Authoritarian violence and morals
جدول المحتويات
تمهيد
أولًا: أصول أخلاقية للعنف السلطوي 6
- أصلٌ ثقافيٌ/ اجتماعيٌ تجسده الهويات المُتَخَيّلَة 6
- أصلٌ أخلاقيٌ/ سياسيٌ يجسده الولاء 8
- أصلٌ تنظيميٌ تجسده البيروقراطية 8
ثانيًا: دور المبادئ العقلية في قبول العنف السلطوي وفي تبريره الأخلاقي 9 - مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” 9
- مأثور كلاوزفيتز 11
- مبدأ الطاعة البيروقراطي “نّفذ ثم اعترض” 13
- مثالان على مشكلتي الطاعة والولاء 14
أ. المثال الأول: ظاهرة الانشقاق عن جيش النظام السوري 14
ب. المثال الثاني: جيش النظام السوري والحرب 15
ثالثًا: تقليص العنف السلطوي 15 - أتقليصٌ بالحرب أم بالسياسة؟ 16
- تقليصٌ بالنقد وتغيير المنظور 16
خاتمة 17
ملخص
للعنف السلطوي منطقٌ داخليٌ قابلٌ للوصف. فهو ممارسةٌ منظمةٌ قوامها وسائل وأهداف وإرادة ونتائج. ولهذا، فإن منطقه الداخلي محكومٌ بالوسائل المُستخدمة أساسًا من جهةٍ أولى، وبالنتائج المتحققة من جهةٍ ثانيةٍ. ومن جهةٍ ثالثةٍ بالممارسين له كالسلطات أو الأنظمة المستبدة أو الدول، أو “الهويات المُتخيّلة” الطائفية والقومية والإسلامية. إلّا أنه متعلقٌ من جهةٍ رابعةٍ بأخلاقيات كلٍّ من تماسك “الهوية المُتخيّلة”، ومركزية “الولاء”، والطاعة العمياء “البيروقراطية”. وأما بالنسبة إلى ارتباطه بالغايات والإرادة والنيات والنزعة العدوانية الطبيعية والنفسية، وكأنه مجرد عنفٍ طبيعي، أو مرضٍ نفسي أو جنونٍ، أو غاياتٍ نبيلةٍ تبرر لا أخلاقية الوسائل، فهو ارتباطٌ ضعيفٌ. وثمة مبادئ سائدة تمد العنف السلطوي بمشروعيته، من قبيل “الغاية تبرر الوسيلة”، و”الحرب امتدادٌ للسياسة”، و”نفّذ ثم اعترض”. فهل يمكن الحدّ من العنف السلطوي من دون حربٍ؟ الجواب الأولي للبحث: نعم. فما البحث إلّا لمناقشة إمكان تقليصه بوساطة النقد، وتغيير المنظور Perspective، وبإرشاد مبادئ مثل “الاقتصاد في العنف السلطوي”، و”النتيجة تبرر الوسيلة”، و”اعترض ثم نفذ”، و”توازن الوسائل أو القوى” (الردع)، وتقديم الحل السياسي. ومن ثم وضع هذه النتائج بعهدة مناهضي العنف السلطوي والحرب.
الكلمات المفتاحية: العنف السلطوي، الأخلاق، المثل الأعلى، الواجب، الولاء، البيروقراطية، الهوية المُتَخيَلة، اللاشعور السياسي.
تمهيد
العنف السلطوي ممارسةٌ واقعيةٌ تاريخيّةٌ. ظهرت باسم الأخلاق والعقل أحيانًا، أو تحت وطأة المقدس الديني والقومي والطائفي أحيانًا أخرى، أو بدعوى الحفاظ على وحدة الشعب وأمنه، أو للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها أحيانًا أخرى. ولم تقتصر ممارسته على الأنظمة المستبدة، أو على الدول والأمم والجيوش، بل امتدت لتصل إلى بعض التنظيمات الإسلامية (حزب الله، داعش، النصرة)، والقومية (حزب البعث، حزب العمال الكردستاني)، والطائفية (العلوية، الشيعية، الدرزية). ومع أن العنف السلطوي بلا أخلاقٍ معياريّةٍ، لا سيّما أننا نعيش في سورية عنفًا سلطويًا من دون أخلاقٍ، إلّا أنه يمتلك منطقه الخاص وأخلاقياته الحصرية والنسبية.
فالعنف السلطوي محكومٌ بممارسيه:
- السلطة السياسية التي تمارس العنف بوساطة الجيش والأمن و”الهويات المُتخيّلة” على شكل حرب أهلية أو ثورة مضادة.
- قوى الثورة التي تمارسه بتنظيماتها و”بهويات مُتخيّلة” مختلفة عن سابقتها.
- “الهويات المُتخيّلة” التي تمارسه، من دون السلطة السياسية، تجاه “هوياتٍ مُتخيّلةٍ” متناحرةٍ معها.
- الدولة التي تمارسه بالحرب أو المقاومة.
وعلى الرغم من الجهد المبذول لعقلنة العنف السلطوي والحد من انتشاره، أو حتى محاولات إلغائه بالحرب، إلّا أنه مع ذلك، ما زال قائمًا كشاهدٍ على عجز البشرية عن تقليصه. وهنا بالذات تكمن مشكلة البحث. ولذلك، فسؤال البحث هو:
هل من طريقةٍ لتقييد العنف السلطوي والحدّ من انتشاره من دون حرب؟ إن إجابة البحث المؤقتة (فرضية البحث) هي أجل. وهذا معناه إذا تقدمت السياسة والأخلاق تراجع العنف السلطوي وتراجعت الحرب. أي أن تقليص العنف السلطوي يتعلق بنمو الأخلاق والسياسة، واللذان يرتبطان بدورهما أشدّ الارتباط بتغيير منظورنا لمثلث “الهوية والولاء والبيروقراطية”.
ولكن أية أخلاق وأية سياسة؟ إنها التي تُمارَس في الواقع، لا كما يجب أن تكون بحسب الفلسفة والدين. والتي تتعلق بمبادئ عقليةٍ تمدّ العنف السلطوي بمشروعيته، وتدعو السلطويين لالتزامها في ممارستهم العملية. كما أنها ترتبط بأخلاقيات التماسك والولاء والطاعة، خصوصًا عندما يكون الولاء هو محور الحياة الأخلاقية. وبما أن العنف السلطوي غير عادلٍ، لا لأنه تخلى عن القيم والمُثلْ! بل لأنه يُمارس علينا، أمّا إذا مارسناه سيصبح عادلًا! فإن هذه المفارقة ستضعنا مباشرةً في ارتباط موضوع العنف السلطوي بنسبية الأخلاق وحصريتها.
تستمد هذه الدراسة أهميتها النظرية، من فهم محددات وتجليات العنف السلطوي وعلاقته بالأخلاق الواقعية، ومن توظيف مفاهيم مجردةٍ أيضًا، إضافةً إلى نقض المبادئ التي تشرعنه لاستنتاج مبادئ أخرى. وتستمد أهميتها العملية من النتائج ،كونها سترشد مناهضي العنف السلطوي والحرب. فهي تهدف إلى تقديم بعض الاقتراحات للحدّ من انتشار العنف السلطوي وتقليصه. ولاسيّما أن الجهد النظري المبذول سابقًا، في فهم العنف السلطوي، قد شجع على ممارسته، في حين أن المطلوب، هو تغيير المنظور النظري بجهدٍ شبيهٍ بجهد كوبرنيك لفهم إمكانية تقليصه.
إن العنف السلطوي، الآن وهنا، جديدٌ مقابل أنه قديمٌ منذ قال لها كوني فكانت. وهو كونيٌ مقابل خصوصيته ومحليّته. ويمتاز بقدرته على الحسم مقابل الفقر النظري في دراسته. وقد يكون من الصعب صوغ نظريةٍ منهجيةٍ عنه، إلا أن النظريات التي بين أيدينا، تعاني التضارب بين التطبيق والتجربة والنظرية.
ومن هنا اعتمد البحث منهجًا وصفيًّا يبتعد عن حكم القيمة ويلتزم حكم الواقع، ما يساعدنا على وصف العنف السلطوي باختلافه وتكراره أولًا، ثم بمعارضته بنقيضه تحليليًا ثانيًا، لاستنتاج العلاقات الجديدة ثالثًا. وما دام العنف السلطوي لا يتغير، من ناحية جدارته وشدته ودرجته وجهته، بتغير القاعدة الاقتصادية، فسيبحث عن أصلٍ له بعيدًا عن الاقتصاد. والدليل عقدٌ من العنف في سورية بغض النظر عن البنية التحتية وعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ومشكلة التبادل وتكديس البضائع. فلا وظيفة العنف هي وظيفة الاقتصاد، ولا مبرره مبررٌ لخدمة الاقتصاد ولا مثله الأعلى مرتبطٌ بالاقتصاد. ولهذا سيكون البحث من أجل نقدٍ غير اقتصاديٍ للعنف السلطوي.
وبما أن السائد في تحليل العنف السلطوي، بمجمله، مرتكزٌ على غريزة العدوان وأحكام القيمة، فسيبُحث بعيدًا عن علم النفس والتحليل النفسي والأحكام المعيارية، وسيخيب ظن من يعتقد أنه سينظر إلى نماذج العنف السلطوي بوصفهم مرضى نفسانيين أو مجانين يمارسون العنف بحكم طبيعتهم البشرية الفردية. ومن ثم سيكون البحث من أجل نقدٍ غير نفساني للعنف السلطوي، ومن أجل نقدٍ يترك طبائع الأفراد العدوانية جانبًا.
يرى البحث أن ارتباط العنف السلطوي بالأخلاق نتاجٌ تنظيميٌ متعلق بطاعة الأوامر في النظام العسكري البيروقراطي. ونتاجٌ ثقافي من نوعٍ محدّدٍ مرتبط بـ “الهويات المُتخيّلة”. ونتاجٌ سياسي/ أخلاقي يتمظهر في ضروب الولاء المستندة إلى الولادة والعاطفة والشخصنة. وهذا يدعو إلى تحديد بعض المفاهيم.
من المفاهيم الأساسية التي وظفت هنا، مفهوم “الجماعات المُتخيّلة”. وقبل شرح مضمون هذا المفهوم، نُذكِّر أولًا بالأهمية الخاصة التي اكتساها مفهوم الخيال عند غاستون باشلار، وفي دراسات يوفال نوح حراري. بينما اشتقه بندكت أندرسون ليؤكد دور التخيّل في ممارسة العنف السلطوي من أجل الحدود والسيادة وتماسك الهوية. ويشرح أندرسون فكرته بتعريفه لـِ الأمة (القومية) إذ يقول: “الأمة هي جماعة سياسية مُتخيّلة، حيث يشمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلًا.”
وإذا كان باشلار قد وظّف الخيال في العلم، وحراري في التاريخ، وأندرسون في القومية، فإننا لا نستصغر دور الخيال أبدًا، ولهذا سنستخدمه لدراسة ما هو عنفٌ سلطويٌ في الهويّات المُتخيّلة.
ولكن ما الذي يحكم تخيّل هذه الهويات؟ والإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى توظيف مفهوم آخر هو مفهوم “اللاشعور السياسي”. وهو مفهوم أبدعه ريجيس دوبريه. يقول: “تملك الجماعات البشرية المنظمة، كالأفراد تمامًا وإن كانت بطريقةٍ أخرى، لاوعيًا من نوعٍ خاصٍ أبرز أعراضه الديانات وبدائلها الأيديولوجية، ولسوف ندعوه “اللاوعي السياسي”.”
وقد خصّ به الجماعة المنظمة، كالطائفة والقبيلة والقومية والدين وأحزابهم، كون نشاط هذه الجماعات يتمظهر في أعراض سياسية وأيديولوجية. والحق يقال، إنه يحكم الجماعات المنظمة بسلوكٍ قهريٍ عنيفٍ.
ننتقل إلى تحديد مفهومٍ آخر هو الولاء. ففي كتابه فلسفة الولاء وظف جوزايا رويس مفهوم الولاء بوصفه محورًا للحياة الأخلاقية، وبرهن على أن الولاء للولاء هو القيمة العليا والمثل الأعلى والواجب الأخلاقي الذي يجب على الجميع الامتثال له، ثم حدد تضارب الولاءات كرذيلةٍ يمكن تجاوزها بتغيير المنظور. فعرّفه أنه: “التفاني الإرادي والعملي الكامل من ذاتٍ معينةٍ لخدمة قضيةٍ ما. وتعني القضية شيئًا يُدركه من يقوم بخدمتها، على أنه توجد حياة مجموعةٍ من الأفراد المختلفين في حياة واحدة.”
أي أن العنف السلطوي محكومٌ بالممارسين له، وبلاشعورهم السياسي وأخلاقيات الولاء والطاعة، وبالوسائل والنتائج والمبادئ. ومحددٌ بممارساتٍ نمطيةٍ سيحاول البحث تحليل علاقاتها.
أولًا: أصول أخلاقية للعنف السلطوي
يتداخل العنف السلطوي بالأخلاق بوساطة أشكالٍ ثقافيةٍ وتنظيميةٍ وسياسيةٍ محددةٍ منها:
- أصلٌ ثقافيٌ/ اجتماعيٌ تجسده الهويات المُتَخَيّلَة
صحيحٌ أن توظيف مفهوم الجماعات المُتخيّلة لا يأبه للفروق التي بين أنواعها. ولكن من هنا تنبع خصوبته. فالتفريق بين الانتماءات الطائفية والقومية والإسلامية، يضيّع علينا التشابه في ممارستها للعنف السلطوي. أمّا عند النظر إلى هذه الانتماءات بوصفها هويةً مُتخيّلةً سنرى في سلوكها الوحدة والتشابه، وسنرفض التفاضل فيما بينها.
يُمارَس العنف السلطوي، داخليّا وخارجيّا، باسم الهوية المُتخيّلة. وهي بدورها تمارسه على أعضائها، أو على هوياتٍ مُتخيّلةٍ منافسةٍ، أو كأداةٍ بيد الأنظمة الاستبدادية.
صحيح أن الأنظمة السلطوية لم تخترع الهويات المُتخيّلة، بل وجدتها جاهزة للتوظيف والاستثمار. لكن من الصحيح أيضًا أنها تساهم مساهمةً فعالةً في تصنيعها. والدليل هو العلاقة بحزب الله الشيعي، وتنظيم الدولة الإسلامية السُني (داعش)، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي مثلًا. فالمفترض أن يكون ولاء هذه التنظيمات لهويتها المًتخيّلة، ولكن النظام الاستبدادي حوّل ولاءهم لصالحه.
إن عنف الأنظمة منهجيٌ ومنظّمٌ، أما عنف الهويات المُتخيّلة فهو عنفٌ غير منظمٍ يحكمه مبدأ “الفزعة”. وعلى الرغم من أن الهويات المُتخيّلة ليست سلطةً سياسيةً، وإنما سلطة على أعضائها فحسب، إلّا أن التخيّل هو من يمنحها تلك السلطة، وهو من يحدد للأعضاء متى يطيعوا ومتى يتمردوا.
وبما أن التماسك والحفاظ على مجد الجماعة هو الهدف المشترك بين الهويات المُتخيّلة، فإن اللاشعور السياسي يجبرها على سلوكٍ عنيفٍ يُعلي من شأن التماسك والوحدة، وإن كان بشكلٍ غير شعوري، لأنه يحكم أعضاءها بولاءٍ قهريٍ يدعوهم إلى ممارسة العنف السلطوي للحفاظ على تماسكهم.
إذًا، يحدد عنصر التخيّل طبيعة العلاقة الأهلية والعاطفية بين الأعضاء، ويعطي معنىً للحياة والموت لهم. ومع أن الأعضاء لا يعرفون بعضهم معرفةً حميمةً ولم يلتقوا وجهًا لوجه، إلّا أن صورة تشاركهم تعيش حيّةً في ذهن كل واحدٍ منهم. فالرابط بينهم مُتخيلٌ بشكلٍ متزامنٍ بغض الطرف عن معرفة الأعضاء الغُفْل ببعضهم، وعدم معرفة ما يفعله باقي الأعضاء ولا علّة ما يفعلون، إلّا أن الثقة مطلقةٌ من وجودهم في الزمان الروزنامي والمكان الجغرافي، ويجعل من العلاقات بين الأعضاء علاقات أخوّة رفاقية وأفقية، على الرغم من عدم المساواة والاستغلال الكامن في جميع هذه الهويات؛ وهذا ما يجعل من ممارسة القتل بطولةً والموت شهادةً. فالهوية المٌتخيّلة، بهذا المعنى، اختراعٌ وليست محض يقظةٍ على وعي الذات. والاختراع هنا تخيّلٌ وخلقٌ وليس زيفًا وتلفيقًا. ولذلك لن يكون التمييز بين هذه الهويات على أساس زيفها/ أصالتها، وإنما استنادًا إلى نمط تخيّلها.
ولذلك نجد بعض الجماعات، على الرغم من أنها منظمةٌ، تتخيل نفسها على نحوٍ معينٍ بوصفها شبكات قرابة وعقيدة ممتدة؛ مثل العشائر العربية، والعائلات الدرزية، والإسماعيلية، والتركمان، والشركس. غير أن بعض الجماعات الأخرى تتخيّل نفسها مترابطةً، وتتخيّل لها حدودًا جيوبوليتيكية، وتتخيّل كذلك أن لها سيادةٌ على تلك الحدود وعلى أولئك الأعضاء؛ كالدروز، أو العلويين، والأكراد، والإسلام بنوعيه السياسي والجهادي وبشقيه الشيعي والسُنّي، والأحزاب القومية العربية والكردية؛ كحزب البعث والحزب الكردستاني، والأحزاب الإقليمية كالحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب الله والجماعات الشيعية المختلفة. وفي هذا يقول أندرسون: “والحال، أن كل الجماعات التي تفوق في حجمها أبسط القرى القائمة على التماس والاتصال المباشرين (وربما هذه القرى أيضًا) هي جماعاتٌ مُتخيّلةٌ.”
من الواضح أن مفهوم الهوية المُتخيّلة ينطبق على بعض الأحزاب والطوائف. فما الذي يربط سوريًّا من خربة عواد في الجنوب مع آخر من خربة الجوز في الشمال؟ وما يربط كرديًّا سوريًّا بكرديٍ عراقي أو تركي أو إيراني؟ إنه الخيال بالتأكيد أو بالأحرى الهوية المُتخيّلة. ولطالما أدرك قرويّو سورية أنهم مرتبطون بأعضاء غُفلٍ لم تسبق لهم رؤيتهم، إن كان على مستوى المنطقة العربية أو على مستوى الامتداد الإسلامي أو على مستوى اللحمة الطائفية حتى وإن امتدت في عدة بلدان أو أمم. الشيء الذي يساعد على فهم علاقة دروز سورية مع دروز لبنان وفلسطين والمغترب، بتوصيفها علاقة طائفية تستمد شرعيتها من هويتهم المُتخيّلة.
لكن مثل هذه الأخوّة والعضوية هي التي مكنت الكثير من السوريين، لا أن يَقتلوا بعضهم فحسب، بل أن يموتوا راضين في سبيل هذه التخيّلات المحدّدة. فالعنف السلطوي يتحول إلى واجبٍ على المنتمين للهويّات المُتخيّلة من أجل الدفاع عن الوطن والأمة والقومية والدين والطائفة.
إن الهويات المُتخيّلة تتموضع بالنسبة إلى بعضها في ثلاث حالاتٍ ممكنةٍ: دونية، مساواة، تفوق. وجميع هذه المراتب تتطلب العنف السلطوي؛ لأنها نتيجةٌ مباشرة وغير مباشرة له. وإذا كان باستطاعة السلطة السياسية أن توقف العنف، إلّا أنها تبقى مستعدة لممارسته وتغذيته. ولهذا، إن وظيفة السلطة هي تحسين قدرتها على العنف باستمرار والاستعداد للحرب المقبلة، حتى غدا السلم والأمن الدوليّين والإقليميّين والمحليّين، نتيجةً للحرب. إن مختلف هذه السُلَط تُمارس العنف المنظم وغير المنظم، بدرجاتٍ متفاوتة الشدة، ومختلفة الحجم، على أساس موازين القوة ومفاعيل الزمن والمصلحة من جهةٍ، وعلى أساس التنظيم البيروقراطي من جهةٍ ثانية، وعلى أساس الولاء والعضوية في إحدى الهويات المُتخيّلة من جهةٍ ثالثة. والنتيجة جعل الحياة لا تطاق من قتل الأفراد وتعذيبهم وسجنهم وإجبارهم على النزوح والهجرة واليأس.
والمًلاحظ أن نهاية الهوية المُتخيّلة، ليست قريبة التحقق، بل إن الانتماء إلى أمةٍ أو طائفةٍ أو دينٍ هو تلك القيمة التي تحظى بأكبر قدرٍ من الشرعية في حياتنا السياسية. والأمثلة كثيرةٌ على صراع الهويات المُتخيّلة. العرب والأكراد، الدروز والبدو، العلويّة والسُنّة.
أليست هذه الطائفية هويةً مُتخيّلةً؟! بلى. ولكن كيف نفهمها؟ الملاحظ أن الطائفية تفتقد للتنظيم البيروقراطي والأوامر البيروقراطية، وتكتفي بمبدأ الفزعة، بخلاف بعض الحركات والفصائل والتنظيمات والأحزاب التي تندمج فيها الهوية الطائفية بالولاء والبيروقراطية.
هل تختفي هذه الهوية المُتخيّلة بحضورٍ قويٍ للدولة؟ لا طبعًا. إنها تتوارى ولكن تظل كامنةً لتظهر من جديدٍ عند أي سياقٍ مناسبٍ لها. وتتجسد أخلاقياتها في الحفاظ على تماسكها وبذل الغالي والنفيس في سبيل مجدها ورفعتها. وفي الولاء بالولادة لها كالتضحية بالنفس (الشهادة)، أو قتل المعتدي عليها.
ونلحظ تحولًا في الأخلاق هنا؛ فالمثل الأعلى رمزٌ من رموز الهوية كالرسول أو الحسين أو علي أو سلطان الأطرش أو أوجلان. ويكمن الواجب في الدفاع والهجوم لتماسك الهوية. والفضيلة هي مجرد الانتماء لأصلٍ مزعومٍ والافتخار به. أمّا السعادة فهي سعادة الجماعة باستمرارها وبزيادة عدد أعضائها. - أصلٌ أخلاقيٌ/ سياسيٌ يجسده الولاء
الولاء بحسب رويس، هو تفاني الفرد الطوعي تجاه قضيةٍ معينةٍ. وهو محور الحياة الأخلاقية ومنبع الفضائل كلها. حتى أنه قيمةٌ أخلاقيةٌ بحد ذاته. وفي هذا البحث ضروب الولاء ثلاثة: أولها الولاء بحكم المولد للهوية المُتخيّلة. وثانيها الولاء بحكم القناعة أو المصلحة أو الخوف، للجيش والقائد المباشر. أمّا ثالثها فهو الولاء للسلطة الحاكمة بأشخاصها. وجميع هذه الأنواع تُمارِس العنف السلطوي بوصفها أدواتٍ للسلطة السياسية. ويجب ألّا نستقل بالأداة، فالسلطة من دون أدواتها كالزراعة من غير فلاحين. وعلى الرغم من أن هذه الأنواع من الولاء ليست هي الولاء الأمثل، إلّا أنها ضروبٌ من الولاء القائم. وعمليًّا يتصف الفرد بالولاء: “أولًا، إذا كان لديه القضية التي يتجه لها. وثانيًا، عندما يهب نفسه لخدمتها طواعيةً. وثالثًا عندما يعبر عن هذا الإخلاص والتفاني للقضية، بطريقةٍ عمليةٍ مقبولةٍ، وبخدمة القضية بصورةٍ فعالةٍ ودائمةٍ.”
كما أن تصور المجتمع منظمًا حول، وتحت، مركز الرئيس المُختلِف عن البشر والذي يحكم إلهيًا، يجعل من الولاء مركزيًّا وتفاضليًّا وموجّهًا. ولذلك يقول أندرسون: “بذلك كانت ضروب الولاء تراتبيةً ومركزية الوجهة بالضرورة لأن الحاكم، مثل الكتاب المقدس، كان منبت الكينونة ومتأصلًا فيها.” ويتجسد الولاء في تبرير أي شيءٍ، وتقديم أي شيءٍ، وفعل أي شيء. كالقتل والتضحية بالنفس والتبرع بالمال والسلاح. فالولاء مثلٌ أعلى وواجبٌ أخلاقيٌ. - أصلٌ تنظيميٌ تجسده البيروقراطية
إن النظام البيروقراطي مؤسَّس عقلانيًا على إتقان العمل وعلى تنفيذ الأوامر. ولهذا، نجد الطيار الحربي يلقي بحمولة طائرته على المدنيين من دون شعورٍ بالذنب، ولا شعورٍ بالعار ومن دون تمييزٍ بين الخير والشر. والأنكى من كل ذلك يصاحبه شعورٌ بالفخر والبطولة، لأنه قتل أكبر عددٍ وحقق أفضل إصابةٍ للهدف. وكل ما عليه إتقان عمله وإطاعة قياداته طاعةً عمياء، ليُظهر ولاءه، من دون تحمل مسؤولية أفعاله.
وبوساطة البيروقراطية أصبح لدى الدول جيشًا من العمال والموظفين المدنيين لتستخدمه كأداة قمعٍ. وتتمظهر أخلاقيات البيروقراطية في الطاعة والتكتم على المعلومات وغياب المسؤولية الفردية. وتسود البيروقراطية في الجيش والعمل وتقدم أكبر الخدمات للعنف السلطوي من خلال إطاعة الأوامر والقيام بالمهمة من دون تمييزٍ بين هذه الأوامر إذا كانت عنيفةً أو غير عنيفة، طالحةً أو صالحة. ويحكمها مبدأ “نفّذ ثم اعترض” كخادمٍ للعنف السلطوي.
إن “مجزرة التضامن” مثلًا، تدلل في واقعةٍ واحدةٍ، على تراكب العنف السلطوي من جهة إفراديّة مرتكب المجزرة وتحمله المسؤولية، ولكن ليس كعبدٍ مأمورٍ فحسب لأنه أضاف على الأوامر متعته الشخصية، ومن جهة طاعته للأوامر العسكرية/ الأمنية وتنفيذها، ومن جهة ولائه للنظام الاستبدادي، ومن جهة هويته العلوية المُتخيّلة. إنها تندرج تحت العنف السلطوي لا الفردي ولا الطائفي، على الرغم من الشيء الطائفي والإفرادي فيها.
ثانيًا: دور المبادئ العقلية في قبول العنف السلطوي وفي تبريره الأخلاقي
تقتضي ممارسة العنف السلطوي أربع قضايا اتخذت منها الدراسات تبريرًا للعنف السلطوي وهي: الوسيلة، الغاية، الإرادة، النتيجة. وإذا كنا لا نستطيع أن نعرف الغاية من ممارسة العنف السلطوي، ولا نستطيع أن نبرهن على الإرادة والنيّة إلّا من خلال النتائج، فستبقى لدينا قضيتان ماديتان هما الوسيلة والنتيجة؛ لأنهما تنتميان إلى دائرة الموضوعي لا دائرة الذاتي. ومن هنا أنتج الفكر السلطوي ثلاثة مبادئ عقلية أخلاقية لعقلنة العنف السلطوي وتبريره. - مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”
ورد حرفيًّا في الترجمة العربية لكتاب الأمير: “وفي أعمال جميع الناس، ولا سيّما الأمراء، وهي حقيقةٌ لا استثناء فيها، تبرر الغاية الوساطة.” ويمكن صوغ هذه الترجمة بطريقةٍ أخرى: الغاية تبرر الوسيلة في أعمال جميع الناس، ولا سيّما الأمراء، وهي حقيقةٌ لا استثناء فيها. طبعًا، لا يُبرَر العنف السلطوي بوساطة الغايات الكامنة وراءه؛ لأن لا أحد يعرف تلك الغايات على وجه الدقة. فكيف لنا أن نعرف الغاية طالما أنها تنتمي إلى ذهن أصحاب القرار؟! والمذهل هنا، استخدام وسائل وأدوات متقدمة في حالاتٍ لا توجبه! وهذا يدفعنا إلى الخروج من ربط الوسائل بالأهداف، ومن ثم رفض تبرير الأهداف لبشاعة الوسائل، كما أراد مكيافيلّي. فليس هناك غاية تتناسب مع وسائل العنف السلطوي؛ لأن تناسب الغايات مع الوسائل مسألةٌ واقعيةٌ وتاريخيةٌ مرتبطةٌ أشد الارتباط بالعقل التناسبي غير الحسابي. ويجب ألّا نستند إلى النيات العدوانية لمعرفة العنف السلطوي، بل علينا الاستناد إلى منطق العنف السلطوي نفسه. فالنيات دخيلةٌ عليه مثل الأهداف تمامًا. إضافةً إلى أن وجود حالة من العنف السلطوي من دون غايةٍ، أي العنف لمجرد العنف، ستقوض علاقة العنف السلطوي الاستقرائية بالهدف منه، أو بالوظيفة المناط بها أو بالغاية المرجوّة منه. وانقلاب الوسيلة إلى غايةٍ، وانقلاب الغاية إلى وسيلةٍ سيقوض هذه العلاقة أيضًا؛ فالغاية هي الوسيلة والوسيلة هي الغاية في آنٍ. وتؤيد حنّة أرندت هذه الأفكار إذ تقول:
“فالحال، أن جوهر العنف نفسه إنما تسيّره مقولة الغاية والوسيلة التي كانت ميزتها الرئيسة، إن طبقت على الشؤون الإنسانية، وأن الغاية محاطةٌ بخطر أن تتجاوزها الوسيلة التي تبررها والتي لا يمكن الوصول إليها من دونها. وبما أنه من المستحيل التنبؤ، بشكلٍ يحمل صدقيته، بالغاية المتوخاة من أي عملٍ بشريٍ، ككيانٍ مستقلٍ عن وسائل تحقيقه، من الواضح أن الوسائل المستخدمة للوصول إلى غاياتٍ سياسيةٍ ترتدي في أغلب الأحيان، أهميةً بالنسبة إلى بناء المستقبل، تفوق الأهمية التي ترتديها الغايات المنشودة.”
لنوضح ما سبق:
أسقط متظاهرون تمثال حافظ الأسد في مدينة الرقة بتاريخ 4 آذار/ مارس 2013 كعنفٍ رمزيٍ ضد النظام، فجاء رد النظام عندما سقطت المدينة بشكلٍ كاملٍ في 7 آذار/ مارس 2013، بعد ثلاثة أيامٍ فقط، بإطلاق صاروخين أرض-أرض من صواريخ سكود العابر للقارات، من اللواء 155 في القطيفة بريف دمشق، وقد سقط أحدهما في بلدة معدان والثاني في بلدة كفر محمد علي. هذا إضافةً إلى الطلعات الجوية وقصف البراميل المستمر يوميًا “ولا يبدو أن له غرضًا غير الانتقام وتنكيد عيش السكان” كما كرر ياسين الحاج صالح أكثر من مرةٍ. والسؤال الاستنكاري هنا هو: أين التناسب بين وسيلة النظام الصاروخية/ الجوية وبين غايته العقابية للرقة؟! إذًا لا تناسُب بين الغاية والوسيلة.
مثالٌ آخر:
عندما ضُربت الغوطة بالسلاح الكيماوي في 21 آب/ أغسطس 2013، دارت نقاشاتٌ كثيرةٌ لاستنتاج أن النظام الاستبدادي السوري غير مضطرٍ إلى ضرب الكيماوي، وليس له مصلحة أو غاية أو هدف من ذلك، إذًا فهو لم يضرب الكيماوي. فما الضرورة التي دعت النظام الاستبدادي لقصف الغوطة بالكيماوي؟ قال بعض الموالين إنه طالما لا ضرورة لذلك، فإن النظام لم يفعله! ونُذكِّر مثلًا بتصريح صالح مسلم في هذا السياق، أنه لا يعتقد أن الحكومة السورية هي المسؤولة عن الهجوم. وأضاف أن الرئيس السوري ليس غبيًا ليستعمل الكيماوي قرب دمشق وعلى بعد 5كم فقط من الفندق الذي يقيم فيه المفتشون الأمميون، بل لا حاجة له إلى استعمال السلاح أصلًا؛ لأن القوات السورية هي المتفوقة ميدانيًا.
سقنا هذين المثالين لتبيان أن العنف السلطوي في سورية هو عنفٌ جديدٌ لا تنطبق عليه عقلانية مكيافيلّي أو ماكس فيبر أو كلاوزفيتز أو حنّة أرندت أو ماركس. وهو يُقوِّض في الوقت نفسه مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فلنفكر إذًا في غير المفكَّر به؛ وهذا يعني تجاوز نمطٍ من التفكير كان قد استقر في الذهن السوري وبات عقبةً أمام معرفة ما نعيشه.
إذًا، الغاية لا تبرر الوسيلة، ولكن النتائج تفعل وتبرر العنف السلطوي. وهذا ما يؤكده مكيافيلّي في كتابه “المطارحات” إذ يقول: “إن النتائج قد تبرر الأعمال التي تستحق اللوم في ظاهرها.”
وبهذا نتبين أن الغاية ليست خادمةً للوسيلة، ولا الوسيلة خادمةٌ للغاية. فإذا كانت الغاية من الحرب الروسية على أوكرانيا، نبيلةً أو منحطةً، فإنها لا تبرر استخدام هذه الوسيلة. أمّا بالنسبة إلى النتيجة فهي تختلف عن الغاية وفي كثيرٍ من الوقائع تعاكسها. إن النتيجة تبرر الوسيلة أو لا تبررها. فالنتائج المتحققة أو المحتملة هي التي تبرر العنف السلطوي لا الغايات. ولهذا إذا كانت الحرب النووية وسيلةً، فاحتمال النتيجة الكارثية على الجميع يردعها ولا يبررها. غير أنه عندما رأت السُلط فائدة ممارسة العنف العملية، تحول العنف السلطوي إلى نموذجٍ للاقتداء به ومحاكاته. فالنتيجة قد تشجع على العنف أو تردعه. والخوف الذي يحدثه العنف السلطوي يولد الخضوع له. وبما أنه من غير المتاح تقليصه، فإن الخوف سيبقى قائمًا ليزداد الخضوع منتجًا أخلاقه المنحطة. وهذا يقودنا إلى استنتاج أن العنف السلطوي يُدرس بوسائله ونتائجه لا بغاياته ونياته. - مأثور كلاوزفيتز
“الحرب لا شيء سوى استمرار السياسة بوسائل أخرى.” فهل الحرب النووية امتدادٌ للسياسة؟ لا بالطبع، وسنبين لماذا. يستند كلاوزفيتز في تحليله للحرب على النيات إذ يقول: “هناك نوعان مختلفان من الدوافع التي تجعل الرجال يقاتلون بعضهم بعضًا: المشاعر العدائية، والنيات العدائية. يستند تعريفنا إلى النوع الثاني طالما أنه عنصرٌ عام (جامع).”
فضلًا عن هذا، يصف النيات العدوانية، إضافةً إلى كونها جامعة وعامة، أنها هي التي تسبب وجود المشاعر العدوانية، ولا يمكن تصور هذه المشاعر من دون تلك النيات. ويرى أن هذه النيات العدوانية لا تترافق مع مشاعر عدوانية غالبًا. كما أنها تحولت إلى مقياسٍ ليقيس به تخلف الشعوب أو تقدمها. فالنيات يحكمها العقل عند الشعوب المتحضرة بينما الشعوب المتخلفة محكومةٌ بعاطفتها. ويرى، أن الهدف والغاية ليست جزءًا من الحرب بينما الوسائل والأدوات المادية لا المعنوية هي جزء حقيقي من الحرب. وهذا تناقضٌ صارخ. أليست الغاية والهدف جزء من النيات العدوانية؟! ويرى أن من طبيعة الحرب استخدام القوة القصوى من دون حساب للضحايا والدمار رافضًا الاعتدال: “إن ادخال مبدأ الاعتدال في نظرية الحرب نفسها، سيقود دائمًا إلى منطقٍ غير معقول.”
لقد تطورت الوسائل تطورًا فاق الغايات بمسافاتٍ. وفعلًا، ليست الحرب النووية امتدادًا للسياسة؛ لأنها لن تترك وراءها، إن حدثت، لا سياسةً ولا سياسيين. كما أن الحرب بأي شكلٍ، كالحرب الأهلية والحرب الباردة والحرب على الإرهاب والحرب على أوكرانيا، ليست نتيجةً للنيات العدوانية. فمن ذا الذي لا يمتلك نيات عدوانية؟! إلّا أنه لا يمتلك الوسائل التي تحقق له نياته.
وقد قلب ميشيل فوكو مأثور كلاوزفيتز؛ إذ قال إن “السياسة امتدادٌ للحرب بوسائل أخرى.” وهذا يعني ثلاثة أمور أساسية: الأول هو أن ممارسة السلطة -كما هي لا كما ينبغي أن تكون- ما هي إلّا علاقات قوة “قائمة على الحرب وبالحرب”. أمّا الثاني فهو أننا لا نكتب سوى تاريخ الحرب حتى عندما نكتب تاريخ السلم. والثالث هو أن القرار النهائي لا يأتي إلّا من الحرب. وبخلاف فوكو، إن السياسة امتدادٌ للوسائل والنتائج، ولكن ليس من الضرورة أن تكون الوسائل حربيةً أو تكون النتائج حصيلة حرب.
في حين يرى إلياس مرقص أن “ظهور السياسة = تراجُعُ الحرب. السجال تَغيّر.” وبمعنىً ما وبلحظاتٍ محددةٍ هذا صحيح كحالة أثينا. لكن بمعنىً آخر وبمجمل التاريخ فهذا خطأ كحالة سورية. وقد أكد مرقص المعنى الثاني أيضًا:
“لولا الاختلاف لما وُجدت السياسة. ظهور السياسة = تراجع الحرب. الحرب باتت امتدادًا لها. واليوم يُنفى هذا الامتداد. يُنفى تحت طائلة هلاك البشرية وانتكاس النمو الكوسمي-الأرضي الذي تَوّجَه (من التتويج) الإنسان فقاده وروْحنه (من الروح).”
من غير الواضح هنا فيما إذا الإنسان هو من قاد النمو وحوّله إلى نموٍ روحيٍّ، أو أن النمو هو من قاد الإنسان وجعله روحيًّا. المهم، أن الإنسان أنتج التقدم، غير أن التقدم هو تقدمٌ في التدمير أيضًا. فتقدمَت السياسة وتقدم العنف أيضًا وخصوصًا عندنا. ويقول مرقص مقرًا بتراجع السياسة:
“عندنا، في تاريخنا، بعد العصر الأول، السياسة تراجعت. العصر الأول 200 سنة أو 250، ثم اختفت فعليًا. مشروع تأسيسها، مع الفكر النظري اللاهوتي والفلسفي والعقلي، فَشَل، أحبطه المجتمع، الحالة، الشروط، لا الفرس أو الترك، ولا النصارى أو اليهود: هؤلاء (الكتابيون أو الذميون) خارج السياسة والقيادة، والجميع جزءٌ من الموضوع وليسوا الموضوع.”
في أثينا الحرب منفيةٌ إلى الخارج. المجتمع عائلةٌ من نوعٍ جديدٍ، وبمعنى ًما عائلةٌ أحق. إذًا يحدد مرقص السياسة كمثلٍ أعلى. والحق يقال إن الحالتين موجودتان في التاريخ والواقع، وما علينا سوى اختيار إحداهما كمَثلٍ أعلى. وتعقيبًا على فوكو من دون تسميته يقول:
“بعد سنة 1967، تعلّم الرفاق (أقصد بعض العرب: الثوار… إلخ) كلاوزفيتز: الحرب امتداد السياسة، الحرب مواصلة السياسة بوسائل أخرى، بالعنف. في لحقيقة لم يتعلموا أي شيء، لا كلاوزفيتز، ولا لينين وانجلز وماوتسي تونغ وماركس، بصدد السياسة والحرب. والأكثر حماقةً وضعوا الحرب فوق السياسة، أي قلبوا أطروحة كلاوزفيتز! لكن ما يهمني هنا هو أن الرفاق (والرأي العام تحتهم) يجهلون أن هذه الأطروحة الشهيرة تفترض وتقتضي: ظهور السياسة = تراجع الحرب، بداية الحضارة، الدول، التاريخ… إلخ. ولكن كان التاريخ كان في منطلقه تقليصًا للحرب بظهور السياسة، فقد وصل التقدم الآن إلى واجب وضرورة و”حتمية” حذف الحرب تحت طائلة فناءٍ إلى فناء الجنس البشري. هنا أيضًا مقولة التقدم واضحةٌ تمامًا، “دقيقة” وحادة! أثينا أقامت السجال الجدير: الجدل والسياسة، السياسة والديالكتيك، ضد “حالة البشرية الأولى”، كون السجال القديم: الحرب…”
لا بأس من نقاش أطروحة مرقص. يربط مرقص ظهور السياسة في أثينا في سياق نقده للصراعات الطبيعية والإنسانية غير المثمرة والعبثية. ولكن هذا خطأٌ بيّنٌ، لأن ظهور السياسة ارتبط بظهور القرى الأولى وبظهور الحضارات القديمة السومرية والفرعونية قبل أثينا كثيرًا. وعلى الرغم من الظهور المبكر للسياسة إلّا أن الحرب فعليًّا لم تتراجع بل تقدمت بوسائلها. فكيف “تفترض وتقتضي” مقولة كلاوزفيتز، عند مرقص، مقولة “ظهور السياسة = تراجع الحرب”، ولا سيما إذا عرفنا أن المقولة كانت في سياق عن الحرب لا عن السياسة؟! كما أنه قد تؤدي الحرب إلى التقدم، ولكنها قد تؤدي إلى الفناء أيضًا. فكيف لنا أن نعرف فائدة الحرب من عدمها إذا كان مثل هذا الاقتضاء الذي قال به مرقص صحيحًا؟ فلطالما كان تاريخ البشر هو تاريخ الدفاع عن وجودهم. صحيح أن المقولة تحمل في طياتها أنه لو لم تكن الحرب امتدادًا للسياسة لهلكت البشرية، ولكن هذا لا يبرر نقد من لم يستنتج مثله. فكلاوزفيتز درس الحرب ودعا إليها لأنها وسيلةٌ ناجعةٌ في قهر الأعداء. ولم يخطر في باله أن تتقدم وسائل الحرب ونتائجها بطريقةٍ تلغي الامتداد الذي افترضه. ومع أن الحرب نيّاتٌ عدوانيةٌ عنده، غير أن مرقص وفوكو لم يقتربا من النيات العدوانية، وناقشا العلاقة بين الحرب والسياسة فحسب، وإن بطريقتين مختلفتين.
إن الحرب ليست واقع أن البشر تقتل بعضها؛ أي ليست من شاكلة أن القوي يقتل الضعيف والسمك الكبير يأكل السمك الصغير، لأن هذا آلية طبيعية ولا تفسر شيئًا حتى عند داروين. فتستطيع البشرية أن تقتل بعضها بعضًا آلاف السنين، لكن هذا ليس من شأنه أن يحدث تقدمًا. فالاختلاف القائم في الحرب، من دون نقيضه السلام، لهو جزءٌ من معركة العقل مع اختلاف الحرب وتكرارها.
وكخلاصةٍ: إذا تقدمت الأخلاق والسياسة سيتقلص العنف السلطوي؛ لأن وسائله الحديثة ونتائجه المدمرة ستتقدم أيضًا، وسيتحقق الردع. ومن هنا ستُلغى أطروحات كل من: كلاوزفيتز الأصلية، وفوكو المقلوبة، ومرقص العكسية. وسيرشد السياسة، في المستقبل، مبدأ آخر هو “الاقتصاد في العنف السلطوي”، وهو بالتضاد مع مبدأ الحرب امتداد للسياسة. - مبدأ الطاعة البيروقراطي “نّفذ ثم اعترض”
وهو مبدأ عسكري يسود في الجيوش، ولا يتطلب سوى إتقان العمل وتنفيذ الأوامر بحذافيرها. إذ يتحول الجندي إلى عبدٍ مأمورٍ لا يميز أثر الأوامر المدمرة. ويختلط عنده الخوف من العقوبة التي قد تصل إلى الإعدام الميداني في حالة رفض الأوامر، مع الولاء والطاعة. وهذا يعني تحويل الجندي إلى مجرد أداةٍ أو آلةٍ للقتل. ولكن في حال قلبنا المبدأ أي “اعترض ثم نفذ”، فأنه سيحافظ على التمييز بين الجيد والسيئ ويعلي من المسؤولية الفردية ويعطي القناعة الشخصية حقها. - مثالان على مشكلتي الطاعة والولاء
نسوق مثالين لإبراز قدرة الحرب على تغيير الطاعة والولاء. وسيتبين لنا كيف تحدد درجة العنف السلطوي، حالات الانشقاق والولاء الطائفي ورفض تنفيذ الأوامر. إضافةً إلى معرفة كيف يحدد الولاء الطائفي والخوف رفض الأوامر أو طاعتها.
المثال الأول: ظاهرة الانشقاق عن جيش النظام السوري
الانشقاق هو تحولٌ في الولاء، وخروجٌ من الجيش وشقٌ لعصا الطاعة البيروقراطية ورفضٌ لتنفيذ الأوامر. وحدث من أجل الدفاع عن الهوية المُتخيّلة (الأهل، الطائفة). فقد استند الانشقاق إلى ولاءٍ طائفيٍ بعد اشتداد العنف السلطوي، وليس إلى مبدأي الحرية والكرامة. وهذا لا يعني أن الولاء السابق للمنشقين كان يرتكز إلى أسسٍ مبدئيةٍ، وأن طاعتهم للأوامر، حتى في أحسن حالاتها، كانت ترتكز إلى المبادئ البيروقراطية، بل على العكس من ذلك، لأنها كانت ترتكز على الخوف أساسًا؛ وذلك لأنه لا قناعة عند عموم السوريين بالنظام السلطوي من الأصل. فلو كان للمبادئ أي اعتبارٍ، لكان الانشقاق سابقًا لممارسة العنف السلطوي.
غير أنه بعد استعار الحرب نمى الاستقطاب لحدوده القصوى، وصار الانشقاق قيمةً أخلاقيةً في نظر الثوار وحاضنة العنف الثوري، بينما صار خيانةً في نظر الموالاة وحاضنة العنف السلطوي. إلّا أن الانشقاق قد مرّ بسياقين في الوقت نفسه، هما سياق الثورة السورية، وسياق الثورة المضادة والعنف السلطوي. وهذان السياقان يبرران الانشقاق تبريرًا عقليًا وأخلاقيّا بحكم اللاشعور السياسي. فمن هو الجندي أو الضابط الذي ينفذ أوامر القصف والتدمير والقتل والاعتقال والمداهمة والتفتيش والاغتصاب بحق طائفته وأهله الثائرين؟! إن أغلبية البشر لا تفعل ذلك. ولهذا انشق البعض علنًا وبتحدٍ مبرزين هويتهم العسكرية، ومنهم من امتنع عن خدمة العلم، ومنهم من رفض الالتحاق بالاحتياط، ومنهم من ترك الجيش بهدوء من دون اشتباكاتٍ وذهب إلى طائفته ليصبح بأمان، ومنهم من نسج قصصًا عن خطفه… إلخ.
والمُلاحظ أن الانشقاق شكّل عنفًا مضادًا، كأداةٍ لمجابهة العنف السلطوي. فالعنف السلطوي استدعى العنف الثوري على الفور. وسرعان ما تحولا إلى وجهين لعملةٍ واحدةٍ في ممارسة العنف السلطوي. وسقط الجميع في دوامة أن نَقتل أو نُقتل دفاعًا عن الوطن والهوية القومية والطائفية والدينية، أو بسبب التزامنا بولائنا لهوياتٍ غير مُختارةٍ لا فضل لأحدٍ بها لأنها بنت المصادفة، أو لطاعة أشخاصٍ في السلطة غير منتخبين، أو مجرد إتقانٍ لفعل القتل وتنفيذٍ للأوامر.
ونما الاستقطاب بين ثنائية “البطل/ الشهيد” وبين ثنائيةٍ معاكسةٍ هي “المجرم/الفطيسة”، وفق طرفي الاستقطاب وبالنسبة إليهما. ونشأت أطاريح ما يسمى بأصحاب الطرف الثالث أو اللون الرمادي، كخارجين عن هكذا ثنائياتٍ، وعدّهم وسطًا بين نقيضين، وأن الحل قائمٌ عندهم. وهذا غير صحيحٍ واقعيًا؛ لأن هكذا “طرف ثالث” لا يمارس العنف المنهجي. وهو ليس تركيبًا للنقيضين بحسب منطق هيغل كما يُعتقد؛ فالعقل والتاريخ هما اللذان ينتجان التركيب من النقيضين لا الطرف الثالث.
بمَ يتحدد فعل الانشقاق قبل أن يتم الإعلاء من شأنه؟ يتحدد بالولاء الطائفي، ورفض تنفيذ الأوامر، والخوف. فالعسكري ذو الولاء للطائفة السُنيّة الذي لم ينشق هو على الأغلب خائفٌ من عقوبات النظام السلطوي، كما أن ولاءه الطائفي ضعيفٌ، وسيظل يطيع الأوامر التي تعتدي على أعضاء طائفته، مع أن الانشقاق عن النظام، على الرغم من خطورته، يبقى أسهل من الانشقاق عن الهوية المُتخيّلة. ولكن الخوف يحكم الولاء حكمًا لا مفرّ منه.
المثال الثاني: جيش النظام السوري والحرب
الجيش أهم أداةٍ في يد السلطويين لقدرته على ممارسة الحرب، وهي أعلى شكلٍ من أشكال العنف السلطوي. فوظيفة الجندي أن يَقتل ويُقتل، وأن يطيع الأوامر وينفذها، إضافةً إلى الولاء والانضباط والقسوة. وقد ظل قسمٌ كبيرٌ من عناصر الجيش ينفذون أوامر القتل والقصف البيروقراطية. وكان أغلبهم ينتمون إلى هويةٍ علويّةٍ مُتخيّلةٍ، وظل ولاؤهم للنظام السلطوي على أشده.
لكن ما موقف العلوي الذي يخدم في الجيش في حال أتته الأوامر العسكرية بقصف مناطق علوية؟ غالبًا سيكون كموقف السُنّي المنشّق برفض الأوامر وتغيير الولاء. عندها سيعيش العسكري العلوي تناقضًا بين ولائه لطائفته وبين ولائه للجيش. والخوف هو من سيحسم التناقض عنده لصالح تنفيذ الأوامر، إن كان خوفه أكبر من ولائه. أما في الحالة المعاكسة فسيحسم الولاء الأمرَ لصالح الانشقاق.
إن درجة العنف السلطوي هي التي تحدد حالة الولاء والطاعة. وبما أن الحرب قمة العنف السلطوي، فإنها تُحدث خللًا ملحوظًا في الولاء والطاعة. فالحرب حربان؛ حربٌ داخليةٌ على الشعب، وحربٌ خارجيةٌ ضد العدو. وما دامت درجات العنف السلطوي منخفضة، تقتصر على الاعتقال، يبقى الولاء والطاعة في حالةٍ مستقرةٍ. ولكن ما أن يصل العنف السلطوي إلى درجة الحرب الداخلية حتى تنقلب موازين الولاء والطاعة، ويصبح الانشقاق ورفض الأوامر في درجته العليا. مع أن حالة الحرب الخارجية ضد العدو تزيد من شدة الطاعة والولاء وتجعل الانشقاق ورفض الأوامر في أدنى درجةٍ له؛ لأن الشعب كله يكون في حالة حربٍ. كما أن نتيجة الحرب تحدد أيضًا مفهومي الولاء والطاعة. ففي حالة النصر يزيد الولاء والطاعة وفي حالة الهزيمة يزيد الانشقاق ورفض الأوامر. مثلما حدث إبان هزيمة الجيش العراقي وحلّه 2003.
ثالثًا: تقليص العنف السلطوي
إذا ما سألنا أنفسنا السؤالين التاليين، سيتبين لنا كيفية تقليص العنف السلطوي: هل يستمر العنف السلطوي بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها؟ لا بالطبع. هل يستمر بغض النظر عن ممارستنا لهوياتنا المُتخيّلة وولاءنا وطاعتنا؟ كلا، لا يستمر. ومن الإجابة عن هذين السؤالين سيبدأ تقليص العنف السلطوي بواسطة تغيير المنظور الذي ننظر من خلاله إلى الولاء والهوية والبيروقراطية، وعن طريقة تخفيض وسائله (الأسلحة، الجيوش) قدر الإمكان، وبتقديم نقدٍ لأخلاقياته التي تشجع على القتل. - أتقليصٌ بالحرب أم بالسياسة؟
ثمة طريقتان لتقليص العنف السلطوي: الأولى بالحرب، والثانية بالسياسة. والطريقتان متداخلتان تاريخيًا. غير أن تطور الأسلحة، وامتلاك أكثر من طرفٍ لها، أدى لاحتمال نشوب حربٍ نوويةٍ لها من نتائج كارثيةٍ على الأطراف المتحاربة. وقد عزز هذا طريقة السياسة بتغذية خلفيةٍ راجعةٍ في تقليص العنف. لهذا ظهر طريقٌ ثالث هو الردع. وهو طريقٌ يخلط بين امتلاك وسائل الحرب وعدم استخدامها لهول نتائجها. وعلى الرغم من واقع أن بعض حالات العنف السلطوي لم تتقلص سوى بالحرب، مثل داعش، غير أنه على المدى البعيد كانت غير مجديةٍ في تقليص العنف السلطوي عمومًا بل زادته. فالإرهاب الإسلامي ولد الحرب على الإرهاب وبالعكس. وهناك طريقٌ سياسيٌ يدعو إلى إلغاء الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية، أي إلغاء وسائل الحرب المدمرة تدميرًا شاملًا. ولكنه يُصّنع الأسلحة التقليدية وسياسات الأمن القومي التي تجعل العنف السلطوي يزدهر.
ومن اللافت أن عالم ما بعد الحرب العالمية استرشد بنموذج الحرب الباردة. ثم وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي جادل صموئيل هنتنغتون أن النموذج الإرشادي الذي سيرشد السياسة الدولية هو “صدام الحضارات” أو بمعنىً آخر “الحرب الثقافية/ الدينية”. ومع حدث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001 استقرت الحرب على الإرهاب كنموذجٍ عالمي. والآن منعطف الحرب على أوكرانيا. هذا يقود إلى استنتاج أن الحرب ما زالت تحكم السياسة الدولية والإقليمية والمحليّة. وأن التغييرات تقوم على أساس نتائج الحرب. وبما أن العنف السلطوي يولد الخوف، فالحرب عليه تولد الخوف أيضًا، إذ سيساهم الخوف من الحرب في تقليص العنف السلطوي. إن امتلاك الأسلحة المتطورة سيتم علاجه بالردع. أمّا امتلاك الأسلحة التقليدية فسيتم التعامل معه إما بالحرب أو بالحل السياسي. - تقليصٌ بالنقد وتغيير المنظور
من الهوية أخذنا أضيقها وأكثرها عنصريةً وشوفينيةً واعتبرناها بطنًا حاويًا لا علاقةً متغيرةً. إننا ننظر إلى هوياتنا المُتخيّلة نظرة تبجيلٍ وتقديسٍ. مع أن أساسها العاطفة وعدم الاختيار. وهذا ليس دعوةً لإنكارها، بل دعوة إلى فهم علاقة العضو بهويته فهمًا أفضل. وعندئذ يصبح المسلم مسلمًا أفضل، والعربي عربيًا أفضل والعلوي علويًا أفضل، ودعوة إلى ربطها بالهوية الوطنية. وإلى تحولها عن تمجيد القتل والموت.
من البيروقراطية أخذنا الطاعة العمياء وكأنها حدثٌ طبيعيٌ وما أمامنا سوى الخضوع له. وابتعدنا عن المسؤولية الفردية، فتحولنا إلى عبدٍ مأمورٍ لا يميز بين الخير والشر، الحق والأحق. إن علاقة الطاعة والعصيان والولاء والانشقاق محددة بالولاء والخوف والحرب. ولهذا يجب إضافة التمييز الشخصي إليها.
ومن الولاء أخذنا الولاء بالولادة دون الولاء بالاختيار؛ الولاء لهوياتنا أو لأشخاصٍ من دون الولاء لقضايا ومبادئ.
ولذللك اقترحَ رويس تعريفًا جديدًا للولاء: “إن الولاء هو الإرادة، أو الرغبة في إظهار الأبدي، قدر الإمكان، أي الوحدة الواعية والشاملة والمطلقة للحياة، في صورة أفعالٍ، يقوم بها إنسان أو ذات فردية.”
وبما أن أصحاب الولاء يجسدون الأبدي والمتعالي في أفعالهم، فيجب التدريب على الولاء الاختياري لقضايا مبدأية، وعلى تخفيض انتماء قضايا الولاء إلى عالم أرفع من عالمنا، وجعلها ملتصقةً بعالمنا ودنيانا وداعمةً للسلم والأمن. فالولاء “هو إرادة الاعتقاد في شيءٍ أبديٍ والتعبير عن هذا الاعتقاد في الحياة العملية لكائنٍ إنسانيٍ.”
إن تضارب الولاءات، والولاء لقضيةٍ خاسرةٍ تجعل التفاضل في مواضيع الولاء نسبيًا ومرتبطًا أشد الارتباط بالقضية أو الموضوع. وهذا يقودنا إلى صراع الولاءات إذ نلاحظ كثيرًا من السوريين دافعوا عن الوطن، ولكن من دون التمييز بين الوطن وقائد الوطن. أما الولاء الوطني المتطور فيعد أفضل ولاء، لأنه حلقةٌ وسيطةٌ يجمع بين المصالح العليا للأمة وبين المصالح الخاصة للأفراد ويجعل الولاءات الأخرى تتراجع أمامه. ولكن تركيز الولاء للهوية وللأنظمة السلطوية، فيبدد الولاءات الصغيرة الرافدة للولاء الكبير الوطني. فإذا كان الولاء يعني تفاني الفرد تجاه قضيةٍ معينةٍ فإن الوحدة الوطنية تجسد القضية الكبرى التي تستحق الولاء، وتتجدد بتغذية الولاءات الصغيرة لها. وبهذا يندمج الإخلاص مع الواجب.
وهكذا، إن تغير المنظور لا يضحي بالواقعية من أجل الأخلاق المجردة، ولا يضحي بالتحديدات الضيقة من أجل الواقعية. ويزودنا بإطارٍ واضحٍ وبسيطٍ لفهم دور الولاء والطاعة والهوية المُتخيّلة في نمو العنف السلطوي. ويميز بين المهم وغير المهم ويتنبأ بالميول المستقبلية ويزود مناهضي العنف السلطوي بنقاطٍ استرشاديةٍ.
خاتمة
حاول البحث أن يتحقق من فرضيته المؤقتة: إذا تقدمت الأخلاق والسياسة سيتقلص العنف السلطوي. ولكن تبين أنها ليست علاقةً علميّةً؛ فلا هي إحصائية استندت إلى إحصاءات، ولا هي ضروريةٌ لتظهر بشكلٍ دائمٍ، ولا هي علاقةٌ كليةٌ لتنطبق على جميع الحالات. وكل ما في الأمر أنها مجرد إمكانٍ أو علاقةٍ احتماليةٍ قد تتحقق بإرادة البشر. فمن الممكن للوقائع أن تكون بخلاف ما هي عليه، والخيار قائم لتحويلها إلى مثلٍ أعلى مُرشد. فالسياسة لا تتحرك في ضوء الحقائق العلمية دائمًا.
ومن دراسة العلاقة بين وسائل العنف السلطوي وبين نتائجه تبين طريقٌ ثالثٌ لتقليص العنف السلطوي والحد من انتشاره هو الردع. وهذا يعزز الحل السياسي على حساب الحرب، ولكن هذا ليس معناه أن الحل السياسي هو من سيسود في المستقبل القريب والمتوسط، وأن الحرب التقليدية ستختفي. ومن نقد المبادئ العقلية ظهرت مبادئ أخرى مثل “الاقتصاد في العنف السلطوي” و”النتيجة تبرر الوسيلة” و”اعترض ثم نفذ”. وقد فرضتها العقلانية والأخلاقية والوسائل والنتائج. وبالاستناد إليها سيكون ثمة مؤشراتٌ إلى أن المستقبل سيميل لمصلحة الحل السياسي. وهذا كفيلٌ بعدة مسائل منها:
توجيه ممارسة العنف السلطوي بالحد الأدنى والضروري والمحدود والأقل تكلفةً. وإرشاد عمليات الاستعداد للحرب والهجوم والدفاع والمقاومة، والسعي لامتلاك الأدوات والوسائل وإنفاق وزارات الدفاع وشن الحروب. وتشجيع سحب القوات العسكرية من بقاعٍ مختلفةٍ بالعالم وتقليل التدخل العسكري.
إلّا أن العنف السلطوي التقليدي سيبقى ليظهر بين الفينة والأخرى. وذلك لتوافر وسائله والاستفادة من نتائجه، ولدوام اللاشعور السياسي في قهر الهويات المًتخيّلة، ولاستمرار أخلاق الولاء والطاعة على حالها الموصوفة آنفًا.
المراجع والمصادر أرندت. حنّة، في العنف، إبراهيم العريس (مترجم)، ط2، (بيروت: دار الساقي، 2015).
أندرسون. بندكت، الجماعات المُتخيّلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها، ثائر ديب (مترجم)، عزمي بشارة (تقديم)، ط1، (بيروت: دار قدمس2009).
الجابري. محمد عابد، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، ط5، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004).
دوبريه. موريس، نقد العقل السياسي، عفيف دمشقية (مترجم)، ط1، (بيروت: دار الآداب، 1986).
دوغين. ألكسندر، أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا السياسي، عماد حاتم (مترجم)، ط1، (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2004).
رويس. جوزايا، فلسفة الولاء، أحمد الأنصاري (مترجم)، حسن حنفي (مراجعة)، ط1، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002).
سبينوزا. باروخ، رسالة في اللاهوت والسياسة، حسن حنفي (مترجم)، فؤاد زكريا (مراجعة)، ط1، (بيروت: دار التنوير، 2005).
سبينوزا. باروخ، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، جورج كتورة الشاعر (مراجعة)، ط1، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009).
فوكو. ميشيل، “يجب الدفاع عن المجتمع المدني”: دروس ألقيت في “الكوليج دي فرانس” لسنة 1976، الزواوي بغوره (مترجم)، ط1، (بيروت: دار الطليعة، 2003).
كانط. إيمانويل، مشروع للسلام الدائم، عثمان أمين (مترجم)، ط1، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1952).
كلاوزفيتز.كارل فون، عن الحرب، سليم شاكر الإمامي (مترجم)، ط1، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979).
مرقص. إلياس، نقد العقلانية العربية، ط1، (دمشق: دار الحصاد، 1997).
مكيافيلّي. نيقولو، الأمير، خيري حمّاد (مترجم)، ط12، (بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1985).
مكيافيلّي. نيقولو، مطارحات مكيافيلّي، خيري حمّاد (مترجم)، ط1، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، 1962).
هنتنغتون. صموئيل، صدام الحضارات وإعادة بنا النظام العالمي، مالك عبيد أبو شهوة ومحمود محمد خلف (مترجمان)، ط1، (مصراته: الدار الجماهيرية، 1999).