مسار الخروج الطويل

يتضحُ أكثرَ كل يومٍ أن المناداة بحل سوري-سوري هو أفضل احتمالات الخلاص في سورية؛ بل لعله الوحيدُ بعدما فُقِدت الثقة بأداء النظام والمعارضة معًا في جولات مسرحية لم يعد خافيًا زلقها الأمورَ خارج مصلحة السوريين جميعًا، وكل محاولات الترويضِ يبدو أنها ترفع رأسها قليلًا لتتحطم على صخور وعي شعبي غيرِ منظمٍ لكنه يزداد فعالية وإصرارًا؛ ما صارت إليه سوريةُ غير مسبوقٍ، ولم يبق بيت إلا ودخلته الآلام، والاعتقاد بوجود مخرجٍ سوري-سوري ليس مجردَ فريضةٍ عقلية، بل حقيقة نحنُ أبناءُ سورية وبناتها قدرها المحتوم.
عشرُ سنواتٍ مرت طوت أكثرَ الاقتراحاتِ والاحتمالات، وعرّت وعود الدول والمنظمات، وبقي مسارٌ مخاضه ليس بالسهل، لكنه باب الخلاص وضمانة هدم الاستبداد.
عقودٌ مضت والسوريونَ معزولون عن بعضهم كمجتمعات، والمجاملة أو الشك أو الكراهية تُسيّرُهم أكثرَ من الحقائق، وتنمو في أعماقهم هوياتٌ حادةٌ ومظلومياتٌ باطنة بعضها ممكن في الحقيقة، وبعضها متوهم؛ لكنها تهدِّد بنسفهم جميعًا من كل ساحات الحياة.
خلال ما يقاربُ ثلثي قرن لم نعش التواصل الوطني الواسع ولا استطعنا فتح أيٍ من صناديق التاريخ بتجرد ولا فحصَ بعض المسلمات التي نعيش بها، بل نسينا سفينةً واحدةً نستقِلُّها وكل يوم نفتح ألف ثقب فيها والهلاك ينتظرنا، ولا نشعر بخطر جماعي يوحدنا في هدفٍ نشترك فيه كلنا مهما كان محدودًا.
محا النظام مقدماتٍ عديدةً للتواصلِ ومحا كل تاريخ سورية قبله، وحديثًا بدأنا نكتشف أن المؤتمر السوري الأول ١٩١٩-١٩٢٠ تجرِبَة مدنية رائعة لم يُتِح لها الاستعمار الفرنسي إلا ستةَ أيام فقط قبل دفنها، وأكملت معاول حزب البعث ذلك.
أما التجاهل والتجهيل فقد بلغ درجة راعبة، وضاعت أسماءُ عمالقةٍ كبارٍ وآباءٍ مؤسسينَ في أروقةِ استخبارات السلطة الثقافية والمعرفية فحُرِمَت الأجيال من تجارِبِ الشيخ رشيد رضا، وخالد العظم، وناظم القدسي، ومعروف الدواليبي، ورشدي الكيخيا، وسعد الله الجابري، وفيضي الأتاسي، ومنير العجلاني، وصلاح الدين البيطار؛ بل إن عديدين من كبار رجالات سورية ماتوا غرباءَ فقراءَ كالعظم والكيخيا؛ بل إن شكري القوتلي أهمَّ رؤوساء سورية الذي توفي بذبحة قلبية ببيروت بعد سقوط الجولان لم يحظ باستقبال رسمي يليق به في بلده دمشق، ولَم تسمح السلطات بدفنه في بلده إلا بضغط من الملك فيصل بن عبد العزيز.
السلوكياتُ السلطوية في مملكة الخوفِ تنعكس اليوم بشكل مريع بين السوريين، ومن أخطر العادات التشبعُ بسلوكِ خصمٍ لاأخلاقي نتيجة الإكراه الطويل عليها والألفة معها؛ فالتخوين والقطيعة والاتهام والمزاودة الشعبوية والانقضاض بشراسة على الأحياء والأموات واستغلال عواطف العامة لتهييج الغرائز الطائفية مادة لا تنزل عن موائد بعض النخب المنخورة، مُقَدِّمَةً للنظام أكثر مما يحلم به من تفتيتٍ لا ينتهي، وإحراق ليس فقط للشخصيات الوطنية والمرجعيات الحية المنهوشة بألسنٍ متوحشة بل حتى لأي شخص قد يحزن لوفاته أشخاصٌ عددهم أو تنوعهم أكثرُ من المطلوب.
روّضَ النظامُ الشعب على تفكير بدائي مذهل محتفظًا لنفسه بقدرات التعامل مع كل الملفات الخطرة بعقليةِ دولةٍ لها تفكير استراتيجي عميق، وتناوِرُ في المجال الداخلي والاقليمي والدولي مبقية الشعب في مستوى من التفكير هو عين التهريج، وانعكس ذلك في الأداء بل في العلاقات بين مكونات الشعب السوري التي يمكن بسهولة سوق بعضها لتصادُمٍ مُمَهَدِ الطريق، ومن نتائجه تفكير باطنٌ بإبادة كل طرف لكل من يخالفه، وصحيح أن الداعشية هي تنظيم محدد، ولكن الداعشية كتفكير إقصائي مطلق وفكر يبتر المخالف بترًا هو توجه زُرِعت بذوره بعناية خلال جهد طويل وسيظهر بسهولة أن الدعشنة عقلية ممتدة وبحِدَّةٍ في كل الأطراف والهويات.
عقلية التوسع المائع بلا هدف، وتعقيد المسائل، واختراع الشروط من دون دليل عليها ولا حاجة إليها صارت منهجًا تجده في العلاقات الاجتماعية (زواج – طلاق – حضانة)، وفي حل الإشكالات (موافقة جهات مختلفة ورشاوى وإكراميات وصفقات تبادلية)، وفي مسارات التوظيف والعمل (العلاقات الخاصة – عدم الكفاءة – الحاجة إلى موافقة مدير قلعة حلب لتعيين عامل مطعم في ريف دمشق)، وفي التدريس الديني (شروط تتلوها شروط، وحِدَّةٌ مذهبية في الاعتقاد تخترع من الدين مئة دين يكفر بعضها بعضًا أو يكاد)، وفي المجالات الإعلامية (تشويه–تناقل غير موثق–افتراء- تحطيم)، ولما فتح قمم الاجتهاد السياسي بالتداعي المنطقي، وبدل البحث عن حل مهما كان ثم دراسته؛ صار عندنا جحافلُ من المنظرين والقضاة الذي يضع كل منهم عشرات الشروط الذاتية للتعامل مع أي حل سياسي لا من خلال أسس عامة بل من نوافذ ضيقة وشروط تعجيزية صاحبها أول من يعجِزُ عنها وتغدو رابعةَ الغولِ والعنقاءِ والخِلِّ الوفي، بل يصعد بعضهم درج الأستاذية فيقرر الصفات الخاصة بكل من يقدم اقتراحًا لإنقاذ بلده بتقعرات ربما توحي، بحسب وصف بعضهم، بأننا نتجه إلى تأسيس مشفى عقلي كبير قد لا نخرج منه قبل مئة عام.
تتميز المرجعيات بأي مجال بقدرتها على رؤية الثغرات أكثر، والتحليل الأدق، واستشراف المقبل، ويوازي ذلك استبصار جماعي لدى عموم الناس فيكون وعيهم إذا نجوا من ضغطٍ مقصودٍ هو الأقربُ إلى التوجه الصحيح، بينما تستسلم القوى التي فوق العوام بقليل والنخب محدودةُ التفكير لحرفية المبادئ وتميل إلى التعقيد المنهك وتشبيك الأمور، وأسوأ الحالات تنتج عندما يحصل طحن الجميع خلال نصف قرن، فيغرق المثقف في الذات، وتتحول الأهداف الخاصة إلى أهداف وطنية، وتتفشى اللامبالاة والسلبية واليأس عند كثيرين، وتبقى النخب محدودة التفكير لاهثة وراء أي صيحة، ومتوهمة أنه لا مسار دونها، وتصبح ساحات حربها وسلمها وانتصارها صفحات (الفيس بوك) ومقابر (الواتس آب) الكئيبة.
كما تتهدم الأمور يعاد بناؤها، وأحد أكبر المصاعب عدم وجود ثقة بين المكونات السورية، وهذا الأمر ليس بقدر لا يمكن دفعه، بل له إجراءات تخفف من سطوته، وبصراحة ستأخذ وقتًا طويلًا في حالتنا كسوريين، ولكن لا بدّ منها ولو استغرقت عشرات السنين، فهو خطوة ضرورية لم يتم العمل عليها بعمق من قبل، وستواجه عقبات كبيرة
وجود إرادة عميقة هو الخطوة الأولى لمد الجسور بين السوريين، ومن يتابع الساحة يشعر أن الأوضاع المأسوية التي وصلها السوريون جميعًا تجعلهم يفكرون بعمق ويرغبون في أن تنتهي الأمور بعد أن ذاقت الأغلبية طعم الفقر والبرد واليتم والخوف والمجهول، وصارت تلك الأمور عامل توحيد لهم وتفهم يزداد الوعي به وعمن أوصل سورية إلى وضعها الحالي، وأن هناك قلة لا يتجاوزون بضعة آلاف في كل سورية يقودون السوريين إلى الهلاك والفناء، وتتحمل منظومة النظام الحصة الأكبر من ذلك وتكتمل الأعداد بأطراف سياسية وعسكرية ارتدت ثياب المعارضة زورًا، واعتاشت على أجساد الشهداء ولا يهمها توقف سيل الدماء أم لا.
تلك الإرادة يتلوها البحث عن هدف يتفق عليه الجميع، وليس ذلك بسهل ولو كان أمرًا واحدًا، فلم يسبق لنا أن فكرنا بالموضوع أو بحثنا معًا عن فكرة تجمعنا.
بسبب المفاهيم المرتبطة به، فإن قلنا دعونا نتفق على ضرورة إنقاذ وطننا، سيكون هناك جدال حتى حول تعريف الوطن فربما ينظر إليه متشدد ديني على أنه خرافة قائلًا إن العقيدة هي الأساس والمحرك وقد يعتقد قومي جلدٌ أنه المكان الذي يستطيع فيه إعلاء نزعته قافزًا فوق كل القوميات الأخرى، وربما ينظر إليه علماني متطرف على أنه المكان الذي يمارس فيه وصاية فكرية بما يعتقد أنه مسار التحضر في الحياة.
هل يمكن إيجاد تعريف مقبول بالحدود الدنيا لدى الأغلبية منا؟ وهل يكون التعريف الآتي ملائمًا:
(الوطن هو المكانُ الذي ننشأ ونعيش فيه، ونحبه ونحتمي به، ويُسهِّلُ علينا أمور حياتنا مع مجموعة من الناس الذين لنا معهم تاريخٌ طويلٌ، وبأرضٍ واحدةٍ، وبيننا مصالحُ مشتركة، وعاداتٌ متقاربة، ونحس بأننا ننتمي إلى هذا المكان وما فيه، ويملؤنا الحنين إليه).
هل هناك اعتراض جذري لمتدين أو قومي أو علماني على هذا التعريف؟ فإن كان ملائمًا فهل يمكن أن نقول إن وطننا ينطبق هذا التعريف عليه وهو بلدنا الذي نحبه بلا حدود: (سورية).
لا أعتقد أن سوريًا صادقًا لا يشعر بالخطر على بلده، فهي تتهدم بكل المعاني، وضروري أن نتفق على أن بلدنا في حاجة إلى إنقاذ عاجل؟ وهذه مقدمة مهمة ننطلق منها.
لن تستقر سورية بحال من دون نسيج وطني متفاهم، ولن تستطيع قوة عسكرية ولا إرادات إقليمية أو دولية جلب الاستقرار مالم يكن هناك إرادة من السوريين أنفسهم كشعب قرر التفاهم والتصالح مع بعضه والانطلاق ليبني الحياة، وسنجد أن الاتفاق على نقطة سيستدرج نقاطًا أخرى نتفق عليها، فمثلًا: يريد الإسلامي عمومًا دولة إسلامية، والقومي دولة قومية، والعلماني دولة علمانية، فما المشترك بين الجميع؟
هل يمكننا القول إن العدل والحرية أمران مطلوبان من الكل؟ هذا تقدم جيد سيغير الخرائط نحو تفاهمات أدق، والمنطقي هو أن توجد ساحات تنفتح الواحدة تلو الأُخرى تزيد من تماسك الشعب وتوقظ كوامنه وتجفف كثيرًا من مسارات الاحتقان، وهذا سيقودنا إلى نقطة ثالثة، وهي حساسة جدًا، ولكنها مفتاح شديد الأهمية وهي: المصارحة وهي أصعب مما نتصور، والبدء بها في المستويات الأولى كفيل بحملها إلى المستويات الأعلى، مع أن إعلامًا نظيفًا، ومنابر طاهرة، ومثقفين وطنيين، وجهات اجتماعية وتربوية وشرعية كلها ستساهم في دفع هذا المشروع بشكل كبير.
ربما حصة التيارات الإسلامية أكبر بسبب حجمها، وما عليها لو قامت بمصارحات داخلية ضمن كل مؤسسة، ثم تجري مصارحات مع أجسام مقاربة لها ثم تتوسع وتتفق على الحد الأدنى الذي تعتقد أنه مفيد للمجتمعات ويحقق مطالب الإسلاميين، وهل يمكن أن يجري العلمانيون مصارحات داخلية ليعرف الناس ماذا يقصدون بالعلمانية، وماذا يريدون أن يقدموا للناس؟
انتقاد بعضنا أيمكن توسيعه بأسلوب محترم، لا سوقية فيه ولا تعميم ولا إطلاق، وعموده (ألا تزرَ وازرةٌ وزر أُخرى)، ويعتمد على وقائع لا ظن فيها ولا شق للقلوب ولا حكم على النيات، ونبتعد فيه عن أروقة التاريخ قليلًا لنلتقط أنفاسنا ولنعد إليه مستمتعين ومستفيدين من تجاربه لاحقًا إن شئنا.
مفهوم تمامًا أثر الظلم في التصرفات والكلام بل حتى الأماني، وهذا باب لا يمكن ضبط الناس فيه فالمتألم يصرخ بملء فيه، ولكن النخب تحتاج إلى ضبط نفسها، فإن إشهار السكاكين في وجه القريب قد يكون مقدمة ليؤذي الإنسان أقرب الناس إليه بل قتل نفسه، والأهم من ذلك المصارحات الاجتماعية والمذهبية والطائفية، وسيكون هناك تقارب مدهش بيننا عندما ننطلق فيه من المشتركات لا المختلف فيه بيننا.
وحتى لا تذهب الأوهام بأحد فهناك أمر شديد الالتصاق بالمصارحة، ويكملها لاحقًا، وهو ضرورة العدالةِ في النهاية، فلا نتيجة ولا استقرار من دون عدالة، فحجم الظلم الذي طال الناس أكبر من مفهوم (تبويسِ الشوارب) الذي يحاول المفوض الدولي تمريره، وقوبل برفض شديد، ودل على أن كمون الناس العميق لا يمكن التلاعب فيه، وكل الهيئات التي تشارك فيه فهي تفقد الثقة بها بلا عودة. أطمع يومًا بجلسة بين طرفين سوريين وليكونوا مثلًا خمسة من العلويين المثقفين، مع خمسة من مثقفي السنة، (ويمكن أن يكون اللقاء بين أي طرفين سوريين (عرب، ترك، كرد، علويين، سنة، موحدين، اسماعيليين، سريان، إسلاميين، علمانيين، فنانين، مثقفين، علماء دين، كتاب، إعلاميين، قضاة وقانونيين… إلخ) والجميع لم تسفك على أيديهم قطرة دم واحدة، ويلتقون من دون ضجيج وبهدوء ورُقي ورغبة في رسم أفق إيجابي لأجيال ستأتي مذهولة مما جرى، وهناك تكون المصارحة وكل فريق يلقي للآخر بهواجسه واعتراضاته وآلامه المتصورة بسبب الطرف الآخر، بعيدًا عن التاريخ والأحكام المسبقة، ثم تتسع دوائر اللقاءات أكثر وأكثر وأعتقد أن ثلث الإشكالات سيظهر أنه مضخم أو نتيجة تشويه وثلثه قد يكون غير صحيح بالمرة، وثلثه واقع مرّ محفوف بالبراهين! وستظهر أمور أكثرها سلبي وبعضها إيجابي لم تكن تخطر بالبال وهنا يصبح البحث عن حل أقرب منالًا ويصبح علاج الإشكالات أقرب.
علينا تحديد ماهي المشكلة بالضبط؟ بمبضع الجراح الماهر لا بساطور جزار مندفع، ولنناقش الأمر بهدوء بعيدًا عن الحماسة، وسيكون ذلك جزءًا حقيقيًا من مسار الوصول إلى نتيجة.
وكما أن بناء الثقة ضروري جدًا فتدمير الثقة له عواقب غاية في الخطورة والقفز فوق الواقع والآلام لا يساهم في حل أي إشكال، والخطاب الاستعلائي أو الطائفي الذي برع النظام بتجييشه واستثماره، وما يوازي ذلك على الرغم من تواضعه النسبي في كلام بعض متكلمي المعارضين يؤخر أي حل جدي، ومن طرف ثانٍ بينما كان بعض العقلاء مثلًا يحاولون استعادة بعض الثقة لمؤسسات المعارضة، وإيجادِ نقاط مشتركة في ما بينها قامت المعارضة الرسمية ويا للأسف بتدمير الثقة بها بشكل مذهل، هل كان ذلك مقصودًا أم عدم مهارة في العرض والتسويق، أم هو ثمن بعد طويل عن الناس وأولوياتهم؟ الإشكال أن المعارضة الرسمية انزلقت من سعيها لإيجاد هيئة حكم انتقالي إلى القبول بوجود أربعة مسارات (حكم انتقالي – لجنة دستورية – انتخابات) وأضيف إليها لاحقًا بضغط النظام بندُ مكافحة الإرهاب من دون أن تستطيع المعارضة إنزال بند موازٍ له مثل العدالة الانتقالية، وبأقل الحالات: إطلاقُ سراح المعتقلين، وبعدها تم الانزلاق إلى أن تكون اللجنة الدستورية قبل الحكم الانتقالي، ثم خرج مصطلح غير مألوف وهو العدالة التصالحية ثم انغمست اللجنة الدستورية في الحديث عن ملفات لا تدخل في اختصاصها مثل إعادة الإعمار! وعودة اللاجئين! مع التسويق بين قادة الجوالي المتحمسة بعكس الواقع تمامًا، والزعم أن كل الأمور بخير، ثم أدخلت المعارضة نفسها في متاهة لجنة للانتخابات؛ تَمَّ تقاذف التهم بمن اخترعها ليُعلَنَ عن إيقافها ظاهرًا، مع العملِ عليها تحتيًا حتى اليوم بدفع فرنسي، وتشجيع أميركي، وتمويل كبير، ويُخشى ألّا يفطن المتحكمون فيها إلى أن هناك رفضًا هائلًا للمشاركة في أي انتخابات مقبلة لأنها ببساطة دفنٌ للشعب السوري، وإعادةُ تأهيلٍ لمنظومةٍ تأكّلت ولَم يَعُد ممكنًا قبولها بحال، وإعادةٌ لكل الناس إلى جمهورية الخوف وإعطاء شرعية مجانية لها وقد أبطلها مليون سوري بعذاباتهم ودمائهم شهداءَ وسجناءَ فضلًا عن ملايين المهجرين والمشردين والخائفين والجائعين.
لماذا لا تكون جلساتُ اللجنة الدستورية مع النظام تحت البث المباشر ليراها الشعب السوري كله، وكيلا تكون حصيلة الجولة الرابعة برعاية المفوض الدولي البليد؛ هي تحديد موعد الجولة الخامسة فحسب؛ مع تطمينات غير صحيحة أبدًا بأن كل شيء على ما يرام؛ أما قال حافظ الأسد يومًا وهو غاضبٌ في حفلة من حفلات الثمانينيات: إننا نمتلكُ ألفين وخمسمئة دبابة، ثم أدرك أنه باح بسر عسكري، وأراد أن يكحلها فأعماها مُردفًا: إن هذا الرقم يعرفه الإسرائيليون! فلا بأس أن تعرفوه أنتم أيضًا أيها السوريون! فيا بعثيي الأنفاس في المعارضة: ما دام النظام يعلم كل شيء في المفاوضات فلا بأس أن يعلم به الشعب المكذوب عليه أيضًا؛ اقتداء بمن يظهر أنه إمامُ كثيرينَ منكم ولو لبسوا ثياب المعارضين الوديعين.
من يريد استعادة الثقة فيجب أن يكون عنده وضوح في المسار، ويبتعد عن العمل بعدة طوابق تدفع للانزلاق إلى الأسفل نحو مقاتل حتمية، والمصارحةُ مع الناس الذين لا يشك أحد من أنه ستكون لهم مواقف حتى في الشارع بعد أن كانوا صريحين حتى الثمالة وهم يطردون من فقدوا الثقة به حتى من صلاة جنازة.
لا يرغب السوريون الحقيقيون في أن يخسروا سوريًا وطنيًا واحدًا، وكذلك لا يقبلون الاحتيال عليهم، ولا أن يكونوا أدوات للدول الاقليمية أو الكبرى، والقفز فوق الشعوب ومداراة الطغاة من حكامها لن يأتي بطائل مهما طال.
فكر السوري فكر حضاري عريق يُكِنُّ الحب لمن يحبه، وينظر باحترام إلى من يحترمه، ويتعامل بندية مع من يخالفه، وينسف من يعاديه.
عندما يكون الوطن هو الهم الأول فستتغير معادلات الثقافة والمجتمع والفن، بل حتى السياسة والاقتصاد، ولا أجد عبارة أكثر إيجازًا لما يجب أن نعمل له من العبارة التي أؤمن أنها باب أساسي للنجاة من الفناء الوجودي الذي ننحدر إليه، والتي تتسلل عند الآلام من قلوبنا من دون إذن لتختصر المسار كله.. وما زلنا نحتاج إليها، وبشدة: أيها السوريون.. أحبوا بعضكم..

مشاركة: