيش من دون قلق، نسبيًا ٠ وقلما كانت سلطة الدولة المركزية تمتد أبعد من الساحل وأودية الأنهار والسهول التي يسهل الوصول إليها، ومن ثمّ،، كانت تقطنها الأغلبية التقليدية السائدة من المجموعات الدينية أو القومية، وخاصة العرب السنيين. من ناحية أخرى، نجد أن الأقليات الدينية، وخاصة أولئك الذين اضطهدوا بشدة في الماضي كالعلويين والدروز والإسماعيليين، قد وُجدوا أساسًا في مناطق يصعب الوصول إليها.
تسودها كباقي الأقاليم والولايات العثمانية علاقات إنتاج إقطاعية وكانت الأرض وسيلة الإنتاج الأساسية.
وعلى الرغم من أن أغلبية الأراضي كانت ملكًا أميريًا” أي لبيت المال، فقد كان حق استثمارها يخول لعدد محدود من العائلات المدينية من علماء وأشراف وآغاوات (زعماء الحاميات العسكرية) بموجب “سند التصرف” وهكذا شكلت المدينة مركز الحياة الاقتصادية والسياسية، في حين بقي الريف بفلاحيه يرزح تحت ضغط الفقر والعوز.
استغل العرب في مطلع القرن العشرين انفتاح أعضاء جمعية تركيا الفتاة عليهم نسبيًا، وكانوا عازمين على نقل السلطنة من النظام الإقطاعي إلى النظام البورجوازي عبر انقلاب عسكري ينقلهم إلى سدّة السلطة، فتقربوا من ممثلي القوميات غير التركية ومن بينهم العرب، في إطار الإمبراطورية العثمانية.
في ذلك الوقت، شكل العرب عددًا من الجمعيات، بعضها كان علنيًا، وذا طابع أدبي، وبعضها كان سريًا تبنى برامج سياسية، وكان أنشطها جمعية العربية الفتاة 1911 في باريس، وقد تولى أعضاؤها بالتعاون مع حزب اللامركزية مهمة توحيد جهد القوى العربية للضغط على الحكومة التركية، ونجحوا في عقد مؤتمر لهم في حزيران/ يونيو 1913 في باريس، ضم 24 مندوبًا (19 مندوبًا سوريًا ولبنانيًا ومندوبين من العراق وثلاثة مندوبين من الجوالي العربية كانوا مقيمين في الولايات المتحدة).
 طالب المؤتمرون في باريس بالحقوق القومية العربية، وبمساهمة أكبر للعرب في الإدارة المركزية التركية، ونادوا بالاستقلال الذاتي للولايات العربية فضلًا عن مطالبتهم بحصر الخدمة العسكرية للعرب في ولاياتهم. ولكن مطالبهم ذهبت أدراج الرياح.

صورة (1) مؤتمر باريس 1913 بحضور ممثلي الحركات القومية العربية المناهضة للسلطنة العثمانية

خلال الحرب الأولى تواصل فيصل نجل الشريف حسين سرًا مع القوميين السوريين عام 1915، في أثناء زيارته لدمشق، في إطار التحضيرات للانخراط في الحرب إلى جانب الإنكليز والفرنسيين، وأجرى اتفاقات مع أعضاء الجمعية العربية الفتاة وجمعية العهد الذين شجعوه على التواصل مع الإنكليز، وزودوه بشروط التحالف معهم في الحرب التي عُرفت ببروتوكول دمشق، وبموجبه كان على الإنكليز الاعتراف للعرب باستقلال الدولة العربية بحدودها الطبيعية وإلغاء نظام الامتيازات.
وفيما كان العرب يحاربون إلى جانب الإنكليز، سلخ الإنكليز والفرنسيون–على الورق- وبموجب اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 أراضي سورية الكبرى بعيدًا عن خريطة الإمبراطورية العثمانية استعدادًا للتصرف بهذه الأراضي في ما بين الدولتين لاحقًا. وبموجب هذه الاتفاقية خُصصت الأراضي الواقعة في غرب سورية ولبنان وكيليكيا والجزء الجنوبي الشرقي من الأناضول لفرنسا، في مقابل حصول بريطانيا على جنوب العراق ووسطه وميناءي حيفا وعكا، وبقي الجزء الباقي من فلسطين تحت إدارة دولية. وبموجب خريطة سايكس بيكو دخل شرق سورية ومنطقة الموصل في منطقة النفوذ الفرنسية A وشرق الأردن وباقي العراق من شمال بغداد في المنطقة B تحت النفوذ البريطاني.

خارطة (2) سورية في اتفاق سايكس بيكو 1916

في 30 أيلول/ سبتمبر 1918، وقبل دخول القوات البريطانية بيوم، دخلت القوة العربية إلى دمشق بقيادة فيصل الذي أعلن عن قيام الدولة السورية، وتبعتها القوات البريطانية التي دخلت إلى بيروت وحلب وباقي المدن السورية. وهكذا أول مرة منذ أربعة عقود خرجت القوات التركية من سورية بما فيها الأراضي الواقعة شمالًا، واضطرت إلى توقيع صك الاستسلام والهدنة في 30 تشرين أول/ أكتوبر 1918، والتنازل عن سورية ولبنان وفلسطين والعراق والحجاز وعسير واليمن بموجب معاهدة سيفر 1920 مع الدول المنتصرة في الحرب.

خارطة (3) المملكة السورية العربية كما أعلنها فيصل (1918)

وردًا على إعلان قيام دولة سورية اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا بموجب اتفاقية سان ريمو 1920 على المباشرة بوضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الإنكليزي، مع التزام تنفيذ وعد بلفور.

خارطة (4) سورية في خارطة سان ريمو 1920

ولكن سرعان ما تخلت فرنسا لتركيا عن كامل الأراضي السورية الشمالية بموجب اتفاق “أنقرة” الموقع بينهما وتم تصديقه في “لوزان” 1923 بعد هزائم حلت بقواتها في مواجهة قوات أتاتورك، ولم يبقَ من سورية سوى 185 ألف كم2، بما فيها لواء إسكندرونة الذي تنازلت عنه لاحقًا لتركيا.
أمام احتجاج السوريين على قرارات سان ريمو، واستعدادًا لتقديم طلباتهم أمام لجنة كراين، دعا فيصل إلى عقد المؤتمر السوري العام الذي ضم ممثلي المدن والمناطق السورية، وبلغ عدد المندوبين 85 شخصية.

صورة (2) أعضاء المؤتمر السوري العام 1920

عقد المؤتمر ثلاث جلسات استثنائية في النادي العربي في دمشق في المدّة الدستورية الممتدة بين حزيران/ يونيو 1919 وتموز/ يوليو 1920. عُقدت الجلسة الأولى في 7 حزيران/ يونيو 1919 وعرفت بدورة الاستفتاء. كان الغرض منها إعداد رد أمام لجنة كراين للتحقيق، والتحقق مما يريده السوريون. وتمخض عن الدورة ما عرف باسم “برنامج دمشق/ دورة الاستفتاء”، الذي تضمّن:

  • استقلال سورية الطبيعية التام، وترشيح الأمير فيصل ملكًا عليها.
  • الحكم ملكي دستوري نيابي مركزي تصان فيه حقوق الطوائف جميعها مع وحدة عربية.
    ⦁ رفض الوصاية والحماية الفرنسية.
    ⦁ الموافقة على مساعدة تقنية واقتصادية من أميركا أو إنكلترا.
    ⦁ تأكيد أن فلسطين جزء من سورية الطبيعية، ورفض وعد بلفور والهجرة الصهيونية والمزاعم الصهيونية تمامًا.
    وفي الجلسة الثانية التي عُقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1919، وسميت بـ “دورة الدفاع”، اعترض المؤتمر السوري “البرلمان” على عملية استبدال الحامية الفرنسية في سورية بالبريطانية تكريسًا لاتفاقية سايكس- بيكو، وعدّه تمهيدًا لفصل لبنان وباقي المناطق الساحلية وشماله لفرنسا، وكلفت الحكومة بمقاومة العملية.
    الجلسة الثالثة: أطلق عليها اسم “دورة الاستقلال” بمناسبة انفراد فرنسا وبريطانيا بمصير سورية من دون الاهتمام برأي أهلها، أعلن المؤتمرون استقلال سورية الطبيعية وتعيين فيصل ملكًا دستوريًا في 8 آذار/ مارس 1920.
    بعد إعلان الاستقلال تشكلت حكومة جديدة نالت ثقة المؤتمر العام لتكون أول حكومة سوريّة دستورية، وعكف المؤتمر على كتابة الدستور، بينما قامت الحكومة بتعيينات إدارية للولاة وأعضاء مجلس الشورى وكبار موظفي الدولة والقصر الملكي، واستحدثت أول عملة سورية هي “الدينار السوري”، وعكفت على تأسيس الجيش الوطني، ووضعت قانون النسيج. ولشحّ وارداتها المالية، عمدت إلى تمويل الخزينة عن طريق قرض وطني بضمان طويل الأجل لأراض مملوكة للدولة وغير مستثمرة.
    تشكلت حكومة ضمت شخصيات وطنية مثل يوسف العظمة وعبد الرحمن الشهبندر وذكرت الوزارة الجديدة في بيانها أن أساس خطة الوزارة تأييد الاستقلال التام الناجز المتضمن -في جملة ما يتضمنه- حق التمثيل الخارجي والإصرار على الوحدة السورية في حدودها الطبيعية مع رفض منح أي قسم من البلاد لليهود.
    وكان من أبرز خصائص دستور 1920–القانون الأساسي للمملكة السورية:
    – اسم الدولة: المملكة العربية السورية، ملكية مدنية نيابية دين ملكها الإسلام.
    – الوحدة السياسية لسورية لا تقبل التجزئة، واستقلال إداري للمقاطعات السورية.
    – اللغة العربية هي اللغة الرسمية، الفرد من أهل المملكة العربية السورية يدعى سوري.
    تُعد الدورة الثالثة أهم دورات المؤتمر العام، فقد تحول المؤتمر من تمثيلي- سياسي/ برلمان إلى مجلس نيابي تشريعي يضطلع بوظيفتي جمعية تأسيسية (لوضع أول دستور للبلاد يقوم على أساسه الحكم المستقل) ومجلس نيابي (لمراقبة الحكومة) في آن معًا، بقي منعقدًا حتى تموز/ يوليو حين دخول فرنسا إلى دمشق في 25 تموز/ يوليو 1920.

3- دور سلطة الانتداب الفرنسي في قضية الهوية الوطنية
تؤكد الدراسات التاريخية أن اهتمام فرنسا الفعلي بسورية بدأ قبيل الحرب العالمية الأولى، أي خلال عامي 1912–1913، حين بدأت ترسل الباحثين من جامعاتها لدراسة مكوناتها السكانية، وبخاصة الإثنية والدينية، وما يلفت الانتباه هو ما جاء في كتابات جاك وولريس Weulersse. J. حين يصف حالة الاجتماع السوري بالفوضوية والمشوشة، لأن أهل سورية لم يعرفوا أمة أو دولة عبر تاريخهم العثماني، وأن التعارض التاريخي المزمن لديهم بين مفهومي الدولة والأمة أدى إلى نمو تلك العقلية. وهكذا كُتبَ على السكان أن يتشكلوا في “مجموعات قومية أو إقليمية صغيرة”. وينفي وولريس مشاعر الانتماء الوطني لدى شعوب هذا الشرق، ويرى أن الانتماء إلى القرية أو الطائفة أو العشيرة أقوى وأثبت من أي انتماء وطني لدى هؤلاء. ووصف حالة المجتمع السوري المغلق خلال النصف الأول من القرن العشرين “بعقدة الأقليات” وكتب واصفًا تلك العقدة “حساسية جماعية مَرضية تجعل أي تحرك لجالية مجاورة يبدو وكأنه خطر محقق، أو تحدٍ لهذه الجالية، فتقوم بتوحيد كل مجموعة بالكامل أمام أدنى هجوم أو تعدٍ يرتكب ضد أي من أعضائها..
إذًا، وبحسب وويلرس لا دولة- أمة في التاريخ المُعايَن لسورية، ومن ثم فإن التاريخ مفتوح على تشكل أمم وفقًا للإرادة الفرنسية، استنادًا إلى افتراض يقول: إن الحكم العثماني محض حالة فوضى استمرت 400 سنة، ما يلغي التاريخ ومعه كل أنثروبولوجيا لواقعٍ معيشٍ، ليتشكل تصورٌ مُتخيل للماضي، وتصورٌ مفترض للمستقبل، وبين هذا وذاك ترتسم أسطورة الفوضى أو الفراغ ليبنى عليها -قسرًا وقهرًا- أمر واقع جديد.
يعقب كوثراني على ذلك بإن الوصف المقارن لمفهوم الدولة -الأمة كما قدمهُ وولريس وخص به أوروبا فحسب، في مقابل نفي وجوده في بلاد الشرق الإمبراطورية، يستحق وقفة نقدية، فهو يمثل نظرة أكاديمية فرنسية في تسويغ مشروعات التجزئة التي لجأت إليها بلاده، ولكنه في الآن ذاته يقدم ملاحظات دقيقة عيانية.
سياسيًا اختارت سلطة الانتداب بعد دخول قواتها دمشق 1920 استراتيجية التقسيم ما يؤمّن لها القدرة على ضبط البلاد، والتحكم فيها، والسيطرة على الحركات الثورية الرافضة لوجودها، على خلاف ما أوصى به وويلرس وهوفلان وعدد آخر من ممثلي غرف التجارة في ليون ومرسيليا الذين اقترحوا ضرورة حل “المسألة الزراعية في سورية على الطريقة الرأسمالية الفرنسية من خلال تحسين أحوال الفلاح عبر البدء بمشروع تحديث سياسي واقتصادي وتقني قادر على إخراج سورية من حالة تخلفها لأن في ذلك مصلحة للإمبريالية الفرنسية.
واستندت فرنسا في حكم سورية إلى سياسة التحكم في الأقليات الطائفية من جهة: مسيحيين كاثوليك في لبنان، وعلويين في الساحل، ودروز في الجنوب، فهذه أقليات تعيش عزلتها بعيدًا عن باقي الأقوام والطوائف، وأيضًا إلى الجماعات الإثنية غير العربية من جهة أخرى، وقد عوّلت في ذلك على معرفتها المسبقة بطبيعة علاقات تلك الجماعات الداخلية، والصراعات “السلطوية” القائمة بين العشائر والعائلات، وحتى بين “بيوتات” الزعامة العشائرية الواحدة، وتمكنت من إقامة عدد من الكيانات السياسية، تُدير شؤونها مجالس محلية من وجهاء تتبع لـ “سلطة مركزية” هي سلطة الانتداب.

خارطة (5) تقسيم المُقسم – سلطة الانتداب الفرنسي

لقد تمكنت فرنسا من تطبيق خطتها في إدارة سورية مُقسّمة كما أرادت، وحالت دون قيام دولة موحدة على أرضها، أغلبية سكانها من العرب السنّة، وساعدها على ذلك جملة من العوامل الذاتية والموضوعية المتشابكة.
تمثلت العوامل الذاتية بمجموعتين من القوى السورية والعربية: المجموعة الأولى تتمثل بالقوى الاجتماعية-الاقتصادية المدينية من علماء واشراف وآغاوات (زعماء الحاميات العسكرية) وهم حراس علاقات الانتاج الإقطاعية والربوية، ومن خلال تحكمهم في الأرض الزراعية بوصفها وسيلة الإنتاج الأهم في تلك الحقبة. وكانت أغلبية مساحة الأرض ملكًا أميريًا، أي لبيت المال، استحوذ وجهاء المدن المذكورين على “سندات التصرف” بمساعدة الوالي العثماني مقابل مبالغ يدفعونها له في مقابل إطلاق أيديهم في التحكم في عملية جباية الضرائب عن الأرض الأميرية لبيت المال وغالبًا ما كان الفلاح يدفع الضريبة في ظروف كانت تتضمن الكثير من العسف والظلم إلى درجة كانت تدفع به للتنازل عن أرضه وتسجيلها باسم أعيان ووجهاء وعلماء المدن الذين باتوا يسيطرون على مئات القرى. فضلًا عن اشتداد تبعية الفلاح للإقطاع نتيجة تراكم الديون بفعل انتشار نظام الربى وحاجة الفلاح إلى الحماية من عسف رجال الحكومة ومن تعديات البدو وباقي حاجات الفلاح الموجودة في المدينة
لقد سيطرت المدينة عبر آغاواتها وعلمائها وأعيانها وهؤلاء هم أنفسهم الطبقة البيروقراطية المتحكمة في أجهزة الدولة على الريف المحيط بالمدينة سيطرة تامة اقتصادية وسياسية، وتحول الفلاحون إلى أجراء يعملون بأرضهم بالمحاصصة والمرابعة،
لقد كانت القوى الإقطاعية المدينية تلك هي القوى السياسية المحتملة التي راهن عليها الملك فيصل خلال أعوام الملكية الدستورية خلال عامي 1918-1920 عندما طالب الإنكليز بتنفيذ الوعد الذي قطعوه لوالده بالاعتراف بوحدة بلاد الشام والحجاز، وهذه القوى هي ذاتها التي كانت تبحث عن بديل للدولة العثمانية في حال انهيارا، وهي مبعثرة الاتجاهات والرؤى، فكان بعضها يراهن على الإنكليز، وبعضها يراهن على الفرنسيين، وبعضها الآخر على الأميركيين، فضلًا عن تعدّد أيديولوجياتها: عروبية وحدوية، أو باتجاهات إقليمية، وهذا بدوره يتقاطع مع انتماءاتها المتنوعة الأخرى ومن ثمّ، لم تتمكن من توليد طبقة واحدة أو أيديولوجيا واحدة لذلك اختلفت مشروعات الدولة البديلة لديها تبعًا لعوامل مختلفة: الطائفة، العائلة، الثقافةالمحصلة، الموقع الاقتصادي للقوى الاجتماعية.
إن طبيعة السلطة وتوزعها على أعيان المدن وعلى “عائلات” متنافسة على “المناصب” وعلى أعيان “طوائف” دينية متفاوتي الثروة، هي التي شكلت الطرف الذي تعاملت معه السياسات الأوروبية، وهؤلاء هم أنفسهم من عوّل فيصل عليهم لدعمه من أجل المطالبة بإقامة مملكته الدستورية الموحدة على كامل الأرض السورية.
فيما تمثلت المجموعة الثانية بالنخب السياسية من التيار القومي–الوحدوي، وهم المثقفون الطامحون إلى قيام دولة عربية تتشبه بنموذج الدول الأوروبية الحديثة، فقد كان معظمهم يقيمون خارج سورية، فضلًا عن انعزالهم عن القاعدة الشعبية المحلية
وعلى الرغم من مساعي فرنسا لإقامة سوقها الاقتصادي في سورية خدمة لمصالح شركاتها الامبريالية، من خلال مدّ شبكة طرقات تربط مدن الداخل بالموانئ، والمباشرة بمد خطوط سكك الحديد، إلا أنها وجدت نفسها في مواجهة تحديات حقيقية من جانب القوى الاجتماعية الاقتصادية التقليدية المحلية ذاتها، تمثلت بجملة من المعيقات كان أبرزها: التنظيم العائلي المغلق للمهن السورية، والروابط الداخلية العميقة التي نسجها تجار المدن الكبرى في ما بينهم، والتي كانت ذات طابع قيمي ديني، مؤسسة على روح “التضامن الرفاقي” بين أبناء المهنة الواحدة، فضلًا عن التقسيم الطائفي للأعمال، حيث كانت الزراعة تخص المسلمين بصورة رئيسة، والتجارة في أغلبيتها تخص المسيحيين، وهناك مهن معينة لا يوجد فيها إلا مسلمون، ومهن أخرى لا يوجد فيها إلا مسيحيون أو يهود، إضافة إلى تفاوت الثروة والغنى بين المناطق والمدن والتي أدت لنمو نزعات التباعد وغياب روح التضامن بين سكان المناطق الغنية والفقيرة. حال ذلك كله دون تمكن فرنسا من إقامة شبكتها الاقتصادية الاستعمارية.
رضخت سلطة الانتداب لمطالب السوريين، بتوحيد بلادهم على مراحل، من خلال ضم الكيانات الإدارية السياسية في كيانات أكبر، ترتبط بعلاقة فدرالية، تتبع المندوب السامي. ثم قيام الجمهورية السورية الموحدة بحجمها الراهن، والتي نالت استقلالها في عام 1946 من دون ان تتخلى عن سياستها تجاه الأقليات القائمة على المحاباة والتفضيل وقد برز ذلك بصورة واضحة من خلال التركيب الطائفي لجيش الشرق – نواة الجيش السوري المقبل.

4- الهوية الوطنية تعاني اضطرابًا
يفيد تحليل الوقائع التاريخية المعنية بالمنطقة الشامية، بدءًا من العقد الثاني للقرن العشرين وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحالي/الواحد والعشرين أن سكان المنطقة المعروفة بسورية، وأخص النخب السياسية والثقافية الفاعلة على الساحة السورية، عانوا- ربما ما زالوا – مما يمكن تسميته باضطراب الهوية الوطنية، وذلك بسبب “التناقض بين الجغرافيا المتخيلة والواقعية لسورية من جهة، وبينهما وبين الولاء السياسي من جهة أخرى”.
منذ بدء العمل على قيام تأسيس المملكة السورية العربية (1918- 1920)، مرورًا بالمراحل التي أعقبتها حتى تحقيق الجلاء الناجز عام 1946 لم يلق الكيان المنبثق على اتفاقية سايكس بيكو، ثم سان ريمو أي اعتراف من قبل أغلبية السوريين، فكان كيانًا إشكاليًا تم النظر إليه بوصفه كيانًا مشوهًا غير مكتملٍ. فكان العهد الفيصلي عهدًا قوميًا عربيًا، يعمل لتمهيد الطريق إلى الوحدة الكبرى، انطلاقًا من سورية الكبرى، وبذل فيصل ومن سانده من وطنيين جهدًا لإحلال الوحدة القومية، فقد نادى معظم الأحزاب في تلك المرحلة بالفكرة العربية القومية، مثل الجمعية العربية الفتاة، وحزب الاستقلال العربي، وجمعية العهد السوري. فيما قَصَرَ بعضها الآخر برنامجه على “سورية الكبرى” التي تضم الولايات السورية التي كانت تحت السلطة العثمانية ومساحتها 338600 ألف كيلو متر مربع، وتضم إلى جانب سورية الحالية، كلا من لبنان وفلسطين وشرق الأردن بما فيها لواء إسكندرونة، والأراضي الواقعة شمال سورية وتضم أضنة وكيليكية وماردين…الخ، هذا ما طالب به مندوبو المؤتمر السوري العام 1920 أمام لجنة كراين “استقلال سورية الطبيعية التام” مع التأكيد على سلامة فلسطين، وعدها جزءًا من سورية الطبيعية، مع الدعوة إلى تقوية العلاقات القومية والثقافية مع باقي الشعوب العربية، والانضمام الى الوحدة العربية عند قيامها، لقد تم تضمين هذا المطلب في مواد الدستور “القانون الأساسي للمملكة السورية، وهو ما أيده حزب الاتحاد السوري، والحزب الوطني السوري، إذ لم يكن ممكنًا النظر إلى سورية الوليدة في تلك المرحلة كدولة منتهية، بل بوصفها جزءًا من أمةٍ، أو من وطنٍ أكبر. ما جعل الإشكالية الجغرافية حاضرة بصفتها مسألة جوهرية في معظم التعاريف السياسية التي قُدمت حول الأمة.
وبقيت سورية بالنسبة إلى زعماء الحركة الوطنية، جزءًا من سورية الطبيعية، خصوصًا في سنوات العشرينيات، هكذا فعل حزب الشعب الذي اسسه عبد الرحمن الشهبندر، وكذلك قادة الثورة السورية الذين لم يعترفوا بحدود الكيان الجديد، فجاء في نداء سلطان الأطرش زعيم الثورة عام 1925 مطلب” وحدة البلد السورية ساحلها وداخلها والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة” كذلك تضمن مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية السورية في عام 1928 عددًا من المواد التي أعلن خلالها أن سورية بما فيها لبنان وفلسطين وشرق الأردن وحدة واحدة لا تتجزأ، الأمر الذي دفع سلطة الانتداب للمماطلة في إصداره إلا بعد شطب المواد المتعلقة بوحدة البلاد السورية.
وقد لخص فان فروزن المسألة بقوله “إن الاقتطاعات العديدة من سورية، منذ بداية هذا القرن قد وقفت حائلًا دون نمو أي ولاء متلاحم أو محدد للدولة السورية كوطن٠ وما زالت تأثيرات هذه التغييرات الحدودية في التكامل الوطني واضحة حتى الآن: فمن ناحية نجد أنه يتم مراعاة هذه الحدود فحسب من الناحية الفنية، وأن الهوية العربية أقوى بكثير من الهوية السورية، وفي الوقت عينه، فقد نمت فكرة الكيانات ما دون الوطنية. فقد تشظى الولاء نحو كيانات أكبر من الوطن السوري الراهن، ونحو كيانات أصغر إقليمية ودينية أو طائفية أو إثنية في مقابل عدم نمو ولاء وسط “وطني”
ويعلق فان دام على ما تقدم إذ قال: “فعندما نالت سورية استقلالها عام 1946 كانت دولة في كثير من النواحي، دون أن تكون أمة، فكانت كيانًا سياسيًا دون أن تكون مجتمعًا سياسيًا
ولاحقًا، وبعد الاستقلال تحولت سورية إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، ما جعل الحفاظ على استقلالها أولوية وطنية. وانقسمت البلاد سياسيًا إلى تيارات، منها من تمسك بوحدة سورية الحالية، وتبنى الليبرالية السياسية والاقتصادية لإدارة البلاد، ومنها من تبنى الأيديولوجيا القومية أو الشيوعية أو الإسلامية. وبات الانقسام يشكل حالة قلقَة أدت إلى تصورات متباينة وغير ناضجة عن الهوية السياسية للكيان الجديد. فقد تبنى الحزب القومي السوري تحقيق مشروع سورية الكبرى، ووضع حزب البعث تحقيق الوحدة العربية أهم هدف له، ونفى الحزب الشيوعي وجود فكرة الأمة السورية، وحتى فكرة الأمة العربية، فهو قد تبنى فكرة الأممية البروليتارية، بينما تبنّى حزب الشعب تحقيق فكرة الهلال الخصيب، ومال الحزب الوطني إلى التقارب مع السعودية ومصر منعًا لقيام وحدة عربية تتسبب في حدوث اختلال في التوازن الإقليمي، كما ما زال بعض السياسيين يؤمن بالمملكة الهاشمية الكبرى.
وهكذا أدت التصورات المتباينة عن حدود سورية وخارطتها الجغرافية إلى هوية تحمل كل موزاييك الجغرافية الواقعية والممكنة، والحلم لكل التيارات، ولكل قطعة من هذا الموزاييك كان الحامل الاجتماعي- السياسي حاضرًا فكانت كلها في نهاية المطاف هويات ضبابية، هشة.
وبتمكن حزب البعث من الوصول إلى السلطة عام 1963 سيطر الفكر القومي العربي على حساب الأيديولوجيات الأخرى، وتحولت سورية” إلى مجرد قطر عربي هو جزء من وطن عربي” موعود بنجاح قيام الوحدة العربية.

5- الوطنية السورية منذ الاستقلال نيسان/ أبريل 1946 وحتى آذار/ مارس 2011
بعد الاستقلال في نيسان/ أبريل 1946 برز تمثيل الأقليات وبخاصة الكردية السنية بصورة واضحة في إدارة الجيش والبلاد من خلال منصب رئاسة الجمهورية وذلك قبل تقلد البعث السلطة في عام 1963 ك وهكذا، فإن زعماء الانقلابات العسكرية الثلاثة الأولى في سورية وهم اللواء حسنى الزعيم (1949) وسامي الحناوي (1949) كانوا جميعًا سنيين ٠ وأديب الشيشكلي (1949- 1954)” وقد كان للزعيم والحناوي خلفية كردية. ثم تتالى على حكم البلاد رؤساء عرب تبنى العديد منهم سياسات قومية حذرة إزاء الأقليات الإثنية، اخذت أشكالًا متنوعة بدءًا من تجاهلها إلى احتوائها، ثم السعي لدمجها في بوتقة الثقافة العربية. وكان الأكراد من أكثر الإثنيات السورية التي واجهت المتاعب، ومورست بحقهم سياسات ضبط صارمة وإجراءات تعسفية، لارتياب السلطات بنزعتهم الانفصالية. ومن بين تلك الإجراءات كان التعداد السكاني الذي تم إجراؤه عام 1962 في محافظة الحسكة، وبموجبه كان على الأكراد أن يُثبتوا بالوثائق -خلال يوم واحد- أنهم يعيشون في سورية منذ عام 1945 على الأقل، وإلا فقدوا جنسيتهم السورية، وهكذا ظهرت مشكلة الكرد فاقدي الهوية والمكتومين.
مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، بدأت مرحلة جديدة في إدارة التنويعات الثقافية عمومًا والإثنية بصورة خاصة انطلاقًا من أولية العروبة، ومن قدرتها على استيعاب ثقافات الإثنيات الأخرى. وبعد عام 1970، اكتسبت إدارة الإثنيات والأديان والطوائف أبعادًا أوسع وأعمق، انطلاقًا من الدستور الذي صاغه حافظ الأسد، وقد عدَّ بموجبه حزبه قائدًا للدولة والمجتمع، مع منح مزيد من الصلاحيات للقوى الأمنية، وأدى ذلك إلى إحكام السلطة قبضتَها الاستبدادية–الأمنية.

  • في الأصل، لم تكن الهوية السورية في منظور حزب البعث، والسلطة الحاكمة سوى تفصيل صغير في اللوحة القومية الأشمل، فقد كتب ميشيل عفلق وهو مُنظِّر الحزب: “إن نظرتنا العربية لا تقتصر على وجوب طرح المشكلات القطرية الداخلية بمنطق معين هو منطق وحدة الأمة العربية ووحدة مصيرها، بل تؤدي أيضا إلى إغفال أو تأجيل او تضحية لبعض هذه المشكلات القطرية لكي نقدم عليها ما هو أهم وأوثق صلة بمصلحة العرب وما يمكن أن يحقق نفعًا أساسيًا للعرب كأمة واحدة.”
    وقد كرس الدستور الذي وضعه حافظ الأسد الهوية القومية العربية، فقد جاء في المبادئ التأسيسية “القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي، “الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق الوحدة الشاملة” وفي المادة الثامنة” من الدستور “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
    وهكذا أضحت أيديولوجيا البعث” القومية” هي أيديولوجيا الدولة والمجتمع، ولتحقيق ذلك تم تسخير جميع الأدوات والوسائل لتكريس الأيديولوجيا العربية في عقول السوريين وقد كان للزعيم والحناوي خلفية كردية أيضًا واهم تلك الوسائل المنظومة التربوية” النظامية عبر المناهج التعليمية وغير النظامية عبر المنظمات الشعبية التربوية” التي ضمت كل الأجيال بدءًا من الأطفال في منظمة طلائع البعث إلى الفتية في تنظيم اتحاد شبيبة الثورة وصولًا إلى الشباب عبر منظمة اتحاد الطلاب الجامعي وباقي المنظمات المهنية والشعبية للذي هم خارج النظام التعليمي من عمال وفلاحين وحرفيين ونساء.
    ومن بين الأساليب التي اتبعها نظام البعث بحق الاثنيات غير العربية العزل والحصار، عبر إقامة ما سُمّي “الحزام العربي”عام 1971، القاضي بجلب عرب من محافظاتي الرقة ودير الزور كانوا يقيمون في مناطق سوف تغمرها مياه البحيرة التي ستُنشأ خلف سد الفرات، وبإسكانهم في منطقة الجزيرة السورية، حيث التجمعات الكبيرة للأكراد والآشوريين والأرمن والإيزيديين. وهذا الأمر أدى إلى نتائج كارثية من ناحية تقليص مساحات الأراضي الزراعية المستحقة لآلاف العائلات الكردية والآشورية والسريانية والأرمنية والإيزيدية، وأدى إلى حرمان تام لعائلات أخرى كثيرة من الانتفاع بأراض زراعية، فضلًا عن حصول حركة هجرة خارجية واسعة من منطقة الجزيرة.

خارطة (6) الحزام العربي في إقليم الجزيرة السورية 1971

  • الاحتواء والتعريب، بالمعنى الشامل لكل مناحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية السورية، بمساعدة آليات متعددة، منها التربية النظامية بمناهجها التي تمت فيها إعادة صوغ التاريخ السوري انسجامًا مع الرؤية الأيديولوجية العروبية، وبدعم من التربية غير النظامية عبر المنظمات الشعبية والطلابية، التي تم شحن برامجها بالثقافة القومية العربية، وحصرية ملكية الدولة لوسائل الإعلام. وهكذا تم تعميد السوريين جميعًا بالروح العروبية الخالدة وبثقافتها المتعالية، فباتت العروبة هي الهوية واللسان.
    أما التاريخ، فتمّت إعادة كتابته، كي تبدو الحياة في هذه البقعة عربية خالصة منذ الأزل. وهذا يسمح لنا بالقول إن سورية شهدت أوسع عملية تزوير للثقافة السورية بمختلف تنوعاتها، وأدى ذلك إلى نتائج كارثية عنت جميع السوريين، من العرب والآراميين/ السريان، والآشوريين والكرد والتركمان والشركس وبقية الإثنيات، وخسرت سورية بموجبها كنزًا من الثقافات واللغات والقيم والعادات، كان يمكن أن يكون زاد سورية في المستقبل.
  • من جهة أخرى، مارس نظام البعث الحاكم ابتزازا مضمرًا بحق الوطنية السورية، حين كان يستعين بها كلما دعته الحاجة إليها، خصوصًا في أوقات الأزمات التي تواجهه، كالحروب والاحتجاجات الشعبية يلجأ حينها إلى استخدام “عُدّة الوطنية” كالأعلام والأغاني والاناشيد والرموز الوطنية بغية شد العصب الوطني، حينئذٍ تبدو الوطنية السورية في غاية تماسكها! وهي في حقيقة الأمر وطنية هشة وسطحية وممزقة. وما أن يستشعر النظام الأمان ثانية حتى يطوي علم الوطن ويركنه في صناديقه، مقابل إعادة رفع علم البعث وباقي شعاراته القومية.
  • ومما زاد في شرذمة الوطنية السورية لجوء النظام إلى اتباع تكتيكات تهدف إلى تقسيم السوريين والايقاع بين مكوناتهم: الإثنية والدينية والطوائفية والاجتماعية والمناطقية أفرادًا وجماعات منها مثلًا اعتماد نهج المحاصصة عند توزيع المكاسب” المناصب” على المكونات المختلفة، والتدخل في شؤونها وضبط ايقاعاتها على إيقاعه”: مشايخ العشائر ورجال الدين والطوائف والاقاليم واستخدام أسلوب العصا والجزرة. فضلًا عن نشر قيم الولاء للفرد القائد كمعادل للولاء لسورية ودأبه على طمس تاريخ سورية وتزويره له من خلال التجاهل المتعمد للرموز الوطنية، في مقابل إبراز الفرد القائد بوصفه صانع التاريخ والحاضر وضامن المستقبل.
    وقد لخص بشارة المسألة الوطنية خلال نصف القرن الذي سيطر خلاله حزب البعث بأيديولوجيته القومية على النحو الآتي: “منعت أيديولوجيا النظام وممارسته تشكل هوية وطنية سورية في حدود الدولة السورية وذلك عبر الممارسات الآتية: عدم تحول المواطنة السورية إلى كيان حقوقي من أي نوع، فضلًا هن التعامل مع المواطنين عبر الهويات الجهوية والعشائرية وحتى الطائفية من جهة، والتأكيد على الهوية العربية بوصفها أيديولوجيا دولة من جهة أخرى”.

6- الوطنية والثورة السورية 2011
لقد كانت ثورة آذار/ مارس 2011 الفرصة الذهبية الأكثر ملائمة من أجل التقاط “الوطنية السورية” من قبل الشبان الذين خرجوا ضد النظام وهتفوا بملء حناجرهم “الشعب السوري واحد”. وفي ظني أنه كان شعارًا معبرًا عن رغبة جامحة لدى الثوار في تجسيد سوريتهم الموحِدة عبر توليدها، أو غرس بذرتها، أكثر من كونه شعارًا معبرًا عن حقيقة وجود شعب واحد كمُعطى تاريخي ناجزًا. أو ربما بدأت تظهر ملامح هوية وطنية سورية تعددية تتبلور ديمقراطيًا من خلال مناهضة الاستبداد بحسب تعبير بشارة ، فهي أول مرة بعد الاستقلال تولد فيها نواة هوية وطنية سورية.
وبعد ما مرت به سورية، شعبًا، ومجتمعًا نسأل: هل ما زالت الفرصة موجودة كي تتحول إلى دولة مواطنة متساوية وديمقراطية؟
أي نظام سياسي يمكن أن يؤسس لقيام دولة وطنية سورية؟
بعد مرور عشر سنوات على انطلاق الثورة السورية، وما لحق بها من كوارث، وفي ظل استعصاء الأزمة وعدم وصول الأطراف الإقليمية والدولية إلى حل متفق عليه، يمكن القول إن مستقبل سورية حتى اليوم غامض ومفتوح على احتمالات عديدة، قد يكون أسوأها تكريسها دولة فاشلة، بنظام متهالك وتابع! وقد يجري اتفاق يقونن تقسيمها الراهن إلى عدد من الدويلات على أسس تلبي هواجس بعض الإثنيات والطوائف!، وقد يجري اتفاق على شكل من طائف جديد يأتي بتوافق طائفي- اثني، ينهي الحرب ويؤدي لحل بعض المسائل العالقة بين الأطراف السورية المتصارعة! وقد يجري اتفاق دولي- إقليمي على استبدال رأس النظام الحالي برأس آخر عسكري آخر يعيد احياء الاستبداد ويتمكن من ضبط الوضع المنفلت أمنيًا، حماية لبلدان/ أنظمة دول الإقليم!
وفي أفضل الحالات يمكن لسورية أن تدخل حقبةً سياسية جديدة، في ما لو تمكن السوريون من الإمساك بمصيرهم مجددًا، من خلال تحولهم إلى قطب سياسي فاعل في لعبة التنافس/التفاوض الإقليمي والدولي، وبالعودة إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالمسألة السورية تؤسس لمرحلة جديدة تبدأ فيها عملية إعادة بناء نظام سياسي جديد يقطعٍ مع النظام السابق، ويؤدي إلى قيام الدولة الوطنية السورية ذات الطابع الديمقراطي البرلماني، والبدء في وضع أساسات بناء الثقة بين المكونات الثقافية المتنوعة، استنادًا إلى عقد اجتماعي جديد يسمح بوضع حدٍ لحالة التوتر بين تلك المكونات، التي بلغت أوجها هذه الأيام، وذلك من خلال تبني الدولة الوطنية لمبادئ المواطنة المتساوية المُحصَّنة بدستورٍ يفتح آفاق جديدة لوطن حر وعادل.

قائمة المراجع

  • بشارة، عزمي (2013). سورية درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  • زغير، خلود (2020). سورية الدولة والهوية، قراءة حول مفاهيم الامة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963). المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 بيروت.
  • كوثراني، وجيه (2013). بلاد الشام في مطلع القرن العشرين السكان والاقتصاد وفلسطين، قراءة في وثائق الدبلوماسية الفرنسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  • لوتسكي، فلاديمير (2007). تاريخ الأقطار العربية الحديث، ط7، دار الفارابي، بيروت: لبنان.
  • فان دام، نيكولاس (1995). الصراع على السلطة في سورية- الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة (1961-1995)، مكتبة مدبولي القاهرة.
  • عفلق، ميشيل.1956. في سبيل البعث ج4 “موقفنا من الشيوعية. موقفنا السياسي من الشيوعية – تاريخ المشاهدة 2/1/2021 (online.fr).
     
    Jacques Weulersse,1946 Paysans de Syrie et du Proche Orient, Paris.
    Michael H. Van Dusen, 1972. ‘Political Integration and Regionalism in Syria’, The Middle East Journal, Vol. 26, No. 2.
    قائمة الخرائط والصور
    الخارطة (1) الولايات السورية في أواخر العهد العثماني حتى سنة 1918
    خارطة (2) سورية في اتفاق سايكس بيكو 1916
    خارطة (3) المملكة السورية العربية كما أعلنها فيصل (1918)
    خارطة (4) سورية في خارطة سان ريمو 1920
    خارطة (5) تقسيم المُقسم – سلطة الانتداب الفرنسي
    خارطة (6) الحزام العربي في إقليم الجزيرة السورية 1971
    صورة (1) مؤتمر باريس 1913 بحضور ممثلي الحركات القومية العربية المناهضة للسلطنة العثمانية
    صورة (2) أعضاء المؤتمر السوري العام 1920

مشاركة: