جلسة حوارية: الإثنيات والوطنية الديمقراطية في سورية

المداخلات الأولى للمشاركين في الجلسة

حازم نهار
المسألة الوطنية السورية
إن تناول مفهوم الوطنية، وغيره من المفاهيم، لا يصبّ في خانة الترف الفكري، بل هو عملٌ وثيق الصلة بمشكلاتنا التاريخية والواقعية، وبتوجهاتنا وخياراتنا السياسية المستقبلية، خصوصًا لجهة الارتباط بين النظر والعمل؛ فكل ممارسة في الواقع تقبع خلفها رؤية ما تبرّرها أو تفسِّرها أو تغذيها وتمدّها بأسباب الوجود والمشروعية والقوة.
في الواقع، تشيع استخدامات عديدة لمفهوم الوطنية؛ ففي حيز الأفراد والجماعات مثلًا، تستخدم صفة الوطنية للدلالة على الخيارات السياسية المعادية للخارج، وبمعنى آخر للدلالة على ما هو مضاد لـ “العمالة” أو الخيانة”، وتستخدم أحيانًا أخرى للدلالة على مشاعر الحنين للجغرافيا الوطنية والذكريات والماضي، أو على التعصب للانتماء إلى دولة أو ثقافة ما، وغيرها من المعاني. هذه الاستخدامات شائعة، لكنها تشوِّش على، أو تختلط بـ، الاستخدام الرئيس أو الأساسي لها المرتبط بالدولة نفسها، وفي كونها الصفة الأساسية للدولة بمعناها الحديث.
إن إحدى نقاط القوة في الفكر هي “مسأَلة المبادئ”، أي تحويل المبادئ أو المفاهيم إلى مسائل. الوطنية السورية بهذا المعنى هي مسألة إذًا، بل مسألة دائمة، غير مكتملة، ولا يمكن لها أن تكتمل، ومن ثمّ لهذه المسألة إجابات غير محدودة، وواحدة من هذه الإجابات ما أقترحه في هذه اللحظة، وهذا الظرف.
لا شك في أن المسألة الوطنية في سورية مرتبطة بالمفاهيم الحديثة كلها، ولا يمكن فهمها من دون وعي علاقتها بها؛ الدولة السياسية، الفرد، القانون، حقوق الإنسان والمواطن، المواطنة، الدستور، العلمانية، الديمقراطية، سيادة الشعب، المجتمع المدني، الأمة… إلخ، ومرتبطة أيضًا بالإشكالات الفكرية والسياسية كافة التي تطرح نفسها علينا أو تواجهنا في الواقع؛ إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وإشكالية العلاقة بين الإثنيات والدولة.
المسألة الوطنية السورية، بهذا المعنى، هي مسألة بناء الدولة الوطنية السورية، الآن وهنا، في نطاق الحدود المعترف بها دوليًا، وهي ذاتها مسألة التحول من دولة السلطة/الطغمة إلى الدولة العمومية، ومن السكان أو الجمع الحسابي للأفراد والجماعات إلى شعب بالمعنى السياسي، وإلى أمة بالمعنى الثقافي، وهي نفسها أيضًا مسألة التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن الهويات التاريخية والأيديولوجيات والعقائد إلى الهويات الحديثة المرتبطة بـ، أو المشتقة من، الدولة السياسية الحديثة. بهذا المعنى، تكون الوطنية السورية هي نفسها القومية السورية، لكنها، بالتأكيد، ليست الأيديولوجيا القومية السورية؛ تؤسّس الوطنية على الإنسانية/الكونية من جهة، والديمقراطية من جهة أخرى، كي لا تتحول إلى أيديولوجيا هوياتية مغلقة، وعنصرية.
الوطنية صفة تخص الدولة، وتتجلى في، أو تعادل، عموميتها، في مواجهة دولة الخاص/الجزئي؛ دولة فرد أو دولة قومية أو إثنية ما، أو دولة دين أو مذهب أو أيديولوجيا ما، وتتجلى في مسألتين متلازمتين؛ المواطنة المتساوية، والدولة المحايدة أو الدولة الوظيفية، أي دولة سياسية محايدة إزاء الأفراد وأصولهم وانتماءاتهم الإثنية والطبقية ومعتقداتهم الدينية واتجاهاتهم الأيديولوجية، على الرغم من أنها يمكن أن تكتسي، موقّتا، وجزئيًا، وبدرجة ما، بلون الحكومة أو الحزب الحاكم.
تعني الوطنية، قانونيًا وحقوقيًا، الانتماء إلى دولة سياسية قائمة فعلًا أو ممكنة، وحمل جنسيتها، والتمتع بحقوقها والتزام قوانينها. وتعني، سياسيًا واجتماعيًا، جعل الانتماء إلى الدولة الوطنية فوق الانتماءات الجزئية، الإثنية والعشائرية والدينية والمذهبية، من دون أن يلغيها؛ لكنه يصبح مقدمًا عليها، ويحكمها بالضرورة، ويلوِّنها بصبغته بدرجات متفاوتة، ويصبح من الطبيعي، والمنطقي، والواقعي أيضًا، أن يكون هناك إسلام سوري، وكرد سوريون، وعرب سوريون، يختلفون بهذه الدرجة او تلك، عن المسلمين والعرب والكرد في بلدان أخرى.
لا توجد دولة في التاريخ كانت حدودها ثابتة، أو لم تنشأ عبر الصراعات والحروب أو عبر اتفاقات القوى الكبرى في لحظة معينة، ومن ثمّ ليس على العرب، ولا على الكرد، أن يستمروا في ندب حظوظهم، ويرفعوا من شأن مظلومياتهم، ردًا على معاهدة سايكس بيكو التي لم يكن لهم خيار أو يد فيها.
في عالم اليوم، لا يمكن بناء الدول استنادًا إلى خطوط وجود الإثنيات والأديان، لكن يمكن حفظ حقوق الإثنيات والأديان في الدول الوطنية الديمقراطية. ومن ثمّ، لا أحد يريد من العرب في سورية التخلّي عن مشاعرهم تجاه العرب في بلدان أخرى، ولا يريد من الكرد إنكار الروابط الإثنية والثقافية التي تربطهم بالكرد في العراق وتركيا وإيران. لكن المطلوب هو الإقرار بأن الدولة التي سنعيش في كنفها هي الدولة السورية، وهو إقرار قانوني وحقوقي أساسًا، ما دامت إعادة النظر في الخارطة القائمة غير موجودة، ولا توجد احتمالات لدولة كردية أو وحدة عربية اندماجية، هذا إن كان هذان الهدفان ممكنين أصلًا بالاستناد إلى التصورات القومية التقليدية السائدة، العربية والكردية.
مع هذا الإقرار، يصبح للحديث عن طبيعة النظام السياسي المستقبلي معنى وأساس؛ لأن أي نقاش يدور في فلك خارج إطار الاتفاق المبدئي على مشروع الدولة وحدودها المستقبلية، لن يصب إلا في إطار حديث الهويات والمظلوميات الموروثة الذي لا ينتهي، أو في إطار التسويات والتقاسمات الهشة المستندة إلى موازين القوى الواقعية، الموقّتة والمتبدلة، والتي لا ينبني على أساسها سوى دول/ أو كيانات هشة، غير مستقرة، وقابلة للانفجار مجدّدًا.
تسمح الدولة الوطنية الديمقراطية بإطلاق سيرورة تشكل ثقافة وطنية؛ هي حصيلة تفاعل وتلاقح الثقافات المختلفة في المجتمع، في ظل نظام ديمقراطي. لكن من جانب آخر، إن إطلاق سيرورة بناء الدولة الوطنية نفسها يستلزم وجود نخب ثقافية وسياسية تجعل من الوطنية السورية خيارها، وإن كان دورها ليس الدور الوحيد أو الحاسم في بناء الدولة الوطنية، وهذا هو السؤال الرئيس الذي تقع إجاباته على عاتقنا اليوم.

حسام الدين درويش
الإثنيات والوطنية الديمقراطية في سورية
الحديث المتكرر عن الوطنية يدل غالبًا على (أحد) أمرين: على غيابها أو تغييبها، الجزئي، لكن الكبير، في الواقع، من جهة، وعلى وجود ضرورةٍ لاستحضارها، من جهةٍ أخرى. ويبدو أن الحديث عن الوطنية، في السياق السوري مؤخرًا، يدل على الأمرين معًا. وعلى الرغم من وجوب عدم المبالغة في ربط “الأزمة الوطنية السورية” بالوضع الناشئ بعد قيام الثورة السورية، فلا شك في أن خصوصية ذلك الوضع جعلت الأزمة المذكورة تصل إلى درجات غير مسبوقة في سوئها: فإمكانات التفتت والتشظي والتمزق، في سورية، تبدو أكبر من إمكان التلاحم والتعاضد والتكامل، ولم يعد الانقسام بين المعارضين/ الثائرين والمؤيدين/ الشبيحة كافيًا لوصف حالة الانقسام المهيمنة على السوريين، بل أصبحت الانقسامات الكثيرة والعميقة داخل كل طرفٍ بحجم الانقسامات بين الطرفين المذكورين، وربما أكبر.
كيف يمكن التفكير في ثنائية/ ثلاثية “الإثنيات والوطنية (و)الديمقراطية”؟
ثمة أخطار ومحاذير في الدخول إلى المسألة الوطنية الديمقراطية من بوابة هوياتية (و)جماعاتية، هي بوابة الهويات الإثنية/ الجماعاتية، إذ يمكن لهذه الهويات الجماعاتية أن تكون متنافرة مع فكرة الوطنية (و)الديمقراطية ومهددة لهما أكثر من كونها مؤسسة لهما. في المقابل، يبدو أن الفكرة الديمقراطية وحدها أفقر من أن تكون كافيةً لتؤسس لحالةً وطنية. فالحالة/ الدولة الوطنية تتجاوز حالة/ دولة المواطنة، ولا يمكن اختزالها فيها، وهي تحتاج إلى روابط ما بين المواطنين، خصوصًا في حالة التأسيس لدولة وطنية ونظام ديمقراطي ما. وهنا تبرز الروابط الجماعاتية من جديد، لترشح نفسها للقيام بدور الرابط الثقافي بين المواطنين، وبين المواطنين ودولتهم/ وطنهم.
لوهلةٍ أو أكثر، تبدو الجماعاتية مدخلًا ملائما جدًّا للمسألتين الوطنية والديمقراطية على حدٍّ سواء. فالوطنية تحيل على وطن، وعلى شعبٍ، وعلى جماعةٍ، وكذلك حال الديمقراطية من جانب أنها “حكم الشعب لنفسه”، وتستند إلى منطق الأغلبية والأكثرية … إلخ. لكن ينبغي لنا تجاوز “الوهلات الأولى” ورؤية الارتباط الماهوي بين المفهوم المعاصر للوطنية والديمقراطية، ومفاهيم الفرد والحقوق والحريات الفردية … إلخ. فالوطنية هي بالضرورة وطنية وطن ومواطنين. والمواطنة هي مواطنة الفرد الحر. فالفرد، وليس الجماعة، هو الوحدة الأساسية في الوطنية (و)الديمقراطية. وفي المفهوم المعاصر، لم تعد الديمقراطية ديمقراطية إلا بقدر كونها ديمقراطية ليبرالية. وهذا يعني أن خيارات الشعب وتوجهات الأغلبية (والأقلية) متأسِّسة على حريات الأفراد، ومحدودة بها، في الوقت نفسه. والجماعات الأساسية في الديمقراطية والعمل السياسي هي جماعات مدنية قائمة على التعاقد الحر، والانتساب الإرادي، وليس على إكراه الجماعة العضوية والنسب اللاإرادي.
هل يعني ما سبق ألّا مكان للجماعات العضوية في الوطنية (و)الديمقراطية؟ أعتقد أنه يمكن للحقوق الجماعاتية، وينبغي لها، أن تُؤسّس على الحقوق الفردية، بحيث تُؤسّس حقوق أي جماعةٍ عضويةٍ على حريات المواطنين، بوصفهم أفرادًا وأشخاصًا، ويكون محدودًا بتلك الحريات. لكن يبقى السؤال، ما الحقوق السياسية أو غير السياسية التي يمكن أو يجب لأي جماعة الحصول عليها، بوصفها جماعةً عضويةً؟ يبدو ان تلك الحقوق تقع في المنطقة الوسطى بين حقوق الأفراد من جهة وضرورة حفظ الكيان المسمى وطنًا، من جهةٍ أخرى.
يمكن أن يثير الحديث عن “الوطن” أو “الوطنية”، بهذه الطريقة، ابتسامة ساخرة/ غاضبة، ويبدو أنها محقة، جزئيًّا، على الأقل، في سخريتها وغضبها. فلم يكن نادرًا استخدام “الوطن” و”الوطنية” ذرائع لحرمان الأفراد والجماعات، على حدٍّ سواء، من حرياتهم وحقوقهم، وممارسة مختلف أشكال الاضطهاد بحقهم. ولهذا السبب ولأسباب متعددةٍ، تزداد ضرورة اتخاذ خطوةٍ مزدوجةٍ حيال مفهوم “الوطنية وما يرتبط به ارتباطًا مباشرًا من مفاهيم أخرى:
من ناحيةٍ أولى، ينبغي سحب كل المسوغات النظرية التي تسمح باستخدام مفهوم “الوطنية” في شيطنة الآخرين. فالوطنية وطنيات، من جهة، وهناك ما يسوِّغ ويشرعن، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل، المواقف والاتجاهات غير الوطنية واللا-وطنية أيضًا، من جهةٍ أخرى. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، وانطلاقًا من الناحية الأولى، ينبغي “إزالة السحر عن الوطنية”. فالوطنية (السورية) هي أيديولوجيا بين أيديولوجيات مختلفة ومتصارعة والصراع بين تلك الأيديولوجيات ليس صراعًا أخلاقيًّا، وإنما ينبغي فهمه وممارسته على أنه صراعٌ سياسيٌّ. ولا فضل لأيديولوجيا على أخرى إلا بمدى تحقيقها لمصالح الناس وحفظها لحرياتهم وحقوقهم وكراماتهم. وقد لا يكون بديهيًّا أو ضروريًّا أن الأيديولوجيا الوطنية هي الأفضل في هذا الخصوص. وفي كل الأحوال هذه مسألة سياسية/ معرفية، وليست، بالدرجة الأولى، مفاضلة أخلاقية.
والإجابة عن السؤال الخاص بحقوق الجماعات تنوس بين قطبين، وتتباين، جزئيًّا ونسبيًّا، وفقًا لتغير المنظور. من ناحيةٍ أولى ينبغي للمبادئ العامة الحاكمة لمثل هذه المسائل أن تكون ما قبل السياسة أو ما فوقها أو ما تحتها، بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون خاضعة للتفاوض وإرادة السياسيين والناخبين. فالحقوق الجماعاتية ينبغي أن تكون مصانة بمبادئ (فوق) دستورية، بقدر تعلقها بمبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات والواجبات والفرص الأساسية. في المقابل لا ينبغي الإفراط في إخراج ما هو سياسي من العملية السياسية الديمقراطية؛ فالسياسة ليست (مجرد) عملية رومانسية يتبادل الناس فيها مشاعر الحب والاعتراف وما شابه، وإنما هي، (أيضًا، بل خصوصًا)، ميدان تنافسٍ وصراعٍ ومساومات ومفاوضات وتسويات. وليس هناك، ولا ينبغي أن يكون هناك، وصفة جاهزة ومفصلة تبين كيفية التعامل مع المسائل السياسية المتعلقة بالحقوق الجماعاتية، ففي تفاصيل تلك المسائل تكمن، لا الشياطين فحسب، بل الملائكة أيضًا.

راتب شعبو
الوطنية السورية
الوطنية السورية، مثل كل وطنية أخرى، تتقدم أو تتراجع في سياق صراعي يطال الجانب المادي (صراع قوى ومصالح) ويطال شكل الوعي لدى قاطني البلد (تفوق الإحساس بالانتماء للبلد على الانتماء الأخرى الأعلى أو الأدنى). هل شعور العربي السوري بوحدة الانتماء تجاه الكردي السوري يتفوق على شعوره تجاه العربي المصري مثلًا؟
الوطنية ليست معطىً ناجزًا في أي وقت، إنها كمؤسسة الزواج، يمكن تعزيزها بالتفاهم واحترام حقوق الأطراف والالتزام المتبادل باحترام المؤسسة التي تحمي حقوق الأطراف، ولكنها، مع ذلك، مفتوحة دائمًا على الانفصال أو على “النكد” المستمر.
لا ثقل وازنًا للوطنية السورية في واقعنا الراهن، وأغامر بالقول إن الوطنية السورية تراجعت كثيرًا بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة السورية، من دون أن يعني هذا أنها كانت في عافية من قبل، ولكنها كانت أفضل حالًا، ذلك أن الانقسام المجتمعي بين الألوان المذهبية والدينية والإثنية كان أقل حدة. من دون الدخول في تعاريج ما أصبحنا إليه، يمكن القول: قبل الثورة كان يوحِّد السوريين ما يرفضونه (أي نظام الأسد)، أما بعد الثورة فقد فرقهم ما يريدونه، ثم تعززت هذه الفرقة بحدود وقوات مسلحة.
تفسير التراجع الوطني السوري يكمن، في رأيي، في أنه لم يكن للثورة السورية، شأنها شأن الثورات العربية الأخرى، فكرة إيجابية جامعة، كانت تجمعها فكرة سلبية هي رفض النظام. كان وراء شعاراتها العامة (الحرية، الكرامة، الديمقراطية… إلخ) تباينات واسعة إلى حد التناقض في الفهم. لم تعن الحرية للإسلامي ما تعنيه للكردي أو ما تعنيه للعلماني. لذلك حين تقهقر النظام من دون أن يسقط (حتى لو سقط النظام كان وضعنا سيكون أقرب إلى الوضع الليبي أو اليمني)، لم تستطع “الفكرة” أن توحد معارضيه، لأنها لم تكن فكرة جامعة. وعليه راح كل طرف معارض يفرض فهمه على الأرض بمقدار القوة التي يحوزها، فوصلنا إلى واقع من الصراع العنيف بين المعارضين وإلى حالة من التمزق الوطني غير المسبوق. المفارقة أن القاسم المشترك بين الأطراف المسيطرة على الأرض في سورية، هو معاداة الحرية، ومعاداة “الوطنية السورية” بالقدر نفسه.
الوطنية تعيش على حساب الانتماءات الأخرى، لذلك عليها أن تظهر تفوقها الدائم كي تستمر، وإلا فإنها سوف تتفكك أو تستمر بالقسر. هل يمكن أن يرضى القومي العربي بسورية بديلًا من حلمه العربي، وكذا الحال بالنسبة إلى الكرد؟ ألم نملأ تاريخنا كله برفض الممكن وانتظار المستحيل؟ ألا يطرب الكردي مئة مرة لسماع اسم “كردستان” على سماع اسم “سورية”؟ وحين تمكن الكرد في سورية من القوة العسكرية والدعم الدولي ألم يعدّوا تركيا عدوهم الأول وليس نظام الأسد؟ ألا ينطبق الشيء نفسه على الفصائل العاملة تحت إمرة تركيا؟
لا شك في أن اللامركزية هي شكل أنسب للإدارة، وأدنى إلى مصالح الناس المباشرة، ولكن اللامركزية ليست حلًا لمشكلة الإثنيات، لأن توزع الإثنيات لا يتخذ صبغة جغرافية محدّدة. الإثنيات تحتاج إلى اعتراف دستوري أولًا، وإلى ما يستتبع ذلك من حقوق ثقافية وإدارية داخل إطار وطني. هذا ما يبدو لي أفضل للجميع، مع علمي أن “القوميين” في كل طرف لن يقبلوا هذا الكلام. نحن أمام خيارات، لا يحوز أي منها أفضلية حاسمة، لذلك ليس أمامنا سوى المفاضلة ثم التصويت. ولكن حتى التصويت لن يرضي الأقليات القومية والإثنية، لأنها ستجد نفسها مغلوبة بالأصوات، بطبيعة الحال.
يقودنا ما سبق إلى عدم تقديس الوطنية السورية وعدّ مخالفتها كفرًا أو خيانة. الوطنية هي أساسًا محلّ تلاقٍ طوعي، ومهمة الوطنيين تكمن في كشف مزاياها قياسًا على الخيارات الأخرى.

عبد المجيد عقيل
حضور الهوية السورية
عند الحديث عن مفهوم الوطنية، فإنه من اللافت للنظر أننا إذا جئنا لنترجم كلمة “إنسان وطني” للغة الإنكليزية، للدلالة على صفة نقصد بها نقيض “اللاوطنية”، سنجد أننا عاجزون عن إيجاد ترجمة حرفية دقيقة، فالترجمة الحرفية لكلمة “وطني” كصفة هي Patriotic، لكن هذه الترجمة لا تنسجم إطلاقًا مع المعنى المتداول لصفة الوطنية في أدبياتنا السياسية، التي نصنف بوساطتها الناس إلى وطني وغير وطني، كما نصنف الناس في الأدبيات الدينية إلى مؤمن وغير مؤمن.
في الحقيقة، إن كلمة Patriotic تدل على المبالغة في الشعور الوطني، تأتي أحيانًا بالمعنى الإيجابي للدلالة على شخص يقدم تضحيات جسيمة من أجل بلده، وتأتي أحيانًا توصيفًا لحالة عاطفية شوفينية مغرقة في حب الوطن وتعظيم كل شيء فيه، أي نحن نتحدث هنا عن “الباتريوتيزم” كحالة استثنائية، وليس عن طرف ضمن ثنائية (وطني–غير وطني) التي تأخذ طابعًا أيديولوجيًا وصائيًا يُصنّف الناس على أساسها.
أما عندما نتحدث عن هوية وطنية أو مؤتمر وطني أو دستور وطني، لا تُستخدَم كلمة Patriotic إنما تُستخدَم كلمة ناشيونال National، التي تربط مفهوم الوطن بالأمة Nation، فالوطنية بهذا المعنى هي انصهار مجموعة بشرية كبيرة ضمن بوتقة المواطَنة تحت مظلة دولة ما، وانسجامهم مع العقد الاجتماعي المبني على مقتضيات هذه المواطنة، فتكون الوطنية بهذا حتمًا فوق الأيديولوجيا، لأن التساوي الكامل في الحقوق والواجبات كما تقتضي المواطنة يتضمن التساوي في الحريات، ما يؤدي إلى تعزيز التنوع ولا يتسق مع فرض نمط إيديولوجي واحد بشكل شمولي على الدولة والمجتمع، كما تكون الوطنية بمفهومها هذا لاغية لكل المقاربات السياسية التي تنطلق من أرضية إثنية أو قومية، لأن ما تقوم عليه المواطنة هو التعامل مع الناس في الحقوق والواجبات على أنهم مواطنون أفراد مستقلون بذواتهم لا على أنهم جماعات متنافرة.
وعلى الرغم من أن الوطنية بهذا المعنى هي أقرب إلى أن تكون حالة بديهية من أن تكون مفهومًا سياسيًا في الدول والمجتمعات الحداثية، إلا أنها تكاد تكون غائبة تمامًا في ثقافتنا وأدبياتنا السياسية بمفهومها هذا، حيث تم تطويع مفهوم الوطنية في سورية على مدى العقود الطويلة الماضية وقولبته ضمن مفهوم الولاء المطلق للسلطة، فصار مصطلح الوطنية مقترنًا بحالة أيديولوجية وصائية تحدد السلطة من خلالها المقاسات الدقيقة والضيقة للموقف الوطني والفكر الوطني والسلوك الوطني، وتطرد من يشذ عنها خارج إطار الوطنية.
وبعد الانفجار السوري العظيم سنة ٢٠١١، تمرّد السوريون على ذلك القالب الوصائي، لكن هذا لم يؤدِّ–ومن الطبيعي ألّا يؤدي مباشرةً–إلى إحياء الوطنية السورية كحالة سائدة في المشهد السوري، إنما برزت هويات متمردة على مفهوم الوطنية بأكمله، إما هويات “دون وطنية” على أساس الطائفة أو القومية، أو هويات غارقة في الأيديولوجيا على أسس إقصائية.
قد يكون هذا نصف الجواب على السؤال المطروح في أحد محاور النقاش حول درجة حضور الهوية السورية على أرض الواقع، فهي ذات حضور ضعيف وخجول وغير مؤثر في المشهد السوري، أما النصف الآخر من الجواب، فهو أنه توجد مؤشرات قوية ومهمة يجب علينا أن نلتقطها، تدلّل على حضور القيمة الوطنية في وجدان قسم كبير جدًا من السوريين، البعيد منهم عن السياسة قبل القريبين منها، يعبرون عنها بشكل عفوي، ويدركون في قرارة أنفسهم أن الوطنية السورية قد تكون كلمة السر للخروج من عنق الزجاجة والخلاص من الواقع الكارثي الحالي.
يعتبر مصطلح (الطرفين) أحد أكثر المصطلحات حضورًا في الأدبيات السورية في العقد الأخير، وعلى الرغم من أنه لا يوجد معيار موضوعي واحد يمكن على أساسه توصيف ماهية هذين الطرفين، حيث هناك من يستخدم هذا المصطلح للتفريق بين من يؤيد رئيس النظام ومن يعارضه، وهناك من يستخدمه للتفريق بين الخير والشر في الواقع السوري بحسب فهمه له، وهناك من يستخدمه في المنظور الجيوسياسي وتوصيف اصطفافات الدول والقوى العسكرية وقوى الأمر الواقع في المشهد السوري، إلا أنه أن الإنسان السوري، البسيط قبل النخبوي والعميق، عندما يستخدم مصطلح الطرفين بالسياق السلبي، ويحملهما معًا مسؤولية معاناته ومعاناة السوريين، فهو يقصد، ولو عفويًا: الطرفين اللذين تطرفا في ابتعادهما عن الوطنية السورية ومعاداتهما لها، ويكون الطرف الأول في هذه الحالة السلطة المستبدة والمجرمة، والطرف الثاني هو بعض مفرزات الحدث الثوري من كيانات وأجسام سياسية وفصائل عسكرية وخطاب إعلامي نقيضة للوطنية السورية أصبحت في مجموعها مرادفة لكلمة الثورة أو المعارضة للمراقب الخارجي الحيادي.
أما عندما يذكر عموم السوريين مصطلح الطرفين بالمعنى الإيجابي، كما عندما كثر مؤخرًا ترديد مقولة أن وفاة حاتم علي وحدت السوريين من الطرفين، فإن المقصود في جوهر هذا القول ليس أن السوريين يتوقون إلى التصالح مع الاستبداد أو الفساد أو الطائفية أو الإرهاب، بل إن ما أراد كثيرون قوله بعفوية هو أنهم يتوقون إلى أن تتوحّد الكتلتان البشريتان الخاضعتان والمتماهيتان مع هذين الطرفين، على الوطنية السورية كقيمة عليا وجامعة، حيث استطاع السوريون على اختلاف مشاربهم أن ينظروا إلى إنسان سوري على أنه رمز وطني يستحق تمجيده والاعتزاز به، على الرغم من أنه لم يكن ينتمي في حياته إلى أحد القالبين الوصائيين للطرفين المذكورين. إذًا هو تعبير شعبي عفوي، لكن نابع من حاجة السوريين إلى التوحّد حول القيمة الوطنية السورية، والتمرّد على القوالب الوصائية التي تربط الوطنية بموالاة السلطة أو الانتماء إلى الثورة وفق فهم أحادي محدد للثورة وماهية الموقف الثوري.
إن التقاط هذا المؤشر والعمل على إحياء فكرة الوطنية السورية وتعزيزها من شعور عفوي وجداني إلى حالة فكرية وثقافية هي ضرورة قصوى اليوم، ومن شأنها أن تحدث تأثيرًا تراكميًا هائلًا في الواقع السوري، فصحيحٌ أن الوطنية هي مفهوم أقرب للحيادية في الدولة الحديثة، لكن تعزيز الوطنية في حالة واقعنا المشوه المفتقد لها، هو تعزيز لموقف شعبي قوي وصارم تجاه الاستبداد والإرهاب والطائفية، وكل ما يتناقض مع الوصول إلى الدولة الوطنية، وهو موقف أخلاقي لا سياسي، يمكن التعبير عنه بالكلام أو السلوك أو المواقف أو حتى الصمت كبديل عن تأييد أو تبرير ما هو خطأ. أي بمعنى آخر: هي خيار مؤثر، وفي الوقت نفسه خيار واقعي لعموم السوريين في ظرفنا الحالي.
أما بالنسبة إلى طبيعة النظام السياسي المأمول لحل مشكلة الإثنيات، وهل يجب أن يكون لامركزيًا أم فدراليًا، فإن هذه الاستحقاق يأتي أوانه في رأيي بعد تعزيز الفكرة الوطنية، وإخراج القوميات والإثنيات من المعادلة السياسية، ليصبح النقاش في تفاصيل علاقة المناطق والأقاليم بالمركز هو في منزلة نقاش للآلية التنظيمية الأصلح لتحقيق مصالح الشعب السوري بمجموعه وأفراده، لا نقاشًا ينطلق من مقاربة قومية أو إثنية في تخيّل شكل الدولة المنشودة، وفي هذا النقاش سيكون المطلوب هو بحث تفاصيل علاقة الأقاليم بالمركز، فالتفاصيل هي الأهم من اختيار مصطلح فضفاض مثل اللامركزية أو الفدرالية.
أما في المنظور الثقافي، فإن المواطنة لا تتناقض مع حقوق الجماعات القومية والإثنية والدينية كما هو الحال في المنظور السياسي، بل تتعزز المواطنة عندما تتبلور الهويات الفرعية ضمن الهوية الوطنية، وعلى ذلك فإن الحقوق الثقافية للجماعات الإثنية يجب أن تكون مصانة في الدولة الوطنية المقبلة بصرف النظر عن شكلها ودرجة لامركزيتها.

عماد العبار
الهوية الوطنية السورية وجدل الهويات الإثنية وطبيعة النظام المأمول
الوطنية حالة وجدانية تتمثل بشعور الإنسان الفرد بالانتماء إلى جماعة بشرية، وارتباط هذه الجماعة وجدانيًا بحيز جغرافي أتاح لها الاستقرار والإنتاج عبر التاريخ. تحتاج هذه الحالة الشعورية إلى مجموعة من المقومات، أهمها استقرار جماعة متجانسة أو جماعات متغايرة من حيث العرق أو الدين أو الطائفة ضمن جغرافيا محددة عبر أزمنة طويلة، بما يتيح لها التفاعل الثقافي والاجتماعي الحر، ومن ثم إنتاج أعرافها وتقاليدها ومصالحها المشتركة وعقدها الاجتماعي العرفي أو المكتوب، ثم إنتاج الدولة أو الوطن بالمعنى السياسي.
تمثل الهوية أو الهويات حالة ما قبل وطنية، أو بمعنى أدق حالة أكثر شمولية من الوطنية، وهوية أي جماعة عبارة عن هويات مركبة، فالهوية الواحدة قد تكون دينية طائفية وإثنية ومناطقية وطبقية، ولكن أحد مكونات هذه الهوية قد يأخذ بعدًا طاغيًا فيصبح هو (الهوية) في مرحلة ما، وقد يكون ذلك لأسباب موضوعية: كأن تتعرض جماعة ما لظلم ممنهج يستهدف مكونًا محددًا من مكونات هويتها، وهنا تبرز الهوية بوصفها كردية أو عربية أو سنية أو شيعية أو فلسطينية.. كما قد يحدث ذلك لأسباب غير موضوعية: تلاعب سياسي يريد أصحابه إعطاء الصراع صفة هوياتية محددة بما يخدم مشروعهم السلطوي.


لا تتعارض الوطنية مع الانتماءات الهوياتية الأخرى، ويمكن القول إن المجتمعات أو الدول التي لا يطرح فيها سؤال الهوية أقل من تلك التي يثار فيها جدل الهوية، فالجدل قائم في عديد من دول العالم كأميركا وكندا وروسيا وكذلك في تركيا وإيران، وإلى حد ما في ألمانيا أيضًا. إذًا يمكن القول إن التعدد الهوياتي إن لم يكن قاعدة في الدول الوطنية المعاصرة، فهو ليس استثناء، ويجب ألا يناقش من كونه مشكلة بحد ذاته، بل حالة طبيعية تحتاج إلى تنظيم واستثمار.
مفهوم الهوية الوطنية مفهوم حديث يستعمل للتعبير عن الانتماء، وهو أحد نتاجات الحضارة الغربية وتطور مع تبلور شكل الدولة القومية في أوروبا، وهو ما يزال معطى قابلًا للتطوير ويثار الجدل حوله لاختلاف الملابسات التي رافقت تشكل الدول التي ظهر فيها النقاش حوله، ولوجود اختلاف لن ينتهي بين الدول يتعلق باختلاف مكوناتها الهوياتية وطبيعة التحديات والتدخلات في كل دولة.
ومع أن الهوية الوطنية مصطلح حديث وطارئ على مجتمعاتنا، على سورية بصفة خاصة، إلا أن الانتماء نفسه ليس بالأمر الجديد، وكذلك مفهوم المواطنة والعقد الاجتماعي والدستور وغيرها من المفاهيم التي باتت من صلب إدارة الدولة الوطنية اليوم.. لم تكن هذه المصطلحات متداولة على المستوى الثقافي ولا مقوننة على المستوى الفقهي والقانوني، غير أن الشعوب التي عاشت ضمن جغرافيا سورية الطبيعية أو بلاد الشام توافقت خلال مراحل متباينة من التاريخ على أنماط معينة من الانتماء والتفاهمات الاجتماعية في ما بينها، وكانت هذه التفاهمات تتفاعل مع الزمن ومع اختلاف الإدارات الحاكمة التي مرت على هذه المنطقة عبر التاريخ.


قبل نشوء الدول الحديثة في المشرق العربي كانت مفردة الوطن تشير إلى منزل العائلة، بينما لم يكن الانتماء العام والهوية مرتبطين بجغرافيا سياسية محددة بل مرتبطان بأمة مترامية الأطراف ومتبدلة الحدود باستمرار. لم يكن من السهل أن تطور المجتمعات التي عاشت في منطقة سوريا الكبرى هوية خاصة عبر التاريخ القديم، لكونها كانت منطقة صراع وتقاسم نفوذ بين حضارات مختلفة ولم تتمتع بالاستقرار الكافي ولا بالمركزية اللازمة لذلك. لكن مع بدايات ظهور الإسلام تفاعلت الهويات الشامية مع الإسلام بشكل إيجابي وأنتجت هوية أساسية (غالبة) تندرج تحتها مجموعة من الهويات الفرعية. أهم ما ميز هذه الهوية عروبة اللغة، وتأثير الطابع الإسلامي في الثقافة والعادات والأعراف. حافظت هذه الهوية على ثبات ملحوظ منذ الفتح الإسلامي حتى اليوم، وطرأت عليها تغييرات لكنها لم تغير من معالمها الأساسية، فكانت الإدارات الحاكمة تتعاقب، لكن من دون حدوث تغيرات جوهرية في طابع الهوية العامة لبلاد الشام.
حتى حين وقعت البلاد تحت إدارة عثمانية لفترة طويلة من الزمن لم يحدث تغيير جوهري في طبيعة هذه الهوية، وفشلت سياسة التتريك خلال المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية في تغيير الهوية، بل الذي حصل أن سقطت الإدارة نفسها.


ترتبط أزمة المواطنة الحالية في سورية (الصغرى)، وما يتعلق بها من خلاف هوياتي إثني، أو خلاف طائفي، بمسألتين: 
الأولى لها علاقة بالتاريخ: وبالتحديد فترة الانتداب الفرنسي.
الثانية مرتبطة بالواقع الحالي: وأقصد وجود نظام غير وطني.
في الواقع، لم تبدأ أزمة الخلاف الهوياتي الإثني والقومي (ومن ثمّ، أزمة المواطنة) في عهد نظام الأسد، ولا حتى مع ظهور حزب البعث، بل بدأت أزمة المواطنة مع بدء تقسيم سوريا الكبرى، وما رافقه من صراع على التركة العثمانية بين الدول المستعمرة، وما ترتب على ذلك من تقسيمات سياسية وتلاعب ديموغرافي في بعض المناطق بحيث تبقى مناطق توتر يسهل الاستثمار فيها عندما تقتضي المصلحة..
تاريخيًا، الصراع الإثني تم تصديره من تركيا الحديثة إلى سورية بإشراف سلطة الانتداب. غير أن نظام الأسد تعامل مع المجتمع السوري كسلطة انتداب، وعمل على تباعد القوميات والطوائف عن بعضها بعضًا، واستثمر في تضخيم المخاوف وتعزيز الفروقات وفي خلق تناقضات إضافية، بهدف ربط مصير الوطن كله بمصيره في ما لو حدث تحرك شعبي ضده.


بما أننا نتحدث عن المواطنة والوطنية وفق المفاهيم الحديثة للدولة والوطن، فمن الملائم إذًا أن نعالج مشكلات المواطنة الناتجة من اضطراب الهوية الوطنية والحساسيات بين القوميات والطوائف بأساليب الدول الحديثة نفسها. فأزمة المواطنة السورية التي ظهرت بشكل حاد بعد قيام الثورة ضد نظام الأسد لا يمكن حلها باعتقادي بتقسيم تركة الأسد بين أسديين صغار يحمل كل طرف منهم (سواء أكان تابعًا لطائفة أو قومية أو عرق) مقومات الفشل ذاته الذي أدى إلى ما نحن عليه اليوم.
من هذا المنطلق أعتقد أن السؤال عن شكل الدولة (مركزية، فدرالية.. الخ) المأمولة لحل مشكلة الإثنيات والوطنية هو سؤال خاطئ هنا، ليس فحسب لأن التقسيم الإثني بحد ذاته يخلق إشكاليات وصراعات لا تنتهي في الحالة السورية، بل لأن هذا التقسيم لا يقدم أي ضمانة لحل مشكلة المواطنة، وقد أثبتت التجربة السورية إلى اليوم أن فهم المواطنة والشروط التي تقوم عليها من مساواة وحريات وحقوق وواجبات غائب ليس فحسب في نهج السلطة الأسدية، بل وجدناه أيضًا في جميع الأنماط السلطوية التي قامت في سورية خلال هذه الفترة.
أخيرًا، أرى أن بناء الهوية الوطنية السورية يحتاج أولًا إلى إزالة آثار التشويه الأسدي للوعي الجماعي السوري، فالعمل على تحقيق المساواة بين المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم وأديانهم وأعراقهم، وإطلاق الحريات الاجتماعية والثقافية العامة والمشاركة السياسية على مستوى الأفراد والجماعات الإثنية والدينية، وتعميق مفهوم المسؤولية الفردية والحقوق والواجبات قد يكون جوابًا كافيًا لمن يسأل عن شكل الدولة المأمولة لحل الحساسيات التي نشأت بين الإثنيات والطوائف.

⦁ مضر رياض الدبس
كيف نُفكِّر في الوطنية السورية
⦁ مُساءلة منهجية تمهيدية
يعني التفكير–أي تفكير–إنتاجَ معنى، وبحثًا عن المعنى، وابتكار طرائق الوصول إلى المعنى؛ فأن نفكر في الوطنية يعني أن نمنح حضورها معنى ما، وقبل ذلك؛ يعني أن نناديها إلى الحضور، وأن ننادي–كما يقول هايدغر–يعني أن نُسمي بالاسم؛ فنقول: الوطنية السورية. يعني ذلك أنَّ التفكير في الوطنية لن ينتج المعنى الذي نتوق إليه، ما لم تكن “السورية” موضوعه بصورةٍ خاصَّة، والاسم الذي تُدعى به الوطنية إلى الحضور، وما لم تكن السورية غاية التفكير، وليست وسيلةً لغاياتٍ فوقها أو تحتها. ويعني ذلك–مبدئيًا–أن كلَّ تفكيرٍ لا ينتمي إلى مستوى “السورية”–اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا–لا يخدم فكرة الوطنية، سواء أكان “من فوقها” مثل الأيديولوجيات العالمية والأممية، أو “من تحتها”، مثل الأيديولوجيات الإثنية والعرقية والدينية والطائفية والقبلية، وإلى ما هنالك.
وللتفكير في الوطنية السورية اليوم خصوصِّية، وهي إنَّه تفكيرٌ في زمن الألم، دافعهُ الأقوى الألم، وضرورته تسكين الألم، وأن نفكِّر ونحن نتألم يعني أن نفكِّر نيابةً عن الإنسان في كلِّ مكان، وأن نساهم من طريق توصيف آلامنا وتحليلها، بتصور مستقبلٍ أفضل للجميع، والتصور بدايةٌ صحيحةٌ لكلِّ صورةٍ جميلة؛ فالألم يحمل صاحبه على وضع معايير وضمانات نظرية بحيث لا يتكرر الألم ومسبباته، في أي مكانٍ آخر من العالم. وأن نفكر ونحن نتألم يعني أن نفكر بالنيابة عن البشرية في الأجيال المقبلة، وفي المستقبل عمومًا؛ أي إنَّ التفكير في الوطنية السورية كونيُّ المنهجية، وكلُّ وعيٍ محلي وعيٌ غير ملائمٍ للوطنية بالضرورة، ولذلك يكون القول إنَّ نداء الوطنية يحتاج إلى تأهيلٍ ما، قولًا مهمًا وسابقًا؛ فكيف نؤهل أنفسنا للتفكير الكوني ومن ثم الوطني؟
السورية خاصة بالسوريين، لها عليهم حق ابتكارها وخلقها، ولهم عليها حق الحفاظ على حيواتهم، وعلى حقوقهم الإنسانية كاملةً غير منقوصة (افرادًا وجماعات) من طريق ترجمتها بدولةٍ وطنيةٍ ديمقراطية، وهويةٍ سياسية وقانونية، ومع أن الحضور الدائم لهذه الخصوصية حضورٌ مهم، إلا إنَّ “السورية”–بوصفها فضاءً وطنيًا وأخلاقيًا–لا تُخلق ولا تُبتكر إلا بالعمومية. والانتماء الخاص في ضوء “السورية” مُعرَّفٌ بدلالة الانتماء العمومي السوري، ويحافظ الاثنان بعضهما على بعض (الخاص والعام).
هكذا يمكن أن نقول إنَّ الأهلية للعمومية السورية أهليةٌ للوطنية السورية، وليست العمومية مفهومًا مضادًا لخصوصية الجماعات السورية، ولكنها الأفق الذهني الذي يؤنسن هذه الخصوصية؛ ذلك لأن العمومية تُعقلن الخصوصية، فتجعلها متناغمةً مع الإنسانية.
ويمكن القول إن الخصوصية المُحددَّة بموجب العمومية داعيةُ حياةٍ كريمة، في ما تكون الخصوصية المُحددَّة بموجب سرديتها المحلية متكوّرةً على ذاتها، ومضادةً لفهمٍ ناضجٍ لفن العيش، ومن ثم عقبةً أمام مفهوم الفرد وتعيينه، وأمام قابلية البشر للاجتماع السلمي. ومن جهةٍ أخرى، فإن اقتران خصوصية قومٍ بالعمومية، يجعل من الخصوصية ضمانةً لخصوصيتها، بقدر ما يجعل منها ضمانةً للخصوصيات الأخرى، وما أن تصبح ضمانةً للخصوصيات الأخرى حتى تصبح ضمانةً وطنية، فلا تقبل بهدر الحياة فداءً لعصبية أو أدلوجة، وتقوم بمقاربة حياتها الداخلية بدلالة الحياة الإنسانية الكونية، لا العكس؛ وكلُّ خصوصية لا تصمد أمام تمرين الوطنية هذا، هي خصوصية زائفة ينبغي أن تتلاشى لإحلال الوطنية، بل يمكن أن يكون غيابها، والعمل على تغييبها، جزءًا من الطريق إلى الوطنية. وإدراك الحاجة إلى العمومي، مضافًا إليه صور النشاط التي من شأنها أن تخلق مجتمعًا مؤهلًا للعمومي، هي مقدّمات “خلق الوطن”، وهي ما يمكن تسميته في سورية اليوم “هندسة سورية الجديدة”، وابتكارها حرةً كريمةً تحدّد وجودنا الحر والكريم فيها.
ويبدو أن هذا “العمومي” لم يوجد قبل القرن الثامن عشر، حتى في أوروبا؛ فهو لا يأتي مصادفةً، أو يُخلق من العدم، بل تؤهل المجتمعات نفسها لما هو عمومي. وتفيد تجربة الحداثة أنَّ الألم يمكن أن يكون طريقًا إلى العمومية، وننظر إلى الألم السوري اليوم بوصفه فرصةً لبناء العمومية السورية، أي لبناء الوطنية السورية.
إذًا، الوطنية–بتكثيفٍ شديد–مرادفةٌ للعمومية، وتعني أن نُفكِّر في الضوء، واستنادًا إلى ذلك نكثفُ الوطنية “السورية” اليوم في القول: إنها تفكيرٌ في ضوء الألم السوري، وأن نفكَّر في ضوء الألم يعني أن نفكر بصورةٍ وطنية، وهكذا نصل إلى تساؤلٍ جديد: كيف نفكر في ضوء الألم؟
تكفي نية التفكير في الضوء–أي ضوء–لنُدرِّب الباطني فينا على فن الانحسار وموهبة التنحي، لأن الضوء كاشفٌ، وفي الكشف هدايةٌ، وتوضيحٌ، وعلانيةٌ لا تعترف بحدودِ الفضيحة؛ فالتفكير في الضوء–عمومًا–تفكيرٌ مُعلن، مضادٌ للباطنية، لا يعيش معها ولا يقبل بآلياتها ولذلك هو عمومي. وأن نُفكِّر في الضوء يعني أن نكتب وننشر: نكتب لنلتزم ونُنظِّم، وننشر لنحاور ونتحاور؛ فكلُ فكرةٍ غير مكتوبةٍ في زمن الألم، وكلُّ فكرةٍ سريةٍ، وكلُّ حوارٍ غير منشورٍ أيًا كان موضوعه، نشاطٌ في الظلام: في عتمة الألم نحو الجهة المؤدية إلى التيه.
ومثل كلِّ الأوطان، توجد عتبةٌ (وسطٌ ما بين داخلٍ وخارج) بين سورية–بوصفها وطنًا–والسوريين، وفي هذه العتبة يوجد مفصل الاختلاف، وفي هذه العتبة يحضر الألم. وكان السوريون يجتنبون هذه العتبة، كما يجتنبون عمل الشيطان، بل كانت منطقةً محظورةً، يحرسها الاستبداد حراسةً مشددة، لأن دخولها يعني دخول الوطن، ويعني انهيار منظومة التفريق بين الجماعات، من ثم انهيار نظام الطغمة الحاكمة؛ فلم يتهاون النظام في عقاب المتسللين إليها، أو الذين يُفكرون في ذلك ويكتبون، إلى أن صار الأهلُ والأصدقاء والمُحبِّين والخيِّرون (أغلبية السوريين) حرَّاسًا عليها أيضًا: يُبعدون أبناءهم وأحبَّاءهم منها مخافة ضياعهم، ومخافة أن يتألموا. وبمرور الوقت، ضعفت قدراتنا العمومية وتأهلينا لها، وصارت الوطنية جريمةً تهدد أمن الدولة: “وهنًا لنفسية الأمة” أو “نيلًا من هيبة الدولة” أو “عداءً لأهداف الثورة”، وإلى ما هنالك.
الذي حصل أن الثورة أخذتنا جميعًا (أفرادًا وجماعات) إلى عتبة الوطن تمهيدًا لدخوله، لأنها في عمقها (الأولي) مشروع ابتكار وطنٍ وشعب سوري واحد من طريق إسقاط الطغمة؛ فنحن لم نكن نعيش داخل سورية (داخل وطن)، بل في جماعاتٍ عصبوية متعايشةٍ تحت النير؛ ومنذ بداية الثورة إلى اليوم، ونحن نقف على العتبة (حيث الألم يصنع وطنًا)؛ فإما أن ندخل وطننا حيث السكينة والسلام والحميمي، أو لا ندخله حيث الحرب والقتال والتيه.
أن نفكر في ضوء الألم يعني أن نفكر في ضوء الاختلاف المُفضي إلى السلام، ويعني أن نفكر في الحميمية الوطنية على عتبةِ وطنٍ حجَّرها الألم: في حميميةِ الوحدةِ الناتجةِ من إدارة الاختلاف إدارةً عمومية أخلاقية ونفعية وإنسانية (إدارة وطنية).
التفكير في عتمة الألم فعلٌ باطني وعصبوي يحيل على وعي أيديولوجي، والتفكير في ضوء الألم فعلٌ علاني ووطني يحيل على وعي وطني مقارب.
أخيرًا، يعني نداء الوطنية السورية إلى الحضور، تهيئةَ الفضاء العمومي لصيانتها، والصيانة عكس الابتذال؛ فالحضور المُبتذل للوطنية، وللمشاريع الوطنية والمؤتمرات، يجعل حضور الوطنية حضورًا وهميًا وعاطفيًا فحسب؛ وفي إحدى أكثر صوره أهميةً، يعني ذلك ضرورة مراجعة جدوى المنهجيات الأيديولوجية التي تستخدم الوطنية وسيلةً لغاياتٍ أخرى، والتي تفهم الدنيا “بالمقلوب”، ويعني تدريبًا على قبول الآخر، وإيمانًا بأنَّ الحفاظ على حقه في اعتناق ما يراه ملائمًا، وبناء رؤاه للواقع وللحياة والتعبير عنها، هو–بطبيعة الحال–الطريق الوحيد للحفاظ على حقنا في هذه المسائل نفسها؛ فالوطنية اشتقاقٌ على أنقاض الشِقاق، والوطنية صيانةٌ على أنقاض الابتذال.

رابعًا: مجريات الجلسة الحوارية

يوسف فخر الدين:
تحية طيبة لجميع المشاركين.
في الحقيقة، قرأت مداخلاتكم المكتوبة القيمة، ولفت نظري عدة مسائل، سأعيد صوغ محاور النقاش التي سبق أن أُرسِلَت إليكم في سياق متناسب معها لتسهيل التكامل بين المكتوب والحوار الشفهي، مع التنويه إلى أن عدد المشاركين والوقت المحدد لجلسة واحدة يحتمان علينا التقيد بالوقت، وإن كان الموضوع وغنى المشاركات يشجعان على التفكير في عقد جلسات لاحقة لاستكمال الحوار والتوسع فيه.
المحور الأول للحوار سأنطلق فيه من أمر لافت لاحظته في الأوراق، هو التعدد في تعريف الوطنية، وتضمين كل مشارك لها ما يعتقد أنه أولويات، لكن هل نحن متفقون على العلاقة بين الوطنية والدولة السورية الديمقراطية المأمولة أم يمكن أن تتحقق من دونها؟ وهل هناك إمكان لإعادة توحيد سورية وبناء الدولة الديمقراطية من دون وطنية ديمقراطية؟ هل نحن هنا في صدد أيديولوجيا يمكن للدولة المنشودة أن تكون معها، ويمكن أن تكون دونها، أم نحن في صدد حاجة إلى الدولة السورية الديمقراطية لا تقوم هذه الدولة من دونها، أم هي منزلة بين هاتين المنزلتين؟
ربطًا بالسؤال، أجد أن هناك من يقدم الوطنية السورية وكأنها تتضمن بداهةً الديمقراطية، على الرغم من أن التاريخ المعاصر قدّم لنا نماذج للدولة الوطنية كانت الأشد استبدادًا، فمثلًا الفاشية هي وطنية اشتراكية.
إذًا السؤال هو عن علاقة الوطنية السورية بالدولة الوطنية الديمقراطية المنشودة وعلاقة الديمقراطية بالوطنية المنشودة.
وفي الحقيقة، لاحظت أنه في هذا المحور تحديدًا كان هناك تدقيق على النقاط المتضمنة فيه من قبل كُلٍّ من الدكتور راتب والدكتور حسام، لذلك فلنبدأ من عندهما ثم نسمع من البقية.

حسام الدين درويش:
دعني أقول بدايةً إن التعريفات التي وردت في الأوراق ليست فحسب مختلفة، إنما متناقضة، حيث ظهر لدينا قطبان أساسيان في تعريف الوطنية، أحدهما يعرفها على أنها سمة للدولة، والآخر على أنها حالة وجدانية، وهذا اختلاف كبير لا يتمثل بوجود مسافة كبيرة بين هذين الرأيين فحسب، بل هو اختلاف يدخل في طبيعة الوطنية التي نتحدث عنها.
أعتقد أن أي شخص عندما يأتي ليقدم تعريفًا للوطنية، يُفتَرَض به أن يأخذ في الحسبان الأشكال الأخرى الممكنة، بمعنى أننا عندما نستخدم كلمة الوطنية في المجال النظري أو في مجال الحياة اليومية، فإننا نستخدمها في سياقات متعددة، منها للأفراد، ومنها ما يخص علاقة الأفراد بالجماعة، ومنها ما يكون سمة لكيانات، أي الدولة وما هنالك.
بهذا المعنى، فإن الوطنية يُفترَض أن تضم كل ما سبق، أما قصرها على حالة واحدة فهو ما كان المشكلة.
هذه مسألة أولى، أما المسألة الثانية، فإن التعريفات من الممكن أن تكون مهمة وأن تتوضح أحيانًا من خلال التمييز، فالتمييز أهم حتى من الوضوح، إذ قد نشعر مثلًا أننا عرّفنا الوطنية بوضوح وأننا نفهمها بشكل جيد، لكن من دون تمييزها عن غيرها من مسائل مهمة لا يكون التعريف مجديًا، وهنا أظن أن هنالك خلطًا قد حصل بين مفهومي الوطنية والقومية، إذ إنه بحسب فهمي للوطنية بالمعنى المعاصر المستخدم غربيًا وأوروبيًا، فإن الوطنية تتناقض مع القومية، والوطنية مضادّة تمامًا للفاشية.
وإننا إذا أردنا أن نضع سلّمًا، فإن الوطنية قطب، والفاشية قطب، والقومية من الممكن أن تكون بينهما، لكن لا يمكن بحال من الأحوال أن نقول إن الفاشية هي وطنية بالمعنى الحديث والمتداول للكلمة، حتى لو كانت بالمعنى القديم من الممكن أن تكون كذلك طبعًا.
وإن التعريفات التي كانت تتحدث أن الوطنية من الممكن أن تكون فاشية، ومن الممكن أن تكون عدوانية ومن الممكن أن تكون تعصبية، أنا لا أتفق معها، ولا هكذا أفهم الوطنية، ولا هكذا هو مضبوط المصطلح في الكتابات النظرية.
ودعوني هنا أشير إلى نقطة طريفة، حيث أرى مفهوم الوطنية في هذا السياق مثل مفهوم الدولة المدنية، من جانب أنه موجود فحسب في الأدبيات العربية وغير متداول في البحوث السياسية العالمية وبحوث الفلسفة السياسية، وهذا لا يزيل مشروعيته، لكنه يتطلب منا تحديد معناه، ويكون تحديد المعنى مجالًا للصراع.
عندما قلت في ورقتي إن الوطنية هي أيديولوجيا من بين الأيديولوجيات، فببساطة لأن الوطنية إذا لم تُبنَ على قيم مؤسِّسة مشتركة بيننا فإنها ستُبنى على المصالح، وقد يكون هناك غير الوطنية انتماء آخر يحقق الإنسان من خلاله قيمًا أو مصالح ما، لا يكون جيدًا أو سيئًا بالضرورة، أي بمعنى آخر هو يُحاكم وفق القيم التي يتبناها.
إذًا ببساطة، وبالمعنى المعاصر للكلمة، الوطنية ضرورة للديمقراطية لكنها غير كافية إذا كانت الوطنية تعني المواطنة، حيث يحصل أحيانًا مساواة بين الوطنية والمواطنة، وفي رأيي، إن المواطنة شرط للوطنية، لكنها أيضًا غير كافية، تمامًا، كما الوطنية شرط للديمقراطية، لكن ليست كافية.
وإن الأمر يعود أيضًا إلى فهمنا للديمقراطية نفسها، فإذا كنا نتحدث عن الديمقراطية الليبرالية، فإننا نتحدث عن ديمقراطية أفراد، من دون وجود رابط جماعي أو جمعي بين الأفراد، وهنا من الممكن أن ننزلق إلى مسألة الجماعاتية التي من الممكن أن تؤثر في الأفراد.
هناك المزيد ليقال، لكن أعتقد أني تجاوزت الوقت المحدد للمداخلة.

يوسف فخر الدين: لا، في الحقيقة، أخذت أقل من الوقت المحدد بقليل، ولذلك سأعطيك دقيقتين إضافيتين للإجابة عن الجزء الثاني من السؤال: هل الوطنية الديمقراطية شرط للدولة السورية الديمقراطية المأمولة ؟حسام الدين درويش: من الممكن هنا أن ندخل في إشكالية حقيقية هي إشكالية البيضة والدجاجة، بمعنى لمن الأسبقية، فعلى مستوى الدولة والأمة، أي إذا اعتبرنا أن الوطنية هي في منزلة إنشاء كيان يشبه الأمة، فقد أصبح من شبه المجمع عليه أن الأمة لاحقة على الدولة وليست سابقة لها، بمعنى أن الدولة هي التي تنشئ الأمة، وبهذا المعنى فنحن في حاجة إلى الدولة لكي تنشئ الوطنية، وهنا سأتبنى رأيًا قاله د. حازم نهار، أننا بمعنى ما، نحتاج بدرجة ما، وبنسبة ما، إلى طرف ما، يتبنى هذه الوطنية، وهذا الطرف من الممكن أن يكون عنصرًا فاعلًا سماه د. حازم النخبة، لكن ما أريد قوله هنا أساسًا هو أن الدولة هي التي تسبق الأمة الوطنية، إلا أننا اليوم أمام حالة تقتضي أن هذه الدولة لن تنشأ إلا عندما يكون هناك توجه وطني، بمعنى جماعة أو أفراد أو أطراف ترى من مصلحتها–أي هي ليست مسألة قيميّة فحسب بل ومسألة مصلحية أيضًا–أن ينشأ هذا الكيان ليكون وطنًا للجميع من دون استثناء.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك، الكلمة للدكتور راتب.

راتب شعبو:
الكلام الذي قاله حسام أنا أتقاطع مع جزء جيد منه، فنحن في ورطة حقيقية تتعلق بالمفاهيم أشار إليها عبد المجيد في ورقته عندما تحدث عن مفهوم الوطنية والأمة والقومية وما إلى ذلك، والآن تناولها أيضًا حسام. ومن جهتي فأنا أفهم موضوع الوطنية السورية بمعنى إنشاء الدولة الأمة، وليس لها معنى آخر، أي دعونا نخرج من عدّ الوطنية شعورًا، كي نصل إلى أن الوطنية هي حالة سياسية، ولذلك فإن التمييز الذي عرضه حسام بين الدولة الوطنية ودولة المواطنة هو تمييز دقيق، لكن من وجهة نظري لا أرى أن الديمقراطية شرط للوطنية، بل أفهم أن الوطنية قد تنجز في ظل دكتاتورية أيضًا، وقد تكون الرابطة الوطنية أكثر متانة في ظل دكتاتورية، ففي فترة ما كانت الرابطة الوطنية في ظل عبد الناصر متينة، لاعتبارات لا تتعلق قطعًا بالديمقراطية، إنما تتعلق بشرط خارجي يميز نشوء مجتمعاتنا وصراعاتها وتشكلها … إلخ.
إذا ذهبنا في هذا الكلام خطوة للإجابة عن العلاقة بين الوطنية والديمقراطية، سنصل إلى نقطة أخرى معقدة أيضًا: إذا كانت الوطنية تبنى على المصالح – وأنا مع هذه الفكرة، فالوطنية ليست حالة رومانسية–فمن له المصلحة في نشوء الدولة الوطنية السورية؟
لقد تحدث د. حازم في هذا السياق عن النخبة، ولا بأس، فمن الممكن أن تقدم النخبة فكرة أو مشروعًا، لكن هذا المشروع يجب أن يكون له صدى عند قطاع واسع من الناس، لأنه يستجيب لمصالح قطاع من الناس قد يكونون غير واعين لهذه المصالح، واستطاعت هذه النخبة أن توصل لهم هذه الفكرة. حسنًا، هل توجد في سورية كتلة شعبية مؤثرة تريد الوطنية السورية؟ أرى في ورقة عبد المجيد تفاؤلًا كبيرًا في هذا الاتجاه، وكذلك في ورقة مضر كان هناك تفاؤل، لكن أنا أرى أننا أصبحنا أمام عقدة إضافية تتجاوز موضوع المفاهيم إلى موضوع المصالح، وهذا محور آخر من الممكن أن نتحدث فيه، لكن سأقول باختصار إن الإشكالية التي من الممكن أن أتمايز عندها قليلًا مع حسام هي أن التمييز الذي وضعه بين الفاشية والقومية والوطنية لم أفهمه في الحقيقة، وبالنسبة إلى الوضع الذي نناقش فيه، الذي هو الوطنية والديمقراطية، فهذا النقاش الذي نحن في صدده حاليًا ناجم عن تراجعين حصلا لدى النخب السورية.
التراجع الأول هو التراجع عن الاشتراكية لصالح الديمقراطية، والتراجع الثاني هو التراجع عن القومية لصالح الوطنية السورية.
الآن، إذا كنا قد أنجزنا هذا التراجع ذهنيًا، وقلنا إننا نريد سورية فحسب، وليكن الوطن العربي مجالًا خارجيًا بالنسبة إلينا، فإذًا لقد أصبح هناك تطابق بين الوطنية والقومية، أي أننا أصبحنا نسعى نحو دولة أمة، وهذه الأمة هي المجتمع السوري بكل تكويناته، فهل نستطيع وهل يمكن وهل يفسح التاريخ المجال لأن يكون المجتمع السوري وليكون هؤلاء السكان السوريون مؤهلين لتشكيل أمة؟ هذا أيضًا تحدٍّ لا أدري إن كانت الديمقراطية قادرة على إنجازه، بل أعتقد أيضًا–وفي هذا القول نوع من العذاب النفسي–أن الديمقراطية تعوقه أكثر مما تساهم في إنجازه، وهذا مطروح للنقاش طبعًا.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك. لقد ذُكِرت ورقة حازم مرتين في الحوار، لذلك أتصور أنه من المفيد أن نسمع منه.

حازم نهار:
تحياتي.
أود أن أبدأ بمقدمة: أعتقد أن النقاش الذي نسير فيه، ليس فحسب في هذه الجلسة، بل طوال السنوات الماضية في ما يتعلق بالوطنية، هو نقاش له ما يبرره، لأننا إذا فهمنا ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا النقاش يكون بإمكاننا أن نضع مسارات للمستقبل لنتلمس هذه المفاهيم، وكيف يمكن أن تتجلى في الواقع السياسي.
بلا شك، إن بلدانًا مثل سورية هي بلدان ناقصة النمو الوطني، ولم تكن الدولة السورية خلال فترة نصف القرن الماضي دولةً عمومية أو دولةً وطنية يشعر فيها السوريون أن هذه الدولة دولتهم. ولا يوجد ما هو أصعب من قيام ثورات في بلدان ناقصة النمو الوطني أصلًا، إذ تصبح المخاطر قائمة، ومن الممكن أن تذهب هذه الدول في اتجاه التشظي والتقسيم، ومن ثمّ، فإن مسألة الوطنية لا تكون موجودة، سواءً على جدول أعمال القوى السياسية أو حتى على المستوى الشعوري لدى الناس.
أنا أعرف القوى السياسية في سورية، والواقع أنه قلّما فُتِح حديث يتعلق بالوطنية السورية، إنما كانت تُذكَر ككلمة عَرَضية من دون أن يجري التوقف عندها، فيما كانت كلمات مثل العروبة والقومية العربية هي التي تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام القوى السياسية.
المسألة الأخرى، أنه خلال السنوات الماضية أيضًا شاعت استخدامات كثيرة ومتعددة لكلمة الوطنية، وكانت تُستخدَم في الاتجاه الفردي واتجاه الجماعات ضمن توصيفات مثل أن فلان وطني وفلان غير وطني، استنادًا إلى تعاملٍ مع الخارج أو تعاملٍ مع دول أخرى أو مع أجهزة ما، كما يجري استخدامها على المستوى الشعوري في الإشارة إلى الحنين إلى الوطن وإلى الأرض وإلى الذكريات الماضية، ويجري استخدامها في حيزات متعددة أخرى. وحتى على المستوى السياسي نجد دعوات عديدة جدًا إلى هيئات وطنية وإلى مؤتمرات وطنية وإلى لقاءات وطنية على الرغم من أن كل دعوة من هذه الدعوات تحفر قبرًا للوطنية. أي إنني أشعر أن طريقة استخدام الكلمة هي للتباهي أو للتفخيم أكثر من استخدامها وفق المدلول الذي من الممكن أن يبني وطنًا أو دولة، فعندما يكون لدينا خمس أو ست دعوات لمؤتمرات وطنية، فأنا لا أعرف ما هو معنى الوطنية في هذه الحالة.
وأيضًا إذا أخذنا الأمر على مستوى الخطاب السياسي خلال السنوات الماضية، فإن إحدى المسائل التي كنت أتوقف دائمًا عندها هي مسألة التمييز بين الكتلة الثورية والكتلة الوطنية، فالكتلة الوطنية بتقديري هي الكتلة العمومية نفسها، لأنها تشمل عموم السوريين، لكن ما لاحظته هو أن مصطلح العمومية إن كان روحيًا أو فكريًا أو سياسيًا هو مصطلح غير وارد لدى القوى السياسية ولا في الخطاب الثوري، بل إنني كنت أشعر دائمًا بتناقض بين الخطاب الثوري السائد والخطاب الوطني، وما زلت أعتقد أن الخطاب الوطني يفترض به أن يكون أعم وأشمل من الخطاب الثوري.
إن الخطاب الثوري الذي ساد خلال السنوات الماضية هو خطاب جزئي وحصري، يريد أن يبني دولة على شاكلة الكتلة الثورية، وأعتقد أنه كان من الحصافة ألا يقع الخطاب الثوري في مطبات الحصرية أو الجزئية، وأنه يجب أن يسعى دائمًا ليكون للخطاب الوطني حضوره الأكبر.
أعتقد أن فوضى المصطلحات كان لها دور سلبي من حيث تأثيرها في أدائنا، فمثلًا إن المثال الذي استحضره حسام حول التمييز بين الوطنية والقومية هو باعتقادي تمييز خاص بمنطقتنا، ففي الفكر السياسي الوطنية والقومية هما شيء واحد، لكننا تعودنا نتيجة الأيديولوجيا القومية العربية أو الأيديولوجيا المهيمنة أن نحتفظ بكلمة القومية مرتبطة بالعروبة وبالعرب، فيما كلمة الوطنية تأتي على مستوى الدولة القطرية، لأنه كان لدينا دائمًا هذا الشرخ وهذا الفصل؛ ننظر فنرى وجود دولة قطرية مشؤومة ومرذولة، ونحاول أن ننكر هذا الواقع لصالح الدولة القومية العربية المتخيلة.
إذًا فوضى المصطلحات هذه هي جزء مهم من المسألة التي نناقشها، وذلك يعود لأسباب واقعية وتاريخية، إذ من الطبيعي أنه بعد أن قامت الثورة السورية أن تبرز إلى السطح هذه الأسئلة البديهية التي لها علاقة بالمفاهيم والتوصيف والهويات. سأتوقف هنا حتى لا أتجاوز الوقت المخصص للمداخلة.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك.
إذًا نحن ما زلنا ضمن المحور نفسه، وهناك بعض المسائل التي طُرِحت تفتح الآفاق للتفكير ولمتابعة النقاش حولها ضمن المحورين المقبلين.
أرى أن الجميع، بما في ذلك حازم في مداخلته الأخيرة، يؤكدون على العلاقة بين الوطنية والدولة السورية المأمولة، والسؤال ما يزال حول هذه العلاقة، إضافة إلى العلاقة بين الوطنية والديمقراطية، تفضّل عماد.

عماد العبار:
سأبدأ من السؤال المطروح بخصوص علاقة الوطنية بالديمقراطية، وفي تصوري إن الوطنية شيء والديمقراطية شيء آخر، بمعنى أن الوطنية هي أمر سابق على الدولة، وسابق على الديمقراطية أيضًا.
الوطنية، كما كتبت في ورقتي، هي حالة وجدانية أساسًا، وهي شعور بالانتماء، انتماء الفرد إلى جماعة، والشعور بانتماء الجماعة إلى المكان الجغرافي الذي هو الأرض، وهذه المرحلة هي مرحلة سابقة على كل المراحل، سواء تشكيل الدولة أو تشكيل الأمة أو تشكيل الوطن بالمعنى السياسي.
إذًا، بخصوص موضوع ارتباط مفهوم الوطنية بالديمقراطية، أنا أراهما غير مرتبطين، وحتى مفهوم الدولة نفسه، فالدولة لا يرتبط تشكيلها بوجود ديمقراطية، إذ من الممكن أن تنشأ الدولة على الاستبداد، ومن الممكن أن تكون ديمقراطية.

يوسف فخر الدين (مقاطعًا):
عفوًا أنا سأنبّه إلى السؤال، السؤال حرفيًا: هل هناك علاقة ما بين الدولة السورية المأمولة من قبلنا والوطنية الديمقراطية؟
طبعًا، تمكن مناقشة موضوع الارتباط بشكل عام، لكن لنحاول أن نركز على الدولة التي نريدها نحن، هل هي مرتبطة بالديمقراطية؟ أم هي ممكنة من دون ديمقراطية؟ وما هي الخيارات الأخرى؟

عماد العبار:
في الحقيقة، أنا كنت أريد الوصول إلى هذه النقطة، وكان لي هدف من مقدمتي التي تحدثت فيها عن موضوع الانتماء.
في رأيي، إن الدولة التي نريدها في النهاية، أي الدولة المنشودة، أو الدولة التي قامت من أجلها الثورة في الأصل، ولو نظريًا، هي الدولة الوطنية الديمقراطية، ومن ثمّ، فإن المنشود هو دولة وطنية ديمقراطية.
لكن ما أريد قوله هو إن الوطنية هي حالة انتماء موجودة، فيما الديمقراطية بتصوري لا تعني أن نعيد إنتاج كل شيء.
نعم، نحن نريد دولة ديمقراطية، لكن في هذه الدولة الديمقراطية هل نحن سنعيد التفكير بالبديهيات كلها التي كانت موجودة من قبل؟
هناك أمور تحتاج إلى إعادة نظر بالتأكيد، منها الهوية الوطنية نفسها، إذ لا توجد اليوم هوية وطنية، وقد كانت الهوية الوطنية إحدى ضحايا الحرب القائمة بعد السنة الأولى من الثورة.
إذًا نحن اليوم، وبكل تأكيد، في حاجة إلى دولة وطنية ديمقراطية، وقبل ذلك نحن في حاجة إلى تعريف الدولة الديمقراطية وإنشائها حتى نعيد ترتيب الأولويات الديمقراطية والوطنية.
في مفهوم الدولة الوطنية، الانتماء موجود، والانتماء في سورية موجود حقيقةً، فإذا كنا نريد دولة ديمقراطية هذا لا يعني أبدًا أننا سنعيد إنتاج انتماء سوري جديد، فسورية موجودة منذ آلاف السنين سواء أكنا نتحدث عن سورية الصغرى أم الكبرى (بلاد الشام). إذًا للانتماء أساسات وبديهيات هي في الواقع موجودة.
لكن ما أرفضه حاليًا هو أن نعيد مناقشة كل البديهيات في ما يخص الديمقراطية، وأتصور أن بعض هذه الأفكار قد فرضها الصراع الموجود، مثل نقاش بعض الأطراف لقضية عروبة سورية أو الهوية العربية السورية، وهذا في رأيي نقاش طارئ فُرِض في هذه الفترة، أي فترة الحرب، التي أتت على كل شيء، وصار السائد حاليًا هو خطاب حربي وليس خطابًا ثوريًا، أما خطاب الثورة فكان في عام 2011 فحسب، وكان هو الخطوة الأساسية لإعادة تعريف سورية الوطنية الديمقراطية بعد نظام الأسد، أما بعد الـ 2012 فإننا أصبحنا أمام خطاب حرب، ومن ضمن تفاصيل الخطاب الحربي هذا طلبات إعادة تعريف كل شيء، حيث أصبح علينا أن نعيد تعريف سورية، وأن نعيد تعريف العروبة، وأن نعيد تعريف الهوية الإسلامية فيها، وأن نعيد تعريف الأقليات، وكأن الأقليات مثلًا قد ظهرت فجأة عام 2010 أو 2011.
لا أريد أن أتشعب في الموضوع، ومن الممكن إن تيسِّر عليَّ الأمر بسؤال أو أن تطلب مني التركيز على نقطة معينة، ولا أعرف إن كنت قد أجبت بشكل كافٍ على سؤالك يوسف.

يوسف فخر الدين:
أفهم منك، في كلامك عن الوضع الخاص، أن الثورة عندما انطلقت كان مشروعها هو الوصول إلى دولة وطنية ديمقراطية سورية.

عماد عبار:
لأجيب عن سؤالك، لا أعتقد أنه يمكننا في الحقيقة أن نقول إن الثورة عندما انطلقت كان لها مشروع واضح، فالثورة السورية قامت من أجل استعادة سورية من نظام الأسد، إذ إن سورية خلال حقبة الأسد لم تكن دولة وطنية، ولم تكن سورية حتى، بل كانت دولة الأسد، سورية الأسد، فكانت الثورة خطوة إيجابية نحو استعادة الدولة لنتمكن بعد ذلك من بناء دولة وطنية وديمقراطية.
وفي الحقيقة، لقد كان الخطاب الثوري خطابًا جيدًا جدًا، لكنه لم يكن خطابًا واضح المعالم في تعريف الديمقراطية أو تعريف معنى الحريات وإلى أين ستصل بنا هذه الحريات، ثم اتضح بعد ذلك أن لدى الناس الكثير من الخطوط الحمراء.
لكن باختصار، الثورة قامت من أجل استعادة سورية من نظام الأسد، وما حصل بعد ذلك أن الأمر تحول إلى حرب نظامية، ومن ضمنها حرب أهلية، وخلال الحرب الأهلية لا يمكن لنا أن نأمل في وجود خطاب وطني ديمقراطي، بل أصبح هناك على العكس تفتيت أكثر، لأننا أمام خطاب حرب أهلية موجه إلى أطراف أخرى متعددة داخل البلد، ومن ثمّ، تفتتت الهوية. ونحن اليوم إذا كنا نريد إعادة الكلام عن سورية، يجب أن نعيد تعريف سورية، كيف كانت قبل خطاب الحرب، وقبل فترة الحرب، وقبل نظام الأسد أيضًا، ولذلك فإنني في ورقة التقديم كتبت قليلًا عن التاريخ حتى يكون لدينا شيء يمكننا أن نستند إليه، لأننا لا يمكن عندما نتحدث عن سورية أن نعيد مناقشة البديهيات مثل اللغة والثقافة والتاريخ والمصالح المشتركة. بعض الأطراف أصبح يطلب نقاش البديهيات، وهو نقاش قد يبدو أول وهلة نقاشًا ديمقراطيًا وبنّاءً، لكنه في الحقيقة نقاش غير ديمقراطي وغير بنّاء، لأنه غير مبني على أي أساس سليم، لا أساس تاريخيًا ولا أساس منطقيًا ولا أساس جيوسياسيًا، وبالمعنى هذا من الممكن أن تكون الديمقراطية خطوة لإعادة بناء سورية الدولة وإعادة بناء الهوية، لكنها من الممكن أيضًا أن تكون بحسب الفهم السائد للخطاب الديمقراطي الحالي، شيئًا مدمرًا لا نصل من خلاله إلى أي نتيجة.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك. تفضّل دكتور مضر.

مضر الدبس: في محاولتي للإجابة أيضًا عن السؤال المحدد بخصوص العلاقة بين الوطنية والديمقراطية، أريد أن أدخل إلى مقاربة الأمر عبر تقديم بسيط. بدايةً، بقدر ما نحن مطالبون اليوم بالإجابة عن أسئلة كثيرة، بقدر ما أن الحالة الوطنية والحالة السورية بشكل عام تتطلب منا أن نطرح الأسئلة الصحيحة والمفيدة، وهنا يخطر في بالي سؤال مهم: هل تُعرَّف الوطنية؟ وهل يمكن تقديم تعريف للوطنية؟ من جانب أن هذا التعريف قد يعزز فكرة أن هذه الوطنية هي معطى ناجز اكتمل في لحظة معينة من التاريخ، أو سيكتمل في لحظة معينة في المستقبل، ويستمر على ما هو عليه إلى الأبد.
في تقديري، إن هذه الفكرة وفكرة التعريف بالعموم تظلم الوطنية من حيث كونها فكرة قابلة دائمًا للتطور، وليست فكرة ثابتة، لأنها تحيل على مصلحة المتعاقدين، وتخدم في كونها طريقة لتدبير حياتهم السياسية.من هذا المنطلق، يمكننا أن نسأل أيضًا: هل المواطنة أيديولوجيا؟
بتقديري، فإنه وبقدر ما يمكن لنا أن نتفهم المبررات المنطقية التي يمكن أن توصلنا إلى مثل هكذا نتيجة، إلا أننا عندما نتحدث عن الحالة السورية فإن عدّ الوطنية السورية أيديولوجيا من الأيديولوجيات الأخرى هو أيضًا مشكلة، حيث لا يمكن عدّ الوطنية أيديولوجيا إلا أن تكون–إن صح التعبير–هي أيديولوجيا اللاأيديولوجيات، لأن الوطنية في النهاية ستكون وسطًا جامعًا وعلى مسافة متساوية من كل الانتماءات الأخرى الموجودة.
ومن هنا يمكننا أن نسأل أيضًا: هل الوطنية انتماء؟
وفي تقديري، هذا المفتاح مهم جدًا لكي نفهم أن الوطنية هي فعلًا الانتماء إلى دولة وطنية، ولا يمكن التعامل مع الوطنية بشكل مفيد لحالتنا التي فيها الكثير من الألم، إلا من خلال السعي لوجود دولة وطنية، وأضيف إلى ذلك مسألة وعي الانتماء إلى الدولة الوطنية، الذي يحيلنا على سؤال أهم حول كيفية بناء هذه الدولة الوطنية، وكيفية إدراك أهميتها على مستوى مصالح الأفراد والجماعات وعلى مستوى تحقيق السلام ورفاه الإنسان الذي نطمح إليه.
الطرح الذي يجيب عن هذا السؤال بتقديري، وأنا أميل دائمًا إلى مسألة ربط تفكيرنا بالوطنية بالوضع الخاص بسورية، أي نحن نفكر في الوطنية السورية تحديدًا، ومن ثمّ، إن المقاربة التي أرى أنها سليمة فعلًا تكمن في مفتاح العمومية، الذي يفيد العلنية في التفكير، وألا يكون هناك أي نوع من أنواع الباطنية في التفكير العمومي، وأيضًا بمعنى تعريف الفرد بوصفه إنسانًا تواصليًا، وهو ما يحيلنا على العقلانية التواصلية، ففي ورقة الأستاذ حسام ذكر أن المواطنة هي مواطنة الفرد الحر، وهنا توجد خشية حول المسألة الآتية: ماذا نفعل بمواطنة الأفراد الذين هم غير أحرار والذين يغلب عليهم الانتماء القبلي أو الإثني أو الطائفي أو حتى الحزبي والفئوي، ويحدد قراراتهم، حتى لو اعتقدوا أنهم أحرار، في ما هم يتبعون لشيخ أو إمام أو ما إلى ذلك؟
من هذا المنطلق، إذا نحن قاربنا مفهوم الفرد في سورية، أو ملنا إلى تعيينه بمنظومة تفكير عقلانية تواصلية ضمن فضاء عمومي، هذا يؤدي لاحقًا إلى أن يُبنى المفتاح الذي يجعل الديمقراطية تعمل، وهو رأسمال اجتماعي وطني.
هذا الرأسمال الاجتماعي الوطني يحتوي المسألتين: يحتوي الوطنية بوصفها شعورًا، ويحتوي الوطنية أيضًا بوصفها مصلحة سياسية للجماعات وللأفراد على حد سواء.
وهذا الرأسمال الاجتماعي الوطني هو من جهة يجعل الديمقراطية تعمل، ومن جهة أخرى ينتج الوطنية، فالعلاقة بين الوطنية والديمقراطية، في بتقديري، تمر بالرأسمال الاجتماعي، والرأسمال الاجتماعي لكي ينتج في سورية بشكل وطني….
(يتوقف)
مثلًا، يوجد اليوم في سورية رأسمال اجتماعي إثني، عند الأكراد وعند العرب، ولدينا رأسمال اجتماعي طائفي، وأيضًا قبلي، وحتى ميليشياوي، فحتى بين الميليشيات التي تقتل يتولّد نوع من الرأسمال الاجتماعي، وهذا حقيقة له قدرةً جبارة، ويطول كثيرًا الحديث في هذا المفهوم، لكنه مفهوم مهم جدًا في سلوك الجماعات وفي تصرفات الأفراد، إذ من الممكن أن يتحول الفرد الطبيعي إلى مجرم بسبب القوة الجبارة للرأسمال الاجتماعي، ولدينا أمثلة كثيرة في التاريخ يمكن الاستفادة منها في هذا السياق، أهمها تجربة البلقان وتجربة رواندا.
إن العقلانية التواصلية وبناء فضاء عمومي سوري، هو أمر يؤدي إلى حوار مبني على تفهم الآخر، ليس بوصفها حالة ترف فكري، ولا بوصفها قرارًا، بل بوصفها حالة للحفاظ على الذات أيضًا، سواء الذات الجمعية أو الذات الفردية، هذه تسمى بالإنكليزية Civility وتترجم إلى مواطنوية، مع تحفظنا كثيرًا على مسألة الترجمة، وقد أثارتها بالفعل إحدى الأوراق، فهي أيضًا مسألة مهمة جدًا، حيث نحن نترجم وفق مفاهيمنا وعقلنا، أي وفق عقلية المترجم.
ولكن كي لا نتشعب كثيرًا، فإن جوابي باختصار على هذه المسألة ورؤيتي بخصوصها هي أنها تمر عبر فضاء عمومي سوري، ولذلك فإنها تحيلنا على تساؤل جديد: كيف نصنع فضاءً عموميًا سوريًا؟
حقيقةً أنا لا أميل بحسب تجربتنا التي شهدناها منذ سنة 2011 إلى أن هذا العمل سيكون عملًا نخبويًا، فالفضاء العمومي من المفروض أن يكون ملكًا للجميع، وهنا نبدأ بطرح الحقيقة كحقيقة تواصلية يصنعها الجميع ويقبل بها الجميع.
أيضًا هذه الحالة تبني نوعًا من الهوية السياسية، وهناك جملة مهمة وردت في ورقة الأستاذ راتب شعبو حول التفوق الدائم للسوريين، وهذا أيضًا مصطلح مهم يدل على هوية سورية تكون فعلًا حاضنة عمومية لجميع الأفكار الأخرى. وأنا في رأيي، إن هذا التفوق الدائم للسوريين الذي هو مصطلح موفق لا يمكن أن يمر إلا عبر بناء رأسمال اجتماعي سوري، وهذا الرأسمال الاجتماعي السوري مبني فعلًا على فعل تواصلي، وهنا نحيل على اللغة حيث إنه في إحدى النقاشات التي كان فيها أيضًا د. راتب، حدث أن أحد الإسلاميين ونتيجة تعرّض ورقته للنقد تكلّم بشكل سيء جدًا، ومن جملة ما قاله في إطار محاولة هجومه على التيار الآخر: الحمد لله على أن السوريين لا يفهمون عليكم ولا يفهمون خطابكم، بل هم يفهمون الخطاب الإسلامي!
في الحقيقة، إن هذا الكلام فيه الكثير من وجهة النظر، من باب أن الفكر لا يُفرَض من فوق، بل يُفرَض من ضمن الثقافة التي نعيش فيها.
وهناك مسألة أخرى أيضًا، هي مسألة الوعي بالانتماء، والتي أراها سابقة على الانتماء إلى الدولة، لأن في هذا الوعي مسألتان: وعي بالسورية، إذ من غير الممكن أن نصنع حالة سورية إذا لم نعِ بعضنا ونفهم بعضنا، وهذا أصبح متاحًا لنا عمليًا بعد الـ 2011، فيما كنا قبل الـ 2011 نعيش في كانتونات مناطقية أو طائفية أو عرقية، ولم يكن ابن درعا مثلًا يعرف عن الجزيرة، ولم نكن نعرف سورية حقيقةً إلا عبر حالات فردية، وليس عبر حالة سورية جامعة.
أما المسألة الثانية في هذا الوعي، فهي ليست معرفة سورية، بل معرفة الذات أكثر، وهي تصبح نوعًا من أنواع الفن، لأن معرفة الذات ستحيل على معرفة الموضوع، وتحقيق مصالح الذات من خلال الحفاظ على مصالح الآخر.
ولذلك، فإن الوطنية بتقديري هي حالة ليست أيديولوجية.
وإذا كان علينا أن نتحدث عن العلاقة بين الوطنية والمواطنة، فإن العمومية هي منضجة الوطنية، وهي التي تنتج المواطنة، فلا توجد وطنية من دون حالة عمومية، وهنا نجد أنفسنا أمام حقل دلالي متكامل.
تبقى ترجمة هذه المسائل إلى فعل سياسي، وهي قضية مهمة جدًا، وهذا يبدأ بتقديري من رسم معالم خطة سياسية واضحة المعالم تنجزها النخبة ثم تتنحى لتترك الأمر للفضاء العمومي للسوريين جميعهم.

يوسف فخر الدين:
شكرًا يعطيك العافية. أستاذ عبد المجيد تفضل.

عبد المجيد عقيل:
أنا سأنطلق في محاولتي لتوصيف فكرة الوطنية من مقاربة ثقافية-لغوية، ولو أن جزءًا من الفكرة التي سأذكرها سبق وأن وردت في ورقتي التي اطلعتم عليها، لكني سأنتقل من هذه المقدمة إلى الإجابة عن السؤال المطروح في هذا المحور، وبعض النقاط التي وردت في خضم النقاش.
إذا جئنا اليوم لنترجم عبارة “إنسان وطني” إلى اللغة الإنكليزية عبر مترجم جوجل أو أي برنامج ترجمة آخر، ستكون الترجمة الحرفية هي كلمة Patriotic، لكن هذه الترجمة لا تصيب المعنى الصحيح وفق المقصد المتعارف عليه في ثقافتنا وأدبياتنا السياسية، حيث يكون الإنسان الوطني هو نقيض اللاوطني، بل هي تحمل دلالة المبالغة في الوطنية، سواء بالمعنى الإيجابي مثل الدلالة على شخص يقدم تضحيات كبيرة من أجل بلده أو يسخّر وقته وجهده من أجل بلده، أو للإشارة مثلًا إلى حالة شوفينية أو حالة عاطفية مغرقة في التعلق بالوطن وتراب الوطن وهواء الوطن وأنه أجمل وأعظم الأوطان.
إذًا، هذا الاستخدام بعيد تمامًا عن ثنائية وطني-لاوطني الدارجة في ثقافتنا السياسية بما يشبه ثنائية مؤمن-غير مؤمن في الثقافة الدينية.
ولننتبه إلى أننا إذا أردنا ترجمة كلمة وطني في سياق آخر، مثل الحديث عن مؤتمر وطني أو استحقاق وطني أو لجنة وطنية أو إنجاز وطني، فإننا نستخدم ليس كلمة Patriotic بل كلمة National، المشتقة من Nation، والتي تعني الأمة، ويمكن أن ترد بمعنى الشعب، والمهم ما يحمله الأمر من دلالة في الارتباط بمفهوم العمومية.
يقول د. حسام الدين درويش في ورقته إن كثرة استخدام كلمة الوطنية تدل على أحد أمرين: إما غيابها أو تغييبها، ومن المبدأ نفسه، وكون العكس صحيح أيضًا، قمت بطرح مثالي هذا حول تعذر ترجمة عبارة “إنسان وطني” إلى اللغة الإنكليزية، لأقول إنه في الدولة الحقيقية الحداثية، يعتبر مفهوم الوطنية مفهومًا بديهيًا، بحكم أن الوطنية هي صفة ملازمة لهذه الدولة، وملازمة للأغلبية الساحقة من شعب هذه الدولة عبر انسجامهم مع العقد الوطني الناظم لها.
وكان د. حسام الدين قد أشار في مداخلته إلى وجود قطبين في النقاش، أحدهما يشير إلى الوطنية كحالة وجدانية والآخر على أنها سمة للدولة، وربما يكون الجواب عن هذه الإشكالية أنه في الدول الوطنية الحداثية الناجزة، يكون مفهوم الوطنية أقرب إلى الحالة الوجدانية، ويختفي من الثقافة والأدبيات السياسية في دلالته المرتبطة بالدولة، لأن هذا الأمر يكون حاصلًا بداهةً، أما في البلدان التي لم تصل إلى مرحلة الدولة الوطنية الحداثية، فالوطنية هي حالة ذات بعد فكري مرتبطة باستحقاق إقامة هذه الدولة. وقد يكون في هذا التعريف للوطنية نوعًا من الغائية، وهذا ليس سيئًا، لأنه كما يقول د. حازم نهار في ورقته “إن من نقاط قوة الفكر أنه يسمح بتحويل المبادئ إلى مسائل”، وفي رأيي إن الوطنية السورية وفق المفهوم الذي نطرحه هي مسألة مرتبطة باستحقاق مصيري يتمثل بإخراج سورية والسوريين مما وصلوا إليه من حضيض.
إذًا الوطنية هي صفة ملازمة للدولة الحديثة، الدولة العمومية، القائمة على مصلحة إنسانها، وهي مقترنة بمقتضيات قيام ووجود هذه الدولة كافة، والحجر الأساس في ذلك هو مفهوم المواطنة، والذي ترتبط به الكثير من المفاهيم الأخرى، فهو مرتبط بسيادة القانون، ومرتبط بحقوق الإنسان، ومرتبط بمفهوم الدولة الوظيفية الحيادية تجاه كل الأيديولوجيات وكل المكونات والإثنيات، ومرتبطة حتى بفكرة الديمقراطية، وأنا هنا أجيب عن السؤال المطروح حول علاقة الوطنية بالديمقراطية، فالمواطنة تقتضي تساوي جميع المواطنين في الحقوق، وهذا يتضامن تساويهم في الحق في تقرير شكل بلادهم وحاضرها ومستقبلها، بحيث لا يكون هذا الأمر حكرًا على جهة معينة دون غيرها. إذًا الديمقراطية وفق هذا المنطق ملازمة لمفهوم الوطنية.
صحيحٌ أنه ورد في إحدى المداخلات السابقة أن الوطنية قد تكون استبدادية، وأنه كانت هناك حالة وطنية حقيقية في زمن عبد الناصر على سبيل المثال، لكني أود هنا الإشارة إلى ثلاث نقاط:
الأولى هي أن الحالة الوطنية التي تتبلور في ظل الأنظمة الاستبدادية هي أقرب للوطنية بمفهومها الوجداني الشعاراتي، وهي أقرب إلى أن تكون حالة شعبوية عاطفية، حتى لو كانت حالة صادقة، لكنها تبقى بعيدة عن الوطنية التي ننشدها، الوطنية المتلازمة مع مفهوم الدولة الحداثية.
والثانية أن علينا عدم إغفال عامل الزمن وتغير الظروف، فعندما أقول إنه في غياب الديمقراطية ينتفي أحد الشروط الأساسية في المواطنة، وهو شرط التساوي في الحقوق، فإن هذا التناقض كان من الممكن أن يمر قبل زمن العولمة وتطور التكنولوجيا ووسائل التواصل، أما اليوم فإن هذا التناقض يظهر بشكل صارخ في عالم باتت تسيطر عليه نزعة شديدة نحو الحريات. أما النقطة الثالثة، فهي أنه حتى لو نجحت الأنظمة الاستبدادية في بناء حالة وطنية، مع تحفظي على مضمون هذه الوطنية، فإن هذه الأنظمة تحمل في داخلها عوامل اهترائها ومن ثم انهيارها، وعندما تنهار يكون لهذا الأمر أثر مدمّر في الهوية الوطنية التي ارتبطت في أذهان الناس بفترة الاستبداد، ويصبح من الصعب جدًا بناء هوية وطنية ودولة وطنية جديدة، وقد أعود إلى هذه النقطة لاحقًا لأني أعتقد أنني استهلكت الوقت المخصص لمداخلتي هذه.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك.
من الواضح أن الجميع قد تحدّث عن العلاقة ما بين الوطنية الديمقراطية والدولة الوطنية الديمقراطية، ومن الممكن أن نفكر هنا: هل من الممكن أن تقوم دولة ائتلافية لا وطنية؟
وهل من الممكن أن نميز بين الوطنية التي هي علاقة المواطنين ببعضهم بعضًا، وانتماؤهم إلى بعضهم بعضًا، وتصورهم لأمة واحدة، وبين الوطنية التي تتمثل بعلاقة المواطن بالدولة، وعلاقته بالمواطن الآخر، بما هو مواطن، وليس بما هو عضو أمة؟
قد تكون تصوراتنا تصورات مسبقة، وتصورات خاصة بنا، وبواقع خاص بنا، مع التفكير–إذا كان هذا ملائمًا–في الخطوة العملية المرتبطة بهذا الأمر إذا كان هذا هو مشروعنا.
أليس نقاشها والاتفاق على محتواها هو سبيل الحل السياسي الذي نبتغيه في سورية؟
إذًا، في الجولة الثانية وبوقت أقل، من الممكن أن نعيد التفكير في ما قيل، أو أن نناقش اقتراحي حول احتمال وجود حل غير الدولة الوطنية متمثلًا بالدولة الائتلافية، إضافة إلى مسألة أن الوطنية أنواع وليست نوعًا واحدًا، والأهم من ذلك: أنه إذا كانت الوطنية والديمقراطية مفهومين مرتبطين بأي شكل من الأشكال المتعددة التي ذُكِرَت، أليس طرحها هو سياق الحل السياسي؟ وكيف؟
نعود إليك د. حسام.

حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا لك، في الحقيقة لدي هذه المرة رغبة أكبر في الحديث من مداخلتي الأولى الافتتاحية، وستكون مداخلتي تعليقًا على ما قيل.
دعونا نقول إنه يوجد توتران أساسيان من الضروري حل العلاقة بينهما، هما الوطنية من حيث علاقتها بالجماعات وبالانتماء إلى كُلٍّ ما وجماعةٍ ما، أو الأفراد، بمعنى أن الوطنية هي مواطنية مواطنين، والمواطن هو فرد.
ومن هذه الناحية، أرى أنه من الضروري جدًا تمييز الوطنية عن القومية، وربطها بالمواطنية، أي بفكرة المواطن الفرد، وبالمواطنين الأفراد الذين يرتبطون ببعضهم بعضًا بعلاقة المساواة، لكن قد أختلف قليلًا هنا مع مسألة أن المواطنية تكفي وحدها لتحقيق الوطنية، فنحن في رأيي في حاجة إلى رابطة عضوية ما، لنسميها شعورًا بالانتماء، أو حالة وجدانية، أو وعيًا للمصلحة، أو علاقة انتماء ثقافي تاريخي ما للفرد، إذ من الممكن أن أكون مواطنًا في ألمانيا، لكني لا أعتبر أن لدي وطنية ألمانية، لأن هنالك فارق بين أن يحصل الإنسان على جنسية البلد ويصبح مواطنًا، وبين أن يكون لديه انتماء وطني ونوع من العلاقة العضوية بهذا الوطن.
إذًا هذه المسألة متمثلة بالتوتر بين الانتماء للجماعة أو لكل ما، وبين الانتماء الفردي وضرورة أن يكون المواطن فردًا، فأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يكون هناك أي حديث عن الإنسان بالمعنى السياسي، وبوجود فضاء عمومي من دون أن يكون هذا الإنسان مواطنًا.
لقد كان هناك حديث في مداخلة سابقة، حول ماذا لو كان الناس خاضعين ولم يكونوا أحرارًا، أليسوا مواطنين في جميع الأحوال؟
لا!
هم في الحقيقة، وبكل بساطة، ليسوا مواطنين، مع حبنا واحترامنا، هم ليسوا مواطنين، وليس لديهم وطنية بهذا المعنى، فالناس الذين يكونون عبيدًا لطاغية كما في حالة جمال عبد الناصر من الممكن أن يكونوا قوميين، لكن ليسوا وطنيين.
ولهذا السبب، أريد أن أنتقل في كلامي إلى التوتر المعياري الثاني، حيث يوجد هناك نوعان من التعريفات: تعريفات معيارية حول ما يجب أن يكون، وتعريفات وصفية تحليلية، أي أن نوصف ما هو قائم، والمشكلة أننا إذا تحدثنا عن الوطنية بعيدًا عن المعيارية، بمعنى أن القومية والفاشية والدكتاتورية واللاديمقراطية من الممكن أن تكون وطنية، يبرز هنا سؤال: لماذا نريد هذه الوطنية أساسًا؟ ولماذا نتحدث عنها؟ ولماذا هي مسألة مهمة إن كان لدينا وطنية أو لم يكن لدينا وطنية؟
في كلام د. راتب الذي تحدث فيه عن الوطنية على طريقة عبد الناصر، أرى أن هذا الكلام يركز على الانتماء إلى الكل، أي الانتماء الجماعاتي، وكأن هذا الانتماء إلى الدولة يكفي لأن يكون هناك حالة وطنية، فيما أرى أنه يجب أن يكون هناك حالة معيارية، أي لا يكفي فحسب شعور الشخص، ولا يكفي هذا التكتل أو التزاحم بين الأفراد على التجمع، إنما يجب أن يكون هناك جانب معياري حاكم للمسألة، وهو مرتبط بدوره بمسألتين: المسألة الأولى هي وجود علاقة إيجابية مع هذا الكل، الذي سميناه بالوطن، والمسألة الثانية هي أن كل شخص هو شخص، أي هو فرد، أي هو مواطن.
إذا استبعدنا هذين الجانبين المعياريين، وإذا لم تكن الوطنية حالة انتماء إلى وطن بوصفنا مواطنين، فلماذا نحن نحتاج إليها أصلًا؟ ولماذا هي مطلوبة؟ هنا نصبح أمام أيديولوجيا، ونصبح أمام فاشية في الحقيقة.
أريد أيضًا أن أصحح مسألة لعبد المجيد حول الحالة الوطنية، من جانب أنها حالة إشكالية في أوروبا وأميركا أكثر كثيرًا مما هو لدينا، فمثلًا ترامب هوجم كثيرًا عندما قال عن نفسه إنه قومي Nationalist، فهذه الكلمة وصمة عار تدل على أن صاحبها يميني أو متطرف أو ما إلى ذلك، فالوطنية هي نقيض القومية وليس فحسب مختلفة عنها.
في ألمانيا أيضًا، وفي إحدى المرات في الجامعة عندما طُرِحَت هذه المسألة بوجود عشرين أو ثلاثين طالبًا وطالبة، تبيّن أن صفة الوطنية هي صفة مرفوضة بالنسبة إليهم بشكل كامل، فالتوتر هنا هائل.
وعلى العكس فإننا نحن عندما نتحدث عن الوطنية أو القومية نكون أقل عقديةً وأقل إشكاليةً بكثير من أوروبا، لأنه وكما تعلمون القومية هنا (يقصد في ألمانيا وأوروبا عمومًا) مرتبطة بالنازية.
إذًا، أنا في رأيي، الوطنية يجب أن نبنيها معياريًا، أي ما يجب أن يكون، وليس على أساس أن عبد الناصر كان وطنيًا إذًا هي وطنية مقبولة، ويوجد دكتاتور وطني إذًا هي وطنية مقبولة، ويوجد فاشية وطنية إذًا هي وطنية مقبولة.
يجب أن نحدد البعد المعياري، وبعد أن نحدده يجب أن تكون هناك مصالح من ناحية، ووعي بهذه المصالح من ناحية أخرى، لأنه لا يكفي فحسب أن يكون هناك مصلحة أو أن يكون هناك أشياء تربطنا تاريخيًا، بل المطلوب أن يكون هناك وعي بها من ناحية، ورغبة في تحقيق هذه المصالح وإعطائها الأولوية من ناحية ثانية.
ومن هنا، أقول إننا أمام حالة جذرية تحيلنا إلى السؤال الآتي: هل فعلًا من الأفضل للسوريين أن يجتمعوا على هذا الكيان الذي اسمه سورية بحيث يكون وطنًا لهم وبحيث يكونون متساوين فيه، بغض النظر عن أي انتماءات جماعاتية بوصفهم مواطنين؟ هل هناك ما يسمح أو يشجع على ذلك؟ هل هذا يحقق مصلحتهم أم لا؟
المسألة تكمن في المصلحة، لكن طبعًا هذه المصلحة مؤسسة على قيم، ففي رأيي أي اتجاه غير وطني هو اتجاه غير مفيد للسوريين وغير مفيد لنفسه، بمعنى أن أي طرف سوري يحاول حاليًا أن ينفصل أو يفكك أو لا يساهم في صناعة اتجاه سوري عام، هو ليس فحسب لا يعمل في صالح عموم السوريين بل أيضًا يعمل ضد مصلحته الذاتية.
نعم، من الممكن في هذه الحالة أن تتحقق بعض المصالح الفردية، لكن بشكل عام أرى أنه على المدى الطويل من مصلحتنا جميعًا–ومن هنا أقول إنها أيديولوجيا، والأيديولوجيا أيضًا مصالح–أن نكون وطنيين.
لكن من الممكن أن بعض الناس لديه وعي آخر، وأيديولوجيات أخرى، ويرى مصالح أخرى، وبهذا المعنى أقول إن الوطنية هي أيديولوجيا، وإنه يجب علينا ألا نحملها بطريقة معيارية، من باب أن من لا يوافقنا في وطنيتنا كما نراها–وقد أسرني أن عدة أوراق أكدت على هذا الأمر–هو ليس غير وطني بالمعنى السلبي، بل هو ببساطة لديه وطنية أخرى، أو لديه قيم أخرى، أو مصالح أخرى، وضمن هذه الحالة الجذرية، فإن الوطن ليس قيمة مقدسة علينا أن نتمسك بها مهما كان الأمر.
نقطة أخيرة حول التاريخ، وربما كلامي هنا موجه إلى عماد: غالبًا اللجوء إلى التاريخ هو مسألة إشكالية على الأقل، ولها آثار سلبية على الأرجح، وليس من الصحيح اللجوء في تأسيس الوطنية في ظل وجود صراع أيديولوجي على التاريخ، ونحن نعرف ماهية النقاشات التي تدور بين “العرب” والأكراد حول من هو قديم ومن هو مستجد على الأرض، ولا أعتقد أن ثمة ضرورة لاستحضار التاريخ عند بناء الدولة الوطنية مهما كان هذا التاريخ، فالوطنية يجب أن تُؤسّس على المصالح المشتركة بين الناس.
إذًا، الوطنية، في رأيي، يمكن أن نفكر فيها بوصفها حالة مواطنة، وحالة انتماء في الوقت نفسه إلى كيان اسمه الوطن بالمعنى الإيجابي للوطن.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك.يبدو أن النقاش في الجولة الثانية من الممكن أن تتوضح من خلاله بعض المسائل التي طُرِحَت في الجولة الأولى بشكل أفضل، إذ بات الحوار يتجه ليصبح أكثر تحديدًا، د. راتب ماذا تحب أن تقول؟

راتب شعبو:
فعلًا، توجد نقاط مهمة طُرحت، وأنا سأبدأ من عند النقد الذي قدمه عبد المجيد، وأضاف إليه أيضًا حسام بما يخص موضوع الدكتاتورية والوطنية.
يجب أن نتذكر نقطة، أن اليساريين كانوا يعرّفون الوطنية بمفهوم مختلف تمامًا عما نتكلم به اليوم، حيث كانوا يعرّفونها على أنها قطع العلاقة مع الخارج الإمبريالي، وكان هذا التعريف معتمدًا لديهم، وربما هذا الشيء لم يكن من ابتكار اليسار بل كان حالة عامة في الواقع، وهو ما أعطى الحالة الناصرية هذا الزخم الذي أخذته، والذي جعل بلدًا عربيًا آخر يرتمي في أحضانها، دامجًا بين القومية والوطنية.
أنا أوافق تمامًا عبد المجيد على أن الدكتاتورية تقتل الوطنية على المدى البعيد، لكن وفي الوقت نفسه يمكن القول إن الدكتاتورية يمكن أن تنشئ الوطنية في لحظات معينة، فالدكتاتورية تقوم بدور في بناء اقتصادي، وفي الدفاع عن حدود معينة، وإنشاء لحمة داخلية إذا ما تفتحت الأمور سياسيًا لاحقًا باتجاه بلد أكثر انفتاحًا. في الحقيقة أنا محتار في ما أتحدث أيضًا، لأن هناك الكثير من النقاط التي يمكن الحديث حولها، لكني سأتحدث في النقطة التي أثارها حسام بخصوص المواطنة والوطنية.
في الواقع، إن عنوان الندوة التي نتحدث فيها هو عن المواطنة والإثنيات، وإن فكرة المواطنة كي تكون أساسًا لوطن تقوم بإغفال نقطة الإثنيات، فيما لا يقتنع ابن القومية الصغيرة بأن تقول له أنت مواطن مساوٍ للآخرين، فهذا الأمر لا يرضي تطلعه القومي، كيف يمكن حل هذه المشكلة؟
حسام كتب في ورقته أن حقوق الجماعات يجب أن تكون مصانة بمواد فوق دستورية، لكنه لا يعرف ما هي هذه الحقوق، أي إلى أي حد نستطيع أن نوازي بين المساواة بين الأفراد بوصفهم كيانات سياسية وبين مسألة حقوق الجماعات، هذه المشكلة هي التي تصطدم بها الوطنية السورية، بل إنها هي المشكلة بحد ذاتها من وجهة نظري.
في الواقع، إننا عندما نتحزب للوطنية السورية، علمًا أنني متحزب للوطنية السورية ومتفق مع حسام في أن هذه العمومية هي لمصلحة الجميع، لكن هذا يعني أو قد يعني أننا نغفل حق من يريد أن يكون مستقلًا أو مستقلًا بنسبة ما كما هي حال الأكراد، وقد يكون هناك جماعات أخرى لها مطالب أخرى. هذه هي المعضلة التي يجب أن نفكر فيها: كيف يمكن في إطار إنشاء دولة وطنية مراعاة الحقوق القومية أيضًا؟ توجد علاقة شديدة التعقيد هنا، وفي رأيي إن الكلمة التي طرحها يوسف بخصوص الدولة الائتلافية، ولم أفهم ماذا يقصد بالدولة الائتلافية، هل كان يقصد الدولة الفدرالية؟ لا أعلم، هل يمكن أن توضح لي يوسف قبل أن أتابع كلامي؟

يوسف فخر الدين:
أقصد بالدولة الائتلافية دولة متعددة الإثنيات، بحيث لا تحاول الإثنيات المتعددة أن تنشئ وطنية مشتركة فيما بينها، بل أن تتفق على أن ظروفها الخاصة تستدعي دولة موحدة من باب المصلحة، وليس من باب وجود وطنية جامعة، أي تكون الدولة هنا دولة بمفهوم المؤسسات فحسب، وتتوقف عند هذا الحد.
وهنا تأخذ المواطنة مسارًا ثانيًا، لأن علاقتها لا تكون حتمية بمفهوم الدولة الوطنية بحيث لا تتم إلا بها، بل من الممكن أن نتخيل شكلًا آخر.
لقد طرحت هذه النقطة من باب أني كنت أفكر، ماذا لو قالت جماعات سياسية كردية: نحن لا نريد أن نقيم وطنية مشتركة، لكن نحن لا نقدر على أن ننفصل أيضًا، ولأنه من المتعذر علينا فحسب أن ننفصل يجب أن نكون في دولة واحدة.
أفهم أن هناك مصلحة في بناء وطنية سورية بغض النظر إن شارَكَت هذه الجماعات الكردية أم لم تشارك، مع اعتقادي ان كردًا كثيرين كأفراد سيشاركون، لذلك أسأل: هل من الممكن أن نفكر في دولة ائتلافية بهذا المعنى؟ أي التشارك بين السوريين والجماعة الكردية في بناء دولة ائتلافية، مع ترك الباب مفتوحًا للكرد الأفراد للانضمام إلى الوطنية السورية؟ تفضل.
راتب شعبو:
حسنًا، سأجيب عن هذه النقطة، وسوف أركز فكرتي لأقول إن الوطنية السورية التي نسعى لها تواجه عقبة أساسية هي موضوع الجماعات، إذ نقرأ مثلًا في ورقة عماد كلامًا عن تحقيق المواطنة المتساوية وإطلاق الحريات العامة، وعندما يتحدث عن إطلاق الحريات العامة يقول إن ذلك على مستوى الأفراد والجماعات الإثنية والدينية، وهو نوع من الهروب من المشكلة، والأمر ذاته بالنسبة إلى حسام عندما يقول “حقوق ما فوق دستورية”، حسنًا، لنجعلها فوق دستورية، لكن ما هي هذه الحقوق أساسًا؟ هذه نقطة تحتاج إلى تفكير.
سأنتقل إلى نقطة أخرى تحدث فيها مضر، وأوافق عليها بقوة، هي أن موضوع الوطنية ليس موضوع طليعة وجمهور، فأنا أدافع بقوة عن فكرة أنه لا يمكن أن تأتي النخب بما فيه مصلحة للناس بشكل مستقل عن الناس، ولكي ينخرط الناس في العمل يجب أن يتوجه نشاط النخب إلى خرط الناس في العمل، وليس إلى النيابة عن الناس في العمل، وهذا كي يكون هناك بالفعل فضاء عمومي كما تم تسميته، لأنه إذا لم ينخرط الناس في إنجاز هذا الفضاء لن يتحقق هذا الفضاء أصلًا، وكي ينخرط الناس في هذا الفضاء يجب أن يبدؤوا مما هو أقرب لديهم.. إلى مصلحتهم المباشرة، ومن شعورهم بأثر الدكتاتورية أو الاستبداد أو الميليشيات أو كل الحالات التي يمكن أن تطرأ على مستوى حياتهم المباشرة.
المفارقة الكبرى التي نعيشها دائمًا هي أن المواطن أو الإنسان القاطن في سورية يمكن أن ينام على غلاء الأسعار وعلى إذلاله اليومي وعلى عدم توافر المواصلات وعلى سجن ابنه وعلى مليون قضية من هذا النوع، ثم فجأةً يستيقظ من النوم في أحد الأيام ليهب ضد السلطة مباشرةً، وهي حالة تشبه ما يسمونه في الفيزياء بالتسامي والتصعيد، أي الانتقال مباشرةً من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية من دون المرور بالحالة السائلة، وهذا الحال هو من مسؤولية النخب من وجهة نظري، نخب تفهم أنه شيء منوط بالسياسة، وهي فكرة أكررها كثيرًا. سأكتفي هنا، مع جزيل الشكر.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك، تفضل دكتور حازم.

حازم نهار:
في الحقيقة لقد فاتتني، لسبب تقني، بداية الجولة الثانية من الجلسة، هل يمكن أن تحدد لي بالضبط ما هي النقطة الرئيسة التي طُرحت للنقاش في هذه الجولة؟

يوسف فخر الدين: أشرت إلى أن نستكمل، ونعقب على الجولة الأولى من الحوار، مع إمكان التفكير إضافة إلى ذلك في نقطتين:
النقطة الأولى هي أن الجميع أجاب عن علاقة الوطنية الديمقراطية بالدولة المنشودة ، بغض النظر أيهما يأتي أولًا وأيهما ثانيًا، لذلك اقترحت أنه يمكن أيضًا التفكير في احتمالات أخرى مثل الدولة الائتلافية، وطلب مني راتب أن أوضحها له، وهي ليست نظرية منفصلة عن الواقع، بل هي نظرية مرتبطة بواقع محدد نحن في صدد إيجاد حلول له، وفي رأيي، إن هناك قطاعًا واسعًا في حاجة إلى إنشاء وطنية سورية، إلا أنه من الممكن أن تكون هناك جماعة سياسية، وتحديدًا جماعات سياسية كردية، تقول نحن لا نريد أن نكون كجماعة جزءًا من الوطنية السورية– مع اعتقادي أن هناك كردًا كأفراد يريدون أن يكونوا جزءًا من الوطنية السورية–ويرون أنهم يريدون أن يكونوا خارج هذه الوطنية السورية ضمن حل سياسي معين، فهل من الممكن أن نفكر في أن هذه الوطنية السورية الديمقراطية يمكن أن تبني الدولة بشكل ائتلافي في هكذا حالة؟
النقطة الثانية، لقد ركزت قليلًا على موضوع الوطنية الديمقراطية، كانتماء إلى الدولة وكانتماء المواطنين إلى بعضهم بعضًا، فكيف يمكن أن تكون هذه العلاقة؟ تفضل.

حازم نهار:
أعتقد أنه دائمًا عندما يُفتَح حديث عن الوطنية، فإن العنصر الأكبر المتحكم في وعينا أو لاوعينا هو الجانب الشعوري، على الرغم من أننا نحاول أن نبتعد عن هذا الأمر في التحليل والتنظير، وفي محاولة بناء المفهوم من جديد، لكن مفهوم الوطنية السورية يبقى العنصر المتحكم فيه هو عنصر الشعور والعواطف، ومن هنا فإني أعتقد أن هذا الأمر من الممكن أن يسبب إشكالات في فهمنا لطبيعة الدولة، وما هو مطلوب من النخب وطريقة ارتكاس السوريين سواء العرب أو الأكراد أو غيرهم تجاه موضوع الوطنية السورية.
مثلًا، في ذهنية أكثرية الكرد في سورية إن مسألة الوطنية السورية شكل من أشكال الاحتيال على الحقوق القومية الكردية، ومن ثمّ، فإنهم يأخذون هذا الطابع الحذر في التعامل مع مسألة الوطنية السورية.
وفي رأيي، فإن دور النخب الثقافية والسياسية هو أن تقدم فهمًا آخر، وتحاول أن تعمم فهمًا آخر للوطنية السورية، فأنا لا أرى الوطنية السورية إلا على أنها لصيقة بفكرة الدولة ذاتها.
عبر التاريخ كانت هناك كثير من البلدان التي قامت فيها – بين قوسين – دول، فنتحدث في التاريخ عن الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة الفاطمية أو غير ذلك، لكن هل كانت هذه الدول المذكورة دولًا حديثة؟ بالتأكيد لا.
أعتقد أن الدولة بمفهومها الحديث أمر مختلف تمامًا، فإذا عدنا إلى التوصيفات القديمة لما يسمى دول، فإننا نسميها سلطنات أو إمارات أو ما إلى ذلك، أما الدولة الحقيقية بمعناها الحديث فهي شيء آخر، فأنا لا أستطيع أن أميز مثلًا بين مفهوم الدولة وبين مفهوم الوطنية أو مفهوم العمومية، ومن ثمّ، فإني أرى أن مفهوم الدولة المنشودة في سورية، ومفهوم السورية، ومفهوم الوطنية، ومفهوم العمومية، هي كلها شيء واحد، على الرغم من أن كل مفهوم له مساره عبر التاريخ، لكن في الدلالة السياسية أنا أعتقد أن هذه الكلمات كلها تصب في اتجاه واحد، وحتى إذا أردنا أن نضيف هنا مصطلح العَلمانية، فإنني أعتقد أنه إذا جئنا لنوصف الدولة بالمعنى الحديث، فلا داعي لاستخدام مصطلح العلمانية، لأن أي دولة بالمعنى الحديث تكف عن كونها دولة إذا ألحقت بها صفة مذهبية أو دينية أو فردية أو أيديولوجية أو طبقية … إلخ. فهذا يخفض الدولة من المستوى العام إلى المستوى الخاص، ولذلك أعود للتأكيد على هذه الفكرة، أن كل هذه المفاهيم، الدولة، الوطنية، السورية، وحتى العلمانية – وفق هذا الفهم لها طبعًا -، هي كلها تخدم الغرض نفسه.
القضية تكمن في أن مهمة إيصال هذا الفهم للناس، تتطلب وجود نخب ثقافية سياسية تحاول ذلك بطرق عديدة.
المسألة الأخرى، على المستوى الفردي، عندما نقول إن فلانًا وطني، بالتأكيد هناك استخدامات كثيرة جدًا لهذه العبارة، بالمعنى القيمي، بالمعنى الشعوري، بمعنى ضد العمالة أو ضد التعامل مع الخارج، لكن أنا أعتقد أنه وبفهم حديث، فإن عبارة “فلان وطني”، تعني “فلان سوري”، إذًا أذهب هنا إلى أن مسألة الوطنية على المستوى الفردي تعني تمامًا اكتساب جنسية ما، وإن مسألة اكتساب جنسية ما تتبعها مستلزمات قانونية وحقوقية، أي تتبعها مستلزمات المواطنة، ومن هنا أرى العلاقة بين الدولة الوطنية وفكرة المواطنة.
لنذهب إلى فكرة أخرى، على صعيد الواقع، قد تبدو الوطنية في سورية أنها أقل الأفكار حظوظًا، لكن أنا أعتقد أنه لا يجب علينا فحسب أن نقف عند حدود السطح الموجود، أو الواقع المرئي أو المسموع، أي عند الواقع المباشر، بل يجب أن نذهب في تحليلنا وفي قراءتنا للمزاج العام والتطورات باتجاه ما هو ممكن وكامن.
وأنا أعتقد أن الشريحة الأكبر من السوريين هي مع هذا الاتجاه حتى لو تم تنظِّر له، ومن ثمّ، فإن مسألة إدراج الناس في الدفاع عن فكرة الوطنية السورية أو الدولة الوطنية السورية المنشودة هي في رأيي أمر سهل في حال توفرت لدينا حقيقةً نخبة ثقافية سياسية متماسكة، إذ إننا ونتيجة غياب هذه النخبة السياسية الثقافية المتماسكة أصبحنا نعتقد أنه لا داعي لوجود النخب، أو أصبحنا نقلل من دور النخب.
دعونا نرجع عشر سنوات إلى الوراء، لو كان لدينا نخبة ثقافية سياسية التزمت الخطاب الوطني وقدمت رؤية صحيحة تتوافق مع الوطنية السورية، كان من الممكن أن يكون الوضع مختلفًا، ونحن طبعًا لا ننكر هنا العوامل الداخلية ولا المصالح، أي مصالح الدولة الإقليمية والكبرى، فكل هذه المسائل أثرت بالتأكيد في اللحظة السياسية التي وصلنا إليها، لكن من الصعب أيضًا أن نفكر أن كل ما جرى هو حتمي، أي ما أريد قوله إنه كان هناك دور منوط بالنخب الثقافية والسياسية، ولم تستطع القيام به.
النقطة الأخيرة في ما يتعلق بالإثنيات والجماعات القومية، في الحقيقة إن لدينا معضلة كبيرة جدًا على هذا المستوى، خصوصًا بعد أن تراكم هذا الأمر خلال السنوات العشر الماضية، فمنطقيًا إذا أردنا أن نفكر على مستوى الفكر السياسي والمنطق وغير ذلك، أعتقد أن مسألة مساواة السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية والطائفية وغير ذلك، وفق حقوق المواطنة وواجباتها، وما يتعلق بذلك هي مسألة كافية، لكن بالنسبة إلى الجماعات القومية هو أمر غير كاف، فحتى هذه اللحظة تُصدَّر فكرة الوطنية على أنها مسألة سوف تلتهم حقوق هذه الجماعات القومية. إذًا ما هو الخطاب الذي يُفترض أن نقارب من خلاله مسألة العلاقة بين الحقوق القومية وفكرة الوطنية السورية؟ يجب أن يكون هناك جسر وصل يتم التفكير فيه على مستوى الخطاب، وعلى مستوى الحلول السياسية التي من الممكن أن تكون مقترحة في هذا الاتجاه.
وحتى هذه اللحظة، فإن كل النقاشات التي عُقدت على مستوى هذه النقطة لم تقدم رؤية يمكن لها أن تكون توافقية أو يمكن لها أن تشد انتباه أغلبية السوريين، عربًا وكردًا وغيرهم. لدينا معضلة حقيقية في هذه المسألة.
دعوني آخذ سؤالًا: لو كان هناك احتمال كبير لنشوء دولة كردية أو كيان كردي بمساعدة إقليمية ودولية للكرد السوريين أو للسوريين الكرد، هل من الممكن أن ينظروا إلى الوطنية السورية أو الدولة الوطنية السورية بحيث يأخذونها في الحسبان؟
أشعر أن الموازنة خاسرة في هذه الحالة للمسألة القومية الكردية وليس للوطنية السورية.
لكن على الرغم من ذلك، فإن أداء القوى السياسية الكردية، طوال السنوات الماضية، يشير إلى أنها تنظر دائمًا إلى سورية بعين كردية، ونحن نحاول دائمًا أن نقول لهم في حواراتنا: ليتكم تنظرون إلى القضية الكردية بعين سورية، فمن الممكن أن نجد قواسم مشتركة تساعدنا في بناء تصور ما لدولة مستقبلية. وما زال هذا الأمر يشكل معضلة على مستوى الخطاب، وعلى مستوى الحلول السياسية.

يوسف فخر الدين:
دكتور عماد، بحسب التسلل، تفضّل.

عماد العبار:
أريد أن أوضح نقطة أثارها الأستاذ حسام حول الاعتماد على التاريخ، من باب أن ذلك يخلق إشكالية وحساسيات قومية، وهذا الكلام صحيح تمامًا في حال كان الانطلاق من التاريخ أو الاستئناس به هو من منطلق عنصري، ومن منطلق أني وصلت إلى هذه الأرض أو البقعة الجغرافية قبل الطرف الآخر، أو هو وصل قبلي، لكني لا أقارب الأمر من هذه الزاوية إطلاقًا، فهذه دعاوى عنصرية تستخدمها الأطراف تجاه بعضها عبر التاريخ.
أما مقاربتي للأمر فهي عبر سياق تاريخي هو سياق تطور الهوية الموجودة على هذه الأرض، وأتصور أن هذا الأمر موجود في كل الدول، حتى الحديثة منها، حيث دائمًا هوية أي بلد مهما تغيرت الإدارات السياسية أو حصل هناك احتلال أو ضم أو استعمار، يبقى لكل شعب أو شعوب محدودة بمنطقة جغرافية معينة نمط من العلاقات ونمط من الطباع والأعراف والتقاليد والمصلحة المشتركة يعطي سمة للهوية، والهوية بهذا المعنى ليست معطىً جامدًا، فلا توجد هوية تبقى نفسها لعشرة قرون أو خمسة قرون أو حتى لقرن واحد من الزمن، إنما هناك تفاعل دائمًا مع المستجدات التي تطرأ، لكن ما أراه هو أنه، ومنذ أيام الفتح الإسلامي والدولة الأموية، وحتى نهاية الفترة العثمانية، كانت الهوية تتفاعل لكن ضمن خط فيه هوية غالبة، توجد تحتها بالتأكيد هويات فرعية، ولم يكن هناك صراع هويات حتى نهاية هذه الفترة بالمعنى الموجود حاليًا الذي نشهده أمامنا.
النقاشات التي نتناول من خلالها الإثنيات والقوميات في يومنا هذا لم تكن موجودة في تلك الفترة، وهذا هو ما أردت قوله فحسب عندما تناولت قضية الانتماء بالمعنى التاريخي، أي هي دعوة لنفهم ماذا كانت هوية البلد عبر التاريخ وحتى يومنا هذا، وما هي المراحل التي أثرت فيها، وما هي أسباب هذا الصراع أو النقاش الدائر، حتى نستطيع إيجاد حلول لهذه المسألة.
أما النقطة الثانية، فأنا أتفق مع الأستاذ راتب برده بخصوص عدم حتمية ارتباط الدكتاتورية بالوطنية، إذ لا توجد حتميات في هذا المجال، ولا نستطيع أن نقول بشكل حتمي إن كل دكتاتورية ستؤدي إلى غياب مفهوم الوطنية على المدى البعيد أو إلى عدم حدوث حركة أو هوية وطنية أو مواطنة بالمعنى الحديث. لا أعتقد بوجود أي حتميات في هذا السياق، لأن هناك ظروفًا تاريخية وسياسية تلعب أدوارًا في نشوء الدكتاتوريات أو نشوء الديمقراطيات، وأنا أحب دائمًا أن أعتمد على التاريخ لأنه يقدم لي فهمًا لكيفية حدوث الأمور، ولا أستطيع النظر إلى الأمور كما هي الآن فحسب، أي بحسب الواقع الحالي.
بخصوص عبد الناصر، أنا مضطر أيضًا إلى التطرق إلى هذه النقطة: لم يكن عبد الناصر قادرًا على أن يصنع مواطنة في مصر في تلك الفترة بالمعنى الحديث الذي نتناقش بصدده الآن، فمجتمعه كان مجتمع النصف بالمئة، من المستحيل أن نتوقع أن المواطنة كان يمكن لها أن تتحقق في عشر سنوات أو عشرين سنة، وهو مجتمع مسحوق كان يعاني الأمية والجهل والفقر وأكبر نسبة وفيات للأطفال في العالم في الأربعينيات كما أذكر.
إذًا، ما أدعو إليه هو أن يكون كلامنا واقعيًا في توصيف التاريخ، وهذا يفيدنا حتى في الوقت الحالي، عندما يكون هناك واقعية في مقاربتنا لقضية الهوية الوطنية، وفي طرح تصورنا وطريقة تحقيق هذا التصور على أرض الواقع.
أقول دائمًا إنه في زمن عبد الناصر لم يكن أي نبي قادرًا على القيام بهذه النقلة حتى ننتظر أن يقوم بها شخص عادي، وعمليًا النبي فشل في مجتمع قريش، وهرب إلى المدينة ليشكل دولته فيها، ومن ثم رجع بقوة السلاح ليفرض تصوره، ولو أن هذا خارج موضوعنا. وهذا ما فعله عبد الناصر، في مجتمع كان يتحول من مجتمع نصف في المئة إلى مجتمع–دعونا نقول–ثلاثين أو أربعين في المئة من الناس الفاعلين، ولو أنه كان هناك استبداد سياسي، ولم يكن هناك توجه نحو ديمقراطية سياسية، لكن كان هناك توجه نحو ديمقراطية اجتماعية، فعندما نتحدث عن مجتمع أنجز هذا الانتقال من مجتمع نصف في المئة إلى مجتمع ثلاثين أو أربعين في المئة، نحن عندئذٍ نتحدث عن ثورة اجتماعية، وليس عن حركة تطور طبيعية كان من الممكن أن تحصل في سياق طبيعي.
لا أتحدث في التاريخ لأحول النقاش إلى نقاش تاريخي حول فترة الخمسينيات وعبد الناصر وما قبله وما بعده، لكن ما أريد قوله هو أن الانطلاق من الواقع شيء إيجابي، كما أن الانطلاق من التاريخ وفهم الواقع من خلاله هو شيء إيجابي أيضًا.
جمال عبد الناصر كان دكتاتوريًا وطنيًا، أنا أتفق مع هذا التوصيف، وهو توصيف صحيح تمامًا.
في المقابل، حافظ الأسد كان دكتاتورًا، لكنه لم يكن وطنيًا على الإطلاق، وهذا هو السبب الرئيس في وصولنا إلى الوضع الحالي، وإلى النقاش الدائر والصراع الدائر.
من هذه الناحية، فإنني على أرض الواقع عندما أرى نموذجًا وطنيًا لكنه غير ديمقراطي، لسبب من الأسباب، أشعر أني ملزم بأن أقف معه، وأن أؤيده وأساعده بحيث تكون هذه خطوة للتأسيس لهوية من الممكن أن تتبلور لاحقًا إلى هوية وطنية أو يعاد تشكيلها على أسس حديثة. هذه هي النقطة التي تحدثت عنها قليلًا في التاريخ رغبةً مني في الوصول إليها.
بخصوص الموضوع الثاني الذي تضمنه النقاش، فإن المواطنة التي يجري الحديث عنها حاليًا هي المواطنة بالمفهوم الحديث، فالمواطنة بهذه المعنى القائم على المساواة بين الأفراد وعلى الحريات والمشاركة السياسية لم تكن موجودة قبل الثورة الفرنسية، ومن ثمّ، أتصور أنه يجب أن يكون هناك سياق مهم للأحداث، حتى نأمل بمواطنة حقيقية على أرض الواقع، فعندما يكون هناك مجتمع تحت الاستعمار لا يكون بإمكانه مباشرةً الحديث عن مفهوم المواطنة بمعناها الحديث، بما في ذلك الدول الغربية نفسها التي بقي فيها الفلاسفة يتحدثون لمئة أو مئتي سنة حول هذه الأفكار والقيم حتى تم تطبيقها ضمن شروط تاريخية وتحولات تاريخية.
ما أريد قوله، هو أن ربط الوطنية بالمواطنة بمعناها الحديث هو أمر مبكر بالنسبة إلى حالتنا، أما التأكيد على الوطنية بمعنى أنها انتماء إيجابي فهذا أمر يمكن من خلاله أن يتبلور وعي شعبي بخصوص هذه النقطة. فإذا عدنا إلى فكرة العمومية، أعتقد أن الحديث عن المواطنة بمفهومها الحديث ضمن واقعنا الحالي هو أمر بعيد عن وعي الناس وإدراكهم للمسألة، لأنهم يمرون بظروف بدائية. فالتأكيد على الوطنية يمكن أن يوصلنا في ما بعد، وفي مرحلة تالية، إلى النقاش حول فكرة المواطنة بالمعنى الحديث للكلمة.

مضر الدبس:
أنا سأعود لأجرب أن نتحدث عن مصطلحين في سياق واحد: الوطنية، ومن ثم توصيفها أو تسميتها بالوطنية السورية.
إذا كنا سنبدأ بمصطلح الوطنية وحده، فإنه من الواضح تمامًا أنه مصطلح منهك دلاليًا، بمعنى أنه يدل على أكثر من شيء، وله أكثر من معنى، وفي تقديري ليس فحسب مصطلح الوطنية، بل إنه مع ترجمة الحداثة والمفاهيم الغربية يبدو أن استيراد أي مصطلح كان عن طريق ترجمته لا يؤدي دائمًا إلى استيراد معناه، بل على العكس يؤدي إلى خلق صورة لهذا المفهوم الأصل في المجتمع المستقبِل الذي ترجمه، وعلى الغالب لا تتطابق هذه الصورة مع الأصل إلا إذا انطبق عقل المنطلق الذي ابتكرها مع عقل المستقر الذي ترجم، وهي مطابقة غير ممكنة في أي حال من الأحوال.
لذلك، فإنه هذا المصطلح–مصطلح الوطنية–هو مصطلح منهك دلاليًا، مثل مصطلح شعب، ومصطلح دولة، فمثلًا مفهوم الشعب الذي نعرفه في المنظومة الحداثية يختلف تمامًا عن مفهوم الشعب في “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”، وكذلك الأمر بخصوص الارتباط بين “تلك الأيام نداولها بين الناس” ومصطلح الدولة، وحتى عند ترجمة ديالكتيك إلى جدل “وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا”.
من ثمّ، إن المسألة اللغوية، والتي تحيل على طريقة فهمنا لهذه المواضيع، تؤدي دائمًا إلى تعقيد الحوار، فيبدو أن البداية بمقاربة مفهوم الوطنية أيضًا هو مشروع يتم الحديث عنه كثيرًا، لكن قليلًا ما يتم العمل عليه لضبط دلالة هذه المصطلحات التي نتعامل بها في الوسط السياسي، والتي هي أدواتنا للحوار ضمن الفضاء العمومي.
المسألة الثانية المتعلقة بكلمة الوطنية، هي أنها بالفعل علاقة بين جماعات لها خصوصية معينة، وبين أن تقوم هذه الجماعات بابتكار وطن، وهذا يمكن الحديث عنه كثيرًا، لكن إذا جئنا إلى التشبيه الذي ورد في ورقة د. راتب، عندما شبه الوطنية بالزواج، فإننا إذا تجاهلنا مسألة النكد التي تحيل على قضية ثانية، فإن الأستاذ جاد كريم الجباعي كتب في أحد كتبه من هذا المنطلق كلامًا مهمًا جدًا في مقاربة مسألة الحب، إذ رأى أنه لا يمكن لها أن تكون علاقة الذات بالموضوع، بل هي علاقة الذات بذاتها، وهذا يشبه أيضًا التفكير بالمواطنة، لأن الحب هو السعي للاكتمال بالآخر، وأيضًا الجماعات هي في الواقع تسعى لاكتمال خصوصيتها، فإذا أخذنا الكرد نموذجًا، لن تكتمل الخصوصية الكردية حقيقةً إلا من خلال الاكتمال بالآخر، أي بالعمق السوري الوطني، وهي تجربة أعتقد أن أكراد العراق اصطدموا بها بالفعل.
الآن، إذا الكرد أو غير الكرد، أو أي إثنية أخرى، أو أي جماعة لها خصوصية، أو كل السوريين بشكل عام، لم يقوموا بعقلنة خصوصياتهم ضمن مسار عقلي تحليلي، فإنهم سيضطرون حقيقةً إلى أن يعقلنوها بالألم، أو بمسار تجنب المزيد من الموت.
هذا المفهوم هو الذي يحيلنا على مفهوم المواطنوية، واضطرارنا إلى قبول الآخر، فهو اضطرار حقيقةً، سواء اهتدينا إلى هذه المسألة عبر مسار عقلي فلسفي كما اهتدت تجربة الحداثة في أوروبا إلى حدٍّ ما، أو اهتدينا إليها عبر تجربة الموت.
أما المسألة الثالثة في الوطنية التي من الممكن أن نتحدث عنها، وتقريبًا نحن متفقون عليها، هي أنها مسألة غير قابلة للتفاوض، فمجرد قبولنا بفكرة الوطنية، فلا أحد أكثر وطنيةً من أحد أو أقل وطنيةً، الجميع متساوون أمامها.
الآن، خصوصية هذه الوطنية أنها سورية، ومن ثمّ، فإن أهم مسألة بتقديري الشخصي هي أننا لا نفكر في الوطنية في وضع طبيعي. السوريون يموتون ونحن نفكر في دولة لهم، وهذا التفكير يحمل السوريين أيضًا مسؤولية، هي مسؤولية الكلمة، لذلك أنا أرى أن النشر، أو الحوار المنشور الموثق، هو ضرورة للوطنية الآن، خصوصًا أنه وكما ذكرنا نحن السوريين حقيقةً اعتدنا أن نكون حراسًا على باب وطنيتنا، لأنه في ضوء التعايش القسري الذي كان تحت نير الاستبداد، كان حب السوري للسوري الآخر، بشكل أو بآخر، يمنعه من محاولة الدخول إلى بوابة الوطنية، لأنه يعرف أن هذه الوطنية كانت في منزلة النيل من هيبة الدولة، وأنها تعني محكمة أمن دولة، ومن ثمّ، هي عذاب، وهي شكل من أشكال الألم.
ومن أجل تجنب هذا الألم حقيقةً، لم يتشكل عندنا خبرة عمومية للحوار الوطني.
والمدخل لتشكيل هذه الخبرة اليوم حقيقةً، هو الحوار حول فكرة مهمة جدًا، هي فكرة أن خصوصية أي جماعة غير ممكنة من دون الوصول إلى حالة وطنية معينة، وبتقديري فإن هذا الحوار ممكن الآن أكثر من أي وقت مضى، لأن المجال أصبح متوافرًا لقراءة المستقبل إذا بنينا على حيز، وعلى نمط تفكير محلي، سواءً أكان إثنيًا أو قبليًا أو أي شيء من الممكن أن يشكل انتماءً جزئيًا.
نمط التفكير هذا ينقلنا حقيقةً من مفهوم الـ (من هو) الذي اعتدنا عليه إلى مفهوم الـ (ما هو)، أي ينقلنا من مفهوم من سيحكم سورية، ومن المرشح لذلك، كما حدث في سقيفة بني ساعدة، إلى مفهوم الـ (ما هو)، أي ما هو الشكل الذي نريده لسورية بحيث تكون ملائمة لنا جميعًا.

يوسف فخر الدين (مقاطعًا):
شكرًا لك، يمكن أن نترك هذه الفكرة للمحور الأخير.
تفضل عبد المجيد.

عبد المجيد عقيل:
مداخلتي ستكون قصيرة نوعًا ما، لأن الأفكار التي وردت في المداخلات السابقة كانت غنية جدًا، لكني أريد أن أنطلق من فكرة ذكرتها بشكل موجز في مداخلتي السابقة، هي فكرة أن مقاربتنا لمسألة الوطنية يجب في رأيي ألا تقتصر على التوصيف، إنما أن يكون هناك غاية معينة، أي أن يكون هناك نوع من التوصيف الغائي لهذه الحالة الوطنية المنشودة في ظل الواقع السوري الحالي ومعاناة السوريين.
وعندما ننطلق من هذه القاعدة، لتوصيف الوطنية، بطريقة لا تقتصر على التوصيف، إنما أن نساهم في خلق مفهوم الوطنية كما نرى أنها يجب أن تكون، فإن المعيار الموضوعي الذي يجب أن نستند إليه هو المصلحة، لأن الدولة الوطنية الحديثة هي الدولة القائمة على مصلحة إنسانها، والحديث هنا ليس عن المصلحة بمفهومها السلبي الأناني المتعلق بالفرد فحسب، إنما مصلحة الإنسان كمجموع، أي مصلحة الفرد ضمن المصلحة الجمعية.
إذًا، في رأيي، هناك موضوع مهم جدًا يجب أن نعمل عليه عندما نقارب فكرة الوطنية، هو أن نربط هذه الفكرة بالمصلحة، وأن نعمل على تنمية وعي الإنسان السوري بمصلحته، لأن الوعي بالمصلحة هو نمط تفكير عقلاني يناقض نمط التفكير الطائفي والإثني والعرقي، الذي هو نمط تفكير عاطفي بدائي، قد يفضي إلى مقاربات تكون ضد مصلحة الإنسان نفسه، وقد تكون حتى ضد مصلحة الجماعات.
فعندما نتحدث عن المصلحة، نحن نتحدث مثلًا عن الاقتصاد، ولكن لنفترض مثلًا أنه قامت دولة قومية كردية مستقلة، وكانت هذه الدولة دولة معزولة ومتقوقعة ومحاصرة وتحولت إلى دولة فاشلة، فهل في هذا الأمر مصلحة للكرد؟ إذًا، من الضروري العمل على تنمية وعي الإنسان السوري بمصلحته، وربط هذا الأمر بفكرة الوطنية.
طبعًا يمكن أن يكون هناك مصالح بالمنظور الجماعاتي أيضًا، ولكن عندما نتحدث عن مصالح الجماعات، فإننا نذهب في الاتجاه الثقافي، وفي اتجاه الحقوق الثقافية، فبالنسبة إلى السوريين الكرد لدينا مظلومية حقيقية تتمثل بالجانب الثقافي، وفي حرمانهم من تعلم وتعليم لغتهم، إضافة إلى التفاصيل المرتبطة باحتفالهم بأعيادهم، وغير ذلك من الجوانب المرتبطة بثقافتهم الكردية وهويتهم الكردية التي تعرضت للطمس الممنهج، والأمر ذاته عندما نتحدث عن الجماعات بمنظور الأديان والطوائف والمذاهب، هناك حقوق تصب في جانب الممارسات العقائدية التعبدية التي هي أيضًا ممارسات ثقافية.
وفي ختام مداخلتي أريد إعادة التأكيد على فكرتين: الفكرة الأولى هي تنمية الوعي بالمصلحة بشكل يساعدنا على إخراج نمط التفكير الطائفي والقومي والإثني – والذي هو نمط تفكير عاطفي -من المعادلة، بحيث ينطلق الناس إلى التفكير بشكل الدولة من منظار المصلحة والواقعية.
أما الأمر الآخر، فهو ضرورة ترسيم الحدود–وهذا الأمر قد يكون سهلًا على الصعيد النظري لكنه بالتأكيد صعب في حيز التطبيق العملي–بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، أي أن ندخل في التفاصيل.

يوسف فخر الدين:
يعطيك العافية.. شكرًا.
هل يمكن مع نضج فهمنا للوطنية، إن كان بمعناها النظري، وإن كان في تجارب الشعوب الأخرى، وحتى في تجربتنا نحن، أن نفكر في الموضوع، وأن نفكر في هذه الوطنية في سياق تطوري، سياق ليّن، سياق إبداعي، وأن نفكر في أن الوطنية الديمقراطية التي نتحدث عنها، والتي هي محدد رئيس لنظام الحكم الذي سنختاره، هي في العمق قضية تفاوضية؟
السؤال يتضمن شقين: شق أول له علاقة بالإثنيات، وشق ثانٍ يتعلق بالأغلبية بين قوسين.
في بداية الثورة السورية طُرِحَت فكرة أن الأقليات في حاجة إلى تطمينات، بغض النظر عن صحة هذا الطرح بكل المعايير، بمعنى أن التطمينات كانت مطلبًا للأقليات فحسب، لكني سأهتم بجواب تم تداوله، كان يُرفَض من خلاله فكرة أن يطلب أحد تطمينات. كنا في ثورة ديمقراطية، ومن ثمّ، نطالب بعقد اجتماعي جديد لسورية، ولكن ليس لدينا استعداد، أو يوجد بيننا من ليس لديه استعداد للتفكير في أن هذه العملية هي برمتها عملية تفاوضية.
اليوم عندما نفكر في الوطنية السورية، ونفكر في الوطنية السورية الديمقراطية، ونفكر في الدولة السورية المقبلة، هل نحن نفكر فيها من جانب أن لديها مساحة تفاوضية؟
أنا أريد أن أربط هذا الأمر بمسألة الفدرالية والكونفدرالية لنعود إلى الحديث عن موضوع كان دائمًا مقلقًا هو موضوع الكرد، وبلغة سياسية عملية.
نعود لك دكتور حسام. تفضّل.

حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا، بالتأكيد المداخلات غنية، ولن أستطيع التعليق على المداخلات كلها.
دعوني أعود إلى راتب، لأتحدث عن مسألة قبل حقوق الجماعات.
كنت قد قلت إن تناول المسألة الوطنية من منظور جماعاتي هو أمر خطر جدًا من الممكن أن ينزلق بطريقة سريعة، وحتى لاإرادية، إلى شيء لاوطني، ولاديمقراطي، سواء أكان هذا المنظور الجماعاتي إثنيًا أو طائفيًا أو قوميًا أو أيًا يكن.
أي دخول من خلال منظور جماعاتي، أو من خلال مقاربات شمولية، مثل أنه لمصلحة الوطن يموت الجميع ويضحي الجميع وما شابه، هو مدخل خطر جدًا في تناول المسألة الوطنية أو الديمقراطية، ولهذا السبب فقد أكدت كثيرًا أنه عند تناول أي مسألة من هذه المسائل يجب أن يكون المدخل هو الفرد المواطن.
طبعًا هذا المدخل ليس هو المدخل النهائي، ولا يكفي وحده، لا للدولة، ولا للديمقراطية، ولا للوطنية، لكن البداية تكون من هذا المدخل، أما بعد ذلك تأتي مسألة أخرى يجب ألا نستهين بها، دعوني أشرحها على الشكل الآتي:إن تأسيس أي عمل سياسي على مسائل النسب والأشياء اللاإرادية هو أمر خطر جدًا ولاديمقراطي ولاأخلاقي حتى، فكما في نظرية الخلق المستمر وأن الله يخلق العالم بشكل مستمر، ومتى ما توقف الله يتوقف العالم، أيضًا المواطن يخلق ويختار انتماءه بشكل مستمر، بحيث يكون قادرًا على الدخول والخروج بشكل دائم، وبهذا المعنى لا توجد جماعات مسبقة، ولا جماعات ناجزة، ولا جماعات مستمرة.
وهنا يجب القول إنه توجد إمكانية لتسييس الجماعات، لكن بمعنى تحويلها إلى سياسة، أي بدلًا من تطييف السياسة: تسييس الطائفة، وذلك بوصفها تتألف من مجموعة من الأفراد، فإذا كان لدينا مجموعة من الأفراد العلويين أو الكرد، وأرادوا أن يشكلوا كيانًا سياسيًا ما، بمعنى حزب أو ما شابه على أساس نسبهم، لا أرى مشكلة في ذلك، لا بالمعنى السياسي، ولا بالمعنى الديمقراطي، ولا بالمعنى الوطني، في حال كان مؤسَّسًا على الحرية، وعلى المساواة، وعلى إمكان الدخول والخروج من دون أي عائق، ولا يشكل تمييزًا، لا لهم ولا لغيرهم.
دعونا نفكر هنا: أليس من الضروري دائمًا أن يكون أساس كل عمل سياسي هو الفرد الحر؟ لأنه بهذا المعنى لا أفهم كيف يمكن أن يتحدث أحد عن “وطني” في نظام دكتاتوري يمنع عنه الحرية، أي كمن يقول إن نظام الأسد يستحق البقاء لأن 50 في المئة أو 60 في المئة أو 70 في المئة من السوريين يؤيدونه، والفكرة هنا هي أنه حتى ولو كان 90 في المئة يؤيدون النظام الأسدي في هذه الظروف، لا معنى للتأييد، لأنه لا معنى للرأي إذا لم يكن رأيًا حرًا، وإذا لم يكن بالإمكان اتخاذ غيره، فقيمة الرأي ليست في مضمونه فحسب، بل في شروط إنتاجه أيضًا، فإذا كانت الشروط لا تسمح إلا به، فلا معنى له في هذه الحالة.
إذًا، أولًا نقول إن هذه هي الحقوق الأساسية: حريات الأفراد وحقوقهم، وهذه هي المسألة الأولى، أما بعدها فتأتي كل الحقوق التي يمكن أن تحصل عليها الجماعات، أو بعض أفراد هذه الجماعات إذا أرادوا ذلك، وتصبح ممكنة، باستثناء أنها محدودة بأمرين: محدودة بحرية الأفراد، ومحدودة بوجود هذا الكيان، أي هي محدودة بالمعيار الوطني، فالمعيار الوطني هو أفراد أحرار وكيان وطني يضم هؤلاء الأفراد ويحفظ حرياتهم.
إذًا كل الحقوق الجماعية بعد الحقوق الفردية يمكن الحديث عنها.
هناك نقطتان أساسيتان أريد أن أختم بهما هنا، وأراهما ضروريتين جدًا:
غالبًا عندما يتم الحديث عن الوطنية بعد الثورة، وأنها انحدرت، وأصبحت أسوأ كثيرًا. هذا الحديث يدل على أن الفكرة الوطنية باتت في أذهاننا مرتبطة بالكيانات الطائفية أو كيانات النسب، بمعنى أن الناس أصبحوا طائفيين والناس انقسموا إلى كرد وعرب وإلى علويين وسنة، وما إلى ذلك.
إن التفكير في الوطنية بهذه الطريقة الجماعاتية، أراه أمرًا لاوطنيًا بالمعنى الوصفي، بمعنى أني لا أدينه، وأرى بأن له أحقية الوجود مثله مثل فكرتي، لكني أؤكد أنه لاوطني بالمعنى الوصفي، حيث أن ما هو وطني يجب أن يؤسَّس على ما هو فردي لا على ما هو متعلق بمسألة الانتماء الجماعاتي.
أريد أن أشير إلى نقطة أجد أنها غابت عن عدة ورقات تطرقت لهذه المسألة، منها ورقة راتب، وأعتقد عبد المجيد، وربما ورقات أخرى، تحدثوا عن انحدار المسألة الوطنية بعد قيام الثورة، وأنا أوافقهم على أن هناك أشياء سلبية حصلت، لكن هنالك أيضًا أشياء إيجابية، فالوطنية السورية بعد الثورة السورية، في جانب منها، وإلى الآن، أقوى مما كانت عليه قبل الثورة؛ أقوى بمعنى أنها أُسِّست على خيارات حرة وقيم إيجابية، فالناس الذي تعاطفوا وتضامنوا مع بعضهم بعضًا على أساس أن لديهم قيمًا مشتركة، وعدوًا مشتركًا بهذا المعنى، وأسسوا انتماءهم إلى سورية، فأنا بهذا المعنى أنتمي إلى سورية، وليس لدي انتماء إليها بغير هذا المعنى، الذي يتجسد في القيم المشتركة التي تجمعني مع الناس، التي هي قيم العدالة ومناهضة الظلم وما إلى ذلك. وفي رأيي، إن هذه الحالة باتت موجودة بعد الثورة أكثر كثيرًا مما كان عليه الأمر قبل الثورة، ولذلك فإن ربط المسألة الوطنية ببعض الانزلاق للجماعاتية يبدو أنه لا يأخذ في الحسبان الجانب الثاني الإيجابي الموجود بقوة أيضًا.
أما المسألة الثانية والتي أراها مهمة جدًا، فهي أننا غالبًا نفكر بطريقة أنه كيف يمكن لنا أن نوجد الحل والوصفة السحرية لكل شيء قبل أن نفعل أي شيء، وكيف يمكن أن نقتل السياسة قبل أن نمارس السياسة، بمعنى أننا نريد الاتفاق على حقوق الجماعات، هذه الجماعة ماذا ستأخذ، وتلك الجماعة ماذا ستأخذ، وكيف سنحمي تلك الفئة… إلخ.
ماذا تركنا من مجال للسياسة إذًا؟
يبدو الأمر هنا وكأننا نريد من السياسة أن تكون مجالًا للإدارة فحسب.
صحيح أنني قلت إنه توجد حقوق أساسية يجب أن تكون مصانة دستوريًا، أو بمعنى ما، لكنني قلت أيضًا إنه يجب ألا نبالغ في مسألة الاتفاق المسبق، وأننا نريد ضمانات مسبقة، فعمليًا نحن سندخل في مخاطرة لا محالة، ولا يوجد شيء اسمه ضمان مطلق، كما أن الضمان الزائد عن الحد قد تكون سلبياته أكثر من عدم وجود ضمانات، فالضمانات الزائدة عن الحد قد تفضي إلى شكل من التوافق التحاصصي، لك حصتك، ولي حصتي، ومن أنا؟ ومن أنت؟ أنا تعينت مسبقًا ولم يعد بإمكاني أن أغيّر، وأنت تعينت مسبقًا ولم يعد بإمكانك أن تغيّر.
هذا ضمان كبير، لكنه أسوأ من عدم الضمان.
فما أقوله هو إنه يجب أن يُترَك مجال للسياسة، ولهذا السبب فأنا عند السؤال عمّا هي حقوق الجماعات، والذي أجبت عنه بمعنى أن المدخل إليه يكمن في مسألة الأفراد، فإنني في الوقت ذاته لست مع أن ننهي السياسة قبل أن نبدأ بممارستها، وأن نحدد كل ما يأتي لاحقًا من دون وجود نقطة بداية أو نقطة انطلاق، وآسف على الإطالة.

يوسف فخر الدين:
الأمر يحتاج إلى مقاومة شديدة يا راتب، بعد مداخلة حسام، كي لا نتورط في السجال. كيف يمكن أن نعود لنمسك بمحور النقاش؟ على الرغم من أني لا أخفيك حسام أن ما تقوله مهم جدًا، لكني أشعر أنك تحوّل المحظور إلى الموضوع برمته، أي حسنًا، هذا محظور، لكن نحن ماذا سنفعل، ونحذر، إضافة إلى ذلك ألّا نقع في كذا وكذا، فشعرت وكأنني سأتعطل بالمحاذير، التي دائمًا، وحتى في ورقتك، هي دائمًا متقدمة، وأنا أعترف لك بأنك تشير بالفعل إلى محاذير شديدة، وقد تؤول بالفعل إلى مشكلة كبيرة، لكن لم نناقش ماذا يجب أن نفعل لنتجنب هذه المسائل.
فلنتحدث قليلًا يا راتب حول ما يمكننا فعله، ولنأخذ في الحسبان موضوع المحاذير.

حسام الدين درويش (مقاطعًا):
لكن قبل أن ينطلق، ما قلته هو أن مسألة حقوق الأفراد تأتي أولًا، التي من الممكن أن يُؤسّس عليها كل شيء، الجماعات، والوطن، والانتماءات الكُلِّية، وهذه قد تكون بالنسبة إلى بعضنا نقطة صغيرة، لكنها بالنسبة إليَّ أساسية، فهي مسألة إيجابية بين قوسين، ومن خلالها يمكن أن نحذر.

يوسف فخر الدين:
أنا متفق معك، وأنت بالفعل تطرح هذه الفكرة في سياق مهم، ومن الضروري أن نأخذها في الحسبان، ونحن في حاجة إلى الحوار مرة ومرتين وثلاث، لكني أشعر أن هذه المحاذير أنت تعطيها مساحة أوسع قليلًا، وكأنك تحني العصا، فتضعف المسائل الأخرى التي هي مهمة أيضًا، فكيف نحقق التوازن بين هذه المحاذير والمسائل الأخرى؟
هذه هي مهمة الحوار الذي نخوضه، لكننا في المجمل بهذا الصدد متفقان ولسنا مختلفين. تفضل راتب.

راتب شعبو:
شكرًا.
أنا أرى أن لدى حسام نزعة تفاؤلية جيدة بخصوص موضوع الوطنية والاقتراب منها أكثر بعد الثورة، لكن يبدو لي أيضًا أن حسام محتفظ في ذهنه بلحظة ما من الثورة، ومن المفروض أن ينفتح أكثر على ما تلا هذه اللحظة.
حسام يذكر في ورقته مثلًا، وهذا الأمر أذكره كمؤشر، أنه يوجد هناك معارضون/ثائرون ومؤيدون/شبيحة، وهذا مؤشر على أن هناك لحظة من الثورة تجاوزها الزمن، لكن لم يتجاوزها حسام.
لا أفهم كيف يمكن أن نكون اليوم أقرب إلى الوطنية مما كنا عليه في الـ 2011 إذا كان حسام يرى أن الفرد الحر هو المنطلق، وإذا كانت الطائفية قد تعززت على جثة هذا الفرد الحر. ألا يوجد تناقض هنا؟
إذا كان الاقتراب من الوطنية يتطلب وجود الأفراد الأحرار، وإذا كانت النزعة الطائفية والقومية والانتماءات اللاوطنية أو دون الوطنية هي التي تعززت الآن، فكيف نجد أننا نقترب أكثر من الوطنية السورية؟
على أي حال، بخصوص السؤال الذي طرحه يوسف: هل يمكن التفكير في الوطنية ضمن سياق–كما قال عنه–ليّن أو إبداعي، وأن نتحدث عن وطنية تفاوضية، فإننا إذا خرجنا قليلًا من التنظير وانطلقنا من واقع الحال في سورية اليوم، قد نصاب في تفاؤلنا أكثر.
اليوم، الكيانات المتوضعة في سورية تحقق تماسكها بقوة اللاوطنية، وبقوة إحياء العصبيات الدنيا، هذا هو الواقع، من نظام الأسد إلى المنطقة الكردية إلى المنطقة المجاورة لتركيا إلى الجنوب.
ونحن الآن في اتجاه حل سياسي – بين قوسين – لن يأخذ في الحسبان كل تنظيرنا الذي نتكلم به الآن، ولكن إذا جئنا إلى الواقع فإن بعض بذور الأمل التي حاول أن يتلمسها على سبيل المثال عبد المجيد في حالة الإجماع على حاتم علي، وحاول أن يتلمسها مضر في حديثه عن الألم وكونه مدخلًا للعمومية وما إلى ذلك، فأنا ومن وجهة نظري لم يقنعني هذا الكلام، ليس لأنني متشائم بطبعي، لكن يبدو لي أن الواقع لا يسمح بهذا التفاؤل.
الآن، ما يمكنني أن أتخيله، هو أن حلًا ديمقراطيًا للوضع السوري لو حصل، أي في ما لو أتيح للسوريين اليوم أن يعبروا فعلًا بشكل ديمقراطي عن رغبتهم من دون ضغوط خارجية عليهم، لن نجد أن هناك إجماعًا سوريًا على الحالة الوطنية السورية، فهناك اليوم في الشمال السوري قوى نابذة تجاه تركيا، ولو أقمنا استفتاءً في إدلب مثلًا لوجدنا ربما أن الأغلبية مع الأتراك ويتمنون أن ينضموا إلى تركيا كحال لواء اسكندرون. هذا ما أعتقده طبعًا، ولا يمكنني تحديد النسبة بالضبط، لكن أعتقد أن الأغلبية سيذهبون في هذا الاتجاه.
الأمر ذاته في المنطقة الكردية، وفي منطقة الجنوب، وحتى في منطقة الساحل، يوجد اليوم استثمار راعب من النظام في موضوع الإسلاميين والخوف من انتقامات وما إلى ذلك، ويمكن أن يقبل الناس بأن يذهبوا مع إسرائيل على أن يذهبوا مع أولئك الذين يعتبرونهم إسلاميين… يعتبرونهم أو هذا هو الواقع، بغض النظر.
في حالة من هذا الشكل، وإذا فكرنا بها مليًا، فأنا أرى–وهذا الموضوع طرحه غيري أيضًا، فهو ليس بجديد–أن بلدًا مثل سورية بهذا التوزع الفظيع والاحتلالات الكبيرة التي فيها، تحتاج إلى وصاية في الواقع، لأنه لا توجد قوة داخلية تحقق ولو جزءًا بسيطًا من الإجماع الوطني، ولذلك نحن في حاجة إلى قوة خارجية، أي غير وطنية، بمعنى أنها ليست من الوطن، لكي تجمع هؤلاء المتشتتين المتنابذين المتكارهين إلى أقصى حدود التكاره، فمثلًا ما بين الجيش الوطني والكرد من العداوة اليوم أكثر مما هناك من عداوة بين الطرفين والنظام على سبيل المثال.
إذًا، نحن إذا أردنا أن نفكر بشكل واقعي، سنجد أننا في حاجة فعلًا إلى وصاية دولية، وإذا كان هناك طرف داخلي قادر على جمع السوريين فهو سيجمعهم حتمًا بالقوة، وليس بالديمقراطية ولا بالحريات، وسيكون الحفاظ على وحدة سورية مثل الحفاظ على وحدة كيس البطاطا: هناك كيانات ثقافية نفسية سياسية متباينة متنافرة يجمعها كيس خارجي هو حدود، كما ورد في إحدى الأوراق معترف بها دوليًا، حسنًا، الاعتراف الدولي قد ينشئ دولة لكنه لا ينشئ وطنًا.
نحن إذًا أمام أحد اتجاهين، إما اتجاه دكتاتوري وطني، يحافظ على وحدة سورية، ومن هنا فحسب تأتي وطنيته، وإما اتجاه تفاوضي كالذي طرحه يوسف كنوع من الحل الذي يقسّم سورية من دون أن يعترف بتقسيمها، أي أن تكون هناك مناطق نفوذ للدول الموجودة يتوافق عليها بشكل من الأشكال وتستمر سورية بلدًا منهكًا ودولة فاشلة تحت عنوان اللامركزية أو الفدرالية أو ما إلى ذلك، وهي عناوين جميلة، لكنها في الواقع ليست كذلك، فالكلام الآن في موضوع اللامركزية هو للضغط باتجاه تفكيك الدولة، من وجهة نظري طبعًا.
لذلك لا أستطيع الاقتناع على الإطلاق أننا أقرب إلى الوطنية السورية مما كنا من قبل، وأعتقد أن الجهد المطلوب من النخب السورية هائل جدًا، هذا وكما قال حازم إذا توافرت هذه النخب، وهي غير متوافرة، بل على العكس هي مشتتة تشتت الواقع السوري، فلا يوجد لدينا نخب تحقق حالة إجماع وطني ويمكن أن تقود فعلًا دفة هذا البلد الممزق إلى شيء من التماسك المأمول.
أتمنى أن يُوجد حل سحري أو إعجازي، لكن…
هناك فكرة أخيرة أريد الحديث عنها، بخصوص مسألة التطمينات التي تم طرحها، إن مجرد وجود أحد في حاجة إلى تطمين هي مشكلة بحد ذاتها، فإذا كان للمرض أعراض وعلامات، فإن هذا من أعراض مرض الوطنية السورية التي لم نتقدم خطوة في اتجاهها بل رجعنا خطوات إلى الوراء أمام إمكان معالجتها.

حازم نهار:
في سياق الحديث عن الوطنية السورية، من حيث هل هي تطورت بعد الثورة أم تراجعت، أنا أعتقد أنه يمكن الحديث هنا عن مسارين كي نكوِّن صورة أشمل.
أنا مع حسام في قضية ألا نحصر تقدم أو تأخر الوطنية السورية بمسألة الطوائف والإثنيات، إنما توجد جوانب مهمة أخرى تحدد المسألة الوطنية، حيث انسجامًا مع فهمنا الذي تحدثنا فيه بأن الوطنية هي صفة للدولة، فأنا أعتقد أنه توجد اليوم نسبة كبيرة من السوريين أصبحت تنظر إلى المسألة الوطنية بعيدًا عن النظام السوري الذي كان يحتكر صفة الوطنية، فقبل الثورة كانت هذه المسألة تصب عند السلطة، وهي التي تحدد من هو وطني ومن هو غير وطني، وكانت السلطة هي ممثلة الدولة السورية، ومن ثمّ، الممثل الوطني للسوريين.
أنا أعتقد أن وجود عدد من السوريين الذين تجاوزوا النظام، أو وضعوه خلفهم في رؤيتهم إلى المسألة الوطنية على قاعدة اكتشافهم لحرياتهم هي مسألة مهمة ويمكن التأسيس عليها، فمقابل سورية الأسد أصبح هناك حديث يجري اليوم حول الوطنية السورية، وهذا في رأيي أمر مهم على صعيد اكتشاف الأفراد لهوياتهم، وعلى صعيد التفكير بطبيعة وشكل الدولة المستقبلية.
أعتقد أنه يوجد اليوم أكثرية من السوريين لم تعد تقتنع بأن الدولة يجب أن تكون دولة حصرية أو مغلقة على فرد، أو على حزب سياسي، أو على أيديولوجيا محددة.
وفي سياق آخر، هو السياق الذي تحدث عنه راتب، بالتأكيد هناك تراجع إذا أخذنا في الحسبان ما يجري على أرض الواقع من نمو للانتماءات الطائفية والانتماءات الإثنية، ونموها بطريقة متعارضة نظريًا وعمليًا مع مسألة الوطنية السورية. هذا صحيح بالتأكيد، والخوف أنه إذا استمر الواقع السوري وطال على ما هو عليه، فإن هذه الكيانات غير المعترف عليها والتي لديها مناطق نفوذ وجماعات مسلحة وتجري تغيرات على الأرض، إن كان على مستوى العلاقات مع الدول الإقليمية، أو على مستوى مناهج التعليم، أو على مستوى الأداء السياسي، من الممكن أن تنتج هويات تتبلور على الضد من فكرة الوطنية السورية.
فأنا أعتقد أنه في الحديث عن مسألة اكتشاف تقدم أو تأخر النزعة الوطنية، يجب أن يكون لدينا رؤية تحاول أن تحوط بكل هذه المسائل.
أما بالنسبة إلى مسألة الهوية التفاوضية، لا أدري لماذا أشعر في هذه المسألة تحديدًا أن الهوية التفاوضية هي على الضد من فكرة الوطنية، فإذا أخذنا مثلًا مسألة التطمينات، أي أن لدينا أطراف تطمئن، وأطراف تنتظر الطمأنة، سواء أكانت إثنيات أم طوائف، فإني كنت أرى دائمًا وما زلت، أن هذه الصيغة من التعاطي مع الموضوع نافية لفكرة الوطنية السورية، ولفكرة الدولة الوطنية، ولفكرة الاندماج الوطني على أرضية التنوع، حيث إن من ينتظر التطمينات يشعر ضمنيًا أنه مواطن من الدرجة الثانية وفي حاجة إلى من يطمئنه، كما أن من يبادر ويقدم التطمينات يشعر بأنه صاحب البلد ومالكها، ويشعر أن من واجبه أن يقدم التطمينات للأطراف الأخرى. أي أعتقد أن هذه الصيغة من الجانبين فيها كسر لفكرة المواطنة وفكرة المساواة في المواطنة.
لكن إذا كان المقصود بالجانب التفاوضي هو الآتي: أنه توجد في الحصيلة قوى على الأرض ويجب أن يحصل تفاوض في هذا الاتجاه، فأنا أعتقد أنه سيحصل، فمثلًا لدينا اليوم مشروع (قسد) وتوجد ضغوط دولية، وأميركية خصوصًا، نحو حدوث حوار بين (قسد) و(الائتلاف الوطني) الذي يرفض حتى الآن نتيجة إملاءات تركية أو غيرها.
أنا أعتقد أنه، في الحصيلة، ستحصل تفاوضات بين قوى الأمر الواقع، ولا سيما في ظل عدم وجود قوى داخلية أخرى من الممكن أن تقدم مشروعًا له وزن يتجاوز هذه المشاريع الموجودة، وهذه التفاوضات أعتقد أنه سينوبها شيء من فكرة المحاصصة، أو توزيع النفوذ أو الصلاحيات أو القدرات، وأنا أعتقد أن هذا الأمر، على الرغم من خطورته، سيكون في منزلة مدخل.
نحن الواقفون على طرف، ننظر إلى هذا الأمر أنه يتنافى مع الوطنية السورية، لكن حقيقةً لا يوجد مدخل إلا من خلال دخول هذه القوى، في الحصيلة، في حوارات على الرغم من كل ملاحظاتنا عليها، وعندما نتحدث عن المسألة الوطنية السورية وطموحنا المستقبلي للبلد، فإنني أعتقد أنها لن تتشكل دفعة واحدة، وسيكون الأمر على مراحل، فيه بعض من هذه التفاوضات وأشكال المحاصصات، ويصبح السؤال السياسي والواقعي عندئذٍ: كيف يمكن أن يجري التأثير في هذه المفاوضات للحد من آثارها السلبية؟ أو لمحاولة تقريبها قدر الإمكان من اتجاه بناء الدولة الوطنية السورية؟ وهذا سؤال سياسي يحتاج إلى أن يُفكّر فيه.
أريد أن أختلف مع راتب حول مسألة الإجماع الوطني، أو أي حالة استفتاء تحصل في الواقع السوري، فالواقع السوري اليوم، وفي ظل كل هذه التأثيرات الداخلية في المستوى الاقتصادي، والخارجية على المستوى الإقليمي والمستوى الدولي، وعلى مستوى الآلام التي حصلت، وظروف السوريين، أعتقد أن أي رأي يتحدث به السوريون العاديون ممن هم خارج إطار القوى السياسية والفصائل والمثقفين وغير ذلك، هو رأي متأثر بالتأكيد باللحظة الراهنة.
لكن دعوني أضع احتمالًا أود من خلاله التدليل على الفكرة التي أريد أن أتحدث فيها: لنفترض أنه فجأةً ولسببٍ ما سقط رأس النظام، أعتقد أن كثيرًا من الآراء لدى شريحة واسعة من السوريين من الممكن أن يحدث فيها تغيير.
أو إذا قرر الأميركان أن يفعلوا شيئًا ما من الممكن أن يخدم مسار دولة وطنية، أعتقد أيضًا أن أمزجة الناس وآراءهم من الممكن أن تتغير.
هذا من ناحية ارتباط آراء الناس بالواقع وبالأحداث التي من الممكن أن تحصل.
لكن أيضًا بإمكاننا أن نفكر في آراء الناس وأمزجتهم من حيث المصلحة المباشرة للمواطن العادي، وأعتقد هنا أن أغلبية السوريين في حاجة إلى أن ينتهي ما أصبح يسمى أزمة، وأن الأغلبية أميل إلى فكرة وجود دولة، خصوصًا بعد اكتشافهم لمعضلات أو لمشكلات أو لسلبيات غياب الدولة.
فالسوريون اليوم، أكانوا موالين أم معارضين أم غير ذلك، أعتقد أنهم وصلوا إلى مرحلة شعروا فيها بغياب الدولة، في ظل الوضع الاقتصادي الكارثي وتنصل الدولة عن القيام بواجباتها ومهماتها تجاههم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السوريين الذين يعيشون في الشمال الغربي أو في أي منطقة أخرى، أو بالنسبة إلى السوريين خارج سورية، يوجد شعور عام بغياب الدولة.
لذلك أعتقد أن القسم الأكبر من السوريين، لديهم الشعور الكامن بمسألة فقدان الدولة، وبالرغبة في أن يُوجدوا في دولة بعد هذا الغياب أو الفقدان للدولة، فكيف إذا حصلت تطورات أو تغيرات في هذا الاتجاه؟
أما بالنسبة إلى الحلول الأخرى، مثل اللامركزية أو الفدرالية، فيمكن أن نتحدث فيها في أطر أخرى، لكن كما أشير في مداخلة سابقة، فإن فكرة اللامركزية أو الفدرالية تأتي اليوم في سياق تهشم الدولة وتهشم المجتمع السوري، لذلك فإنها في اللحظة الحالية وضمن المفاهيم السائدة لن تساعد إلا في زيادة الانقسام والتشظي، سواء على مستوى الجغرافيا أو على مستوى المجتمع السوري.

عماد العبار:
لقد تحدث الشباب في أغلب النقاط التي كنت أريد الحديث فيها.
أنا أميل أكثر إلى رأي راتب بخصوص تأثير الثورة والحرب التي حصلت بعدها في الهوية السورية، ففي الواقع الوضع أصبح أسوأ مما كان عليه من قبل، حيث وفي فترة سيطرة نظام الأسد على سورية كانت المشكلة تكمن في وجود نظام دكتاتوري غير وطني، وكان من الممكن من خلال معارضة أو حركة إصلاح أو توعية شعبية تحديد المسائل بحكم أن لديك عدوًا واضحًا يمثل الطرف الآخر الذي ترمي عليه كل الحمولة السلبية، بحيث أن كل معاني اللاوطنية يمكن أن تقدم عنها أمثلة من خلال النظام نفسه، أما حاليًا فالمشكلة أنه أصبحت لدينا عدة أطراف بانتماءات مختلفة ومشاريع متعارضة مع بعضها بعضًا، فمشروع (قسد) مختلف عن مشروع (الجيش الوطني) ومتعارض معه، والمشروعان متعارضان مع مشروع نظام الأسد بطبيعة الحال.
أما الكلام عن الطمأنة، فهو كلام يسخف القضية الوطنية كلها، وساهم في تسخيف خطاب الثورة نفسه عندما تحول إلى حوار أكثرية وأقليات، وطرف يطمئن، وطرف في حاجة إلى طمأنة، وأنا أتصور أن البديل عن هذا الخطاب وعن هذا المنهج في التفكير هو البحث عن هوية وطنية تفاعلية وتشاركية، وليس عن وطنية يكون فيها طرف قوي، أو أكثرية تكون مطالبة بأن تعطي تطمينات لأقليات أضعف منها. هذا الموضوع أعتقد أنه من الضروري التركيز عليه.
أما موضوع المركزية واللامركزية والفدرالية، لا أعرف إن كان سيتم طرحه في حوار آخر، لكني سأقول رأيي باختصار:
أنا أرى أن الحديث عن المركزية في وضعنا الحالي هو نوع من التكاذب، ونحن أصلًا لسنا في وضع يؤهلنا للحديث عن مركزية الدولة أو لامركزيتها، بل نحن في مستوى آخر تمامًا، ونحن عند حالة اللادولة التي فيها تقسيم غير معلن، ومن ثمّ، فإن الحديث عن اللامركزية هو عبارة عن شرعنة وإعطاء أحقية للمنادين بالانفصال أو الفدراليات، وهذا الكلام بعيد عن واقع سورية، فسورية لا تقبل التقسيم بهذا المعنى.

مضر الدبس:
في بداية الثورة طُرِح شعار مهم جدًا، هو شعار “الشعب السوري واحد”، كان هذا الأمر بتقديري في منزلة إدراك من عموم الشارع السوري لمسألة مهمة جدًا، هي أن الثورة حالة بناء لهذا الشعب، والحاجة إلى وحدته، وفي رأيي فإن هذا الخطاب كان وطنيًا جدًا ومتقدمًا عن حالة الوحدة المزيفة التي كانت مدركة في العقل الباطن الذي كان يحرك الشارع.
أما المسألة الثانية، فهي أنه كان هناك استشعار كما تفضل دكتور حازم لحقيقة أن هذا النظام يحتكر مفهوم الوطنية، وأنه يبني هذه الوطنية ليس على شعب واحد، بل على تجزيء هذا الشعب، وفصله عن بعضه بعضًا من خلال تكريسه كجماعات.
أمام هذا الواقع، عندما يُطرَح شعار طمأنة الأقليات، فهذه مصيبة، وأقل ما يمكن قوله عن ذلك إنه خطأ سياسي فادح، وعمليًا هذا الشعار، إذا لم يكن قد ابتُكِر في الوسط السياسي أو من خلال النخبة السياسية بين قوسين، فإنها على أقل تقدير سوقت له، وجعلته معروفًا ومتداولًا أكثر.
وهذا كان خطًا سياسيًا فادحًا، من جانب أن هذا الخطاب هو فعلًا خطاب مضاد للحالة الوطنية التي تتكون وتُبتَكَر، وأصلًا فكرة الأقليات بالعموم وفي مسار التفكير الوطني لا يمكن أن تُبنَى على المعنى المذهبي أو الطائفي الذي اشتملت عليه فكرة طمأنة الأقليات.
وللأسف ما زالت هذه المقاربات تشكل عثرة دائمة في مسار المشروع الوطني السوري.
وأوافق فعلًا على فكرة أن المشكلة ليست في شكل الحوكمة في سورية، سواء الشكل الفدرالي أو اللامركزي أو المركزي، بل إن الأجدى هو بحث شكل التعاقد وشكل الحياة السياسية التي من الممكن أن يتم صناعتها في سورية.
لن أتكلم كثيرًا في هذا الموضوع حتى لا أكرر أفكارًا ذُكِرَت في المداخلات السابقة، لكن سأضيف فكرة صغيرة فحسب:
بلا شك، إن تأسيس الوطنية السورية يجب أن يكون على مفهوم الفرد، لكن تأسيس الوطنية السورية على مفهوم الفرد يُفهَم منه ضمنًا أن مفهوم الفرد، بمعنى الفرد الحر، قد تم إنجازه، وفي الحقيقة الفرد السوري ما زال بعيدًا عن هذا المفهوم، وما زال الفرد السوري غير موجود، لذلك فإن طريقة مقاربة الوطنية من هذا الباب أعتقد أنها ستصطدم بعقبات كثيرة أخرى.

عبد المجيد عقيل:
شكرًا لحضراتكم جميعًا على المداخلات الغنية.
بما أن الحديث انتقل وتركّز في معظم المداخلات الأخيرة على مسألة إن كانت الحالة الوطنية قد تقدمت أم تراجعت بعد الثورة أو الانفجار الشعبي أو مهما كانت التسمية، فإنني أشير هنا إلى أن الدكتور حسام، في الحقيقة، قد جمع في بداية مداخلته بين كلامي وكلام د. راتب من جانب أن الحالة الوطنية قد تراجعت، وفي الحقيقة ليس هذا ما كتبته في الورقة، وليس هذا رأيي، بل على العكس تمامًا، إن رأيي أقرب إلى رأي د. حسام والآراء التي ذهبت في هذا الاتجاه.
كنت قد قلت في مداخلة سابقة رأيي في أننا لا يمكن أن نقول عن نظام إنه دكتاتوري، وفي الوقت نفسه إنه وطني، بحسب المفهوم الحداثي للوطنية على أقل تقدير، ومن ثمّ، أنا لا أرى أنه في ظل الحكم الاستبدادي في سورية كانت هناك حالة وطنية أساسًا، إنما كانت هذه الحالة غائبة كليًا، وتم تذويب مفهوم الوطنية ضمن بوتقة مفهوم الولاء للنظام الحاكم والسلطة الحاكمة وشخص رئيس هذا النظام، مع كل المقتضيات المرتبطة بحالة الولاء هذه، وكل الحدود الضيقة التي تحدِّد ما يُعتبَر موقفًا وطنيًا بحسب معايير السلطة الحاكمة.
وفي الوقت نفسه، فإن الانتماء إلى الهويات، أو لنقل التعصب للهويات ما دون الوطنية، هو أمر كان حاضرًا أيضًا في ظل الحكم الاستبدادي في سورية، ولكن إما بشكل مستتر، أو كان يعشش في اللاوعي لدى الأفراد والجماعات، وكانت السلطة الاستبدادية قائمة على تعزيز هذه التناقضات واللعب عليها.
إذًا المرض كان موجودًا أساسًا، فإذا تناولنا الأمر من جانب أن الوطنية لا تتسق مع الدكتاتورية، فإن الحالة الوطنية لم تكن موجودة في سورية قبل الثورة، وإذا تناولنا الأمر من باب التعصب للطوائف والقوميات، فإن هذا الأمر أيضًا كان حاضرًا، وكانت هناك مشاعر سلبية مرتبطة بمظلوميات معينة أو كراهية مستترة للآخر أو فهم مغلوط عن الآخر، لكنها كانت كامنة، وما حدث بعد الثورة أنها تفجَّرت وظهرت إلى العلن، وبالتأكيد تفاقمت قليلًا أو كثيرًا.
وأنا هنا لا أريد مقاربة الأمر لا من منظور تفاؤلي ولا من منظور تشاؤمي، حيث إن تفاقم هذه الأعراض بعد قيام الثورة، يمكن أن ننظر إليه من منظار متشائم ونقول إنه دليل على تقدم المرض واستفحاله ومن ثمّ، الذهاب إلى الموت في آخر الأمر، ويمكن أن ننظر إليه أيضًا من منظور إيجابي من باب أن ظهور هذه الأعراض يعني أنه أصبح بإمكاننا تشخيص المرض، ومن ثمّ، معالجته.
لكن القضية هنا ليست قضية تفاؤل أو تشاؤم، لأن المطلوب أساسًا ليس التوصيف أو التحليل، بل إن المطلوب في الثقافة والمطلوب في الفكر هو خلق مفاهيم لإحداث تغيير ما، وهذا التغيير أصبح من الممكن اليوم إنجازه، وإن كنت أود أن أشير إلى قناعتي في أن الحالة الوطنية قد تكون حاضرة كرغبة كامنة لدى كتلة بشرية كبيرة جدًا من السوريين، وهو الأمر الذي قد لا نلحظه عندما ننظر إلى المشهد من منظار قوى الأمر الواقع والفصائل العسكرية وأجهزة الإعلام وكتابات الناشطين على مواقع التواصل، فهذا كله قد يغشنا، لأن هناك كتلة بشرية كبيرة جدًا من السوريين العاديين هم أقرب إلى البساطة، وحتى لو فكر بعضهم في أنهم يفضلون الذهاب باتجاه الانضمام لتركيا أو ما شابه من مقاربات وطروحات، فإن هذا لا ينبع عن نمط تفكير إيديولوجي لدى أغلبية السوريين العاديين في رأيي، بل ينبع من رغبتهم في حياة أفضل والخلاص من الواقع الكارثي الحالي الذي يعيشون فيه، ولو وجدوا أن مصلحتهم تتحقق في الدولة الوطنية إذا توافر هذا الخيار فإنهم سيكونون مع هذه الدولة الوطنية.
لكن، وأقول مرةً أخرى، بصرف النظر عن قضية التفاؤل والتشاؤم، فإن فكرتي هي أنه أصبح بالإمكان اليوم العمل على تعويم فكرة الوطنية السورية، وهو ما كان متعذرًا في زمن الاستبداد، وهنا أريد الانتقال إلى القسم الأخير من مداخلتي.
يحاول المنتمون إلى خندق “المعارضة والثورة” تعميم فكرة “الثورية”، وانتهاج مقاربات مثل أن على الناس في سورية أن يخرجوا إلى الشارع في ثورة جياع، أو ثورة ثانية في العموم، ومقاربات من هذا القبيل، لكني أرى أن الأصح والأكثر جدوى والأكثر واقعيةً هو تعويم وتعميم فكرة الوطنية بعد صقل هذه الفكرة بجهد فكري وثقافي وإعلامي وتوعوي، فصحيح أن الوطنية كما أشرت سابقًا مرتبطة بالحيادية بحسب وجهة نظري، لكن هذا يكون في حالة الدولة الديمقراطية الحداثية الناجزة، إذ تتلازم الحيادية مع صفة الدولة الوظيفية، أما في ظل ظرفنا الحالي فالفكرة الوطنية في حدّ ذاتها فكرة ثورية، لأنها تناقض الاستبداد وتناقض الطائفية وتناقض المقاربات الإثنية في ما يخص بناء الدولة، فهي فكرة انقلابية على الواقع الكارثي الحالي، تشتمل على موقف صارم، لكنه على صرامته وحدّيته هو موقف مبدئي قيمي، لا يشترط موقفًا سياسيًا علنيًا قد يكون متعذرًا على أغلبية السوريين، بل يشتمل على قناعة مبدئية تمنح صاحبها مظلة واسعة في التعبير عنها بالكلام أو السلوك أو العمل أو أحيانًا الصمت عوضًا عن تبرير ما هو خطأ أو ما يناقض هذه الوطنية.
إذًا الحديث عن تعويم الفكرة الوطنية هو حديث عن خيار واقعي، وفي الوقت نفسه هو خيار يمكن المراهنة على إحداثه تأثيرًا تراكميًا كبيرًا يفتت البنى الاستبدادية والإقصائية والإجرامية التي عانى منها السوريون في السنوات الأخيرة بأصنافها كافة، لأنه كما يقول د. حازم، إن وراء كل ممارسة فكرة نظرية تغذيها أو تفسرها أو تبررها، لذلك أقول هنا: فلنجعل الممارسات النقيضة للحالة الوطنية، والتي تشكل عائقًا أمام قيام الدولة الوطنية منفلتة من الوعي الجمعي السوري، لتنعزل وتموت تدريجيًا.

يوسف فخر الدين:
في جولة أخيرة، آمل أن يركز فيها كل مشارك على أن يقدم وجهة نظره، أكثر من التعقيب على وجهات النظر الأخرى، دعونا نتحدث كيف نتصور أنه يمكن أن يكون هناك تجسد وطني سياسي معارض في الفترة المقبلة.
أي، من الممكن أن يكون الحديث عن مستوى أو عمل تنظيمي بالتأكيد، لكن الأهم هو الحديث عن الأمر على مستوى مبادرة سياسية.
لقد تحدثنا عن موضوع الفدرالية، أو مررنا عليه، وتحدثنا عن موضوع التفاوض بالحدود التي أثارت اهتمامكم، وهي الموضوعات التي، في اعتقادي، منذ بداية الثورة أو بعد بدايتها بقليل، وبمجرد أن طُرِحَت فكرة أن النظام من الممكن أن يسقط، طفت إلى السطح وعبّرت عن نفسها، مع كل الهواجس والمخاوف والمصالح والتصورات عن المصالح المختلفة.
من الممكن أن يكون هناك رأي لأحدهم أن فكرة التطمينات هي فكرة فيها تسخيف للقضية الوطنية، وهذا رأي، لكن من طالب بتطمينات انطلق من الواقع ولم يطرح فكرة نظرية، لأنه كان خائفًا بالفعل. هل هو كما قال راتب مؤشر على الوضع الوطني السيء؟ ممكن، لكنه واقع سياسي محدد، وأنا شخصيًا كنت أطالب بتطمينات، لأني كنت مرعوبًا، منذ نهاية الـ 2012 تحديدًا، وكنت أطلب هذه التطمينات من قوى سياسية كانت شرسة في قتالها من أجل احتكار القرار المعارض والسيطرة على الأرض.
اليوم إذا أردنا التفكير بواقعية أمام حالة الصراع المستمر، التي وفي مكان ما عند مستوياتها التحتية، هي جماعات وناس قلقة وغير مرتاحة ولا تعتبر أن القوى السياسية الموجودة تعبر عنها، وخائفة من الجهاديين، أو خائفة من الإسلام السياسي، أو خائفة من العلمانيين… إلخ.
في ظل هذا الوضع، كيف يمكن أن يكون لدينا رؤية أو تصور أو مبادرة أو تفكير أو قوى سياسية أو أي شيء من هذا القبيل، أقرب إلى أن يكون وطنيًا وديمقراطيًا في المرحلة المقبلة.

حسام الدين درويش:
عندما يُطرَح سؤال ما العمل، فأنا فورًا أسأل نفسي ما العمل لأهرب من هذا السؤال، بمعنى أن هناك شعورًا بالعجز، لذلك دعوني أقر أولًا بهذا العجز، وبأنه لا توجد لدي صورة واضحة حول ما العمل.
أنا في الحقيقة أعمل بمبدأ “قل واعملوا” بمعنى أنه إذا كان هناك شيء إيجابي، فأنا أحاول أن أقوم به، من دون أن أفكر بالجدوى، بل أفكر أكثر بالمعنى، أي إذا كانت هناك قيمة مبدئية في ما أفعله أقدم على هذا العمل، الذي ربما لو فكرت بالجدوى لما أقدمت عليه.
إذًا، أنا لست مؤهلًا في الحقيقة للإجابة عن هذا السؤال، وليست لدي الرغبة في أن أشرح كثيرًا لماذا حتى لا أثير مسائل لا توجد لدي رغبة في أن أثيرها.
لكن من الممكن أنه لدي رغبة، أو يوجد لدي شعور، أو زعم، بأنه يمكن لي أن أناقش قليلًا فكرة معينة، ولو أنه كان من المفترض أن يكون هذا الكلام في المرحلة الأولى من النقاش، لكن النقاش هو بالتأكيد في منزلة دورة، خطوة للوراء وخطوة للأمام، وهذه الفكرة هي حول توصيف الوضع بخصوص تراجع أو تقدم حالة الوطنية السورية.
الفكرة التي لاحظتها، والتي أطرح من خلالها سؤالًا هو “لماذا”: لماذا أحيانًا نتبنى الفكر الأحادي ونتناول جانبًا واحدًا؟
أنا لم أقل إن الوطنية السورية اليوم أفضل أو أسوأ مما كانت عليه من قبل، لكن ما قلته هو أنه ليس فحسب المظاهر الأسوأ هي التي ظهرت، أي بمعنى آخر من الممكن أن 90 في المئة أصبحت أسوأ، كمًا وكيفًا، لكني قلت أن هناك أشياء إيجابية ظهرت أيضًا وتستحق أن تُذكَر، وعدم ذكرها يطرح سؤال لماذا، ويطرح سؤالًا حول كيف نفكر في هذه الوطنية وننظر إليها؟
هذا يدل على أننا نفكر في الوطنية عبر منظور جماعاتي، أي طائفي أو إثني أو غير ذلك، وهل هذه الطوائف والإثنيات والجماعات أصبحت تحب بعضها بعضًا أكثر من قبل أم أقل، ويدل على أننا لا نفكر في الأفراد من جانب أنهم أصبحوا أحرارًا وأصبح بإمكانهم عقد مثل هذه الجلسة التي كان عقدها مستحيلًا وكانت موضوعاتها غير مطروحة أبدًا في السابق كما قال د. حازم.
هذا يدل على أننا لا نفكر في أفراد أصبحوا يشعرون بالانتماء إلى سورية، ويتحدثون عن هذا الانتماء، ويتناقشون حوله، ويتفقون أو يختلفون فيه.
ما أريد قوله، هو أن عدم ذكر أي إيجابية والتركيز فحسب على الموضوع الجماعاتي هو أمر في حاجة إلى التفكيك، وإن تناولي للموضوع هو من هذه الناحية بصرف النظر إن كانت الوطنية قد تقدمت أو تراجعت.

يوسف فخر الدين:
أي، هل من الممكن أن يكون تصورك عن المرحلة المقبلة دكتور حسام أنه يفترض من الوطنيين الديمقراطيين السوريين التركيز أكثر على الفرد، ليكون هذا هو العمل المنشود في الفترة المقبلة؟ من زاويتك ورأيك الشخصي طبعًا.

حسام الدين درويش:
من زاويتي، وبالنسبة إليّ، إذا كانت هناك إيجابيات يجب التركيز عليها، أما الاقتصار على أننا في وضع يرثى له أو أسوأ من ذي قبل، أو أننا عاجزون عن فعل أي شيء، دعونا نقول هنا إن في القول فعل، وإن بث المسائل السلبية في هذا السياق هو أمر غير مفيد.
أي شيء إيجابي يمكن أن نقوم به فلنقم به تجاه هذه المسائل، عبر النقاش الفردي أو الثنائي أو الجماعي، لكن من الصعب أن نحاجج في إمكان التعويل على مسألة الجدوى أو ما شابه ذلك.
أما النقطة الثانية والتي أريد أن أختم بها، فهي أن محاكمة السوريين لأنفسهم هي محاكمة مجحفة في هذه الظروف، أي دعونا نفكر كيف من الممكن للفلاسفة أو المفكرين أو كيف يمكن لنا نحن أنفسنا أن نفكر في الإنسان عندما تنعدم الحالة المدنية ولا يكون هناك دولة أو تعاقد أو نظام لعلاقة الأفراد ببعضهم بعضًا، كيف تصور الفلاسفة الأمر؟
إن أقوى مثال هنا هو مثال هوبز عندما قال إن الإنسان ذئب للإنسان، بمعنى أنهم سيكونون همجيين ولن يكون هناك أي شيء حضاري، وفي الحالة السورية نحن بالفعل في حالة تغيب عنها المدنية وتغيب عنها المؤسسات المدنية التي يفترض بها أن تنظم العلاقات بين البشر، وبسبب ذلك ظهرت الكثير من الأشياء السلبية التي قد لا نختلف عليها، لكن ومع ذلك ظهرت الكثير من الأشياء الإيجابية، إلا أنه عندما يرد مثلًا في إحدى الأوراق عبارة “نقص الفكرة الجامعة” وأنه لا يوجد ما يجمع السوريين، فإن هذه العبارة وكأنها تذهب إلى أن السوريين لديهم نقص، وهذا النقص هو السبب في الحالة التي وصلوا إليها، أما الفكرة التي أريد قولها حتى لا نحمل أنفسنا ما لا طاقة لنا به، فهي كالتالي:
ما حصل لنا في هذا الظرف، بحسب قراءاتي لمن نظّر في فكرة العقد الاجتماعي والحالة المدنية والدولة، هو أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان في مثل هكذا ظرف، أي لو كان هوبز حيًا وشهد على واقع السوريين في هذا الظرف لكان عدل نظريته وقال إن الإنسان ليس بالضرورة ذئبًا، بل من الناس من يمكن أن يكونوا ملائكة.
إذًا وعلى الرغم من هذه الحالة الوحشية التي تخيلناها عندما تزول الدولة ويتعرض البشر لهذا القدر من العنف، فإن هذه الحرب ليس فحسب أظهرت أسوأ ما فينا وخلقت أبشع ما يمكن أن يُخلَق، إنما هي خلقت وأظهرت أفضل ما فينا أيضًا.
ما أريد قوله هو أنه من الخطأ التركيز على الجانب السلبي فحسب، وأنه لا حول لنا ولا قوة، وأنه ليس لدينا فكرة، ولا مدنية، وأننا طائفيون، وجماعاتيون، وما إلى ذلك، فهذه الأفكار صحيحة وخاطئة في الوقت نفسه؛ صحيحة لأنها تتناول حالة موجودة بالفعل، وخاطئة لأنها تقع في مطب التعميم وتتجاهل الوجه الآخر من المسألة.
نقطة أخيرة في نصف دقيقة، بخصوص استحضار التاريخ، لا مشكلة في استحضار التاريخ لبناء فكرة إيجابية جامعة، أما استحضار التاريخ من منظار عروبي أو إسلامي أو سني أو علوي أو كردي أو عربي، فهو غالبًا سيؤدي إلى نتائج سيئة.
وأريد هنا أن أضيف نقطة بخصوص مسألة الهوية، حيث أرى أنه لا توجد ضرورة، وبالعكس قد يكون من السيء أن نتحدث في مسألة الهوية، فالوطنية لا تستلزم الحديث في الهوية، خصوصًا أن فكرتنا عن الهوية هي فكرة أحادية جدًا وضيقة جدًا وإقصائية جدًا واختلافية جدًا، عوضًا عن أن تكون هوية متغايرة ومتعددة الأبعاد وما إلى هنالك.
وآسف جدًا على الإطالة.

يوسف فخر الدين:
شكرًا لك.
قبل المتابعة في جولة الحوار الأخيرة، أنا أتفهم تمامًا أن الموضوع ساخن، وأن الرغبة في الحوار ما زالت وكأننا بدأنا توًّا، فالموضوعات التي نناقشها كلها مهمة، وآمل أن نعود لها في مناسبات لاحقة، لكن الساعات الثلاث المخصصة للجلسة على وشك الانتهاء، لذلك دعونا نقاوم الرغبة في الرد على بعضنا، بحيث يطرح كل مشارك فكرة أخيرة في أربع دقائق فقط لكل مشارك يعرض من خلالها كيف هو شخصيًا يتصور الأمر.
وطبعًا المشاركة الأخيرة للدكتور حسام يمكن القول إنها تأتي في هذا السياق الإيجابي، من حيث تعبيره عن رؤيته أنه يجب في الفترة المقبلة العمل على الشيء الفردي وعلى كذا وكذا.
وهذه المسألة تساعدنا على الخلوص إلى ما يشبه التوصيات، فليس المطلوب هو تمامًا توصيات، لكن على الأقل شيء ما نتكئ عليه، ويستفيد منه قارئنا السياسي، فهذا العدد من المجلة كما تحدث عدد منكم هو بحد ذاته له قيمة وطنية من جانب أنه سيصل إلى السوريين وسيقدم لهم أفكارًا، وهو أمر جيد جدًا، كما أنه من الجيد أن نقوم بإيصال بعض الأفكار الإيجابية حول أشياء يمكننا عملها، وقد نحتاج بالتأكيد إلى جلسات تالية.
بهذه الطريقة الإيجابية آمل أن نواصل، ما رأيك راتب؟

راتب شعبو:
أنا أتفق مع حسام على أنه يجب علينا رؤية الصورة كاملةً، لكني أخذت الجانب الغالب كما أراه.
وأتفق أيضًا أن السؤال بخصوص ما العمل هو السؤال الأثقل، ومن جهتي فأنا أرى أنه من المهم والحيوي للسوريين أن يعيدوا الاعتبار للنضال المدني، ولبناء المجتمع المدني، وأنا لا أقصد هنا بالمجتمع المدني منظمات الدعم والإغاثة، ولا الـ NGO’s التي تقوم بنشاط خدمي معين، بدعم خارجي أو محلي، لكنها تعمل ضمن إطار المنظومة السياسية القائمة، وبالتوافق معها أيضًا.
ما أعنيه عندما أتحدث عن المجتمع المدني هو الحديث عن نشاط نضالي يضع الناس أمام مسؤولياتهم حيال شروط حياتهم.
النخب يجب أن تنتبه إلى هذا الجانب، وتكف عن الرفع العالي للشأن السياسي بوصف السياسة هي العلاج لكل شيء، وأنها هي الحل الأول والمنطلق وما إلى ذلك.
في غياب هذا النوع أعتقد أن أغلب التغيرات السياسية التي من الممكن أن تحصل، وكل الحلول التي من الممكن أن نصل إليها، سوف تبقى فارغة في ما يتعلق بحماية حقوق الناس ومصالحهم وشروط حياتهم.
شكرًا.

حازم نهار:
أشارك من سبقني في أن هذا السؤال قد يكون هو بالفعل الأصعب اليوم، وهو ما يذكرني بالمريض عندما يأتي إليك بسبب إصابته بمرض ما، لكن هذا المرض تسبب بدوره في حدوث أمراض أخرى لدى صاحبه، وتجد نفسك كطبيب في آخر الأمر أمام جملة من الأمراض المتداخلة مع بعضها بعضًا، فلا تعرف من أين تبدأ.
وقد وصل الأمر في سورية منذ فترة إلى هذه الحالة الصعبة والخطرة بالفعل، وسأعود هنا للحديث عن دور النخب، الذي أتحدث فيه دائمًا، مع وعيي الكامل لمحدودية الدور الذي يمكن أن تقوم به النخب الثقافية والسياسية اليوم، لكن هذا لا يمنع من يحملون همّ بلدهم من أن يبادروا باتجاه القيام بأعمال مدنية أو أعمال سياسية أو تقديم مبادرات من الممكن أن تضيء شمعة ما، ولو بدت اليوم غير ذات جدوى، إلا أنه من الممكن أن يكون لها جدوى في المستقبل.
فمثلًا، من الإشكالات التي كانت بديهية ومتوقعة لكل ذي عقل في الـ 2011 أننا سنعاني كسوريين من إشكاليتين مهمتين: الأولى هي إشكالية علاقة الإثنيات بالدولة، والثانية هي إشكالية علاقة الدين بالدولة.
فمن يعرف سورية ويعرف تاريخنا، ويعرف مشكلات العمل السياسي، كان من الطبيعي أن يتنبأ ببروز هاتين الإشكاليتين.
هل من الصعب اليوم القيام بمبادرتين من قبل نخب سياسية وثقافية على هذين المستويين؟ ولو على مستوى وثيقة، مثل وثيقة بخصوص قضية القوميات والإثنيات في سورية، أو بخصوص علاقة الدين بالدولة.
أنا لا أتحدث عن القيام بدراسات أو أبحاث، لكن أتحدث عن مبادرات كونك تحدثت–يوسف–عن اقتراح مبادرات، فهل يصعب تقديم وجهة نظر متماسكة حول علاقة الدين بالدولة نجيب من خلالها عن بعض الأسئلة المعروفة، سواء تلك التي يطرحها الإسلاميون أو التي يطرحها العلمانيون أو التي بات يطرحها عموم السوريين في ضوء هذا الحوار؟
أعتقد أنه عندما تكون لدينا وثيقتان، إحداهما عن قضية الإثنيات، والثانية عن علاقة الدين بالدولة، يشارك فيهما مجموعة من النخب الثقافية والسياسية السورية، فأنا أرى أنها مسألة مهمة، ولو أنها لن تحل كل المعضلات وكل المشكلات التي نعاني منها، ولو أن الأمر أصبح أكبر من السوريين، وأن التأثير الأكبر صار للقوى الإقليمية والمسارات الدولية، لكن هذا في رأيي لا يمنع من أن تقوم النخب بهذه الأدوار التي تجترع من خلالها الحلول وتقدم المبادرات تجاه مسائل تشعر بأنها تشكل معضلة على مستوى الخطاب الثوري مثلًا.
ففي رأيي، لقد أصبحت هناك اليوم سمات للخطاب الثوري الحالي هي سمات قاتلة له، فهل من الممكن مثلًا أن يتم تقديم شيء ما، نقدي، للخطاب الثوري السائد أو الموجود، ومحاولة ربطه بقضية الوطنية السورية؟
أيضًا هذا الأمر لن “يشيل الزير من البير”، لكن أنا أرى أنه توجد أدوار يمكن لنا القيام بها، قد تؤتي أكلها، وقد تثمر، ومن الممكن في مراحل زمنية أخرى أن نعود إلى هذه الأفكار، أو يرجع إليها غيرنا في سياق التفكير في الخروج أو محاولات الخروج من الواقع البائس الذي نقبع فيه.
شكرًا.

عماد العبار:
في الحقيقة، عني أنا، لقد كنت أتمنى أن ينقطع اتصال الانترنت قبل أن يأتي دوري في الإجابة عن سؤال ما العمل، لأنه فعلًا سؤال صعب جدًا على أرض الواقع وفي الظروف الحالية.
طبعًا كما قال د. حازم، فإن الأمر يحتاج إلى عمل وجهد من نخب ثقافية على نطاق واسع، ويحتاج إلى خلق مبادرات لعمل تراكمي.
منذ فترة، طرحت على صفحتي سؤالًا حول الوطنية السورية، لكن بمفهومها الشعبي، وقلت لماذا نشعر كسوريين أن ارتباطنا بالوطن ضعيف، لدرجة أن الأمر وصل ببعضهم إلى كراهية الوطن وكراهية سورية بشكلها الحالي.
كان هذا السؤال موجهًا لنا نحن السوريين في الخارج، أي نحن اللاجئين والنازحين وحتى من ترك سورية قبل الثورة، فتناولت معظم الإجابات قضية استبداد النظام ومستوى الإجرام الذي حصل، من جانب أن السبب قد يكمن في هذا الأمر.
لكني عدت لأقول إن هناك شعوبًا أخرى تعرضت لشيء مماثل، وربما أكثر، لكن لم نلاحظ وجود مثل هذه الخطابات، لدرجة أن الكثير من المنشورات أصبحت تُظهِر أن بإمكاننا اليوم الحديث عن ظاهرة كاملة هي أدبيات كراهية سورية.
فمثلًا، أنا عشت فترة في الخليج تعرفت فيها إلى كثير من المصريين على مدى عدة سنوات، من المسحوقين ماديًا واجتماعيًا، لكن لم أسمع كلمة سيئة واحدة من مصري بحق مصر كشعب ومجتمع ووطن وتاريخ، ومهما حاولت أن أنشط ذاكرتي لا يمكنني أن أستحضر أكثر من شكوى من نظام أو من ظروف معينة.
لاحظت أيضًا في تجمعات الأتراك هنا في أوروبا أنه توجد رابطة قومية ووطنية تشكل هوية طاغية لدى هذه الجماعات وارتباطًا قويًا ببلدهم، مع أن بعضهم ربما غادر أهله من تركيا منذ أيام الحرب العالمية الثانية مثلًا.
والأمر ذاته بالنسبة إلى شعوب المغرب العربي.
ولذلك، فإنني عندما طرحت السؤال المذكور، فلأنني أشعر بوجود مشكلة حقيقية، حتى أن بعض السوريين الذين تنطبق عليهم هذه الحالة لم يعانِ حقيقةً من قمع النظام.
ربما هذا لا يمثّل الموضوع الذي نتحدث فيه، لكنه يمثل جانبًا من جوانبه.
ما أراه هو أن وجود تيار يتألف ولو من عشرة أشخاص، يطرح موضوع الهوية الوطنية بشكل إيجابي، ويخاطب عبرها التوجهات الموجودة على الأرض كافة، هو أمر جيد، لكن الأفضل من ذلك هو أن يترافق هذا الأمر مع عمل على المستوى الاجتماعي والثقافي لتعزيز هذه الحالة، وهذا يبدأ من توضيح مكامن المشكلة، وأنها مشكلة كبيرة فعلًا، لا يمكننا أن نختزلها بنظام الأسد من جانب أنه المسؤول الوحيد عنها.
في الحقيقة، إن الجريمة الكبرى التي ارتكبها النظام تكمن في أنه حوّل كل شيء إلى شعارات فارغة، فأصبح لدى الناس ردة فعل غير واعية تمثلت بكراهية عنيفة لسورية، لأن سورية ارتبطت لسنوات طويلة بمفهوم سورية الأسد، وكذلك كانت ردة الفعل تجاه مفاهيم مثل الوطنية والقومية والعروبة وحتى المقاومة، والتي هي قيم يمكن نقاشها وتطويرها، لكن النظام جعل منها ألاعيب للتسلق والسيطرة وما إلى ذلك.
أعتقد أننا، على المستوى الثقافي والاجتماعي في حاجة إلى إعادة طرح هذه المفاهيم والقيم، وتحريرها، تمامًا كما نتحدث عن تحرير الدولة من نظام الأسد.
هذا ما لدي، وألخص بأن العمل يجب أن يبدأ على المستوى الثقافي والاجتماعي بشكل مكثف لخلق حالة نقاش من الممكن أن تؤدي في ما بعد إلى تشكّل تيارات اجتماعية أو سياسية، تحاول أن تقونن الأمر، وتناقشه من منظار المصلحة ومن منطلق الحقوق والواجبات، لنؤسس وطنًا من جديد، وشكرًا لكم.
مضر الدبس:
طبعًا أوافق على ما قاله الجميع. إننا في حقل مظلم، ومن الصعوبة البالغة الإجابة عن هذا السؤال.
لكن، على الرغم من صعوبة الإجابة، فإن بإمكاننا على الأقل أن نبحث عن نوع من التساؤلات الصحيحة التي تساعدنا في الوصول إلى هذا الجواب.
النقطة الأهم التي أود الإشارة إليها، هي أن مسألة السير في هذه الحقول المظلمة تحتاج إلى البصيرة أكثر مما تحتاج إلى البصر.
وفي تقديري أيضًا، فنحن في حاجة إلى نوع من الصراحة مع ذاتنا في إطار نقد التجربة السياسية تحديدًا خلال الفترة الماضية، أي نقدها على مستوى الأشخاص والأفراد الذين تصدروا مشهد العمل السياسي، ونقدها على مستوى المنهجية التي بنينا من خلالها مؤسساتنا بدايةً من المجلس الوطني السوري، ووصولًا إلى اللجان التي تشكلت في الفترة الأخيرة، والتي بُنيت جميعها تقريبًا بتصوري على “صفر تطوّر” على مستوى المنهجية، حيث بقيت طريقة التفكير ذاتها، وفي معظم الأحيان حتى الأشخاص أنفسهم.
إذًا، نحن نحتاج إلى النقد السياسي الموضوعي، ويحتاج الوسط السياسي السوري الوطني أيضًا إلى أفراد ومؤسسات جديدة، بما يستوجب–ولو استعملنا عبارة قاسية – ضرورة كنس من أخفق لمرات ومرات عديدة، وأدى ذلك إلى نوع من فقدان الثقة بين السوريين والسياسة برمتها.
ولذلك يجب التفكير–وهذا جزء من الإجابة عن سؤال ما العمل–بكيفية إعادة بناء الثقة بين السوريين والسياسة، أي السوري كفرد والسياسة بكليتها.
هناك نقطة يمكن أن نتفق عليها أيضًا، ومن السهل أن تشكل مفتاحًا لحالة معينة يمكن أن يبنى عليها مبادرة كما تمت تسميتها، وهي أننا بوصفنا سوريين، فإن مصيرنا هو بالتأكيد مشترك، فإذا أدركنا مسألة وحدة المصير، علينا عندها أن نتوحد على الأقل عند مسألة التفكير بمصير جيد نتمناه لنا جميعًا.
هذا يسهل علينا أن ننحي مجموعة من الخلافات جانبًا، ونركز على منهجية وحدة الاتجاه، لنتجه جميعًا في اتجاه واحد مهما كانت طبيعة تلك الخلافات، وهو ما يصب حقيقةً في تثمين مسألة المسؤولية، سواء أكانت هذه المسؤولية هي مسؤولية الكلمة أو السلوك أو الخطاب، وإعطائها الطابع الأخلاقي دائمًا، عند الكتابة أو العمل أو ممارسة الشأن العام ضمن هذا الواقع المؤلم، واقع الموت، وفسح المجال لهذا الهواء المنعش، بمعنى أن تتجدد الدماء بعناصر شبابية كانت هي ضحايا هذه المحرقة التي وضعتنا فيها أغلبية النخب السياسية التي مارست العمل السياسي في الفترة الماضية، وشكرًا جزيلًا لكم.

عبد المجيد عقيل
بالتأكيد، إن الإجابة عن سؤال ما العمل هي إجابة أكبر من أن أقدر عليها وحدي، وأكبر بكثير من أن يتم الإحاطة ولو بجزء صغير منها في مداخلة ختامية قصيرة، لكن بما أن مشكلتنا معقدة ومركبة، فإن هناك أشياء كثيرة يمكن ويجب العمل عليها قد يمثّل كل منها جزءًا ولو صغيرًا من الحل.
وبما أننا اليوم في ندوة حوارية فكرية، وبما أن هذه الندوة تندرج ضمن برنامج العدد الأول من مجلة سياسية ثقافية، فإنه من المجدي الإشارة إلى فكرة في هذا السياق، أي سياق العمل الفكري، الثقافي، الإعلامي، في مقاربة المعضلة السياسية التي نحن أمامها، ومن هنا فإنني أود أن أشير إلى أهمية إحداث وإنجاز تراكم ثقافي، فكري، سياسي، اجتماعي، يتبلور عبر آليات إعلامية ممنهجة، ليصل إلى أكبر قدر ممكن من السوريين، ويحدث تأثيرًا في وعيهم الجمعي، سواء على المستوى الشعبي، أو على مستوى الأشخاص المنخرطين في العمل السياسي.
هذه المسألة ليس من شأنها أن تحدث تأثيرًا سحريًا مباشرًا، لكنها ستؤدي بشكل تراكمي إلى إزالة الكثير من العقبات التي تعترض المسارات نحو مستقبل أفضل لسورية والسوريين، وكذلك إلى إغلاق الكثير من الأبواب على الخيارات السيئة، أو على الأقل تحسين مضامين بعض السيناريوهات المفروضة علينا وتقليل أضرارها.
وكمثال بسيط لتقريب الفكرة، فإننا إذا تناولنا فكرة اللامركزية على اختلاف صورها وأشكالها، قد تؤدي هذه الفكرة إلى ذهاب سورية نحو التقسيم والتشظي والتشرذم في حال تم تطبيقها ضمن واقع يهيمن عليه وعي مشوه–إن صح التعبير – طائفي أو قومي أو إثني، فيما النظام السياسي اللامركزي ذاته، قد يكون حلًا جيدًا لإعادة تشكيل دولة سورية وطنية حقيقية في حال تم تطبيقه في واقع يهيمن عليه وعي متقدم لمسألة الوطنية السورية وما يرتبط بها.
هذه الفكرة أذكرها كمثال، لا أكثر، للدلالة على أهمية إنجاز عمل فكري يساهم بشكل تراكمي في صناعة وعي سوري جديد.
وإن نقاشًا كالذي خضنا فيه اليوم، وكذلك ما أشار إليه د. حازم في مداخلته بخصوص تكوين رؤية ناضجة ومتماسكة لقضايا مثل علاقة الدين بالدولة وعلاقة الإثنيات بالدولة، هي خطوات مهمة في هذا الاتجاه.

يوسف فخر الدين:
ختامًا، أشكركم جميعًا، فقد كان لقاءً صعبًا، وغنيًا في الوقت نفسه، ومن الواضح تمامًا أن ما يبدو سهلًا بخصوص الوطنية الديمقراطية السورية هو في الحقيقة ليس كذلك.
ليس لأنه كمفهوم وكتيار وكثقافة مفتوح على التطور الدائم، إنما أيضًا لأن الرابط بين المعنى النظري والواقع العياني لم يُنجز بعد.
أو بمعنى آخر، إن إعادة صوغ النظري بناءً على قراءة واقع معين هي عملية لم تتم بعد.
لكن هناك خطوات إيجابية حصلت، لقاؤنا هذا منها، وإصدار مجلة (رواق ميسلون) منها، وإن الاستمرار في هذه الخطوات هو أمر حاسم للسير في الطريق الصحيح، الطريق المعاكس للتفتت والتمزق، وللفساد والإفساد، والذي هو طريق إعادة بناء داخل سوري ديمقراطي، عبر اللقاء والتشبيك، وعبر عملية تفكير، وبناء اتفاقات.
شكرًا لكم جميعًا.

مشاركة: