قراءة في واقع الإسلام السياسي وآفاقه

توضيح
تهتم هذه المقالة/الدراسة باستقراء تجليات “الإسلام السياسي” المعاصر، ومدى مطابقة الأيديولوجيا التي تعتنقها أحزابه وحركاته، في الواقع، والخلط بين ما هو روحي يعبر عنه تديُّنٌ فرديٌّ تحكمه علاقة روحية غيبية خاصة بين الخالق والمخلوق.. وبين السياسة التي تحكمها قوانينها البراغماتية التي تذهب خلف المصالح المادية الدنيوية.. بالطبع لا شيء يجمع بين الاتجاهين، فلكل اتجاهه ولكل سبله.. ويمكن إضافة أمر آخر هو: إضاعة التفسيرات المتباينة للحدود الواضحة في أيديولوجيا “الإسلام السياسي” الدينية، وتناقضها، في أحيان كثيرة، بين الأخذ بحرفية النص، وشكله، وبين جوهره، وفضائه الأكثر سعة ورحابة.. وثمة أمر آخر هو: مهما أحيطت الأيديولوجيا بالتقديس فهي، أولًا وأخيرًا، للإنسان المعني بتفسيرها، والتعامل معها في حياته فكرًا وسلوكًا.

مدخل عام
عرف الإنسان الدين في مرحلة مبكرة من مراحل تطور حياته، ومع بدء تشكُّل وعيه الأول حول سر وجوده، وماهية الكون المحيط به، وترافق ذلك مع نمو ما يستخدمه من أدوات إنتاج، ومع نمو حضارة المدن الصغيرة في بلاد ما بين النهرين، وما ينجم عنها من علاقات اجتماعية وحقوقية مع بني جنسه، ووسطه الطبيعي، ومكوناته، وبحسب كثير من علماء الاجتماع، فإن ظهور الدين في حياة الإنسان قد بدأ خلال انعطافه الكبير نحو التملك الفردي أرضًا وأدوات وحيوانات، وحيازة الإنتاج الزراعي والحيواني، والابتعاد عن حياة الصيد، وعن اتخاذ الكهوف سكنًا، وبناء المدن الصغيرة، وارتقاء اللغة رسمًا ومعنى، وظهور الفوارق الفردية بين بني البشر: قوة بدنية، وتفتح عقل ذكاء وحكمة.
حدث ذلك في عقب الزمن الشيوعي الأول الذي تعرِّفه الماركسية: بالتشكيلة الاقتصادية الأولى: “المشاعية” (شيوعية أدوات الإنتاج ووسائله) وقد تقبل الإنسان ذلك التفكير الأولي عن فكرة خلق العالم بعفوية، واعتمادًا على حواسه المباشرة، والقاصرة دونما استخدام أي أداة تضع أمامه معطيات تتجاوز قدراته الفطرية، وعرفت تلك الديانات الأولى، في ما بعد، بالوثنية التي تنبئ عنها اليوم الكثير من القصص، والأساطير التي تناقلتها الأجيال شفاهًا وأوردت بعضها الكتب مستندة إلى رقم طينية وسواها، وتحدثت عن الحضارات الأولى التي سادت بلاد ما بين النهرين تحديدًا، و”يعدُّ جان بوتيرو من المؤرخين الذين زعموا أن دين بلاد ما بين النهرين هو أقدم دين في العالم”، ويعتقد هذا المؤرخ “أن الآلهة لم يكن يُنظر إليها بروحانية، بل كانت تُرى على أنَّها أسيادًا، يجب أن تُطاع وتُخشى، لا أن تُحب وتُعشق..” (ويكيبيديا). وأطلق علماء الاجتماع على ذلك الزمن مصطلح: “العبودية” أو (التشكيلة العبودية للنمو الاقتصادي)، وكانت الآلهة المعبودة متعددة، ومتنوعة الجنس، فلا فرق بين ذكر وأنثى، ولكل إله وظيفته ومرتبته، وتشير المنحوتات الفنية التي جسدت بعض تلك الآلهة إلى أشكالها البشرية، وقد “أحصى كي. تالكفست في كتابهAkkadische Götterepitheta” ” (1938) ما يقارب 2400 آلهة نعرفها الآن، ومعظم أسمائها سومرية”. (ويكبيديا) وقد توافقت الحضارتان السومرية والأكادية المتعاقبتان على المنطقة نفسها، وعبادة عدد من الآلهة. ومنها الإله السومري إنليل الذي اتخذه الأكاديون أيضًا إلهًا لهم.
أما الديانات التوحيدية فأتت في خضم التشكيلة الاقتصادية الأرقى وهي (الإقطاعية)، وتزامن وجود الاثنتين عقودًا من الزمن.. والتاريخ الإسلامي في شبه الجزيرة العربية يؤكد ذلك.. ولا يضع علم الآثار المتفرع عن علم الإنسان العام (الأنثربولوجيا) جدارًا فولاذيًا، بين جوهر الديانات الوثنية، والأخرى التوحيدية، فالكثير من الأساطير الوثنية، والقوانين والأحكام استمرت، على نحو أو آخر، في كتاب التوراة الذي حاكته كتب دينية أخرى تلته.. ولا يزال التوراة إلى اليوم مرجعًا مقارنًا لتأكيد أو نفي ما هو مختلف حوله.. كما يلحظ علم الإنسان، أنه كلما حدثت قفزة في تطور القوى المنتجة، رافقتها قفزة في الفكر الإنساني، وفي حرية الإنسان ذاته.. ما يعني أن للبنية التحتية في المجتمع ما يلائمها من أفكار.. لا شك في أن الديانات التوحيدية جاءت خطوة على طريق حرية الإنسان وتحرره من سطوة الآلهة المباشرة. وقد استمرت تنمية الأديان، وتعددها وتفرعها مضيفة إلى تراثها كل ما يفرضه واقع حياة الإنسان المتجدد دومًا.. ومن هنا، حديث النبي محمد “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.”

الدين والأيديولوجيا
تعرف الأيديولوجيا بأنها حزمة من الأفكار المتلازمة التي تشكل رؤية شاملة عن الكون، وعالم الإنسان بالذات وآفاقه.. وتعددت الأيديولوجيا ونمت مع تطور الإنسان وأدوات إنتاجه.. ولا شك في أن الأفكار عمومًا لها دور رئيس في أي بنيان يقدم عليه الإنسان، لكنَّ الأفكار ابنة طبيعية لعلاقة الإنسان بالواقع، والواقع متبدل متغير، وفي حركة دائمة متجددة، وكذلك الأفكار التي لم تكن يومًا ما خارج ذهن الإنسان، أو خارج فهمه وإدراكه وتعبيرًا عن علاقاته وتفاعله مع وسطه العام.. وكذلك عن رغباته وتطلعاته، ولم تكن أبدًا حزمة واحدة تعطى لمرة واحدة! لكنها قد تستمر أحيانًا في ذهن الإنسان، وفي بعض ممارساته، على الرغم من ابتعادها في الزمن عن الواقع الذي تكوَّنت خلاله، وذلك بسبب اعتياد الإنسان، وما يألفه من أنماط حياة، وتقاليد تتأصل في وعيه وسلوكه. وقد تستمر تلك الأنماط زمنًا طويلًا.. فما بالك بما هو معتقد مقدس؟! ومن هنا، يمكن تفسير كنه الثورات وانقلابها على ماض غدا عائقًا في وجه حركة الحياة ونموِّها، ويرفض أن يفسح في المجال للجديد الحيوي حتى يدفع باتجاه إسالة دم الإنسان لتعلو البسمة وجه الحياة..
وهكذا غيرت الثورات صورة الحياة ومحتواها مرارًا عبر التاريخ.. ومنها الثورات البرجوازية التي جاءت بالحرية مترافقة مع قفزات إنتاجية في مجالي العلوم والصناعة، مبشرة بعهود جديدة، قاطعة بينها وبين النظم الإقطاعية، وبينها وبين الدين كأيديولوجيا الذي شكل رجاله تحالفات مع الأمراء الإقطاعيين من أجل إدارة شؤون مجتمعاتهم على امتداد الإمبراطوريات القديمة، وقد استمر الأمر في بعض مناحي الكرة الأرضية إلى أيامنا هذه إذ بقيت من دون أن تطاولها الثورات البرجوازية بتنميتيها المادية والفكرية، فظلت علاقاتها الإنتاجية مرتبطة بالإقطاعية أو شبهها، ولم تجر أي تحديثات مادية تمس جوهر عملية الإنتاج القديم، وظل الاقتصاد في البلدان المتخلفة يحافظ على شكله وجوهر علاقاته، وظلت الأيديولوجيا الدينية ملازمة له، تمنح الشرعية للسياسي المتحكم فيه، ولعلَّ من أمثلته في منطقتنا العربية “ميثاق الدرعية” الموقَّع بين الأمير محمد ابن سعود، والإمام محمد ابن عبد الوهاب عام 1157ه الموافق 1744م في بلدة الدرعية من المملكة العربية السعودية (اليوم)، ولم يغيِّر من الأمر شيء دخول النفط على تلك البلاد وازدهار تجارة “الكومبرادور” (تسويق البضائع الأجنبية، وشؤون الاستهلاك) ونمو شكل الاقتصاد “الريعي” الذي لامس قشرة المجتمعات الحضارية، لا بنيتها الأساسية التي تستند إلى العمل المؤسس على التشاركية، سواء أكان في الاقتصاد أم السياسة، وهكذا ظلت بنية الدولة تقوم بحاكمها المستند إلى الجيش وتفرعاته من أمن وشرطة، وسوى ذلك، والكل في إمرته، وظلت الأيديولوجيا الدينية حاجة بل ازداد الطلب عليها، إذ هي غطاء مقدس، ولذلك وجد دعاة للدين، ومنظمات تلهج باسمه، ولا تتورع عن استخدام العنف عند الضرورة، سواء في الداخل أم في الخارج.. والأمثلة كثيرة وستأتي..
وهكذا نرى أنَّ الإسلام السياسي لا يختلف بالممارسة عن سواه، فالكل خاضع لبراغماتية السياسة التي تسقط أقوى أيديولوجيا مهما كانت “صحيحة وكلية القدرة” (بحسب لينين عن مذهب ماركس) إذ لا عمل للسياسي خارج إطار قوانين السياسة.. فمهمته تتلخص بالدفاع عن المصالح، وقد وجد وسطًا واسعًا يمكن أن يستفيد منه وينطق باسمه، ولأجل ذلك فهو مضطر إلى أن ينافق، ويراوغ في سعيه نحو هدفه وفق قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وذلك ما يتناقض مع الجانب الديني/الروحي الذي يؤجل كل الأمور المادية المتعلقة برغبات الجسد ومتع الحياة الدنيا إلى الحياة الثانية الأبدية من طعام وشراب وجنس: “الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا..” سورة الكهف آية (46).

السياسي والأيديولوجيا – أمثلة من التاريخ
تبين تجارب حياتنا المعاصرة أنَّ السياسي، كائنًا من كان، لا يستطيع مسايرة الأيديولوجيا، أو التوقف عندها، إذ هي نصوص وضوابط ساكنة، بينما للسياسة حركة يمليها الواقع على السياسي، وبحسب المصالح التي يتبناها ويدافع عنها، وقد تتبدل مع نمو الحياة الدائم، وتفرض البراغماتية على السياسي عدم الأخذ بحرفية النص، أو بفهمه الظاهري الذي قد يُقْسِر الواقع على قَدْرِه. متجاهلًا حركة الواقع، ونمو الحياة، وتبدل شكلها ومحتواها، ومن ثمّ، تبدل تفكير الناس، وفي الحقيقة هكذا سارت الدولة الإسلامية في عصورها الذهبية..
وإذا ما تجاوزنا اجتماع سقيفة بني ساعدة الذي انصبَّ على تولي خلافة المسلمين، ومن يستحقها فإننا نراه اجتماعًا سياسيًا محضًا، إذ لم يقترب أبدًا من محتوى الدين الجديد (الأيديولوجيا)، بينما جرت مساومات ذات طابع سياسي، وكاد اختلاف الرأي حولها أن يؤدي إلى انشقاق عمودي لولا أن عمر ابن الخطاب قد حسم الأمر مطالبًا أبا بكر بمد يده لمبايعته.. وهكذا كان، ومع ذلك لم يمت الخلاف السياسي بل استيقظ ثانية زمن الخليفة عثمان ابن عفان، واستمر إلى زمن علي لينقسم المسلمون إلى سنة وشيعة، وليسقط مئات ألوف الشهداء من الطرفين في معاركهم عبر التاريخ.. وليجري أيضًا التباين في التفاسير وفقًا للنزاعات السياسية ما يعني إخضاع الدين/الأيديولوجيا للسياسي، وأما الخلافة فقد غدت وراثية، تنتقل من الأب إلى الابن وإلى الأخ وابن العم.. وكان قبل ذلك، أن قضى ثلاثة أرباع الخلفاء الراشدين قتلًا ومنهم غيلة وغدرًا.
أما في العهد الراشدي فقد جرت تباينات في مواقف عديدة تجاه قضايا جديدة، ومن ذلك ما جرى خلال حروب الردة إذ فرض الخليفة أبو بكر رأيه بعبارة قاطعة مانعة تخص شأنًا “اقتصاديًا” ولم يكترث لانعكاس عمله على الجوانب الروحية: “والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه”. وكذلك ما حصل زمن الخليفة عمر بن الخطاب إذ توقف عند رأيه لدى فتح سواد العراق، إذ رأى في توزيع الأراضي الزراعية غنائم حرب على الفاتحين، كما كان معهودًا في زمن النبي، ما سوف يلحق ضررًا كبيرًا في أرزاق القائمين على أراضي السواد، ويحيلها من ثمّ، على خراب واستعباد أهلها. فشاور أصحابه الذين تباينوا في الرأي، ورأت أغلبيتهم، أن يعمل “كما كان يفعل النبي” فلم يقتنع، إذ الواقع متبدل، والمعيار مصلحة المسلمين. فعاد لبسط الحوار مجددًا إلى أن تولدت القناعة عند تلك الأغلبية، وهكذا رجح رأي عمر الآخذ، بالحسبان، الواقع ومصالح الناس، وفي السياق ذاته، يمكن إيراد موقف عمر بن عبد العزيز (الخليفة الخامس لقبًا) تجاه الفتوحات الخارجية إذ أوقفها مهتمًا بأوضاع المسلمين في الداخل.
إن كل ما تقدم يشير إلى أن الدين فضاء للسياسي يتطلب منه تحكيم عقله في ضوء النص ومجريات الواقع، ووفق مصالح الناس.. ولعلَّ هذا حق للمسلمين كافة في إطار ما ترفعه المرحلة الحالية من شعارات موسومة بالحرية والديمقراطية بعد أن توسعت دائرة المساهمين في نهوض الدولة والمجتمع، وكانت الشورى محصورة في دائرة ضيقة.. ولا بدّ لأحزاب “الإسلام السياسي” من قبول الديمقراطية الخاضعة لدستور عام يقرِّه أبناء المجتمع.

الأيديولوجيا بين الكواكبي ومهاتير محمد
رأى عبد الرحمن الكواكبي قبل نحو مئة وعشرين عامًا أنَّ “الدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع..” ما يعني أنَّه حالة فردية وعلاقة بين الخالق والمخلوق، ونفى عنه صفة الجماعة، إلا لجهة بعض الفروض والواجبات المطلوبة من المسلم، وتؤدى جماعة، وجوهر تلك الطقوس إنما فرضت للفت انتباه المسلم، وتذكيره بمسألة مهمة وهي العلاقة بينه ككائن فرد مخلوق وخالقه الإله الفرد أيضًا، وهو الله، كالصلاة والصوم والحج.. إلخ. وتسمى هذه الأمور بأركان الإسلام، بينما تلك العلاقة الفردية هي علاقة ثنائية، جوهرها عقائدي لا حقوقي، وتعرف بأركان الإيمان.. والإيمان أعلى مرتبة من الإسلام الحقوقي، إذ ترتبط بجوهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا، قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.. وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.. إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” سورة الحجرات، آية (14)
وإذا كان الكواكبي قد عرَّف الدين بما يدين به الفرد فإن “مهاتير محمد” الذي أتيح له أن يرأس دولة ماليزيا، قد قطع، وبالوضوح كله، بين الجانب الروحي في الدين، وجانبه المادي.. حين ذهب في إسلامه السياسي، وهو بناء الدولة، وتلبية حاجات الشعب بقوله الواضح أيضًا: “عندما أردنا الصلاة، توجهنا صوب مكة، وعندما أردنا بناء الدولة، توجهنا صوب اليابان” وفي هذا القول بيان لا لبس فيه حول “فصل الدين عن الدولة” ما يعني علمنة الدولة في حال إرادة السياسي لبلاده النمو والارتقاء، وهذا ما لا يفعله الإسلام السياسي أو لا يبيِّنه، وكيف يفعل حوامله هم جمهور المسلمين، وقد رأينا ذلك في البلاد العربية بدءًا من الإخوان المسلمين، وليس انتهاء بالقاعدة وداعش وعامة المتطرفين أجمعين..

نموذجا تركيا وماليزيا
ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى تركيا الدولة النامية التي نهضت على أساس من العلمانية وحين حكمها حزب العدالة والتنمية أضفى على مجتمعها نوعًا من الروحانية الفردية التي لا تتعارض مع الديمقراطية التي رسختها التنمية المعاصرة والتقدم الاجتماعي، وإلى هذا النوع يذهب ماركس ذاته إذ يرفض إلغاء الدين بقرار.. وإذا ما ذكرت تركيا فلا بدّ أن تذكر ماليزيا التي لعب في نهضتها “مهاتير محمد” الدور الرئيس وقد أشير إلى ذلك، وكان قد بدأ بالتعليم المعاصر والتكنولوجيا الرفيعة، ومن الاهتمام بالمدرسة ومتطلباتها، وبالمعلم والطالب معًا.

بين ماركس والربيع العربي
إذا كان كارل ماركس قد عرف الدين بأنه زفرة الإنسان المظلوم أو المضطهد، وأنه عزاء من لا عزاء له، وروح من لا روح له، إذ سَحَقَها تحالفُ المستبدَّيْن من إقطاع ورجال دين، واعدين بنموها في الحياة الثانية الأبدية! أقول إذا كان الأمر كذلك فإن الدين ملازم للقهر والتخلف، وللعالم الذي تعاني شعوبه الظلم والقمع والاضطهاد، ومنها شعوبنا العربية التي تحمل في صدورها فوق الفقر والقهر، ذلَّ الهزائم التي ألحقها الحكام وجيوشهم بشعوب كبلوها عن أي فعل بطولي.. وما الشعار الذي رفعه السوريون في بداية احتجاجاتهم “يا الله مالنا غيرك يا الله” إلا التعبير الأكثر عفوية وصدقًا عن واقع الحال، وربما عن المآل أيضًا، ويستوي في الاستبداد الأنظمة العربية كلها سواء كانت غنية تقودها القبائل أم فقراء يقودها العسكر باسم الجمهورية والديمقراطية والعلمانية أم الاثنتين معًا فالنماذج كلها وجدت في الدين غطاء شرعيًا لوجوده.. لماذا لأنَّ الحاكم أيًا كان يفصِّل الدين على مزاجه، وحجم ملكه وكرسيه! ومن هنا يمكن ملاحظة التناقض القائم بين دعاة “الإسلام السياسي” الذين يجدون في جماهير المسلمين متكأ للوصول إلى الحكم، وفي الوقت نفسه، يتحسسون الخطر من يقظتها.. وقد كان كارل ماركس على صواب حين رأى خطأ كبيرًا في إزاحة الدين بمرسوم بل في العمل على رفع الظلم وأسباب القهر والقمع والاستغلال.. ومن ثمّ، استبدال الوعي الزائف بالوعي الحقيقي.. ومن هنا يمكن قراءة الأسباب الحقيقية لفشل ثورات الربيع العربي فلا أحد من الأنظمة العربية له مصلحة في الحرية والديمقراطية إذ تشكل خطرًا على وجودها، فهي أيضًا لا تزال تحكم بشريعة القرون الوسطى ولذلك ترى بعضها وقد سارع لتجميل شكل نظامه بإقرار بعض من حقوق المرأة وبإلغاء بعض العقوبات التي تخلص منها العالم إذ تمتهن حقوق الإنسان.. ومن هنا أيضًا يمكن ملاحظة العثرات والعقبات التي يضعها السلفيون أمام المنورين الجدد وهم كثر لكن لا يلقون التأييد إذ ينافسهم هؤلاء الذين يبثون الوعي المزيف والدين الذي يلائم الحكام، كالدعاة الذين ينتشرون رسلًا لهؤلاء، ويتعيشون مما يغدقونه عليهم، ومن خلال وسائل إعلامهم، ولا أعرف إذا كان الإسلام يشرعن للدعاة أخذهم الأموال أم لا.
ولا يختلف جوهر الدين في منطقتنا من كونه عزاء وملاذًا يلجأ إليه الشعب حين تضيق به الدنيا وبخاصة في هذا الزمن الذي يعتري الأمة فيه وهن وتخلف وهزائم، ومن هنا، ربما، نفيض حنينًا إلى الماضي، ما يجعلنا على تناقض مع الحاضر والحضارة بعيدة المنال على الرغم مما فيهما من رقي وتقدم، فهل كان حال الدين في الماضي البعيد كحاله اليوم؟! لا أبدًا، فمن النافل القول: إن حواضر الشام والعراق والأندلس كانت منارات للبلاد الأوروبية وغيرها، وكان التفاعل مع الثقافة العربية الإسلامية في أوجه! ولم يجد المسلمون الأوائل ضيرًا في ترجمة علوم من سبقهم وتفوق في الحضارة عليهم فنقلوا عنهم ما أمكنهم ليعود الأوروبيون وليترجموا ما أنجزه العرب المسلمون من علوم وفلسفة لتكون أسبابًا لنهضتهم المعاصرة.

تجليات الإسلام السياسي في عصرنا
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولدى سقوط الإمبراطورية العثمانية (الخلافة الإسلامية)، نهضت بعض التيارات السياسية المعاصرة مستفيدة من التغيرات الحاصلة في العالم، وسارت في عدة اتجاهات منها الاتجاه “القومي العربي” والاتجاه “القومي القطري” أو “المناطقي” الذي برز في كل من سورية ولبنان ومصر والمغرب العربي، إضافة إلى التيارين الإسلامي والماركسي. وأغلب تلك التيارات تستند إلى أيديولوجيا تخصها، وقد تأثر معظم ممثلي تلك التيارات بنهضة الغرب الاجتماعية، كما تأثر بعضهم بليبرالية الغرب، وقد رفضها بعضهم، إذ عدَّها غزوًا ثقافيًا تقوم به الدول الاستعمارية، وكان لقيام الثورة الروسية تأثير واضح في ذلك، إذ كان العرب يعانون أطماع تلك الدول التي تجلت في اتفاقية “سايكس بيكو” و”وعد بلفور”، أما حركات الإسلام السياسي فقد عادت إلى الماضي متأثرة بدولة الإسلام، وقدسية الدين التي نمت وامتدت في أنحاء الكرة الأرضية قرونًا من الزمن تزهو بحضارتها أدبًا وفنًا وعلومًا وثقافة بناء عامة.
إن أهم ظهور للإسلام السياسي وتجلياته على الأرض العربية والإسلامية بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 هو حدث “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979 متزامنًا مع ظهور تنظيم القاعدة الذي أوجدته أميركا، في العام نفسه، تحت عنوان محاربة الشيوعية، ومواجهة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان إذ تَوَسَّلَ الرئيس الأميركي رونالد ريغن بعض حكام البلاد العربية النفطية تحت زعم الخطر الشيوعي المناهض للدين فقبل بعضهم ورفض الآخر، وقدَّم، كل من قبل، الدعم الكامل لذلك التنظيم، وكان أبرز فعل لها، إضافة إلى دورها في أفغانستان، أن قصفت برجي التجارة العالميين بمدينة نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، وكانت أحداث الجزائر على يد جبهة الإنقاذ الإسلامية قد سبقت ذلك، (أسسها عباسي مدني عام 1988) انضم إليها في ما بعد جماعة التكفير والهجرة ذات المنشأ المصري في الأساس، والمنشقة عن الإخوان المسلمين إضافة إلى مجموعات أخرى مسلحة، وقد استمر العنف لمدة نحو عشر سنوات قتل فيها نحو “مئة ألف وفق إحصاءات رسمية، ومئة وخمسون وفق إحصاءات صحفية” ومن بين هؤلاء مثقفون وفنانون كثر. على الرغم من أن عباسي مدني كان قد أعلن بأن حزبه لن يفرض الحجاب على النساء ولن يمنعهم من القيادة وكانت الجبهة قد ربحت انتخابات 21 كانون الأول/ ديسمبر 1991 إلا أن الجيش ألغى الانتخابات تحت زعم أنها ستتفرد في الحكم.. وربما فعلت ذلك استنادًا إلى تصريح أدلى به بعض قادة جبهة الإنقاذ (ويكيبيديا).
وإذا ما استثنينا الحركة التنويرية التي قام بها علماء دين واجتماع حاولوا إيقاظ الروح الإسلامية التي دمرتها عصور طويلة من الانحطاط. لتنسجم مع عصر العلم والتكنولوجيا، فكُفِّروا واتُّهِمُوا بالماسونية، وأشير هنا إلى الشيخ عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وبعض من عاصروهما، فإن الحركات السياسية التي ظهرت قد ضيَّقت على الإسلام بدلًا من أن توسِّع له في فضاء الفكر الإنساني ونهوضه الحديث، وحصرته بقشور تتبدل في كل عصر بفعل حركة الحياة والناس، كاللباس والطعام وكل ما يدخل في شؤون الحياة الشخصية للرجل والمرأة، وليست الحركات الإسلامية وحدها من فعل ذلك بل مراكز الدين الإسلامي العلمية التي تنهل من فقهاء الزمن الغابر كالأزهر وسواه من المدارس الشرعية التي تفرخ التطرف حيثما وجدت.. أما من فكَّر بإصلاح الدين وزجِّه في السياسة، فقد نفى وجوده في زمنه، ومن هؤلاء “سيد قطب” الذي نصح في مقدمة كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” بقوله: من يريد الإسلام، فلا وجود له في زمننا، وعليه أن يبدأ من جديد، وطبيعي أن يعود إلى الجذور والأصول. وكأنَّ الإسلام وجد حيث “الإخوان المسلمين”، والحقيقة أن معظم الحركات الإسلامية وغالبها عنفي خرج من عباءة الإخوان أو تتلمذ على قادتهم ورموزهم، ولا يزال السيف رمزًا على راية الإخوان المسلمين وعلى علم بعض الدول التي تحكم باسم الدين.
أما الثورة الإسلامية، فبعد أن تمكنت بسنوات، وتخلصت من حلفائها بالدرجة الأولى، إذ عمل الخميني على تصفية كوادر حركاتها بالكامل.. كحركة “مجاهدي خلق”، وحزب “تودة” والحركات الليبرالية، ولم يكن هؤلاء قلة، بل هم بالآلاف، وعد الخميني أن ولاية الفقيه وحدها وصية على المسلمين، والولاية هنا هي: الحاكمية، السلطة، القيادة، تدبير شؤون الأمة.. وما شابه هذه المعاني. وهي أهم من الفروض الدينية كالصيام والصلاة حفاظًا على الدين الإسلامي وأموال الأمة الإسلامية التي تعيش الفقر.. وقد أعطى لنفسه لقبًا يكاد يكون الله ذاته قد منحه إياه فهو “روح الله وآيته” إذ هو ومن يخلفه بديل المهدي المنتظر الذي طالت غيبته، وقد تطول أكثر.. لكن الذي حدث على أرض الواقع عكس ما أراده الخميني، فعلى الرغم من الثروات الهائلة التي تمتلكها إيران غير النفط طبعًا، إلا أن الفقر ازداد في إيران نفسها بسبب رعونة السياسة التي اتبعها الولي الفقيه، وبخاصة تصدير الثورة الإسلامية.. إذ عمّ الخراب البلدان التي دخلتها إيران تحت شعار سيادة الدين وعالميته، وتبين أن خلف ذلك الشعار، وظاهرة الدين وطائفيته نزعة قومية فارسية احتلالية، خلقت ردات فعل قوية في لبنان والعراق وسورية، ويقظة فعلية تتمسك بالهوية الوطنية، ولا تزال المليشيا الإيرانية تواجهها بقمع رهيب يتستر بعباءة الدين والطائفية، (قتل في تظاهرات العراق خلال العام 2020 لا يقل عن 700 شاب وفتاة). وتعد إيران أول من قاد الثورة المضادة في سورية.
إن ما يجري في حقيقته استعمار جديد بعقلية متخلفة، لا تنتمي إلى روح العصر.. إذ أخذت ميليشيات العنف تتوالد من جبة “الولي الفقيه” كالفطر السام لتنتشر في بلاد الشام، والعراق، واليمن، وأخذ أولياء الفقيه، وعسكرهم يعلنون على الملأ أنَّ هذه البلاد لهم.. ولعلّ الخراب الذي حصل في تلك البلدان مع موجة الربيع العربي هو الثورة المضادة التي قام بها زبانية الولي الفقيه من خلال وجودهم سواء في العراق أم في سورية ولبنان. فغاية الانتفاضات التي قامت في تلك البلدان كانت التقرب من روح العصر، علمًا وتكنولوجية وأنظمة سياسية تقوم على أساس من حرية الفرد ومبادئ الديمقراطية التي تخلق، في عصرنا، ظروفًا ملائمة لتنمية دائمة ترتقي بالبلاد وتنعكس على شعوبها بالخير والمنعة.. بينما أولياء الفقيه، وبحسب ما ظهر على أرض الواقع، فأشياء أخرى تمامًا.

هل من مستقبل للإسلام السياسي؟
إن الدين الإسلامي للأمم كافة.. ولا يتسع المجال للدخول في تفصيلات هي أصلًا موضع خلاف كالآية التي تقول: “إن الدين عند الله الإسلام” والآيات الأخرى التي تفرض الجهاد على المسلم، وهي كثيرة، وأعني جهاد الطلب المختص بفرض دين الإسلام وإعلاء رايته.. وجوهر إثارة الجدل، يأتي من اختلاط الجانب الديني/الروحي، وقدسيته بالآخر السياسي الذي يريد استغلال وسطه الشعبي موهمًا إياه بأنه يعمل على إقامة شرع الله المقدَّس بين الناس! والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل العصر الذي نعيشه هو حقًا عصر صراع أديان فعلًا؟! أقصد هل ما زال العالم في عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات على صراعاته القديمة؟! أم إنه صراع على الزُبُن والعقول والخبرات ومواطن النفوذ، وعلى المواد الخام والأسواق.. والسعي من أجل إيجاد علاقات بين الدول والشعوب أكثر عدالة وإنسانية، وسعيًا لردم الهوة التي لا تزال تتسع أكثر فأكثر، بين الدول الغنية، والأخرى الفقيرة، أو المتحضرة والمتخلفة.. أو ما يسمى أحيانًا بالشمال والجنوب؟! وإذا كان صراع أديان فلماذا إذًا الصراع بين المسلمين أنفسهم، ولماذا التخلف في بلادهم فحسب؟! وفي زمن يقولون فيه إنَّهم كبلاد إسلامية مستهدفون، ومستهدفة بلدانهم وثرواتها لغاية ذلك الصراع وحده، وبديهي القول إن الاستهداف يأتي من ضعف، وهزائم متلاحقة، وغياب القدرة على مسايرة التقدم الحضاري، على الرغم من الغنى المادي والبشري التي تتمتع به بلدانهم.. ثم لماذا يلازم العنف حركات الإسلام السياسي؟! وتحمل راياتهم السواد والسيوف والبنادق؟! وهل يمكن حقيقة إعادة تلك الإمبراطوريات التي سقطت آخرها في مطلع القرن الماضي؟! أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة منطقية يقبل بها العقل الذي نما مع نمو حركة الحياة المستمرة منذ ملايين السنوات، إن لم يكن ملياراتها!

مشاركة: