عنوان الكتاب: سورية الدولة والهوية: قراءة حول مفاهيم الأمّة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963)
المؤلف: خلود الزغيّر
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
رقم الطبعة: الطبعة الأولى
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 272
رقم ISBN (الرقم الدولي المعياري للكتاب): 6144453237, 9786144453230
تقدم المؤلِّفة قراءة في الطروحات المتعلقة بهوية الدولة السورية والمفاهيم المركزية التي قام عليها النقاش بين هذه الطروحات؛ مثل “الأمّة”، و”القومية”، و”الدولة الوطنية”، داخل خطاب الأحزاب السياسية السورية التي تصدرت المشهد السياسي بعد الاستقلال التام لسورية في عام 1946 حتى وصول اللجنة العسكرية لحزب البعث إلى السلطة في عام 1963، سواء الأحزاب التي وُجِدت في السلطة أو التي كانت في المعارضة، انطلاقًا من أن أي قراءة في سؤال الدولة والهوية اليوم تحتاج إلى فهم الإشكاليات والظروف والسياقات التي تشكلت ضمنها الدولة السورية وهويتها في المراحل السابقة، خصوصًا أن السؤال حول وجود هوية سياسية – اجتماعية لسورية أو هوية وطنية سورية جامعة أمرٌ لا يزال مطروحًا.
اعتمدت الكاتبة في تناولها لموضوعات الكتاب المنهج التحليلي المقارن، والذي يتقاطع مع منهج تحليل الخطاب وتحليل المضمون، وذلك بهدف تحليل النصوص داخل أدبيات التيارات السياسية وخطاباتها وفقًا للسياقات التاريخية والاجتماعية التي ظهرت ضمنها، ثم مقارنة بعضها ببعض.
تضمن الكتاب تسعة فصول، بحثت ضمن رؤية تحليلية مجموعة من التساؤلات مثل: “هل سورية المعاصرة جزء من كل أكبر، أم دولة – أمّة، أم تجميع لهويات وأجزاء مختلفة؟”، و”هل ساهم عدم إنجاز الدولة الوطنية الحديثة القائمة على العقد الاجتماعي بشكل تام وفعلي والذي يؤسّس لدستور يتوافق عليه الجميع، إضافة إلى حالة الالتباس النظري حول مفاهيم الوطنية والقومية والدولة في الوعي السياسي السوري، بأن يبقى مفهوم الأمّة وهويتها مفهومًا إشكاليًا ومتبدلًا من تيار سياسي إلى آخر؟ ومن ثمّ، لأن تبقى مسألة الهوية والانتماء الوطني موضوعًا للانقسام والتناحر بين الأحزاب السياسية منذ الاستقلال وحتى اليوم”.
المقدمة
تستهل الباحثة مقدّمة كتابها بالقول: “إنّ تشكل هوية الدولة السورية منذ إعلان أوّل استقلال لها في المؤتمر السوري العام في 8 آذار/مارس 1920 إلى اليوم إحدى القضايا المركزية في السجال السياسي والاجتماعي والفكري؛ فبعد قيام الكيان السوري الحالي، برزت على الساحة السياسية هويات أيديولوجية متعددة ارتبطت من جهة في ظروف الصراع الدولي والإقليمي على مناطق النفوذ في المنطقة، ومن جهة ثانية كانت هذه الهويات امتدادًا لتيارات سياسية – فكرية عالمية شكلت آنذاك نماذج ملهمة للحراك السياسي في سورية والعديد من دول العالم، كان الأنموذج القومي الاشتراكي أبرزها”. وبيّنت الكاتبة في السياق أنّ أجواء الحريات السياسية والفكرية وطبيعة النظام شبه الديمقراطي القائم منذ بداية الأربعينات وحتى أواخر الخمسينات سمحت بأن “يبلور كل تيار سياسي نظريته حول أهمية الأمّة ومكوناتها الأساسية، وبأنّ تدخل هذه التيارات في سجال سياسي وعقائدي فيما بينها حول المفاهيم المتعلقة بالهوية”، مع إشارتها أنّه “على الرغم من تنوّع هذه الطروحات والمنظورات الفكرية، التزمت معظم التيارات بتعريف الدولة بالجمهورية السورية. لاحقًا، وخلال فترة الوحدة مع مصر (22 شباط/ فبراير 1958 – 28 أيلول/ سبتمبر 1961)، أصبحت الجمهورية السورية جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، حيث تحوَّلت هوية العروبة إلى واقع عملي بعد أن كانت شعارًا ونظرية”.
لفتت الكاتبة في مقدّمتها إلى أنّ “الاطلاع على أدبيات النخبة السياسية السورية ووثائقها في المرحلة بين عامي 1946 و1963، يبرز الحضور القوي والمتكرر لمفهوم (الأمّة) ولمفهوم (الهوية)، من دون أن يعني ذلك الاشتراك أو الاتفاق على تعريفهما. بل إنّه وعلى العكس من ذلك، يشير إلى اختلاف جليّ في فهم وتعريف كل حزب أو تيار سياسي لهذه المصطلحات؛ حيث يبدو مفهوم (الأمّة) واحدًا من أبرز المفاهيم الني جسدت إشكالية وعي السوريين بهويتهم، ليس من فجر الاستقلال فحسب، بل منذ عصر النهضة حتى اليوم. وإذا كانت ظاهرة الأمّة قد شكلت، في العموم، قضية موضوعية ومنطلقًا للنقاش حول التحوَّلات التي عاشتها المجتمعات منذ الحرب العالمية الثانية، وحول العولمة والنظام الدولي وصراع الحضارات، فإنّها بقيت في سورية مسألة مطروحة للنقاش داخل بعض التيارات حين يتم تناول علاقة الأمّة بالدولة، والهوية الوطنية، ونظام الحكم ومستقبل الصراع السياسي.
وتشير إلى أنّ الدراسة السوسيولوجية المقارنة لهذه المفاهيم (اعتمادًا على أدبيات النخبة السياسية السورية ووثائقها بين 1946 عام الاستقلال، و1963 عام وصول اللجنة العسكرية لحزب البعث إلى السلطة)؛ تتيح إلقاء الضوء على بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية التي رافقت نشوء “الكيان السوري”، وساهمت بدورها في صوغ تلك المفاهيم على نحو أو آخر.
حمل الفصل الأول في الكتاب عنوان: “الهوية السياسية والإشكالية الجغرافية والاجتماعية”؛ وفيه بحثت مؤلفته مسألة التناقض بين الجغرافيا والولاء السياسي، فضلًا عن العلاقة بين المسألة الاجتماعية والمجتمع السياسي، وطرحت التحدّيات الداخلية التي رافقت نشوء الدولة السورية وأحزابها السياسية، وأبرزها؛ أولًا: الإشكالية الجغرافية المتمثلة بمسألة التناقض بين جغرافية الكيان السوري الناشئ في أوائل عشرينيات القرن العشرين والانتماء السياسي إليه. ثانيًا: الإشكالية الاجتماعية المتعلقة ببنية المجتمع السوري من حيث طبقاته ونخبه السياسية، ودور المسألة الاجتماعية في تشكيل التوجهات السياسية لكل حزب.
كان الكيان السوري الجديد مرفوضًا من الأغلبية، وهذا ما جعل الإشكالية الجغرافية حاضرة في معظم التعاريف السياسية التي قدمت حول الأمة. وبعد تقسيم الدول الأوروبية للمشرق العربي، طرأ على خطاب النخبة نوع من الاستخدام الملتبس بين مصطلح الوطنية الذي يحيل على سورية بحدودها الحالية، ومصطلح القومية بمعناه العروبي. وهكذا، تحولت سورية بعد الاستقلال إلى ساحة صراع بين تيارات متعددة، منها من تمسك بوحدة سورية الحالية وتبنى الليبرالية السياسية والاقتصادية، ومنها من تبنى الأيديولوجيات القومية والشيوعية والإسلامية، فظهر البعث المنادي بوحدة الأمة العربية، وظهر القومي الاجتماعي المنادي بوحدة سورية الكبرى.
مع ضعف النخبة الحاكمة والأزمات الاقتصادية، ولا سيما المشكلة الزراعية، والمسألة الوطنية، نشأت تيارات سياسية متعددة، كانت البداية بنشوء قوى معارضة من الخلفية ذاتها للنخبة الحاكمة، مثل تيار ناظم القدسي ورشدي الكيخيا، وتيار أكرم الحوراني. وازداد الاستقطاب السياسي حدة مع نشوء أحزاب صاعدة (الشيوعي، البعث، القومي الاجتماعي، الإخوان المسلمين) الذين طرحوا مسألة هوية الدولة كل وفق أيديولوجيته.
أمّا في الفصل الثاني، “التحديات الخارجية للكيان الوطني السوري”، فتعالج المؤلفة التحديات الخارجية للكيان الوطني السوري والإطار الإقليمي والدولي الذي نشأ فيه، وتفكك مفهوم الوطنية والانتماء الوطني الذي تشكل في ظل الموقف من الآخر الخارجي وبالتحدي معه.
أمّا في الفصل الثالث، “المؤسسة السياسية والمؤسسات المحلية التقليدية”، فتتناول المؤلفة بنية مؤسسة الدولة، وإلى أي درجة شكّل المجتمع السياسي السوري ومؤسساته دولة وطنية حديثة، وأثر الانتماءات فوق الوطنية أو تحت الوطنية في مؤسسات سياسية (كالأحزاب والبرلمان مثلًا).
تحاول المؤلفة في هذا الفصل تسليط الضوء على دور العائلة والعشيرة والمنطقة في تحديد وتوجيه سلوك النخب السياسية. إن وجود نخبة مدينية حاكمة لم يؤسس لنمط علاقات مدينية، حيث ستحمل الأحزاب ـ التي تبنت رسميا الديمقراطية والحريات ـ معها إلى البرلمان عصبياتها العائلية ولكن بغطاء سياسي. وفيما هيمن أبناء العوائل السنة على الأحزاب التقليدية، كان أغلب أبناء عوائل الأقليات، مندفعين للانتساب إلى الأحزاب “التقدمية” كالبعث والشيوعي والقومي الاجتماعي، في حين انتسب الأقل تعليما إلى الجيش.
تنتقل المؤلفة في الفصل الرابع، “أثر الفكر القومي الغربي في التنظير لمفهوم الأمة”، إلى دراسة أثر الفكر القومي الغربي، وخصوصًا النظريتين الفرنسية والألمانية، في الأحزاب القومية التي بدأت تُنظّر لمفهومَي “الأمة” و”القومية” اللذين طغيا على مفهوم “الوطنية”. وقد اعتمدت في هذا الشأن حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب السوري القومي الاجتماعي؛ بغية الكشف عن الإرث القومي الغربي في خطابهما النظري، وعلاقته بواقع ظهور هذه الأحزاب.
استلهم القوميون العرب تصوراتهم النظرية حول القومية من النظرية الفرنسية القائمة على مبدأ الإرادة المشتركة، والنظرية الألمانية القائمة على وحدة اللغة، لكن من دون توافر الشروط السياسية والاقتصادية الموضوعية التي أفرزتها أوروبا. فقد استلهم الحزب “السوري القومي الاجتماعي” وحزب “البعث” من النظرية الألمانية فكرة توحيد الأمة المتعددة الثقافات، لكن فيما اكتفى القومي الاجتماعي بالنظرية الألمانية، عمد “البعث” إلى موازنة النظرية الألمانية بالنظرية الماركسية، ففي حين تؤكد الماركسية أن العلاقات الاقتصادية وحدها القادرة على تفسير مجرى التاريخ، تؤكد النظرية القومية الألمانية أن ثمة شيئًا أعمق من الأحداث الظاهرة أو العلاقات الاقتصادية.
جعل التقارب مع النظرية الألمانية للأمة، العديد من الباحثين يتناولون بالدراسة الجذور الشمولية في خطاب النخب القومية العربية عموما و “البعث” خصوصًا الذي ابتعد عن النظرية القومية الفرنسية التي تعتبر الأمة نتاجًا لعقد اختياري يتشكل من أفراد المجتمع لضمان حريتهم.
ثمّ تناقش المؤلفة في الفصل الخامس، “بين الوطنية السورية والقومية العربية”، وفيه تناقش المؤلّفة الازدواجية أو التأرجح بين مفهومي الوطنية السورية والقومية العربية في خطاب الأحزاب السياسية السورية، وإلى أيّ درجة يعكس هذا التأرجح إشكالية عدم التوافق حول تعريف الكيان السوري كدولة – أمّة، أو كقطر ينتمي إلى أمّة أوسع، إضافةً إلى الدور الذي تؤديه الظروف المحيطة وشبكة المصالح في تبدل استخدام هذين المفهومين. وحكمت ثنائية الوطنية والقومية الخطاب السياسي للنخبة المدينية الحاكمة، وظهر ذلك بشكل واضح في استخدام مصطلح الأمة، الذي كان يشير تارة إلى الأمة العربية وتارة أخرى إلى الأمة السورية.
نتيجة ظروف الصراع الإقليمية والدولية لنيل الاستقلال، تراجعت أولوية الوحدة العربية لدى النخب الحاكمة، ففي عام 1936 تخلت النخب عن المطالبة السورية بالأقضية الأربعة في لبنان من أجل التوصل إلى اتفاقية باريس، وحصل الأمر كذلك فيما يتعلق بلواء إسكندرون لضمان حياد تركيا في الحرب. بعد الاستقلال، استمر الاستخدام المزدوج لمصطلحي الوطنية والقومية، فالنخبة البرجوازية الحاكمة اعتمدت شعار الوحدة العربية بالتوازي مع دفاعها عن الوحدة السورية كدولة ـ أمة، إلا أن شعار الوحدة العربية كان يعني لها مزيدا من اتساع رقعة التجارة بين الدول العربية.
ومن وجهة نظر المؤلفة، لم يكن هذا التأرجح في استخدام المفهومين مجرد خيار لغوي أو أيديولوجي فحسب، بل ارتبط بمصالح هذه النخب، حيث إن استخدامها مفهوم الأمة بالمعنى الوطني، شرعن وجودها في السلطة بصفتها نخبة حاكمة لهذه المنطقة الجغرافية التي اعترف بها دوليا كدولة مستقلة.
في الفصل السادس، “الأمة واللغة”، تدرس المؤلفة علاقة الأمة باللغة، ففي بدايات القرن العشرين، بدأت اللغة العربية تكتسب بعدا هوياتيا ووحدويا باعتبارها الأساس في تصور الأمة، خصوصا في مرحلة الجمعيات العربية المناهضة لحركة التتريك. ثم أصبحت اللغة في فترة الثلاثينيات عاملا مركزيا لتوحيد الدول العربية التي قسمها الاستعمار. وترى أن اللغة العربية أدت دورًا مركزيًا في تشكيل الهوية العربية في العصر الحديث، ذلك أنّ التيارات القومية العربية بَنَت تصورها للأمة على أساس اللغة، معتبرةً إياها المحدد الأساس والأول لكيان الأمة؛ بناءً على أنّ وحدة اللغة هي محدد وحدة الكيان القومي. وفي هذا السياق تبحث المؤلفة التصور اللغوي-التاريخي عند ساطع الحصري، والتصور اللغوي-الميتافيزيقي عند زكي الأرسوزي، والتصور اللغوي-السياسي عند حزب البعث.
تبدأ بساطع الحصري الذي يعتبر اللغة ووحدة التاريخ هما أس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية. وترى أن اعتماد الحصري نظرية الأمة ـ اللغة لم تأت في إطار عنصري، إذ استبدل مفهوم وحدة الأصل بمفهوم وحدة التاريخ، الذي يضطلع لديه بوظيفة توليد القرابة المعنوية. الحصري الذي كان مسكونا بالوحدة العربية، دمج الانتماءات الفرعية ضمن بوتقة واحدة، الأمر الذي جعله يعتبر وحدة الأصل وحدة وهمية، لأن كل الأمم عبارة عن خليط بين أقوام مختلفة.
على غرار الحصري، ركز زكي الأرسوزي على دور اللغة في بناء الأمة، وكانت الإشكالية المركزية عنده، هي بعث الأمة العربية، ولذلك تأثر بالنظرية القومية الألمانية التي تقوم على مبدأ وحدة النسب. ويرى الأرسوزي أن الأمة العربية ليست محصلة لأوضاع وعوامل طبيعية تاريخية، بل إن الأمة آية أو عبقرية مبدعة، والأمة مثل اللغة البدائية غير مشتقة من غيرها، ولذلك تعود بأصولها إلى السماء. ونتيجة لهذا التصور للأمة، ميز الأرسوزي متأثرا بـ فيخته، بين السامية والآرية، فأنتج منطقا معكوسا للمماهاة بين اللغة والعنصر في نظرية الأمة ـ اللغة، مفادها أن الأمة العربية ينبوع الشعوب السامية كافة.
مع أيديولوجيا البعث، سننتقل إلى التصور السياسي اللغوي للأمة، حيث مقولة الوحدة تعني الوجود السياسي (الدولة)، والعمل السياسي للأمة التي تقوم على رابطة اللغة الواحدة. وتابع مفكرو البعث وفي مقدمهم ميشيل عفلق خطى الأرسوزي، لكنهم أضافوا بعدا آخر، هو الوحدة القومية السياسية، فما كان شاغلهم ليس تعريفات الأمة، وإنما التأكيد على الأهمية التكوينية للدولة الواحدة بالنسبة إلى وجود الأمة العربية نفسها. ولهذا، ربط المبدأ الأول في دستور البعث الأمة بالدولة: العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة، وتبعا لذلك، لا أمة من دون دولة.
يتناول الكتاب في الفصل السابع، الذي ورد بعنوان “الأمّة والتاريخ”، تساؤلات أساسيّة مثل: “علاقة الأمّة بالتاريخ”، خصوصًا التاريخ الذي شكّل في خطاب الأحزاب السياسية السورية مقومًا أساسيًا من مقومات تكوين الأمّة من جهة، ومرجعيَّة فكرية وإرثًا تُبنى عليه الأمّة المعاصرة من جهة ثانية. دون أن تغفل في سياقٍ تحليلي، إلقاء نظرة على موقع التاريخ في خطاب الأحزاب السياسية بشأن الأمّة، ولا سيما على مستوى الوظيفة، وعلى مستوى الدور الذي أداه. وفي هذا الفصل تعالج المؤلّفة التاريخ بوصفه مرجعيَّةً للأمّة وإرثها، وعامل وحدة لها.
وتُخصّص الباحثة السورية الفصل الثامن، “الأمّة – الاقتصاد – الطبقة”، لتقارب علاقة الأمّة بالاقتصاد من منظور الأحزاب السياسية، خصوصًا أنّ حزبين فقط طرحا دور العامل الاقتصادي في تكوين الأمّة؛ هما الحزب الشيوعي، والحزب السوري القومي الاجتماعي. لتوضّح بالتحليل أنّ الجدل تصاعد بين اتّجاه يرى أنّ الأمّة العربية هي أمّة مُكوَّنة، وقد مثّل هذا الاتّجاه القوميون العرب واليساريون غير الدائرين في فلك السوفيات، واتّجاه يرى أنّ الأمّة ما زالت في طور التكوُّن وأنّها تبقى كذلك حتى تتحقق وحدتها الاقتصادية، ومثّل هذا الاتّجاه الماركسيون الشيوعيون العرب الدائرون في فلك السوفيات، في حين يرى اتّجاه مثّله السوريون القوميون الاجتماعيون أنّ الأمّة متكوَّنة وأنّها تمثّل وحدة تامة، لكنَّ بعثها يحتاج إلى ما سمّوه النهضة القومية الاجتماعية، وبناء المتحد القومي الاجتماعي.
بالنسبة للشيوعي، جاء هذا الفهم متأثرا برؤية ستالين للأمة التي يجب أن تتكون من أربعة عناصر: جماعة مستقرة، الحياة الاقتصادية، وحدة اللغة والأرض، وحدة التكوين النفسي. لكن تجسيد الحزب “الشيوعي” لمعنى الأمة في ممارسته كما تقول المؤلفة، متقلب بحسب كل مرحلة وظروفها، فأحيانا كان يستخدم مصطلح الأمة العربية السائد، وأحيانا أخرى يستخدم مصطلح الأمة السورية.
بالنسبة للحزب “السوري القومي الاجتماعي”، فإن العامل الاقتصادي يكتسي بعدًا أكثر عمقًا في نظرية أنطوان سعادة، الذي يستعمل مصطلح “المتحد الاجتماعي” لتعريف الأمة، حيث إن التفاعل مع إقليم معين هو شرط ضروري لتكوين الأمة، ولهذا السبب ينفي سعادة أولوية الروابط العنصرية أو اللغوية أو الدينية أو الثقافية في تحديد نطاق الكيان القومي، لأن الأمة هي متحد اجتماعي طبيعي. يتساءل سعادة ما هو الشرط الحاسم في المتحد الاجتماعي لتكون الأمة؟ يجيب إن شرط المجتمع ليكون مجتمعا طبيعيا، يجب أن يكون خاضعًا للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي، أي تجري فيه حياة واحدة ذات دورة اجتماعية ـ اقتصادية واحدة تشمل المجموع.
أما في الفصل التاسع والأخير، وعنوانه: “الأمّة والدين”، فتحلّل المؤلفة علاقة الأمّة بالدين الإسلامي، وفي الاختلاف الفكري الواضح بين الأحزاب السياسية السورية حول مسألة وحدة الأمّة على أساس الدين، وحول علاقة الدين بالدولة والسياسة. فإذا كانت عقيدة العروبة قد استطاعت إيجاد نقاط تلاقٍ مع عقيدة الإسلام، فإنّ عقائد أخرى كالشيوعية والقومية السورية كانت أكثر جذرية في استبعادها العامل الديني، على نحو تكون فيه المؤسّسة الدينية في ما يتعلق بالمؤسّسة السياسية مؤسّسة محايدة، على الرغم من أنّ تلك العقائد قدّمت نفسها، أحيانًا، كـ “أديان” جديدة.