في البعد الوطني للقضية الكردية السورية

رفعت الثورة السورية، بعد اندلاعها قبل نحو 9 أعوام، الغطاء عن “المستور”، واخترقت الخطوط الحمراء كلها التي رسمتها الأنظمة والحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، بما في ذلك حقائق الوضعين الاقتصادي والاجتماعي المرّة، وبواطن أمور الحكم والسلطة، والوجه الطائفي القبيح لكل المرتكزات العسكرية-الأمنية، والقاعدة الاجتماعية والاقتصادية، والهياكل الحزبية والإدارية، التي استند إليها النظام البعثي في حقبتي الأسد الأب والابن، مضافًا إليه الاكتشاف الأكثر إثارة لدى بعضهم؛ وهو أن سورية وطن متعدِّد الأقوام والديانات والمذاهب، وأن فيه، إضافة إلى الأغلبية العربية، شعوب وقوميات أصلية، مثل الكرد والتركمان والأرمن، وقسم من المسيحيين الذين يُعدُّون أنفسهم (قومية ودينًا) مع تجمعات إثنية صغيرة أخرى.
وفي السياق ذاته، كان من شأن ثورات الربيع الأخرى المكمِّلة لها في العديد من البلدان المتعددة الأقوام، أن تخرق حاجز المحرمات التي رسمتها الأنظمة المستبدة، بشأن قوميات مغلوبة على أمرها، وتعيد إليها عوامل الصحوة والمشاركة، إلى جانب طرح قضاياها الخاصة في إطار النضال الوطني الديمقراطي. فقد تابعنا عقد مؤتمر للمكوِّن الأمازيغي في العاصمة الليبية، فور سقوط الاستبداد، وشاهدنا الأعلام الأمازيغية ترفرف إلى جانب العلم الجزائري، في صفوف الثوار الجزائريين (منعتها السلطات، واعتقلت حامليها من الشباب المنتفضين) في حالة مشابهة لما يجري في بلادنا، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت النخب بالبحث عن حلول ملائمة لقضايا القوميات، وتكاد تُجمع على النظام الفدرالي على قاعدة الأقاليم (في السودان واليمن وليبيا) على سبيل المثال، مدخلًا إلى إحقاق الحق، وتعزيز إرادة العيش المشترك.
خلافًا للنظرة الخاطئة لكثيرٍ من النخب السورية، فإن وطن الكرد التاريخي (كردستان) تعرض للتجزئة على دفعتين، مرةً بين الإمبراطورية العثمانية السنية والإمبراطورية الصفوية الشيعية منذ معركة -جالديران- في القرن 15، والمرة الأخيرة قسموا الجزئين إلى أربعة أجزاء، بعد أن أَلحقت اتفاقيةُ سايكس-بيكو 1916 في بداية القرن العشرين، جزءًا بالعراق المُستعمَر من بريطانيا، وآخر بسورية المنتدبَة من فرنسا، من دون إرادة الكرد والعرب في البلدين.
لم يُلغِ إلحاقُ الكرد السوريين بوطنهم الجديد، انتماءهم القومي، بل وجدوا أنفسهم أصحاب هوية مزدوجة، وكان ذلك تحديًا لحركتهم القومية- الوطنية السياسية في مواجهة عملية التوازن بين (الانتماء القومي والهوية الوطنية)، ولا شكّ في أن الامتحان لم يكن سهلًا، وما زالت العملية قيد الصراع بين مواقف وتوجهات تميل إلى هذه الكفة أو تلك.
التحدي الأخطر الذي يواجهه الكرد السوريون منذ استقلال سورية، والذي يرخي بظلاله على ثقافة ومفاهيم كل السوريين، هو عدّ الدستور السوري الأول (وحتى في نسخه الأخيرة) سورية، دولةً بسيطةً، غيرَ مركبة، والشعبَ السوريّ هو الشعب العربي السوري، وخلوّه من أي بنود تعترف بالتعددية القومية، خصوصًا نفي وجود القومية الثانية من حيث العدد، وهي الكرد، علاوة على الحقوق.
انعكس هذا التعريف الخاطئ والمجحف والخطر للمجتمع السوري ولشعب سورية على الرأي العام السوري وتعبيرات سورية السياسية والثقافية، وعلى سبيل المثال، لم تتضمن برامج الأحزاب السورية القديمة التي واكبت الاستقلال ولعبت أدوارًا في القضية الوطنية، أي إشارة تخالف ما ذهب إليه الدستور أو الدساتير السورية المتعاقبة، ومنها (حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الشيوعي السوري، الإخوان المسلمون، الحزب السوري القومي الاجتماعي، التيارات الرئيسة في حركة القوميين العرب).
أمام ذلك، فإن الحركة الوطنية الكردية السورية، في جوهرها الحقيقي، تؤمن بأهداف الثورة السورية المغدورة، في زوال الاستبداد، وإجراء التغيير الديمقراطي، وتؤمن بسورية الجديدة التعددية التشاركية، وحلّ القضية الكردية بحسب إرادة الكرد في تقرير مصيرهم السياسي، والإداري، وبصيغة تناسب الطموحات المشروعة، والحالة السورية، ضمن سورية الموحدة، وبالتوافق مع الشريك العربي، وبضمانة الدستور الجديد المبني على العقد الاجتماعي السياسي الجديد.
من أجل تعزيز مبدأ التوافق في الواقع المعيش بين مكونات الشعب السوري، والتوصل عبر الحوار الهادئ إلى مزيد من المشتركات الأساسية في الحياة الوطنية، لا بدّ من المصارحة ووضع الأيدي على الجروح التي خلفها نظام الاستبداد طوال عقود، وهو أمر ليس من السهل تحقيقه في طرفة عين، بل يتطلب التحاور والتشاور انطلاقًا من واقع مجتمعنا تاريخيًا واجتماعيًا وثقافيًا، المتميز بالتعددية والتنوع القومي والديني والمذهبي، وهو مصدر غنى إن استطعنا فهم دلالاته، وتقبّل الآخر، وعدّ الوطن للجميع على قاعدة التشاركية والتوافق الديمقراطي.
عشرة مفاهيم خلافية لا تزال قيد النقاش والأخذ والرد، بين النخب الثقافية الكردية والعربية على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي الندوات الحية، منها المفاهيم الأحادية، والذرائعية، والحل “المواطني” للقضية القومية، والشرطية، وفوبيا الانفصال الكردي، والشكلية للمساواة، والاعتباطية في قراءة التاريخ، والقراءة الأيديولوجية للجيوسياسيا الكردية السورية، واللاموضوعية اللاعلمية لتفسير موضوعات الشعب والقوم والأمة، والتعريفية الخاطئة للكرد عطفًا على الأحزاب، واليوم نعود إلى موضوعات الهوية والانتماء والوطنية، والخلط بين القومية من جهة والدين والمذهب من الجهة الأخرى، والفصل التعسفي بين مبدأ حق تقرير المصير والفكر السياسي.

في الانتماء والهوية الوطنية
هناك من النخب العربية في القومية السائدة من يشترط على الكردي والتركماني والأقوام الأخرى، وبشكل يكاد يكون مباشرًا، التخلي عن جذورهم وأصولهم القومية حتى يكسبوا صفة الوطني. بمعنى آخر، يسعى هؤلاء، بوعي أو من دونه، للإبقاء على نتائج تحكم نظام الاستبداد طوال أكثر من نصف قرن، وما أفرزه من سياسات ووقائع تجاه الآخر غير العربي، وبخاصة الكرد السوريون، الذين تعرضوا لتغيير التركيب الديموغرافي لمناطقهم، وللتهجير والتعريب والحرمان من حق المواطنة والحقوق المدنية. نعم يسعى هؤلاء للحفاظ على كل ما لحق بالكرد وغيرهم، وعدّ ذلك أمرًا واقعًا غير قابل للتبديل والمعالجة، وفي نظر هؤلاء، إن الكردي السوري الجيد يجب ألّا يفصح عن كرديته، وينفي أي تكامل وتشابك وتمازج بين الانتماء القومي والانتماء الوطني، بالنسبة إلى غير العرب فحسب، وقد واجه شبابنا في بدايات الثورة خلال تظاهراتهم السلمية ورفع الشعارات باللغة الكردية أو رفع الأعلام التي ترمز إلى الانتماء القومي، مزيدًا من الاحتجاج والرفض من الأحزاب التقليدية العربية، خصوصًا أحزاب الإسلام السياسي، وحينها أتذكر أنني كتبت مقالة أوضحت فيها أن الثورة وطنية تخصّ جميع أطياف الشعب السوري، ومن حق الكردي المنتفض ضد النظام أن يعبر عن معارضته بلغته وبشعاراته، وفي خضم تلك السجالات، أجمعت تنسيقيات الشباب في كل المناطق على تسمية أحد أيام الجمع بجمعة آزادي، أي الحرية، وكان ذلك في منزلة صفعة للأحزاب التقليدية، والتي ما لبثت أن خانت الثورة والمعارضة بعد حين.
تغيب عن أذهان هؤلاء، المراحل التاريخية التي ترافق عادة نمو الفكر القومي لدى شعوب العالم أجمع، وكيف أن القومية العربية التي يحكم أتباعها سورية منذ الاستقلال، قد مرت خلال عقود، بل قرون، في التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي، إلى أن نالت حق تقرير المصير، وتصدرت الدولة السورية باسم العرب والعروبة، وذلك على قاعدة نفي وجود الآخر القومي غير العربي، وحتى طمس وجوده في الدستور والقوانين، وقمعه إن طالب بالحقوق، وعندما عجزت الشوفينية الحاكمة عن صهر الكرد في بوتقة القومية العربية، بعد استخدام الأساليب والسبل غير الشرعية كافة، والمنافية لمبادئ حقوق الإنسان وشرعة الأمم المتحدة، نجد بعض النخب، بعد اندلاع الثورة السورية والصحوة الثورية ضد الاستبداد، تطالب الكرد بالرضوخ لشروط عجزت أنظمة الاستبداد المتعاقبة عن تطبيقها.
الكرد وجميع المكونات السورية التي تعرضت للاضطهاد القومي، يجدون في مبادئ الثورة ملاذًا لقضاياهم، وفي مساحات الحرية متنفسًا لهم، للاستمرار في بلورة هوياتهم القومية، والانتقال إلى مراحل متقدمة في نيل حقوقهم المشروعة، جنبًا إلى جنب، لإعادة بناء سورية الديمقراطية التعددية الجديدة، التي يستحيل بناؤها من دون استعادة حقوق مكوناتها، وفي الحالة هذه، من واجب النخب العربية الديمقراطية كقومية سائدة، المساهمة في العملية، بل تصدّر خطوط الدفاع أيضًا، من خلال تبني حقوق الآخر غير العربي، إن كانت وطنية بحق.

الخلط المتعمد بين القوم والدين والمذهب
بعض النخب من القومية السائدة، وعن سابق إصرار، ومن أجل التعمية على مشروعية الحقوق الكردية، يعمد إلى الخلط المصطنع بين القومي والديني والمذهبي في الجوانب السياسية والحقوقية، ولا يأتي على ذكر الكرد والقضية الكردية إلا برفقة الديباجة المعروفة، حتى يرسم في ذهن القارئ مدى صعوبة الحل، متجاهلًا الفرق الواسع بين الجانبين، فالقوم قد يجمع المسلم والمسيحي والإيزيدي والسني والعلوي والدرزي والشيعي والإسماعيلي، والقضية القومية لها جوانبها السياسية والثقافية والحقوقية والأبعاد القانونية الدولية، وحلها يحتاج إلى الاعتراف والإجراءات العملية والدستورية والعقود الاجتماعية في ظل النظام الديمقراطي، أما مسائل الأديان والمذاهب فتتعلق بحرية المعتقدات وشؤون الميراث والزواج.

الجذور السياسية للقضية القومية
مبدأ حق تقرير مصير الشعوب كان وما يزال في صدارة الفكر السياسي، وهو في جوهره يحتل مركز الصراع السياسي بين الدول المستعمرة وشعوب التحرر الوطني، وتبناه المجتمع الدولي في وثائق عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة، كقضية سياسية اجتماعية اقتصادية حقوقية. وإذا كانت قضايا المكونات القومية، وفي المقدمة منها القضية الكردية السورية، تندرج في خانة مبدأ تقرير المصير، وتتخذ الطابع السياسي مثل سائر القضايا المشابهة في العالم، مع الأخذ في الحسبان خصوصيتها المستندة إلى الحل ضمن إطار سورية الموحدة، بإحدى الصيغ الملائمة للحالة السورية، إذا كان الأمر كذلك، لماذا هناك إصرار على عدّ القضية الكردية السورية خارج الطبيعة السياسية، والنظر إليها كدين ومذهب، تهربًا من معالجتها بالشكل الصحيح، وبحسب المبادئ والمواثيق والشرائع، أليس ذلك منافيًا للعلم والمنطق والواقع؟

الفسيفساء السوري
لا يزال، وبعد الزلزال السوري المدوّي، وفي الوسط (المعارض)، من يريد أن يحرم السوري من نعمة -الفسيفساء الوطني- الجميل، ويعتبره نقمة، بل يتهكم عليه متجاهلًا أن أكثر الدول تقدمًا في العالم، هي من لديها التنوع القومي، مثل سويسرا وبلجيكا، وفي آسيا الهند. من حظ سورية أن تكون متعددة الشعوب والقوميات والإثنيات، فهذا غنى وثروة وموضع اعتزاز لكل وطني سوري مخلص طبعًا. لا ألوم كثيرين ممن تربوا في حضن البعث ونظامه الشوفيني لعقود، والذين ما يزالون أسرى ثقافة وخطاب النظام الشمولي، خصوصًا عندما يتمسكون بمبدأ الأحادية القومية حتى الآن، علاوة على تمسكهم بمبدأ الأحادية الحزبية والطائفية والعائلية والفردية، عندما كانوا في حضن النظام. أيها السادة يبدو أنكم لم تدركوا بعد، أن الثورة وضعت حدًا لخطاب نظام الاستبداد وثقافة البعث الشوفينية العنصرية.
لذلك أقول: “إن السوري الجيد، الوطني الصادق، هو من يعارض النظام لطبيعته الاستبدادية وركوبه موجة الأحادية القومية والمذهبية والعائلية والفردية. ومن يسعى لإيجاد البديل الديمقراطي وتصحيح الخطأ التاريخي حيال المكونات غير العربية، وإعادة بناء سورية الديمقراطية التعددية التشاركية الجديدة، والاعتراف بالخطايا كلها التي اقترفها النظام، ورؤية الواقع السوري التعددي كما هو، والاعتراف بحقوق الآخر المختلف، حينذاك، يمكن أن يتوافق السوريون الصادقون من الأطياف كلها لإعادة بناء وطننا جميعًا.
في غضون السنوات التسع الأخيرة، وإلى جانب ما قدمه السوريون من تضحيات من خلال ثورتهم الوطنية في مواجهة الاستبداد، كان هناك اشتباك من نوع آخر طاول الثقافة السياسية في جميع أوجهها الإنسانية والحقوقية والقانونية والجغرافية والتاريخية. فقد طرأ تغيير واضح، خاصة في البدايات، على نبرة ومضمون الخطاب الوطني لسوريي المعارضة، بمزيد من الانفتاح واحترام الرأي الآخر، وبان التمايز إلى درجة التناقض مع خطاب النظام وأعلامه. لكن، بكل أسف، بعد مرور العامين الأولين من عمر الثورة، حصل نوع من الردّة، خصوصًا بعد تسلط الإسلام السياسي على مقدرات كيانات المعارضة، وبدأت الكفة تميل إلى مصلحة الخطاب الديني المذهبي (أسلمة الثورة، استحضار أسماء رموز حقبة الخلفاء الراشدين لتسمية فصائل وفرق عسكرية، وإشباع الخطاب الثوري بالتكبير والبسملة) وهو إقرار عملي بنفي الآخر السوري غير المسلم وغير المتدين في مواجهة (جلب النظام الطائفي لميليشيات بأسماء الرموز الشيعية، مثل الحسن والحسين والعباس).
لم تقتصر (الحرب الثقافية) على الجانب الديني والمذهبي، بل شملت القضايا الفكرية والسياسية، والاختلافات المفاهيمية حول جملة من المسائل التي تشغل بال السوريين، والمتعلقة بالبدائل المحتملة للاستبداد والنظام السياسي المقبل، وتعريف سورية ومكوناتها وأطيافها وحقائق تعدديتها القومية والدينية والمذهبية والثقافية، التي كانت ممنوعة من التداول علانية، في ظلّ المنظومات الأمنية الحاكمة، منذ نحو نصف قرن، وما يزال هناك في الصف الوطني السوري من القومية السائدة، وأقصد الشركاء العرب، المواكب للثورة، جملة من المفاهيم الخلافية، خصوصًا حول الكرد وجودًا وحقوقًا، وكذلك المكونات الأخرى، ومن شأن تكثيف الحوار حولها تذليل الفروقات العميقة بشأنها في المستقبل، ومن أبرزها:
أولًا: المفهوم الأحادي في تناول المجتمع السوري وعدّه وحدة بسيطة غير مركبة، تأثرًا بالخطاب الرسمي وبرامج التربية والتعليم ومواد تاريخ سورية التي وضعها مثقفو النظام، وفي الأحرى الدائرة الثقافية في القيادة القومية ثم القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، الحاكم منذ بداية ستينيات القرن الماضي، والاستمرار في النظر إلى سورية أنها تضمّ العنصر العربي فحسب، مع تجاهل المكونات الأخرى، قومية كانت أم إثنية. ومن أجل تمرير هذه الجريمة ضدّ الإنسانية، وضعت المنظومات الأمنية الحاكمة منذ تسلط حزب البعث مخططات ومشاريع التعريب والتهجير ضدّ الكرد بمختلف مناطقهم، ابتداء من الجزيرة، التي تحولت إلى قانون معمول به قيد التنفيذ تحت ظلّ حكومة يوسف زعين عام ١٩٦٦. وما ساعد في انتشار هذا المفهوم الإقصائي المتجاهل للآخر، كون الدساتير السورية منذ الاستقلال وضعت على المبدأ نفسه، الذي ينفي التعددية الوطنية السورية.
ثانيًا: المفهوم الذرائعي الذي قد يتقبل أمام ضغط الواقع وجود الكرد وأحقية مطالبهم المشروعة، ولكنه يتحجج بأنه لو تم التجاوب مع مطالب الكرد، فيجب الاستجابة لمطالب المكونات الأخرى أيضًا، ما قد يؤدي للوقوع في مسلسل يطول ولانهاية له، لذلك من الأفضل عدم إثارة الموضوع الكردي، بل إخفاؤه وتجاوزه. هذه الذريعة كنا نسمعها من أحزاب (الجبهة الوطنية التقدمية) وحتى من بعض المسؤولين البعثيين “المنفتحين!؟” وعندما يتم الردّ على الذرائعيين هؤلاء بالتساؤل لمَ لا يحصل الجميع على حقوقهم المشروعة في إطار الوطن الواحد؟ تراوح الأجوبة بين السكوت والرفض وعدم قبول تقسيم سورية، علمًا أن إنجاز الحقوق وطمأنة الآخر هما الضمانة لوحدة البلاد، وليس الإنكار والسكوت والتردد وإخفاء الحقائق.
ثالثًا: مفهوم “الحل المواطني للمسألة القومية” وهو من أسوأ المفاهيم وأكثرها جهلًا بتاريخ حركات الشعوب التحررية والمسألة القومية في جميع القارات، فلم يظهر طوال تاريخ القضية القومية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية منذ القرن التاسع عشر، تجربة تمّ فيها حلّ المسألة القومية بـ “الحل المواطني”. ففي عهد الانتداب الفرنسي لبلادنا كانت حكومات الانتداب تطرح دومًا أمام المطالبين بالاستقلال توفير حقوق المواطن بالحرية والعمل والصحة والسفر والتملك والتجارة، لكن كلّ ذلك لم يمنع رواد الاستقلال من المطالبة بالحرية. بمعنى آخر، حقوق المواطن ليست بديلًا لإرادة التحرر وتقرير المصير، وفي الحالة الكردية السورية لن تكون حلًا للقضية القومية والحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والديمقراطية، والتاريخ يوضح لنا، في الشرق والغرب، وجود تجارب اعتمدت صيغ الاستقلال والكونفدرالية والفدرالية والحكم الذاتي واللامركزية والمناطق القومية والإدارة المحلية، سبيلًا لحل القضايا القومية للشعوب والقوميات، ومن المؤكد أن التوافق الكردي العربي كفيل باختيار الحل الملائم للحالة الكردية السورية عبر الحوار السلمي، ضمن إطار سورية الواحدة. حقوق المواطن والمواطنة تتعلق بحرية الفرد، لا بحقّ الشعوب والمكونات القومية.
رابعًا: المفهوم الشرطي، أي لماذا حلّ القضية الكردية في سورية أولًا؟ ولننتظر حلها بتركيا وإيران والعراق ثم يأتي دور سورية! هشاشة هذا الفهم تظهر أولًا من أن هناك نوعًا من الحلّ الديمقراطي للقضية الكردية في العراق على أساس الفدرالية، وسورية ليست الأولى، وإذا تصورنا مثلًا أن التركي والإيراني والعراقي وكلّ من جهته يطالب بالأمر ذاته، فذلك يعني أن تبقى القضية الكردية من دون حلّ إلى الأبد، وقد يكون ذلك هو الهدف من أصحاب هذا الشرط التعجيزي غير العادل وغير الواقعي.
خامسًا: مفهوم “فوبيا الانفصال الكردي”، وهو مفهوم بني على مواقف مسبقة من دون تمعن وتفكير واطلاع على الواقع، فمجرد مطالبة الكردي السوري بأدنى حقّ يُتهم بالانفصالية، ويُحكم عليه أنه يسعى لتقسيم البلاد واقتطاع جزء منه، ويعود الفضل الأكبر لهذه التهمة الجاهزة للبعثيين والشوفينيين من التيارات السياسية الأخرى، وفي حقيقة الأمر فإن أيّ شعب على كوكبنا، وبحسب مواثيق حقوق الإنسان وشرعة الأمم المتحدة والمبادئ السامية، من حقّه تقرير مصيره بالصيغة التي يرتئيها بحرية، بما في ذلك الاستقلال، ولكن كما يظهر، فإنّ معظم الكرد السوريين لا يرون من مصلحة شعبهم ووطنهم الانفصال أو إعلان الاستقلال، لأسباب وجيهة ذاتية وموضوعية.
سادسًا: المفهوم الشكلي للمساواة، أي مطالبة الكردي السوري بالتوقف عن طرح الحقوق القومية، لأنّ زمن القوميات انتهى، وبعبارة أخرى قبول الواقع الراهن، بالعيش في ظل الدولة العربية السورية، وعدم السماح بالمرور بشكل طبيعي في المراحل التي تؤسس الشخصية القومية وتعزز هويتها وترسخ ثقافتها، كما حصل مع الشريك العربي السوري منذ نحو مئة عام وحتى الآن، وفرض مساواة قسرية غير متكافئة.
سابعًا: المفهوم الاعتباطي لقراءة التاريخ، واعتبار أن للكرد كامل الحقوق، والدليل أن سورية شهدت رؤساء جمهورية وحكومات ووزراء من أصول كردية، وتناسي أن هؤلاء لم يكونوا ممثلين عن الكرد، ولم يكونوا مخولين بالتحدث باسم الكرد، ولو كانوا كذلك لطالبوا بإعادة كتابة الدستور ليتضمن اعترافًا بالوجود الكردي وبالحقوق والمشاركة الفعلية بالسلطة والقرار، ولا شكّ في أن هؤلاء خدموا سورية بصورة فردية، وهناك آخرون تبوؤوا مناصب عالية من مختلف المكونات التركمانية والمسيحية، وقدموا الخدمات بحسب اختصاصاتهم، ولكن من دون تمثيل مكوناتي.
ثامنًا: مفهوم القراءة الناقصة المؤدلجة للجيوسياسيا الكردية السورية، في محاولة لتجيير مصادر منحازة أو مشكوك في أمرها، ولتجاهل كلّ المخططات العنصرية ونتائج تغيير التركيب الديموغرافي، التي نفذتها الأنظمة والحكومات منذ قرن وحتى الآن. والوثائق الدامغة متوافرة في هذا المجال، طبعًا لا ننسى هنا أن تاريخ بلادنا سطّره الحكام من منطلقات شوفينية معادية للكرد ووجودهم.
تاسعًا: المفهوم اللاموضوعي اللاعلمي لتفسير مصطلحات الشعب والقوم والأمة، كالادعاء بعدم جواز وجود شعب آخر في سورية غير الشعب السوري، والمقصود الشعب الكردي، وهذا نفي للتعددية القومية، فلا شكّ في أن هناك التباسًا بين معاني الأمة والشعب والقومية، وتختلط الأمور على بعضهم بهذا الصدد، فمثلًا أحد بنود مشروع دستور كردستان العراق ينص على الآتي: (شعب كردستان العراق عبارة عن الكرد والتركمان والكلدو آشور والأرمن والعرب) والمعنى أن كردستان لا تتشكل من شعب واحد. ومثال آخر، تتكون تركيا أيضًا من شعوب وأقوام، وإيران كذلك متعددة الشعوب والقوميات، وبلجيكا وسويسرا المتقدمتان تتكونان من عدة شعوب، وكذلك الهند.
عاشرًا: مفهوم تعريف الكرد بالأحزاب. لم يحدث في التاريخ أن عُرّف شعب بأحد أحزابه، فلو فرضنا أن حزبًا ما سار في النهج الفاشي، فهل سنأخذ كلّ الشعب بجريرته؟ هل يجوز محاسبة العربي السوري بخطايا حزب البعث؟ أو عدّ هذا الحزب معادلًا للعرب؟ وبخاصةٍ أن الساحة الكردية السورية معروفة بعد تسعة أعوام من نشوب الثورة، بأنها لا تقتصر على الأحزاب وسلطة الأمر الواقع، بل هناك الأغلبية الوطنية المستقلة الباحثة عن سورية تعددية تشاركية جديدة.
تشخيص وتحديد وتعريف الهوية الوطنية الجامعة، والهويات والانتماءات الفرعية، وحقيقة تعدادها ونسبها لسكان سورية ولو بصورة تقريبية، إلى حين إجراء الإحصاء الوطني المستقلّ العام، فكلنا نعلم أن تناول هذا الموضوع كان وما يزال من المحرمات في منطق نظام الاستبداد وسياسته المتبعة منذ عقود، بل من الأمور التي تحسب على (الأمن القومي وأمن الدولة) والحقيقة تمسّ أمن النظام، فالتعددية الديمقراطية ومبادئ العيش المشترك بين المكونات، ستسحب أوراق الفتنة القومية والدينية والمذهبية من أيدي النظام وأجهزته، وتحرمه من قاعدة (فرق تسد).
إن الاعتراف بوجود وحقوق الآخر أمر حضاري وديمقراطي، وأحد مبادئ ثورتنا، ويوفر الطمأنينة للهويات كافة، ولكلّ المكونات، ويدفع الجميع للتصالح والتضامن من أجل وطن حرّ يضمن أمن وسلامة وحقوق ومستقبل الجميع.

مشاركة: