أولًا: مقدمة
تسعى عادةً حكومات الدول وأنظمتها التي تهتم بتنمية مجتمعاتها، والحفاظ على أكبر قدرٍ من حالات السلم الأهلي فيها، إلى إشاعة الاستقرار من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافةً، إذ تعيق التوترات والإضرابات السياسية والمجتمعية تقدُّمَ المجتمع، إن لم تدمره من الداخل، كما تسعى بالقدر ذاته إلى حل مشكلاتها ونزاعاتها الطارئة أو القديمة مع الدول الأخرى، بالحوار والطرق السلمية ما أمكنها ذلك، لأن الحروب لا تجلب لأطرافها إلا خسائر مادية وبشرية ذات تكلفةٍ عاليةٍ، ومن هنا تأتي أهمية البحث في مفهومَي الصراع السياسي والعنف السياسي، وفك الالتباس الذي يشوبهما في لحظاتٍ محددةٍ، وذلك عندما يدخل الصراع السياسي إلى مرحلةٍ عنيفةٍ، وتعجز أطراف العملية السياسية ونخبها عن الوصول إلى تسوياتٍ للمشكلات المطروحة، أو عندما تنقلب سلطةٌ على الوضعية الدستورية والقانونية القائمة التي تنظم علاقة السلطة مع المجتمع وتمثيلاته، كما تنظم عمل مؤسسات الدولة وواجباتها تجاه مواطنيها، أو عندما تنشأ حالةٌ تصل حدّ التمرد أو الخروج عن السلطة، إما لفشلها في الوفاء بوعودها، أو ممارستها العنف في حق مواطنيها، مع الأخذ في الحسبان أن ما يجمع بين العنف السياسي والصراع السياسي، أن كليهما يسعى لتحقيق هدفٍ سياسيٍ واضح المعالم وعلنيٍ أو مستبطنٍ، كبيرًا كان أو حياتيًا بسيطًا، فالسلطة وتسنمها هو هدفٌ يقبع على درجاتٍ وأنواعٍ في خلفيات المفهومين كليهما.
يغلب البعد النظريّ على المفهومين عند البحث فيهما، حتى وإن جرى التطرق إلى حالاتٍ وتجارب واقعيةٍ معروفةٍ، لأنه لا يمكن الحكم مسبقًا على التجارب التاريخية في حكم الدول، كونها تحمل وعودًا قلّما أثبتت التجارب الالتزام بها، أكان مردّ ذلك إلى أسباب ذاتيةٍ أو موضوعيةٍ، فالطروحات في مرحلة السعي للسلطة، تختلف عنها بعد الإمساك بها، إذ يمكن أن تُذهب مغريات السلطة بما كانت النخب تَعِدُ به؛ ومن هنا يبدو أن المنهج الوصفي التحليلي أكثر ملاءمةً لمقاربة هذين المفهومين، ومحاولة تجاوز المشكلات التي تكتنف البحث فيهما.
تبدو سورية ما بعد الاستقلال مثالًا نموذجيًا للبحث في المفهومين، إذ عايشت الحياة السياسية السورية النمطين بالحيثيات التي يأتلف عليها كل مفهومٍ، ولو أن العنف السياسي الذي مارسته سلطة البعث بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في آذار/ مارس 1963، ربما ماثل أقسى تجارب العنف السياسي الذي سجلته دولٌ حديثةٌ، إن لم يكن قد تجاوزه بأشواطٍ، بما عاناه الشعب من ويلات ذلك العنف، وحاول مرارًا وبطرائق مختلفة الخلاص منه، ومتابعة أحلامه بدولةٍ ديمقراطيةٍ، دولة حقٍ وقانونٍ، تُحترم فيها حقوق الإنسان، وتفتح أمامه سبل التقدم؛ لكنه لم يحظ بذلك حتى الآن لأسباب كثيرةٍ، إلا أن المراهنة على هذا الحلم تبقى هدفًا مشروعًا، يستحق المثابرة عليه، والاستعداد لتحمل استحقاقاته.
ثانيًا: عن الصراع السياسي
يعرف الصراع السياسي أنه نوعٌ من التنافس بين القوى والأحزاب أو حتى الأفراد، بغية الوصول إلى السلطة أو الحصول على الميزات، ويتصف بوضوح الأهداف لدى كل طرفٍ من الأطراف المتنافسة، وتتوقف شدته ونوعه على حجم وحضور القوى المنخرطة فيه، وحجم الإمكانات المادية والبشرية المتوفرة لدى كل طرفٍ. ويمكن أن يعرف “أنه حالة ٌمن المنافسة الخاصة بين البشر، حيث تدرك الأطراف اختلافاتٍ في المواقف المستقبلية المحتملة لاختلافٍ في الأفكار السياسية، ويختلف حجم الصراع بحسب حجم أهدافه”.
تؤدي درجة تطور المجتمع ودرجة استقرار الدولة المعنية، دورًا أساسيًا في تحديد شكل وحجم الصراع السياسي، وسبل إدارته، ففي الدول الديمقراطية والمستقرة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يأخذ الصراع السياسي طابعه السلمي، وتكون أداته البرامج السياسية، وطرائق التأثير في الرأي العام، والانتخابات واحترام نتائجها، وسريان مبدأ تداول السلطة، وسيادة ورسوخ القانون واحترامه في قناعات وسلوك المواطنين، وهذا يمنع احتكار السلطة من جهة نخبةٍ دون غيرها، يشير غدير محمد أسيري إلى ذلك في مقالة له بالقول: “التنافس السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في المجتمع المدني الأميركي، يفضي إلى ولادة قوانين تساعد على التعايش السلمي”.
في الدول الديمقراطية، أو تلك الدول السائرة على طريق تنميةٍ ديمقراطيةٍ، وتشغل حقلها السياسي أحزابٌ حديثةٌ تؤمن بالحوار والاعتراف بالآخر وتداول السلطة، وتحترم سلطة القانون، وتُضَمِّن ذلك في برامجها السياسية، فإن النزاعات والاختلافات، تُحَلُّ بالتسويات والحلول الوسطى، وتأجيل القضايا التي يتعذر الاتفاق على حلولٍ دائمةٍ أو موقتةٍ لها إلى وقتٍ آخر يتوقع أن تتغير فيه المعطيات وموقف الرأي العام الشعبي حولها، لكن مع مطلع الألفية الجديدة ثمة خطرٌ يطل برأسه، ويهدد تلك البحبوحة الديمقراطية التي عاشتها الدول الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، وبشرت بفضائلها، بل وأحيانًا ساعدت في تنميتها في دولٍ أخرى، فراحت تظهر فيها تياراتٌ يمينيةٌ شعبويةٌ، تبني خطابها على إحياء نزعاتٍ قوميةٍ، أو محليةٍ، وتعميم خطابٍ عنصريٍ ضد الأجانب والآخر المختلف، وتستخدم تقنيات ثورة المعلومات والاتصالات والإعلام في استرجاعٍ مقيتٍ للنزعات النازية والفاشية، وتوسل العنف أو التهديد به بغية التأثير في القاعدة المجتمعية. ولم يعد خافيًا أن هناك دولٌ وأرباب مصالح، تقف وراء هذه النزعات المتصاعدة وتدعمها، وغايتها من ذلك كسر التوازنات الدولية القائمة، ومحاولة تغيير القواعد الناظمة لها، بما في ذلك استثارة حروبٍ بين الأطراف، وتقديم الدعم لتلك الأطراف المنخرطة فيها، وثمة تعويلٌ كبيرٌ على وعي الشعوب في هذه الدول لمواجهة تلك القوى وهزيمتها بطرائق سلمية، وتجنيب نفسها وبقية شعوب العالم ويلات حروبٍ مدمرةٍ، ما زالت ويلاتها حاضرةً في الذاكرة الجمعية، بخاصةٍ إذا أخذنا في الحسبان التطور الهائل الذي باتت عليه الصناعات العسكرية، وقدرتها الهائلة على التدمير، فضلًا عن وسائل التدمير الشامل، التي تهدد حياة البشرية على نطاقٍ واسعٍ.
يصدف أحيانًا في الدول الأقل تقدمًا، أو تلك التي تعدم حياةً ديمقراطيةً راسخةً، أن لا تجد حلولًا لمشكلاتها لعدم توافر الإرادة للأطراف الفاعلة فيها، فتؤدي إلى الصراع السياسي، وهنا تلعب درجة التطور الحضاري للبلد وبنيته المجتمعية دورًا في تحديد سقف وأدوات الصراع، “ذلك أن البنية المجتمعية لأي بلدٍ تحدد طبيعة وبنية أحزابها وحتى توجهاتها، حيث تنعكس في بنية الأحزاب وعلى الأفكار وطبيعة الأيديولوجيات المحمولة، فالصراعات السياسية في الهرم السياسي تعطي عادةً صورةً عن القاع الاجتماعي الذي أتت منه نخب الهرم السياسي المسيطرة”، وكما يذكر كارل ماركس أيضًا في كتابه نقد الاقتصاد السياسي “الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد درجة وعيهم”، ولعل المثال الأوضح على هذه الحيثية، الصراع على السلطة في اليمن الجنوبي الذي أدى إلى عزل الرئيس اليمني الجنوبي علي ناصر محمد عن سدة السلطة ونفيه إلى سورية، حيث استعان علي سالم البيض، ووزير الدفاع حينها علي عنتر بقبائلهما للفوز في ذلك الصراع، عدا عن استخدام وحداتٍ من الجيش لمحاصرة البرلمان، وهنا تبرز ضرورة التنويه إلى أن النخبة السياسية التي حكمت اليمن الجنوبي -بعد انسحاب القوات البريطانية من عدن عام 1967، وأفسحت المجال أمام قيام جمهورية اليمن الجنوبي- هي نخبةٌ متحدرةٌ من يسار حركة القوميين العرب، حيث أعلنوا نظامًا ماركسيًا على درجةٍ مبالغٍ فيها من التطرف الأيديولوجي.
ليس شرطًا أن يحافظ الصراع السياسي في بلدٍ ما على طابعه السلمي على الدوام، بل من الممكن وحسب طبيعة النظام القائم، وحسب طبيعة الخلاف ودافعه، أن يأخذ الصراع شكلًا عنيفًا، ويتحول إلى توتراتٍ مجتمعيةٍ، أو نزاعاتٍ قوميةٍ أو طائفيةٍ، أو أزمةٍ سياسيةٍ حادةٍ، أو نزاعٍ أهليٍ أو صراعٍ مسلحٍ، كلما وصل حوار النخب التمثيلية إلى طريقٍ مسدودٍ وتعذر التوصل إلى تسوياتٍ وحلول وسطى للمشاكل الطارئة أو المستعصية.
لا ينحصر الصراع السياسي داخل الدول ومكوناتها المجتمعية أو السياسية، بل الشكل الأبرز له هو الصراع بين الدول، وهذا من طبيعة العلاقات الدولية السائدة، وموازين القوى الحاكمة، كما أنه ليس ظاهرةً مستجدةً في التاريخ، وكثيرًا ما تتطور النزاعات بين الدول إلى حروبٍ وصراعاتٍ مسلحةٍ، إما نتيجة نزاعٍ حدوديٍ بين الدول المتجاورة، أو نتيجة تدخل دولةٍ في الشؤون الداخلية لدولةٍ أخرى، أو لدخول أحد طرفي النزاع إلى حلفٍ دوليٍ يستشعر منه الطرف الآخر خطرًا يتهدّده، لكن أكثر أنواع الحروب تنشأ نتيجة سعي الدول التي تأنس في نفسها قوةً وضعف خصمها المستهدف، فتذهب لتحصيل نفوذ ومصالح سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ عنده، وكثيرًا ما تعمد الدول الساعية لبسط نفوذها في الإقليم الموجودة فيه، أو خارجه إلى اللعب في ساحات الآخرين، وإشاعة عدم الاستقرار فيها، تمهيدًا لإعلان الحرب أو التهديد بها، وتبرز إيران كأحد النماذج الفجة في إشاعة عدم الاستقرار والتخريب في محيطها، مذ أطلق الخميني شعار تصدير الثورة عند استيلائه على السلطة في شباط/ فبراير1979، إذ تأبى العلاقات بين الدول فراغ القوة الذي يسعى دومًا للامتلاء. إضافةً إلى هذا الشكل من الصراع، تعمد بعض الدول إلى بسط النفوذ على دولٍ مجاورةٍ أو بعيدةٍ عنها باعتماد القوة الناعمة كالاقتصاد أو الثقافة أو سواهما، وربما تشكل الصين في هذه المرحلة أكثر دول العالم بحثًا عن النفوذ بالاعتماد على الاقتصاد، عبر تقديم المساعدات والقروض طويلة الأمد ومنخفضة الفوائد أو الاستثمارات وسواها، وأكثر هذا النشاط تستثمره في الدول الأفريقية الفقيرة، وعليه فلا بدّ أن تنشأ نزاعاتٌ بين الصين وبعض الدول المقترضة فيما لو غيرت الأولى اتجاهها لسببٍ أو أخر، لكن الأكثر خطورةً على دول القارة السوداء هو اشتداد حدة التنافس بين الصين ودول الغرب الغنية، حيث ستكون القارة ساحة حروبٍ بينهما وموضوعًا لهما.
ثالثًا: في العنف السياسي
يعرف العنف السياسي أنه نوعٌ متطرفٌ من أنواع الضغط أو الإكراه، يمارسه أحد الأطراف لغاية دفع الطرف الآخر للإذعان وتلبية شروطه، عبر ممارسة القوة أو التهديد، وما يستتبع استخدام القوة من ضررٍ وأذىً على الطرف الآخر. ومهما تعددت دوافع العنف السياسي، اجتماعيةً أكانت أو اقتصاديةً أو ثقافيةً، فإنه يتطلع في النهاية إلى تحقيق هدفٍ سياسيٍ، سواءً مورس ضد النظام السياسي القائم أو جماعاتٍ أخرى، كما يمكن أن تمارسه الدولة ضد مواطنيها، ليُسمى حينها عنف الدولة.
أما دليل أكسفورد السياسي فيعرفه أنه “استخدام التهديد أو الأذى الجسدي، بواسطة مجموعاتٍ انغمست في صراعاتٍ سياسيةٍ، لمعارضة الحكومة مستخدمةً الإرهاب السياسي كالاغتيال والتظاهرات وأساليب التمرد أو الحروب الأهلية”.
يمكن أن يتخذ العنف السياسي أشكالًا عديدةً ومتدرجةً في شدتها، منها:
الاضطرابات
شكلٌ من الهياج والتحركات الشعبية، تحدث عادةً كردة فعلٍ على واقعةٍ ما، أو قرارٍ حكوميٍ، أو أي دوافع أخرى، وتتصف عادةً بالتلقائية والعفوية، وتفتقر للتنظيم والضبط، أهدافها بسيطةٌ ومحدودةٌ بالغرض الذي دفع إليها، ويرافقها عادةً مستوىً منخفضٌ من العنف، الذي يتخذ شكل أعمال شغبٍ، على الرغم من كم الناس الكبير الذي يشارك فيها؛ غالبًا ما تكون دوافعها اقتصادية كارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة، أو التضخم وانخفاض المدخول، أو ندرة فرص العمل، وتهدف في هذه الحالة إلى الضغط على الحكومة، ودفعها لاتخاذ جملة تدابير تخفف من وطأة الضغوط الاقتصادية، وهي تعدُّ بذلك ذات هدفٍ سياسيٍ متواضعٍ، كما يمكن أن تدفع إلى الاضطرابات أحيانًا عوامل ثقافيةٌ أو اجتماعيةٌ أو غير ذلك.
الثورة
تحدث الثورة عادةً عندما تصل الاختناقات والعسف الذي تمارسه أجهزة الدولة بحق مواطنيها إلى ذروةٍ تصعب عندها القدرة على الاحتمال، شريطة أن يتوفر لها عاملان: أحدهما ذاتيٌ والآخر موضوعيٌ، يتعلق الذاتي منهما بحالة الناس، وتوافقها واستعدادها لتحمل النتائج، بينما يتعلق الموضوعي بدرجة تماسك النخبة الحاكمة، ومدى صلابة قرارها في المواجهة وهنا تتحكم بنيتها وإمكاناتها وحجم القاعدة المجتمعية التي تستند إليها من جانبٍ، وإلى المناخ الاقليمي والدولي التي تنطلق فيه الثورة من جانبٍ آخر.
وتهدف الثورة إلى نزع المشروعية عن النظام الحاكم، نظرًا لسوء تجربته في الحكم أو فشلها، والدفع بنخبةٍ جديدةٍ إلى سدة السلطة، وهي -أي الثورة- لا تحمل مشروعًا اصلاحيًا يبني على ما هو إيجابيٌ في الواقع المعاش، بل تسعى إلى تغييرٍ جذريٍ ينسف جملة العلاقات القائمة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كما أنها تحمل مشاريع ثقافيةً، أو تبشر بها كجزءٍ من منظومةٍ متكاملةٍ ولو نظريًا، لنقل البلد المعني من حالةٍ باتت مرفوضةً، إلى حالةٍ متخليةٍ لكنها مرغوبةٌ. الثورات نمطيةٌ عمومًا، ومُخطَّطٌ لها من جهة قوىً سياسيةٍ لها مشاريعها التغييرية، لكن هذا لا يمنع من أن تكون عفويةً وغير نمطيةٍ، كالثورة السورية -ثورة الحرية والكرامة- التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، ولم تبلغ أهدافها بعد.
ويحدث أحيانًا أنه عندما تفشل ثورةٌ ما لسببٍ أو لجملة أسبابٍ ذاتيةٍ أو خارجيةٍ، تتحول -على الأرجح- إلى حربٍ أهليةٍ مكتملة الأركان، أو إلى شكلٍ من أشكالها، وذلك عندما تنهار سلطة النظام، أو تضعف إلى درجةٍ كبيرةٍ مع بقاء موازين القوى المجتمعية في حالة عدم رجحانٍ بين أنصار التغيير، وبين من يمانعون فيه، لأن لهم غايةٌ ومصلحةٌ في استمرار الوضع القائم.
سرت عادةٌ تكتنفها المبالغة والاستعراض في دول العالم الثالث ومنها بعض الدول العربية، أن تسمي الانقلابات العسكرية التي أوصلت نخبةً من الضباط -الذين تكتلوا وعملوا بشكلٍ سريٍ- إلى سدة السلطة والتحكم فيها بقوة السلاح والقوانين الاستثنائية والترهيب، كانت بدايتها ثورة الضباط الأحرار في مصر في تموز/ يوليو 1952، أو ثورتَي البعث في 8 شباط/ فبراير، و8 آذار/ مارس 1963 في كلٍ من العراق وسورية على التوالي، ثم ثورة القذافي في ليبيا التي أسماها ثورة الفاتح من سبتمبر، ومن نافلة القول، واستخلاصًا من نتائج التجربة التاريخية العيانية لكل هذه “الثورات” وما ماثلها، أنها لم تجلب لبلدانها سوى الخراب والفقر والفساد والتشتت المجتمعي، لأنها مارست عداوةً مستديمةً مع الديمقراطية وتداول السلطة، وكلها تجارب انتهت بدرجةٍ أو أخرى بعبادة الفرد والاستبداد.
الحروب الأهلية
تستعر عادةً وهي تضمر أهدافًا سياسيةً كبيرةً، إما في مآل ثورةٍ عجزت عن تحقيق أهدافها دون أن تستلم قواها، وإما أن تكون ذات دوافع ثقافيةٍ أو مجتمعيةٍ أو جِهَويّة، في بلدانٍ تعاني من بنيةٍ مجتمعيةٍ قلقةٍ وغير مستقرةٍ، وفي هذا النموذج ومثاله الحرب الأهلية اللبنانية من 1975 و1990 التي تتكرر كلما اختل التوازن المجتمعي، وكان المناخ الإقليمي أو الدولي ملائمًا للدفع باتجاهها.
تنهار سلطة الدولة في الحروب الأهلية ذات الأركان المكتملة عمومًا، لكن في حالات أخرى تكون سلطة الدولة طرفًا في هذه الحرب، دون أن تكون بالضرورة هدفًا لها عشية اندلاعها.
الإرهاب والإرهاب الدولي
يلحق بتصنيف العنف السياسي، مصطلحان هما الإرهاب والإرهاب الدولي، والإرهاب بالتعريف هو شكلٌ ذو درجةٍ حادةٍ من أشكال العنف السياسي، يمكن أن يُمارَس ضد الأفراد أو المجموعات أو الدول، بغية إجبارها على تغيير سياستها تجاه قضيةٍ ما، وتُستعمل فيه كافة أشكال القتل والتخريب والخطف والاغتيال السياسي، الذي يعتبر أبشع وأخطر أشكال الاغتيال، وللإرهاب عادة أهدافٌ سياسيةٌ كبيرةٌ، سواءً تم الإفصاح عنها أو بقيت مضمرةً، وهذا النوع يمكن أن تمارسه دولٌ ضد دولٍ أخرى، أو مجموعاتٌ في مواجهة مجموعاتٍ أخرى، وهو نوعان:
أ- أعمال عنفٍ تجري داخل الدولة غايتها كسر التوازن الداخلي بين القوى المتنافسة، ويمكن “التمييز بين نمطين من العنف السياسي، أولهما هو الذي تمارسه الدولة ضد مواطنيها في أحوال خاصة، وثانيهما هو العنف المضاد الذي تظهره فئات المجتمع التي تتمرد في لحظةٍ معينة على نظام الدولة، أو فئاتٌ تنادي بمطالبها الخاصة”، ويتفرع عن النمط الأول ما بات يعرف اصطلاحًا بعنف الدولة، من حيث أنها تحتكر حيازة السلاح ومشروعية استخدامه، بما يفترضه دورها بالحفاظ على الأمن العام، وحياة الأفراد والجماعات وممتلكاتهم والملكيات العامة، والحفاظ على الاستقرار وإشاعته على كافة جغرافيا الدولة، والحفاظ على سيادتها، ومواجهة العدوان الخارجي، لكن كثيرًا ما يحدث، وبما يتناسب طردًا مع تراجع المشروعية السياسية للنظام القائم والتي ينبغي له أن يحوزها، وذلك عندما يفشل في تنمية البلد، أو أن تجري إساءة استخدام حق احتكار القوة، وتتجه سلطة الدولة لممارسة العنف خارج القانون بحق معارضيها، وتسخير إمكانات الدولة كافةً في هذه المواجهة، لكن حتى وإن استطاعت سلطة الدولة كسب جولةٍ في هذه المواجهة، وأخضعت معارضيها أو المتمردين عليها، فإن هذا الانتصار لن يعدو أن يكون انتصارًا مؤقتًا، وهو يشكل وصفةً نموذجيةً، لعنفٍ اجتماعيٍ مستبطنٍ، لا ينفكّ يتفجر بشكلٍ أكثر حدةً، كلما واتته الفرص الملائمة، أو آنس المجتمع ضعفًا في سلطة الدولة.
ب- الإرهاب الدولي شكلٌ متطورٌ من الجريمة المنظمة العابرة للحدود، لكنه يتميز عنها أنه يتنطع لتحقيق هدفٍ سياسيٍ محضٍ وكبيرٍ، مبتعدًا عما يستهدف جمع المال والثروات. ويتصف الإرهاب الدولي بائتلافه على درجةٍ عاليةٍ من التنظيم والتخطيط في ملاحقة الأهداف، كما أن أكثر ما يميزه هو ميل القائمين عليه، لممارسة أشد درجات العنف، بغية زرع الخوف في نفوس الناس في مناطق الخصم.
لا يصطبغ الإرهاب الدولي بصبغةٍ أيديولوجية محددةٍ، فقد يكون يمينيًا أو يساريًا أو دينيًا، وذلك حسب الهدف السياسي الذي يسعى لتحقيقه، فقد سادت خلال القرن العشرين التنظيمات الإرهابية اليسارية، بهدف تثوير المجتمعات في وجه الهيمنة الرأسمالية، ولم تعدم تلك التنظيمات دعم بعض الدول أو الأحزاب ذات الأيديولوجيات الكونية. أما مع نهايات القرن الماضي، فقد ظهرت على الساحة الدولية المنظمات الجهادية الإسلامية، وكان من أبرزها منظمتي القاعدة وداعش، وقد عممت القاعدة تجربتها بتحالفها مع منظماتٍ إرهابيةٍ محليةٍ في دولٍ عديدةٍ، تحت مسمى قاعدة الجهاد في بعض الأقاليم، مثل قاعدة الجهاد في المغرب العربي، وقاعدة الجهاد في شبه جزيرة العرب، وقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، التي شاركت في مواجهة القوات الأميركية بعد احتلالها العراق، ثم تحولت في عام 2014 إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ومن ثم تمددت داعش إلى المغرب العربي وأفغانستان، وما زالت في حالة نموٍ على الرغم من تشكيل تحالفٍ دوليٍ لمحاربتها، حيث استطاع إنهاء دولتها المعلنة عام 2018.
استمدت القاعدة وما تفرّع عنها لاحقًا من منظماتٍ متطرفةٍ على اختلاف درجة تطرفها، زخمها وحلمها بانتصار مشروعها، من الهزيمة التي ألحقتها التنظيمات الإسلامية الجهادية الأفغانية على تنوعها، وممن لحق بها بالآلاف من المتطوعين العرب (الأفغان العرب) في الاتحاد السوفياتي عام 1989، كونه كان يشكل القوة الكونية الكبرى المنافسة لقوة الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين، وكانت الفكرة المضمرة عندها تقول إنه “ما دامت هزيمة الاتحاد السوفياتي قد تحققت، فإنه من الممكن هزيمة الولايات المتحدة، التي تدعم الأنظمة في الوطن العربي، وتمنع قيام أنظمةٍ دينيةٍ إسلاميةٍ في هذه البلدان” متناسيةً، أنه لولا الدعم غير المحدود، الذي قدمته الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبعض الدول العربية للتنظيمات الأفغانية، لما تحقق ذلك النصر بهذا الشكل، أو أنه كان سيتأخر زمنًا مديدًا، حيث كان هذا الدعم جزءًا من المواجهة الكونية بين القطبين إبان الحرب الباردة، والذي أدى من ضمن جملة عوامل أخرى إلى انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي لاحقًا، وتفرد الولايات المتحدة كقطبٍ أوحد في قيادة العالم حتى الآن.
لقد كانت ذروة العمليات الإرهابية للقاعدة على كثرتها تدمير برجَي التجارة العالمية في نيويورك بتاريخ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ما قدم المبرر للمحافظين الجدد إبان حكم جورج بوش الابن، كي يغزو كلًا من أفغانستان والعراق، وتدمير بنيتهما التحتية، كما تسببت بقتل مئات الآلاف من المدنيين في الدولتين، وما زالت حالة الفوضى والخراب تعمهما حتى الآن، ذلك أنّ بناء الدول أصعب بما لا يقاس من إمكانية تحطيمها على يد دولةٍ عظمى كالولايات المتحدة، إلا أن بريق القاعدة بات باهتًا، إذ ضعفت إلى درجةٍ كبيرةٍ لصالح منظماتٍ أكثر تطرفًا مثل داعش التي راحت تستولي على إرث القاعدة وتستقطب الكثير من عناصرها.
ثمة تنظيماتٌ إرهابيةٌ متطرفةٌ أخرى، عابرةٌ للحدود على الجانب الشيعي من الإسلام، كحزب الله اللبناني وميليشيا فاطميون وزينبيون وبعض الميليشيات العراقية، حيث حاربت تلك التنظيمات خارج حدود دولها، وارتكبت جرائم ضد الإنسانية في سورية والعراق واليمن، ونفذت بعض العمليات الإرهابية في بعض دول العالم؛ وتتميز عن التنظيمات الإرهابية على الجانب السني من الإسلام، أنها تشكل أداة هيمنةٍ وفرض نفوذٍ في خدمة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة، وأنها ممولةٌ من الحرس الثوري الإيراني، وموجهةٌ بتوجيهاته، ومنضبطةٌ وفقًا لتعليماته وخططه.
لعل تجربة ثلاثة عقودٍ من اشتغال هذا النوع من الإرهاب، تبيّن أن التنظيمات الإرهابية ذات التوجه الإسلامي لم تجلب -على تنوعها وتعددها وتعدد ساحات عملها- سوى الخراب للدول العربية، وزادت في تعميق الصدوع المجتمعية فيها، وأضعفت مناعتها أكثر مما هي عليه، لدرجة سهلت على الدول الإقليمية الطامعة بالنفوذ والهيمنة، تنفيذ خططها بالتوسع في مشاريعها على حساب هذه الدول، ولعل الأهم من ذلك هو خطر ودموية وفوات النموذج الذي تحمله لشعوب المنطقة، من حيث أنه مشروعٌ يتبنى تخارجًا مطلقًا مع قيم العصر، ونمط العلاقات الدولية السائد.
رابعًا: سورية بين مرحلتين من الصراع السياسي والعنف السياسي
ربما سورية هي واحدة من الدول القليلة التي يمكن تقسيم تاريخها بعد الاستقلال إلى مرحلتين متمايزتين بوضوحٍ: مرحلةٌ وسمها الصراع السياسي امتدت من الاستقلال حتى انقلاب البعث في 8 آذار/ مارس 1963، على الرغم مما تخللها من انقلاباتٍ عسكريةٍ، وفترة الوحدة المصرية السورية حيث منعت دولة الوحدة عمل الأحزاب وأوقفت الحياة البرلمانية، ومرحلة ما بعد انقلاب 1963 حيث ساد الحياة السياسية السورية درجات متصاعدة من العنف السياسي الدموي بشكلٍ فظيعٍ في أكثر من محطةٍ، وما يزال مستمرًا على الرغم من مضي عقدٍ على انطلاقة الثورة السورية، وما سُجِّلَ فيها من عنفٍ غير مسبوقٍ، وما تركه من مآسٍ وويلاتٍ وقتلٍ ودمارٍ وتهجيرٍ بأرقامٍ مرعبةٍ، إلى جانب ما خلّفه من تواجد أربعة احتلالاتٍ جديدةٍ فرضتها أربع دولٍ متدخلة، ما زال تدخلها وعدم توافقها على توازع النفوذ والمصالح، يعطل التوصل إلى أي حلٍ سياسيٍ، على الرغم من القرارات الأممية العديدة ذات الصلة.
طبيعة الصراعات السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال
عندما أنهت فرنسا انتدابها على سورية بعد ربع قرنٍ من سيطرتها المباشرة، ورّثت السوريين دولةً حديثةً، مكتملة الأركان بمعنىً ما (جيشٌ وشرطةٌ ومؤسساتٌ حكوميةٌ وبرلمانٌ وانتخاباتٌ)، وقد تصدت للمرحلة الجديدة نخبةٌ سياسيةٌ ليبراليةٌ، كسبت سمعةً مشرفةً في عقول السوريين من حيث أنها خاضت المعركة السياسية الطويلة مع سلطة الانتداب، لتحصيل الاستقلال بأفضل الشروط الممكنة، وفق ما أتاحه المناخ العالمي مع نهاية الحرب العالمية الثانية، والضعف البنيوي على المستوى الداخلي، إلا أنه عانت تلك النخبة خللًا يصعب تجاوزه، ألا وهو افتقادها قاعدةً شعبيةً وازنةً ومتماسكةً، تستطيع الاستناد إليها في مواجهة التحديات التي واجهتها سورية غداة استقلالها بحكم موقعها الجيوسياسي، كما عانت تلك النخب انقسامًا سياسيًا ذا بعدٍ جِهَويٍ في موقفها من التجاذب بين محورين، كان كل منهما يحاول استقطاب سورية إلى صفه، وهما: المحور الهاشمي الذي يضم ( العراق والأردن)، ويميل إليه حزب الشعب وقوته الأساسية تتركز في حلب، والمحور (المصري السعودي) الذي كانت تميل إليه الكتلة الوطنية، وقوتها الفاعلة في دمشق، عدا عن سياسة الأحلاف التي كانت تقودها الولايات المتحدة وحلفائها كحلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب، بغاة تشكيل سدٍ في وجه الاتحاد السوفياتي آنذاك، ومنعه من الوصول إلى المياه الدافئة ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط،، حيث كانت تضغط على سورية للانضواء فيهما، ثم جاءت القضية الفلسطينية نتيجة قيام إسرائيل، الأمر الذي بات هدفًا ومسعىً لدى النخب والأحزاب لكسب المشروعية السياسية، وهو أمرٌ من جملة أمورٍ دفعت الجيش للتدخل في السياسة، دون أن يعدم تدخله عامل الدفع الخارجي، حيث سجلت سورية رقمًا قياسيًا في عديد انقلاباتها، ففي عام 1949 حدث انقلابان عسكريان (حسني الزعيم وسامي الحناوي)، ثم في عام 1951 حدث انقلاب أديب الشيشكلي الذي شهد شهر شباط/ فبراير 1954 نهايته، بعد مؤتمر حمص للقوى السياسية والزعامات المناوئة للانقلاب، وبلاغ الضابط مصطفى حمدون الذي أذاع بيان التمرد من إذاعة حلب، لتعود الحياة البرلمانية من جديدٍ إلى أن قطعتها الوحدة المصرية السورية، التي جمدت الحياة السياسية والانتخابات، لكن في أيلول/ سبتمبر 1961 جاء انقلاب النحلاوي، الذي أنهى الوحدة، وأعاد الحياة السياسة فيما عرف بحكم الانفصال، الذي قطعه انقلاب البعث 1963، ودخلت معه سورية في مرحلةٍ جديدٍة، فاتحًا عصرًا من العنف السياسي.
ثمة ملاحظةٌ في هذه المرحلة من تاريخ سورية، تتعلق بحيثية الانقلابات العسكرية المتكررة، من المفيد الإشارة إليها، نظرًا لأهمية تمييزها عن دور الجيش في الحياة السياسية في مرحلة البعث، ففي تلك الانقلابات كان الجيش يتدخل في السياسية، دون أن يلغيها أو يستحوذ عليها أو يغلق العملية السياسية، بل كانت تجري فيها انتخاباتٌ، إذ جرت عدة عملياتٍ انتخابيةٍ في عام 1947 و1949 و1954 و1961، حيث كانت أول الانتخابات في عام 1947 أفضلها وأكثرها نزاهةً، لكن ثمة خللٌ في توجهات بعض الأحزاب السياسية السورية كحزب البعث والحزب الشيوعي والقومي السوري والإخوان المسلمين، حيث سعت هذه الأحزاب لكسب ضباط ٍداخل المؤسسة العسكرية، بل وتدفع بعناصرها للالتحاق بالكليات العسكرية، استجابةً لفكرة أن القوة العسكرية والقبض عليها، هو أقصر الطرق للوصول إلى السلطة وضمان دوام حيازتها، لكن تورط الحزب القومي السوري بعملية اغتيال عدنان المالكي 1955، وما ترتب عليها من تداعياتٍ، أطاحت بأحلام الحزب القومي السوري، نتيجة حظره وملاحقة ناشطيه وسجنهم، أو دفعهم للفرار خارج سورية.
العنف السياسي في سورية بعد عام 1963
شكل وصول البعث إلى السلطة عام 1963 كارثةً على الحياة السياسية، ذلك الانقلاب الذي خططت له وقادته اللجنة العسكرية التي ألّفها بسرّيةٍ مجموعةٌ من الضباط الذين أوفدوا إلى مصر أثناء الوحدة، وبمجرد أن وصلوا إلى السلطة “هدفوا إلى خلق جيشٍ عقائديٍ على نقيض الجيش المتدخل في السياسة الذي عرفته سورية في الماضي، وذلك بجعل الجيش وقفًا على البعث، فكان هذا هو الشرط الأساسي -كما اعتقدوا- لإقامة حكمٍ مستقرٍ في بلدٍ غير مستقرٍ بالوراثة”، لذلك تخلصوا من شركائهم الناصريين بعد أشهرٍ بانقلاب 18 تموز/ يوليو 1963، ثم تخلصوا تدريجًا من معظم الضباط أبناء المدن، أو ممن لمسوا منهم عدم رضى، وتفرغوا بعدها لترتيب الاصطفافات داخل البعث نفسه في القطاعين المدني والعسكري، وتصفية الخصوم من الرفاق، فكان انقلاب شباط/ فبراير 1966، ثم انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 ، الذي قطع الطريق على فكرة الانقلابات العسكرية من أساسها، حيث استطاع الأسد الأب ترتيب تشكيلات الجيش وقيادته وضبط التوازنات داخله، بما يخدم استمراريته التي عزِّزَت بتوسيع الأجهزة الأمنية من حيث عددها وتفرعاتها وأدوارها، وتحصينها بالقوانين الاستثنائية، وكذلك بتفعيل أجهزة الضبط الأخرى كالحزب والمنظمات الشعبية، بحيث تم خنق الحياة السياسية وتضييق ومحاصرة الأحزاب التي رفضت الانخراط في جبهته الوطنية، وأذاق ناشطيها ويلات السجون المديدة، أما الأحزاب التي تورطت في الدخول في جبهته الوطنية، فقد حوّلها إلى ديكور ليس له أي دورٍ سياسيٍ فاعلٍ، بل على العكس من ذلك دفع أحزابها للانشقاق عن نفسها مرةً أو أكثر لكل حزبٍ، وفي التحصيل النهائي فإن النهج الذي اتبعه البعث في حكم سورية حرّم السياسة، وجفف الحقل السياسي، وحرّم الأحزاب من قدرتها على استقطاب دماءٍ شابةٍ، فعانت من انقطاع الأجيال فيها، وتحولت إلى نُخبٍ معزولةٍ. لكن وعلى الرغم من هذا الاستقرار النظري، الذي فُرض بالقهر والسجون، لم تشهد سورية استقرارًا حقيقيًا البتة، إنما شهدت جولاتٍ من انفلات العنف بين سلطةٍ متسلحةٍ بإمكانات الدولة، وبين من تمردٍ عليها في الأعوام 1964 و1965 حتى الفترة بين 1977 و1982، ثم جاء الانفجار الشعبي الكبير بتاريخ 18 آذار/ مارس 2011، الذي شهد أفظع أشكال عنف الدولة في مواجهة شعبها، دون أن ينفي وجود من مارس العنف من الجماعات التي حملت السلاح، أو تلك الجماعات المتطرفة والعابرة للحدود التي دخلت على خط الصراع، سواءً حاربت إلى جانب النظام أو في مواجهته. ويحتفظ السوريون الذين عايشوا هذا الصراع -المفتوح إلى يومنا هذا- في ذاكرتهم حجم العنف الذي مورس وحجم القوة المستخدمة الفائقة عن الحاجة، ولا يتطلبها مستوى تسلح الخصم، وذلك لبث إرهابٍ يجبر الناس على الرجوع عن ثورتهم، أو الهرب بأرواحهم وبأبنائهم خارج البلاد.
خامسًا: حاجة سورية إلى الخروج من دوامة العنف
إن حجم العنف الذي تجرعه السوريون في ظل البعث، وهو في جوهره عنفٌ سياسيٌ، حتى وإن شابه بعض التوصيفات الأخرى، وباتوا تواقين للخروج من هذا الكابوس، وطرد العنف خارج بلدهم، والتفرغ لتنميته وتأمين مستقبل أجياله، وهذا وإن بدا حلمًا وفق المعطيات الراهنة للصراع، والإهمال الذي لحق بالملف السوري، من جهة الدول المتدخلة والفاعلة، وانشغالها عنه بملفاتٍ أخرى تبدو لها أكثر أهمية لمصالحها من العمل على إنهاء مأساة السوريين، إلا أنه حلمٌ لا بد أن يتحقق. لذا ينبغي للسوريين أن يعملوا على الاستعداد له وتلبية استحقاقاته، وهم الذين خرجوا من أجل كسر حلقة الاستبداد، وإقامة نظامٍ في دولةٍ ديمقراطيةٍ، دولة مواطنةٍ وحقٍ وقانونٍ تضمن قدرًا معقولًا من الاستقرار السياسي، واحترام نتائج الانتخابات، وتداول السلطة وتنمية الهوية الوطنية السورية، وتجاوز العلاقات ما دون الوطنية السائدة، والتي لم يعمل نظام الاستبداد على تجاوزها، هذا إذا لم يكن قد عزز الصدوع المجتمعية عن قصدٍ أو بدونه.
لعل من أهم الإجراءات والأساليب التي تساعد في تجاوز الحالة:
1- تنمية المشاركة السياسية، فهي تلعب دورًا كبيرًا في إعادة الاستقرار السياسي، في الدول والمجتمعات الخارجة من حروبٍ وصراعاتٍ، وهي تساهم كذلك في انتعاش الحياة السياسية وتفعيلها، وتجاوز حالة الاستقطاب السياسي الحاد، عبر الوصول إلى تسوياتٍ عادلةٍ وقابلةٍ للحياة وتحوز رضى المجتمع، وهذا يحتاج إلى بيئةٍ قانونيةٍ نافذةٍ، تؤمن مناخًا مناسبًا للنشاط المجتمعي، وما يساعد عليه في المستويين السياسي والثقافي.
2- تعميم وتطوير منظمات المجتمع المدني، فإليها تعود القدرة على تنظيم وتوجيه الجهد الاجتماعي، بما يخدم عملية التنمية الشاملة والمستدامة، كما يعول عليها استقطاب جيل الشباب، وتنظيمهم وإشغالهم ضمن أعمالٍ تطوعيةٍ، تنمي فيهم روح المواطنة والانتماء، وتجاوز العلاقات ما قبل الوطنية، وتشركهم في البحث عن حلولٍ للمشكلات المستجدة في حياة المجتمع، ولا يخفى أن هذا النوع من النشاط التطوعي للشباب، يهدف إلى دفعهم لتحمل قسطٍ من الأعباء المجتمعية، التي لم تعد الدول قادرةً على الوفاء بها، ولمجمل هذه الأدوار التي يمكن لمنظمات المجتمع المدني القيام بها، من حيث وساطتها بين الدولة والمجتمع، تنبع أهميتها وضرورة تعزيز دورها.
3- إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد، بعد تدهوره بشكلٍ مريعٍ، وهروب الفاعليات الاقتصادية ورؤوس الأموال إلى خارج البلاد، نتيجة التدمير والخراب الذي لحق بالبنية التحتية من طرق ومبانٍ وكهرباء ومعابر، وكذلك نتيجة سياسات التضييق التي تمارسها السلطة على الفاعليات الاقتصادية، لسد النقص المريع في وارداتها واستفحال الفساد، بحيث وصلت حالة الاقتصاد حد الانهيار التام، كما أن جهود إعادة الإعمار على افتراض انطلاقها، واشتغال الحل السياسي، تحتاج إلى التمويل الكبير والمدى الزمني، هذا إذا توفر التمويل، كما أنه وللخروج من هذه الحالة لا بدّ من استصدار قوانين تشجع على جلب وتوطين الاستثمار المحلي والأجنبي، وتوفير البيئة القانونية المستقرة والمطمئنة، وقبل كل هذه الإجراءات، يجب تحسين الحياة المعاشية للسكان، حتى يتمكنوا من الاستهلاك بالقدر المعقول، وتنمية الطبقة الوسطى في المجتمع، لأنها ضمانة الاستقرار السياسي والمجتمعي، فاستقرار المجتمعات يقاس باتساع وفاعلية طبقتها الوسطى.
4- تعزيز التماسك الاجتماعي، إذ فعل الاستبداد المديد فعله بإضعاف البنية المجتمعية وتفكيكها، وشيوع العلاقات ما قبل الوطنية فيها، ثم جاء الصراع ليزيد الطين بلةً، ويترك من حيث الممارسات والعنف الذي مارسه ندوبًا قد يصعب مداواتها وتجاوزها، ومن هنا تأتي أهمية التعويل على قيام نظامٍ ديمقراطيٍ في سورية المستقبلية، يعمل على تجاوز الوضع القائم من الانقسام المجتمعي، ويشجع على الاندماج بين فئات المجتمع ، ويجد حلولًا للمسألتين القومية والطائفية، القابعتين في القاع المجتمعي السوري، ويتوالد عنهما المزيد من المظلوميات الحقيقية أو المتخيلة. وهذه المظلوميات لا تنفك تنفجر كلما واتتها ظروف للانفجار.
سادسًا: خاتمة
يعدّ العنف السياسي الذي يمكن أن تشهده المجتمعات من أسوأ أنواع العنف وأخطرها، حتى وإن كان كل عنفٍ مستخدمٍ بدرجةٍ ما له هدفٌ سياسيٌ، كَبُر هذا الهدف أم كان بسيطًا ومحدودًا، وسواءً مارسته الدولة ضد مواطنيها، أو جاء من جماعاتٍ متمردةٍ، لغاية تغيير القواعد الناظمة للعلاقة بين السلطة والمجتمع، كلما جرى الإخلال بها، أو حتى في الصراعات والحروب خارج حدود الدولة، أو مارسته الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وبما أن العنف يعطل تنمية المجتمعات، فإنه يدفع النخب كي تعمل على تنمية العوامل التي تحد من العنف السياسي الذي يتهددها، وتفسح المجال أمام شيوع الصراع السياسي الذي تقيده القوانين المتفق عليها مجتمعيًا، ويحترم قواعد اللعبة السياسية المعمول بها، ونتائج الانتخابات وتداول السلطة، وفي دولةٍ كسورية تعاني حالة عدم استقرارٍ مزمنةٍ، وتحكم فيها لخمسة عقودٍ نظام حكمٍ استبدادي، عمم بنهجه حالةً غير مسبوقةٍ من العنف السياسي، فإنه يتوجب على النخب على مختلف أوجه نشاطها، أن تتحضر وتستحضر كل الإجراءات، التي تسمح بتجاوز الحالة من التدهور المجتمعي والاقتصادي، حال اشتغال الحل السياسي، كي يستطيع هذا المجتمع استعادة زمام المبادرة، والمشاركة في تأمين مستقبلٍ أفضل للأجيال المقبلة.
المراجع:
سيل، باتريك، الصراع على الشرق الأوسط، ط10 (د. م: شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، 2007).
محمد، نشوى، العنف السياسي (د. م: المركز الدولي للدراسات، 2012).