إلياس مرقص.. الغائب الحاضر في الذاكرة السياسية

عندما علمنا بإصابة المفكر المرحوم إلياس مرقص بمرضه واحتمال وفاته، ذهبنا، جاد الكريم الجباعي وأنا، إلى اللاذقية، وزرناه في بيته، وطلب منه الجباعي، أن نجري معه حوارًا، وتوجيه بعض الأسئلة إليه.
بقينا في بيته طوال ثلاثة أيام، وليلًا كنا نذهب إلى الفندق، ونشر الجباعي الحوار في كتاب “حوار العمر”. لم يكن المرحوم مرقص يعلم بدنو أجله.
في ذلك الوقت، كان العراق على شفا حرب، بعد احتلاله الكويت، وطلب منا المرحوم مرقص أن نبلغ صدام عن طريق رفاقنا العراقيين:
على صدام أن ينسحب من الكويت فورًا، فهذه اللقمة الدسمة لن تتركها الولايات المتحدة، وستدمر العراق حتى لو خرج من الكويت، خروجه من الكويت سيعزز صمود العراق وحدة شعبه.
الأسلحة التي زُوِّد بها في الحرب مع إيران، بعد توقف الحرب أصبحت خطرًا، المطلوب تدميرها.
عندما حاول عبد الكريم قاسم احتلال الكويت، أبلغ الروس جمال عبد ناصر أن الولايات المتحدة لن تسمح بعودة الكويت للعراق.
في المحادثات الثلاثية بعد الانقلاب في العراق، والانقلاب في سورية عام 1963، سأل الوفد العراقي الرئيس جمال: والكويت؟ أجاب ناصر انسوا الكويت.
هذا الموقف العقلاني من قضية العراق والكويت لإلياس مرقص، كان بعيدًا عن مواقف كتاب ومفكرين ورجال سياسة عرب، إذ وجد القوميون العرب معظمهم احتلال صدام للكويت خطوةً قومية تشبه توحيد بسمارك لألمانيا.
قرأت كتب إلياس مرقص كلها، ودرست بعضها دراسة معمقة، لكن وجودي في بيته ثلاثة أيام، ومعايشته عن قرب، جعلتني أتعرف إلى مرقص الإنسان، الخلوق الواعي والنزيه، وأخص العقلاني.
أكثر من مرة، كان يردد: إذا كانت القومية العربية غير موجودة، فالواقع يحتِّم وجودها.
لم ينتسب، تغمده الله برحمته، إلى حزب العمال الثوري العربي، لكنه كان، إضافة إلى ياسين الحافظ، من أهم منظري الحزب، وكانت كتب مرقص تتصدر البرامج الثقافية في الحزب، فقد كانت كتبه من أهم مصادر الحزب الثقافية وخطه الفكري السياسي.
كان يشدِّد على أهمية الفكر؛ أكد مثلًا في كتابيه عن (المقاومة الفلسطينية) على أن “المقاومة الفلسطينية ستصفى، وحتمًا ستصفى، إذا بقيت أيديولوجيتها هذه الأيديولوجيا”.
نسأل: هل كان مرقص والحافظ ناصريين ووحدويين؟ نعم ولا في آن. كانا مع مشروع جمال عبد الناصر القومي، ومع محاولة النهضة الثانية، لكنهما كانا ضد وعلى نقيض دولة ناصر الاستبدادية التي أتاحت للسادات أن يمحو ما تركه ناصر، ومكنت إسرائيل من هزيمته عسكريًا في عامي 1956و1967. نعم، فوجئ عبد النصر بعد هزيمة حزيران/ يونيو بإضراب عمال حلوان وطلاب الثانويات والجامعات، وهم أبناء دولته، وأدرك بنية دولته الاستبدادية، وهذا ما يشير إلى أن مرقص والحافظ، كانا يسبحان خارج السرب القومي العربي أيضًا.
ساهم مرقص في نقد الأحزاب الشيوعية العربية، وطُرد من الحزب، ورأى أن خالد بكداش هو ستالين الأحزاب الشيوعية العربية، وطالب باستقلالية الأحزاب الشيوعية والتخلص من التبعية للسوفيات، ونقد غياب وتغييب الديمقراطية في داخلها.
لم يقدِّم كل من مرقص والحافظ الكثير من النقد للأحزاب الشيوعية والمدرسة الماركسية فحسب، بل ساهم كل منهما أيضًا في نقد، والمشاركة في صوغ برنامج الحزب الشيوعي اللبناني، وبرنامج المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السورية. ولاحظ إلياس أن ماركسية الغرب، المشبعة بالاقتصاد الإنكليزي والفلسفة الألمانية والثورة الفرنسية، كانت تفقد شيئًا من الديمقراطية، كلما اتجهت شرقًا.
وانتقدا أيضًا الفكر السياسي القومي، ولم تسلم عمارة المجتمع من نقدهما، وتبنى ياسين مقولة التأخر التاريخي من عبدالله العروي. لكن أعتقد أن إلياس مرقص كان عمومًا مع مقولة العروي، لكن بدرجة أقل من تبني ياسين لها، فقد رأى أنها استخدمت من مفكري الأنظمة العربية لتبرئتها من الحالة التي وصل إليها العرب؛ “الديمقراطية الغربية غير ملائمة لمجتمعاتنا، إذ تتعارض مع القيم المحلية”، “بعض الشعوب غير مؤهلة ديمقراطيًا”.
توصل في كتابه “العبودية” إلى أن مرحلة “العبودية” هي درجة على سلم الحضارة، وصرح أن ماركس لو عاصر اكتشاف المدن الحضارية في الشرق لأعاد النظر ببعض الماركسية.
في الحوار مع إلياس، حدثنا عن أن بعض الكوادر الأيديولوجية الروسية التي جاءت لتناقشه في كتابه الماركسية العربية، ونقده لبرنامج الحزب الشيوعي اللبناني، وحدثوه عن الإنتاج الزراعي الروسي بأرقام كبيرة، فقال لهم: كم حبة بطاطا تصل إلى المواطن الروسي؟ ولمَ دولة صغيرة كإسبانيا تنتج أكثر من دولتكم، ويصل إلى مواطنها ضعف ما يصل إلى مواطنكم؟ في نهاية المطاف، أخذ السوفيات يستوردون القمح من إسبانيا!
عندما زرتُ مكتب حزب العمال الثوري العربي في بيروت، وكان مرقص آنذاك رئيس تحرير مجلة “الواقع”، التي صدر منها عشرة أعداد، أشفقت على إلياس، رجل في سنه يترك مدينته وعائلته ليعيش في شقة مكتب تحرير لا تضم إلا مطبخًا متواضعًا، وغرفة أكثر تواضعًا.
اشترك أيضًا في هيئة تحرير مجلة “الوحدة” التي صدر منها أكثر من مئة عدد، وكان يشكو من كتبة فيها لا صلة لهم بخطها الفكري السياسي، وسلوكهم يتناقض مع قيمها، إلى أن انسحب من هيئة تحريرها أخيرًا.

لا بدّ أخيرًا من وقفة مع كتاب “نقد العقلانية العربية” الذي لم يتح له أن يراه.
يقدم هذا الكتاب الذي جاء في 900 صفحة، مادةً غنيةً، تتمحور حول موضوعات نظريةٍ وعمليةٍ راهنة، ويتضمن مداخلات مرقص على مداخلات عددٍ كبيرٍ من رجال الفكر والثقافة العرب الذين اجتمعوا في تونس 12-13-14 تموز/ يوليو 1988، في ندوة “العقلانية العربية: واقع وآفاق”. نطلع في هذا الكتاب على جهد المفكرين في الندوة، التي تناولت حياة العرب وواقعهم العملي ومعرفتهم للآخر، كما نطلع من خلال الكتاب على “شمولية معارف المفكر الراحل، وجدية مسعاه المعرفي/ النظري والسياسي”، وفي الكتاب رؤية هذا المفكر لـ “عبد الناصر” وللعصر “الناصري”.
جاء في هذا الكتاب “أنا ضد مفكرين، وعقلانيين وعرب، في ندوة عقلانية العرب، جعلوا الظهورات فكرًا” ص740. و”القومي العربي لا يرى الإنسان في قوام الأمة والدولة”، و”المواطن في قوام الوطن، المواطن لا الرعية” ص 647. “إنه لا يرى الكلي في قوام الإنسان والمواطن الفرد، ومن المؤسف أن يكون الفكر القومي يحمل الحداثة والعقل العملي، لكن بدون الإنسان والانتقائية والتاريخ، أي بدون الجذر الروحي الفكري للتقدم الذي رفع أوروبا” ص 802. ويخلص مرقص إلى أن الفكر القومي العربي كتيار قد “استغنى بـ (الثورة) عن (التقدم)، ونفخ (الثورة) وفرَّغ (لتقدم)” ص 397.
أتذكر، ونحن نحتفي اليوم بالذكرى الثلاثين لرحيل إلياس مرقص، تلك الندوة التي أُجريت بمناسبة مرور عام على وفاته، والتي عُقدت على بعد 25 كم من اللاذقية، مدينته التي أحبها، وأحب أهلها الذين عاش بينهم، وله فيها تلاميذ ورفاق درب ومحبون.
في تلك الندوة حرص من أشرف عليها ألّا يحضرها أبناء اللاذقية والسوريون، وأن تقتصر على الغرباء، وعلى الحضور ببطاقة دعوة شخصية. لكن شابًا من أبناء اللاذقية تسلل وحضر الندوة بلا بطاقة دعوة، ومن تلاميذ مرقص: صرخ الشاب بأعلى صوته في قاعة الندوة: لو كان المفكر السياسي المرحوم إلياس مرقص حيًا، لرفض حضور هذه الندوة، وهي على بعد25 كم عن أبناء اللاذقية.

مشاركة: