إشكالية العلاقة بين النظام الأسدي والموحدين الدروز
تُطرح اليوم مسألة الهوية الوطنية وعلاقتها بالمكونات المجتمعية الإثنية والمذهبية، في محاولة لإعادة ترميم الوحدة الوطنية وإقامتها على أسس جامعة. تتعرض الهوية الوطنية، في المشرق العربي عامة وفي سورية خاصة، إلى خطر التشظي والانقسام الذي يهدد وحدة هذه المجتمعات ويعرقل خروجها من أزمتها الراهنة. ففي لبنان والعراق وصل نظام المحاصصة الطائفية إلى طريق مسدود، وفي سورية انتهى نظام الاستبداد القائم على الهيمنة ذات الطابع الطائفي، إلى أزمة غير مسبوقة أودت باستقلال البلاد.
كانت سورية منذ القدم ملتقى الهجرات والثقافات بحكم موقعها الجغرافي المميز، وهذا ما يفسر التعددية الإثنية والطائفية. استخدم نظام الأسد العصبيات ما قبل السياسية، الدينية منها والإثنية والعشائرية والزبائنية، في سبيل الالتفاف على قانون السياسة العمومية، وتحويل الدولة من إطار لتوليد إرادة عامة إلى أداة في تأبيد السلطة.
جبل العرب عرين الطائفة المعروفية والوطنية السورية
تعاظم دور الجبل في الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، وربما أخذت جغرافيته وتضاريسه، إضافة إلى عزيمة فرسانه، أهمية خاصة في هذا الدور الوطني الطليعي في مواجهة المستعمرين الجدد. انطلقت الثورة السورية الكبرى بقوة في الجبل عام 1925 واحتضنتها الأكثرية “السنة” في الجنوب السوري وفي دمشق وغوطتها، واشترك الجميع، من دروز وسنة ومسيحيين في مشروع وطني تحرري، ولولا هذا المشروع وهذا الاحتضان لبقيت ثورًة محلية يسهل تطويقها وإخماد جذوتها.
حظيت هذه الثورة باهتمام الوطنيين الذين قدموا لها سبل الدعم، وفتحوا أمامها الآفاق لتنتشر في مختلف أرجاء الوطن السوري. وأصر زعماء “السنة”، ومنهم الزعيم الكبير عبد الرحمن الشهبندر، طيب الله ثراه، على تسمية سلطان باشا الأطرش قائدًا عامًا للثورة السورية. عاش الزعيم الدمشقي الشهبندر، بين الثوار في الجبل وكان من القادة البارزين في هذه الثورة. أدرك أهمية جغرافية الجبل في منازلة الاستعمار المدجج بآلة حربية متقدمة، وعرف عن كثب شجاعة هؤلاء الرجال، وإقدامهم واستعدادهم للتضحية من أجل الحرية والاستقلال.
هكذا دخل جبلُ العرب في عمق الوطنية السورية، وسطّر بدماء أبنائه ملحمة المجد، بتناغم مع جميع مكونات المجتمع السوري، ودخل المشهد السياسي والعسكري بدور أساسي بعد الاستقلال، وكان معيار الوطنية والنزاهة والولاء للوطن، هو الأساس في هذا الدور.
تشكّلت الدولة الدستورية الحديثة في سورية، بعد الاستقلال، عندما قامت الأكثرية السنية ببلّورة المشروع الدستوري، وساهمت في دفع الأقليات للاندماج معها وفقًا له، فكانت الأكثرية رافعة الدولة الوطنية. كما كانت الكتلة الوطنية المتمركزة في دمشق ودرعا والسويداء والقنيطرة، هي مركز الجذب السياسي في تشكّل الكيان السوري. ولا تزال السويداء مكّونًا مهمًا في تركيب هذه القاعدة للمشروع الوطني السوري.
حافظ الأسد والدروز في المؤسسة العسكرية
جرت تصفية الأكثرية “السنة” من الجيش بعد انقلاب 8 آذار/ مارس بتهم ملفقة، وإزاحة ما تبقى منهم في إثر حركة جاسم علوان الناصرية. أُبعد الجميع تدريجًا في ما بعد، واحتُكرت الكليات العسكرية ليشكل الطلاب “العلويون” الأغلبية الساحقة فيها. استغل حافظ الأسد الصراعات داخل المؤسسة العسكرية لتصفية كل من يمكنه عرقلة مشروعه في احتكار السلطة المطلقة.
كانت مشكلة حافظ الأسد مع “الدروز” مثل مشكلته مع الأكثرية “السنة”، فأبناء جبل العرب شكلوا بعد الاستقلال ثقلًا عسكريًا وسياسيًا في الدولة السورية، أكبر كثيرًا من حجمهم الديموغرافي، برضى وقبول الأكثرية “السنة” ومباركتها. هذا الدور هو حصيلة انخراط “الدروز” في مشروع وطني عروبي منذ مطلع القرن العشرين، ولدورهم البارز في معارك السوريين من أجل الحرية والاستقلال، فكان فرسان جبل العرب في مقدمة جيش الملك فيصل، وهم أول من رفع العلم العربي في دمشق، التي استقبلتهم استقبال الأبطال عام 1918.
في انقلاب 23 من شباط/ فبراير عام 1966، أُزيح القادة التاريخيون لحزب البعث، وأُكِّدت السيطرة شبه التامة للمشروع الدكتاتوري الطائفي تحت شعارات التقدم والوحدة والاشتراكية. كان الرائد سليم حاطوم أبرز عناصر هذا الانقلاب. لكنه سرعان ما أدرك أنه وُرّط من قبل الأسد وجديد والكتلة “العلوية”، وشعر بالخداع، فالقيادة المدنية والعسكرية أصبحت حقيقة في أيدٍ علوية خالصة. ندم حاطوم واتصل بمن انقلب عليهم وعمل على إخراجهم من السجون وتهريب بعضهم إلى لبنان، وبدأ الإعداد لانقلاب آخر، فلم يعد في الجيش سوى كتلة الدروز والإسماعيليين، وُضع الجميع تحت رقابة ومتابعة من قبل جديد والأسد.
في أيلول/ سبتمبر عام 1966 قام حاطوم بمحاولته الانقلابية الفاشلة، وليتجنب سفك الدماء فضّل الهروب إلى الأردن لينادي من إذاعتها أن حافظ الأسد وأعوانه يقودون سورية إلى حرب أهلية بعد تصفية الجيش السوري من مكوناته الوطنية.
أُلقي القبض على معظم الضباط الدروز، وزُجّ بهم في المعتقلات بحجة المشاركة في “مؤامرة حاطوم” وكثير من بينهم ليس لهم أيّ صلة أو معرفة بما يدور. وبلغت الاعتقالات حدًا دفع قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا أن يبعث ببرقية إلى رئاسة الأركان يستنكر هذه التصفيات في الجيش لأبناء الجبل، إذ بلغ عدد الضباط المعتقلين والمطرودين بين 200 و300 ضابط.
كان حافظ الأسد مدركًا لهذه العقبة الكبيرة في وجه مشروعه الدكتاتوري الطائفي، فدبر المكائد والمؤامرات للتخلص من أبناء جبل العرب، وإزاحتهم نهائيًا من المؤسسة العسكرية، وتهميش دورهم، كما همّش كل مكونات المجتمع السوري وأقصى الجميع، فلم يبقَ في المشهد إلا من يقبل الإذعان لإرادة الحاكمين الجدد.
شيطنة حاطوم وتخوينه
سليم حاطوم شاب مندفع متهور وشديد الحماسة، أصبح وهو برتبة ملازم أول، بطلًا من أبطال الجيش السوري. عندما كان على الخط الأول في جبهة الجولان، خاض معركة مشرفة انتهت بهزيمة المعتدين الإسرائيليين الذين لم يتمكنوا من سحب آلياتهم وأسلحتهم المحطمة من دبابات ومدرعات، فتم سحبها وعرضها في شوارع دمشق في عام 1962. هذه المعركة، إضافة إلى ما سبقها من مواجهات، جعلت من حاطوم بطلًا وطنيًا وأكسبته شعبية واسعة في الجيش السوري، ما أقلق الأسد وأصحاب المشاريع الطائفية.
في حرب 5 حزيران/ يونيو 1967 كان الجيش السوري يفتقد إلى خيرة كفاءاته وضباطه الوطنيين، ويفتقد بوجه خاص إلى قيادة شجاعة ووطنية، فبعد أيام من بداية الحرب وقبل أن يدخل الجيش في مواجهة مع إسرائيل أصدر حافظ الأسد، وزير الدفاع، أمرًا إلى الجيش بالانسحاب الكيفي من الجولان بلا حرب ولا ضرب. وولى ضباط الأسد أدبارهم هاربين تاركين أسلحتهم ومواقعهم المحصنة التي كان بإمكانهم أن يقاوموا فيها سنوات طويلة.
وأشاعت أجهزة الاستخبارات، بهدف امتصاص الغضب الشعبي، أن سبب الهزيمة هو خيانة “الدروز” الذين “أشاروا بالمرايا إلى الطيران الاسرائيلي”! وكذلك فعلت الأجهزة الأمنية بعد كل هزيمة، فأصبح الدروز شماعة تُعلق عليها هزائم ضباط الأسد.
بعد عدة أيام من هذه الهزيمة المخجلة، اتصل سليم حاطوم بالقيادة السورية طالبًا السماح له ولجنوده الدخول للدفاع عن دمشق التي كانت طريقها مفتوحة أمام الجيش الإسرائيلي. وافقت القيادة على هذا الطلب ولكنها غدرت – كعادتها–وألقت القبض على حاطوم وعُذب حتى الموت، واقتيد إلى الإعدام وهو جثة هامدة، بتحريض وإشراف حافظ الأسد، مستغلًا غياب رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي الذي كان سيرفض تنفيذ هذا الإعدام لو عاد إلى البلاد. تم التخلص من هذا الشاب المفعم بالوطنية والرجولة، لكنه يميل إلى التهور والرعونة، ويفتقر الى الدهاء السياسي. أعدم وهو لم يبلغ الأربعين من العمر، تم الغدر به، بعد أن جاء وجنوده للدفاع عن بلادهم ومقاومة الغزاة.
انقلاب حافظ الأسد
بدلًا من أن يستقيل بعد الهزيمة أو يُحاكم محاكمة ميدانية لتقصيره وخيانته، تمسك بمنصبه ورفض الاستقالة وقفز إلى قمة السلطة في عام 1970. طبّق نظام الأسد مبدأ “فرق تسد” في سياسته اليومية، وذلك ليتمكن من إحكام السيطرة على المجتمع السوري. على العكس من جميع الأنظمة السابقة التي كانت تدفع باتجاه دولة المواطنة، التي يشعر مواطنوها بقوة ارتباطهم بدولتهم، بقدر ابتعادهم عن روابط ما قبل الدولة (العشيرة والقبيلة والطائفة …الخ)، عمل الأسد على نسف هذا الجهد بإقامة نظامه من خلال التلاعب بالتوازنات الطائفية والقبلية والإثنية في المجتمع.
تبين مراجعة الدراسات الحديثة المتصلة بالمسألة الطائفية عمومًا وخصوصيتها في المجتمع السوري، كيف عمل النظام على إنكارها، في حين كان بسلوكه اليومي يستفز الطائفية لدى جميع مكونات المجتمع، عبر استحواذه مؤسسات الدولة على أسس طائفية، واستخدام سلاح الطائفية لتفكيك وحدة المجتمع.
كان السوريون في الستينيات وما قبلها، يصنفون أنفسهم ناصريين أو قوميين أو شيوعيين، أو بعثيين، وكان الاستقطاب والتحالف في الجيش يحدث بين ضباط من الريف والمناطق الجبلية في مواجهة آخرين من أبناء المدن الكبرى. في نظام الأسد، بدأ الحديث عن علوي وسني ودرزي ومسيحي وغيرها.
أخطر ما فعله الأسد بحق السوريين هو هذا النكوص بهم إلى ما قبل الدولة، ووقف السياق الذي كان يعمل على تقدمهم نحو الدولة بالمعنى الحديث. كما حلّت الرقابة البوليسية والقمع محل التمثيل السياسي والرقابة القضائية أو البرلمانية للسلطة التنفيذية، وتضخمت كل أشكال التصرفات الدكتاتورية والزبائنية على حساب دولة القانون.
قائد الثورة السورية الكبرى ونظام الأسد
بقي وجود سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، كالصخرة على صدر الأسد، خصوصًا أن رجاله الأمنيين ينقلون له أن الباشا لا يكنّ له المودة، وهذه حقيقة. فلم يزرْ حافظ السويداء سوى مرة واحدة، وذهب مرة أخرى “معزيًا” أو على الأصح محتفًلا، بوفاة سلطان باشا وبغياب رمز كبير من رموز الحرية والوطنية السورية. فغياب هذا الزعيم الوطني الكبير، يسهل فرصة ظهوره المصطنع عن طريق الصور والتماثيل والخطاب الإعلامي الأجوف الذي جعل منه “القائد التاريخي” “بطل التشرينين” “المعلم الأول والطالب الأول والقاضي الأول” في طقوس عبادة الشخصية التي استخفت بعقول السوريين. سقطت هذه الهالة المصطنعة مع أول تظاهرة أطلقها الشعب السوري مطالبًا بحريته، وتناثرت حطام تماثيله في شوارع المدن السورية.
بقي سلطان باشا الأطرش في ضمير كل الوطنيين السوريين، ورمزًا يعتزّ به أبناء الجبل. سعى النظام الأسدي جاهدًا لتهميش هذا الرمز ومنع شباب الجبل من الاحتفال بذكرى وفاته في 26 آذار/ مارس من كل عام. كان يستنفر أجهزته الأمنية ويقطع الطرق المؤدية إلى القريا، حيث يرقد رمز الحرية في مثواه الأخير. فهو يريد مسح هذه الرموز العملاقة من الذاكرة الوطنية.
أدرك عقلاء الدروز، خصوصًا بعد اغتيال الزعيم كمال جنبلاط، أن الأسد يدفع بهم إلى الظل والتهميش، ولن يسمح بزعامة وطنية درزية تستقطب الناس. وهذا لم يقتصر على الدروز، وإنما شمل الجميع، فاغتيال صلاح الدين البيطار في باريس، واغتيال رفيق الحريري يأتيان في إطار هذه السياسة الأسدية التي اتخذت منحًى خطرًا بعد تحالفها الطائفي مع ملالي طهران.
انتفاضة السويداء في خريف عام 2000
انطلقت هذه الانتفاضة بعد 4 أشهر من تسلم الوارث رئاسة الجمهورية. بعد مقتل شاب (فادي عريج بطل الجمهورية لألعاب القوى) من قبل البدو “المرتبطين بأجهزة النظام”. قام زملاؤه في الثانوية بتظاهرات احتجاجية للمطالبة بوضع حدٍّ لتسلط أجهزة الأمن وعملائها، حيث أصبح فساد هذه الأجهزة طاغيًا، خصوصًا في التعدي على حقوق الناس، وفي رعاية عمليات التهريب بالتعاون مع بعض البدو، تهريب الأغنام والمخدرات والآثار.
ضاق الناس ذرعًا بتسلط هذه الأجهزة وإمساكها بمفاصل الحياة. تظاهر الشبان وسيطروا على المدينة واقتحموا دار الحكومة، ولاذت الأجهزة الأمنية بالفرار أمام الغضب الشعبي العارم. عدَّ النظام ذلك نوعًا من العصيان المدني وخروجًا على السلطة، فوجئ الناس بدخول الدبابات وإطلاق الرصاص المتفجر القاتل الذي يستهدف الرأس والصدر. وقُتل العشرات وأُصيب المئات، لا بهدف تفريق التظاهرات بل بهدف الترويع والقتل، وزُجّ بالآلاف في المعتقلات التي لم تعد تتسع، فتحول الملعب البلدي إلى معتقل كبير.
وهكذا غرقت السويداء بدماء شبانها، طلبة الثانوية، ورُوّعت المدينة في ظروف من الصمت وقطع الاتصالات، وإطلاق الشائعات وإعطاء الأحداث صبغة طائفية، وكأنها مواجهة بين البدو والدروز، وشائعة أن “الدروز لا يحبون البدو لأنهم سنة”. وبعد مجزرة المستشفى التي سقط ضحيتها 18 شابًا بدم بارد من قبل الحاجز الموجود هناك، سرعان ما أشيع أن الأمر عبارة عن تصرف فردي، ومن أعطى الأمر هو ضابط “حموي سني”. هذه الأكاذيب اعتادها السوريون، فسرعان ما تم الكشف عن حقيقة الضابط القاتل، فهو من المقربين من قمة النظام.
يعمل النظام بلا كلل على التحريض وزرع الفرقة وإشاعة الكراهية بين مكونات المجتمع، فهذه سياسة ثابتة في دولة آل الأسد. فالتحريض لم يتوقف يومًا ضدّ الدروز وتخوينهم، وعندما تسنح الفرصة يُحرضون على شركائهم في الوطن.
بعد استعادة السيطرة على المدينة، ودخول الأسلحة الثقيلة، وإغراق تظاهرات شبان الثانوية بالدماء، عمل النظام على تسوية مهينة ومذلة، مستخفًا بحياة الناس عن طريق عملائه الذين طردهم المحتجون ورفضوا الحوار معهم. وتم التعتيم على هذه الانتفاضة، ولم يعرف السوريون عنها شيئًا سوى بعض الشائعات التي تشوّه حقيقتها.
وصل وزير داخلية النظام الفاشي، محمد حربا، وبدأ بتوجيه اللوم إلى قائد الشرطة، العميد خضر المزيد، وهو من عشائر الجزيرة، وأخذ عليه عدم إطلاق النار على المحتجين، والسماح للشبان بالدخول إلى السرايا وهدده بأقصى العقوبات. فأجابه بأنه لن يطلق النار ولن يقتل أحدًا: “وشو صار انكسر لوحين بللور!”. هذا الضابط الوطني الأصيل تم تهديده بأشد العقوبات لأنه لم يقتل.
منذ ذلك الحين، وضع النظام ثقله الأمني والعسكري في السويداء التي غدت مطوقة بالمدافع والدبابات من جميع الجهات، مثلها مثل دمشق، وأصبح فيها من الجنود وعملاء الأمن أكثر من عدد السكان. وتوقفت مظاهر التنمية في المحافظة باستثناء تطور الأبنية والقصور العائدة للمحافظ وفرع الحزب وأجهزة الأمن. تغولت أجهزة الأمن على المجتمع بشكل غير مسبوق، واخترقت كل مفاصل الحياة الاجتماعية. فبعد أن كانت شعبة الاستخبارات عبارة عن شقة صغيرة في مدخل المدينة، مقابل الشرطة العسكرية، أصبح لديها الآن أبنية وقصور فخمة، حتى المستشفى القديم الذي ورثناه عن الانتداب الفرنسي، تم تحويله إلى مركز أمني. بعد هذه الانتفاضة، أضيف إلى هذه الفروع، فرع الأمن الجوي سيء الصيت.
لم يعد أمام الشباب سوى التفكير في الهجرة أو التطوع في أجهزة الأمن والجيش، عناصرًا وضباط صف في أحسن الحالات، بعد احتكار كليات الضباط من قبل جبلة والقرداحة، فابن السويداء–كغيره من السوريين- لا يحلم برتبة ضابط إلا نادرًا.
بسبب هذا التاريخ الحافل بالمواجهة مع النظام الطائفي الأسدي، تعرضت محافظة السويداء للتهميش والحرمان، فهي تفتقر إلى البنية التحتية، والخدمات اللازمة لتطور المجتمع. كما حُرمت من التصنيع، وتفتقر إلى السهول الزراعية وإلى الموارد الطبيعية. غياب الحريات وتوقف التنمية الاقتصادية دفع الشباب إلى الهجرة. عرفت محافظة السويداء “تغريبتها” مبكرًا، بدأت منتصف السبعينيات في القرن الماضي وتصاعدت في العقد الأخير، وأصبح ـ بحسب بعض التقديرات ـ نحو ثلثي أبناء المحافظة يعيشون في المهجر، في الخليج العربي ودول أميركا الجنوبية، وحديثًا في أوروبا وكندا. هذا النزف في القوى البشرية، خصوصًا الشابة والمؤهلة للنهوض بأعباء التنمية، يطرح مشكلة خطرة، تترك آثارها على المجتمع من مختلف الجوانب.
عمل النظام الأسدي على ترويض أبناء جبل العرب، ومحاولة إذلالهم وتحويلهم إلى خدم لضباط القرداحة، عبر الخدمة الإلزامية. يعرف نظام الأسد جيدًا عنفوان شباب الجبل وشهامتهم وثوريتهم، فهم لا ينامون على ضيم، فعمل جاهدًا على انتزاع هذه القيم النبيلة، وعلى سحقهم واستعبادهم كغيرهم من السوريين. وكانت الخدمة الإلزامية الفرصة الملائمة لتدجين السوريين جميعًا وإذلالهم وترويضهم. تحول الجيش السوري من جيش وطني يُنمّي مشاعر الاعتزاز والكرامة، ويدافع عن الحدود، ويربي أفراده تربية وطنية صحيحة، تحول إلى مدرسة للعبودية والفساد والإذلال والتمييز الطائفي. وكل أبنائنا الذين مروا بهذه المؤسسة منذ الثمانينيات، يعرفون ذلك جيدًا عبر تجاربهم المرّة. يعرفون كيف كانوا عرضة للاستغلال، يُجبرون على تأدية الخدمات الخاصة للضباط والمسؤولين، وبينما يُسرق منهم طعامهم، كان عليهم دفع الرشى للحصول على أبسط حقوقهم.
انفجار الثورة السورية
بعد انفجار الثورة في درعا، عمل النظام بكل ما يمتلك من أدوات لمنع انتقال الثورة إلى السويداء، عبر حملة مركزة من الترغيب والترهيب، وتكثيف الحضور الأمني في مدن المحافظة، وإطلاق حملة من الشائعات تتناول العلاقات بين المحافظتين.
اختطفت أجهزة النظام المفكر الكبير شبلي العيسمي من “عاليه” في لبنان، خشية تأثيره في المشهد، كونه من الزعامات المحترمة ذات التأثير الاجتماعي الكبير، ولا يزال الشيخ التسعيني مختفيًا حتى اليوم.
عمل النظام على الإيقاع بين درعا والسويداء، ووضع ثقله الأمني والمادي والإعلامي في محاولة خلق صراع بين الجارتين، وإحداث القطيعة المجتمعية ومنع التواصل بين السهل والجبل. لكن المجتمع الأهلي تمكن من مقاومة سياسة النظام، ومن إحباط مخططاته في معظم الأحيان.
على الرغم من كل محاولات النظام، سرعان ما نُظمت الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات في مدن شهبا والسويداء، دعمًا للحراك في درعا، واستنكارًا للعنف والقتل الذي قوبلت به التظاهرات السلمية. وتعرض المئات من شبان السويداء للاعتقال، استشهد منهم العشرات تحت التعذيب.
شكل مجتمع السويداء حاضنة حقيقية لكل من نزح هربًا من براميل النظام، خصوصًا من درعا، وقدمت كل وسائل الدعم الطبي والغذائي لأهالي درعا في البلدات المحاصرة، في تحدٍّ واضح لكل ما فعله النظام لمنع التواصل والتعاضد بين المحافظتين.
عبر استخدام العنف الأعمى غير المسبوق، وتركيز هذا العنف في الأوساط “السنية”، نجح النظام في استدراج ردات فعل طائفية هنا وهناك، ليستغلها في تخويف “الأقليات الدينية أو المذهبية “، بهدف تحييدها. كما سعى لإثارة نزاعات داخلية وتفجيرها بأقصى ما في الكراهية والعنف من قدرات تدميرية، لإدراكه بأنه لن يتمكن من البقاء في مواجهة مجتمع موحد.
إضافة الى ذلك، حاولت السياسة الإيرانية العنصرية المذهبية، في السنوات الماضية، اقتلاع الطوائف من الأنسجة الوطنية، وتخريب الوطنيات المشرقية، واستدعاء سيل جارف من الانبعاث الهوياتي. لذا، ظهر التطرف “السني” في أحد أبرز وجوهه كردة فعل على السياسة المتطرفة للمنظومة الخمينية.
نظام الأسد وحركة الشيخ البلعوس وظاهرة رجال الكرامة
برز دور الشهيد الشيخ، وحيد البلعوس، منذ بداية ثورة الحرية والكرامة. ظهر بعفويته ونقائه وبساطته من العمق الشعبي، واستطاع بسرعة أن يسد الفراغ الذي تركه تغييب النظام للقادة والقيادة، سوى تلك المرتهنة لسلطته. شكل البلعوس حالة شعبية نمت وتطورت بسرعة، والتفّ حوله الكثير من رجالات السويداء، حيث مكّنته خلفيتيه الدينية من تحدي النظام وأجهزته الأمنية. أُسِّست الحركة على أساس دينيّ، إلّا أنّها مع امتدادها وتجذّرها في المجتمع، ومع مرور الزمن، بدأت تتّجه نحو الخروج من طبيعتها الدينيّة إلى فضاء الوطنية.
كان أهم ما يأخذه الشيخ البلعوس على أجهزة النظام، هو عملها على تسعير الفتنة بين أهل السويداء وأهل درعا، وفساد هذه الأجهزة ومتاجرتها بقوت الناس، وتحالفها مع السماسرة والمهربين وتجار الحروب. تمكن الشيخ من تشكيل قوة مسلحة أصبح يحسب حسابها، وعندما قويت شوكته تحدى النظام واقتلع بعض حواجزه التي كانت تمارس إذلال الناس. والخطوة الأكثر خطورة هي إعلانه حماية كل من يتمرد ويرفض الخدمة العسكرية في صفوف النظام، وأعلن أن أبناء السويداء لن يكونوا أداة في الحرب الأسدية على السوريين، وأنهم لن يخرجوا خارج المحافظة، وقامت مجموعاته بتحرير بعض العسكريين الذين أُوقفوا جُمعوا على الحواجز بهدف سوقهم خارج المحافظة.
أعلن الشيخ البلعوس أن سورية أمُّنا، وليس لدينا وطن بديل، وأن الولاء للوطن فحسب، لا لشخص ولا لجماعة، كما أعلن أن مهمة رجاله هي حماية الجبل وتأمين الأمن لأبنائه، ولكل من احتمى بأهله من النازحين، وطلب من الشباب عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية، فالخدمة الإلزامية انتهت بالنسبة إلى أبناء السويداء حتى وقف الحرب وإعادة بناء جيش وطني حقيقي. حرر رجاله بعض المعتقلين من بين أنياب أجهزة النظام وأخرجوهم من داخل المقارّ الأمنية عنوة. وهكذا تمكنت الحركة من حماية أكثر من 30 ألف شاب ممن رفضوا الالتحاق بالجيش الأسدي الطائفي.
ولكن النظام الأسدي عبر تاريخه لا يقبل ظهور زعامة شعبية حقيقية، لا في السويداء ولا في مكان آخر، فزعامة البلعوس النابعة من صميم القاعدة الشعبية، وتصاعد تأثيره، والتفاف الناس من حوله، أقلق النظام. استقطب البلعوس دعم أبناء الطائفة المعروفية التي تبحث عمن يعبر عن حقيقتها، ويحترم تاريخها الوطني، وتقاليدها في الحرية والكرامة، وتبحث عن زعامة تنأى بها عن أن تكون ملحقة بآل الأسد. فالبلعوس أخذ يكبر، مهددًا بسحب البساط من تحت “الزعامات” المرتبطة بأجهزة النظام.
في مطلع شهر أيلول/ سبتمبر 2015، تصاعد الحراك الشعبي السلمي في محافظة السويداء، واستمرت الاحتجاجات ثلاثة أيام متتالية، تطالب بإسقاط المحافظ وقادة الأجهزة الأمنية، لارتباطهم بالفساد وتلاعبهم بقوت المواطنين وعدم توافر سبل العيش. انقطاع الكهرباء وعدم توافر الوقود وغلاء الأسعار جعل معظم الناس تعيش تحت خط الفقر. أعلنت حركة رجال الكرامة حماية المحتجين وحذرت من المساس بهم. أدرك النظام بأنه يفقد السيطرة، ولم تعد أدواته وأجهزته قادرة على ضبط الأوضاع، وأن هذه الاحتجاجات التي تهدد بالاستمرار والاتساع تعني إسقاطه شكلًا ومضمونًا، وخروج السويداء من تحت عباءته.
مجزرة استهدفت قادة رجال الكرامة
في 4 أيلول/ سبتمبر من عام 2015، استُهدف موكب البلعوس ورفاقه بمفخخة ضخمة، موقعة انفجارًا يحاكي الانفجار الذي استهدف رفيق الحريري، كما استُهدف الجرحى ومن جاء إلى المستشفى للاطمئنان بمفخخة ثانية، في حصيلة مروعة أودت بحياة أكثر من 70 شهيدًا، بينهم قادة الصف الأول والثاني لحركة “رجال الكرامة”، إضافة إلى مئات الجرحى، بينهم كثير من الأطفال والنساء.
ستبقى هذه الجريمة الإرهابية، شاهدة على انحطاط آل الأسد وخستهم وحقدهم على أبناء الطائفة المعروفية، ستبقى في الذاكرة الجمعية للطائفة المعروفية ولأحرار سورية.
تتضح طبيعة العلاقة بين جبل العرب والنظام الأسدي، فهي في العمق علاقة صراع مستمر ومواجهة لم تتوقف. لكن، يجب عدم الوقوع في الوهم وسوء التقدير، فالقوى التي تطفو على السطح في السويداء اليوم، ترتبط عضويًا بالنظام، مثلها مثل غيرها على امتداد الوطن السوري، بعد أن نجح النظام بكل ما يملكه من إمكانات مادية وأمنية وإعلامية، من ربط مصير بعض الفئات بمصيره، ربطًا عضويًا، ولن تبرح المكان إلا برحيله.
يدرك العمق الشعبي في السويداء عدوانية نظام الأسد، نظام القتل والفساد والاستبداد، ويدرك أن هذا النظام ارتكب الجرائم بحق الدروز، كما فعل على مساحة الوطن السوري، وأصبحت أكاذيبه في “حماية الأقليات” مكشوفة للجميع. لن ينسى جبل العرب جرائم النظام بحق أبنائه وبحق الشعب السوري، ولا يمكنه الخروج على تراثه الوطني ولا التنكر لدوره التاريخي في تأسيس الوطنية السورية وفي التمسك بقيم العدل والحرية.
وينبغي أن يكون خيار الدروز الوحيد، الاندماج مع عمقهم الأكثري، لقطع الطريق أمام الأعداء، ومنعهم من اللعب على مسألة انتمائهم الحاسم للوطنية السورية، وذلك بقرار من نخبهم ورموزهم الاجتماعية والسياسية، بالانحياز النهائي إلى قضية الشعب السوري، التي هي قضية حق وعدل، قضية وطنية إنسانية أخلاقية نبيلة.
في وطن تهدِّده الأخطار، لا بدّ لجبل العرب أن يأخذ دوره في استعادة الوطنية السورية، التي تقوم على عقد اجتماعي يجعل من سورية وطنًا لجميع أبنائه، يحكمه الدستور، ويضمن تحقيق الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية للإنسان، في ظل دولة القانون.