تمهيد
لطالما تعمد الوصول إلى “السلطة” بالدم، سواء في بدايات تكونها أو في مراحلها اللاحقة. شدد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وآخرون كثيرون على العلاقة بين “سلطة الدولة وممارسة العنف”، حتى إن كارل ماركس ذهب إلى اختصار التاريخ بأنه “قطارٌ يسير على سكةٍ من الدم”. ولم يميز أكثر علماء الاجتماع وفلاسفة الفكر السياسي بين العنف والسلطة، ولا ينتهي عنف السلطة وسفك الدم في أكثر الأحيان حتى بعد استحواذ “المنتصرين” على الموارد والحكم. يمكن أن يحدث الاستثناء حتى الآن في الكيانات التي تبلغ فيها الدولة ثوابت إنسانيةً مُعمّمةً وواعيةً، أي عادلة في صيانة الحقوق، إلى درجة تُقنع مكوناتها ككل، -جماعاتها وأفرادها، بضرورة نبذ العنف لأنه يهدّد مصالح الفرد والجماعة على السواء. وبترسخ هذا المسار جيلًا بعد جيل ليتحول هذا “النبذ” إلى تطورٍ حضاريٍ، وإلى قيمةٍ أخلاقيةٍ بذاته.
نظريًا، عندما تتحقق الثقة والمصلحة المصيرية المشتركة، يصل الكيان السياسي إلى مستوىً يقوم فيه المجتمع بمكوناته ككلٍ بحماية السلطة، كمؤسسةٍ عموميةٍ. هذا البلوغ “الإنساني” لا يزال نادرًا طبعًا. في الحالات الأخرى، والأعم، تبقى السلطة في موقع الاستعداد للقمع واللجوء إلى العنف وسفك الدم، كأدواتٍ جاهزةٍ للاستخدام عند أي “خطرٍ” داهمٍ يهدد أصحابها، وذوي المصالح المنتفعين منها، عندما تكون سلطةً فئويةً (طبقيةً، طائفيةً، إثنية، حزبية، عائلية… إلخ).
لعنف السلطة أنواعٌ وأشكالٌ لا تحصى. وبمفهومه الواسع الانتشار، أي العنف “الرسمي” الذي تمارسه الأجهزة العسكرية والأمنية والاستخباراتية، توجد العديد من الطرائق والأدوات، هذا عدا العنف “غير المادي” أو غير الملموس، مثل القهر النفسي أو الأيديولوجي- العقائدي- الطائفي- أو الثقافي والقومي، وما إلى ذلك.
وقد تلجأ السلطة، بمفهومها العميق وبقواها المهيمنة، إلى عنفٍ غير قانونيٍ وغير مُعتَرفٍ به قانونيًا من السلطة نفسها، وغير موثقٍ في الأوامر الإدارية، فتكلف أفرادًا أو مجموعاتٍ، لا صفة رسمية لها -إعلاميًا على الأقل- بالقيام بمهماتٍ أمنيةٍ أو قتاليةٍ، علنيةٍ أو سريةٍ، لغاياتٍ تختلف من حالةٍ إلى أخرى. هذا النوع من العنف أيضًا، قد يكون له صورٌ شتى (اغتيالات، ضغوط على خصوم داخليين أو خارجيين، الاستعانة بمرتزقة محليين وأجانب مافيات الأعمال والمشاريع، التضييق على الإعلام، القرصنات الإلكترونية… إلخ).
تهتم هذه المقالة/ الدراسة تحديدًا بعنف السلطة الذي تضخّم ظهوره في السنوات الأخيرة وتحديدًا منذ 2011 في العالم العربي، وأصبحت تتردد المصطلحات الخاصة به في الإعلام العربي والأجنبي، وعلى الألسن من المحيط إلى الخليج. وقد تكرّر في عدة دولٍ مكونًا ظاهرةً لا مفر من دراستها في الشكل والمضمون والسياق في محاولةٍ لتحديد “شروط” نجاح أو فشل هذا النوع من العنف. فكثرة اللجوء إليه في السنوات العشر الماضية، والدلالات العميقة التي أوحي بها ومرت مرور الكرام، لم تنل غالبًا الاهتمام المتناسب مع النتائج المأسوية التي أحدثها في بعض مسارات الحركات الشعبية، أو مع الحوادث المأسوية التي تسبب بها في عدة حالاتٍ ضد المدنيين والاحتجاجات السلمية.
أي أن إطار الدراسة هنا هو العنف الظاهر العلني الذي قامت وقد تقوم به مجموعاتٌ محسوبةٌ على السلطة خلال الثورات والانتفاضات التي عرفت في بداياتها بالربيع العربي منذ مطلع العقد الماضي، ومحاولة مقارنة بعض تلك الحالات، من حيث الأساليب، والانتماء الاجتماعي أو العصبوي، ومدى تشابه واختلاف النتائج التي ساهم في تحقيقها. أي ذلك النوع من العنف الموجه إلى قمع وترهيب وقمع الحراك والاحتجاجات الشعبية السلمية في أثناء تلك الثورات والانتفاضات. وهو لا يشمل إذًا العنف الذي يُستخدم في حالات الحروب الأهلية أو النزاعات المسلحة التي نشأت بعد الثورات والانتفاضات. وفي هذا الإطار فإنه بالانتقال إلى الواقع، يظهر “العنف الموازي” الذي تمارسه السلطة عن طريق مجموعاتٍ محسوبةٍ عليها، ولكنها غير مرتبطةٍ بها رسميًا، بأسماء تختلف من بلدٍ إلى آخر، لكنها تتمتع بخصائص شبه واحدة، “البلطجية” في مصر و”البلاطجة” في اليمن و”الشبيحة” أو “شبيحة النظام” في سورية، و”الزعران” في الأردن، والميليشيات والشبيحة (وأحيانا القمصان السود) في لبنان والعراق، و”المرتزقة” في ليبيا و” القوات المتمردة” في السودان… إلخ؛ تختلف مسميات هذه المجموعات غير الرسمية والتابعة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لأجهزةٍ أو قوىً وأحزابٍ نافذةٍ في السلطة، تمارس العنف بطرائق مختلفة، وتحظى في الوقت نفسه بتغطيةٍ ضمنيةٍ وتسهيلاتٍ ميدانيةٍ من الأجهزة القمعية الرسمية.
أي أن “العنف الموازي” لحساب السلطة يقتضي هنا عدم تمتع الفاعل بأي صفٍة رسميةٍ معلنةٍ، لأسباب عدة، من بينها جَعْله مؤهلًا لممارسة العنف والإجرام، في حالات تجنيب مسؤولي السلطة الرسمية من المساءلة القانونية، أو من أي سلطةٍ رقابيةٍ أو قضائيةٍ، محليةٍ أو خارجيةٍ، ومن دون التقيد بأي حدودٍ كتلك التي تقيد عادةً العنف الرسمي للسلطة، أو تجعل تجاوزها محط إدانةٍ في المحافل الحقوقية والدولية.
وكلما كان هدف السلطة من البلطجة والتشبيح، أو عنف الجماعات الموالية لها، هو ترهيب المحتجين والمتظاهرين المدنيين وتفريق جموعهم، وكسر عزيمتهم أكثر فأكثر، كلما زادت انتهاكاتهم وبطشهم، ويمكن ربط ذلك أيضًا بما أُشيع وعُرِف عنهم من “همجيةٍ” أحيانًا، وبالصورة الذهنية الراعبة على نطاقٍ محليٍ وخارجيٍ.
هذه الهالة النفسية تستحق بدورها اهتمامًا بالدراسة والتحليل. لكنها جزءٌ من عوامل موضوعيةٍ تشيع ظاهرة العنف الموازي في سياقاته التاريخية والاجتماعية. فظهور أنواع وآليات “العنف غير الرسمي” التابع للسلطة لم يأتِ من فراغٍ. صحيحٌ أنه كثُر استخدام الأنظمة الحاكمة أو القوى المهيمنة على السلطة للعنف، خصوصًا في السنوات الأخيرة، لكن يمكن ربطه بجذورٍ تاريخيةٍ راسخةٍ، وإرجاعه إلى مرحلة ما قبل نشوء الدولة. علمًا أن بعض المهتمين والدارسين الأجانب يذهب إلى عدّ بعض مظاهر العنف، وحتى الإجرام أنها السلطة بذاتها، وأنها هي الحاكم الفعلي أو الخفي، كما فعل الإيطالي “روبيرتو سافيانو” الذي خلص في نهاية تحليلاته وتجاربه “المرّة” إلى أن “ظاهرة عصابات المافيا هي في الحقيقة «ظاهرة حكمٍ» وليست «ظاهرةً إجراميةً بسيطةً»”.
عكس التاريخ!
يمكن القول إنه ومنذ المجتمعات البدائية ثم العشائرية والزراعية والقروية، سبق العنف “السياسي” قيام الدولة بقرونٍ على الأقل. زمنيًا، سبق العنف “السلطة” بمفهومها الحديث. وخلال تلك المراحل من طابعه “غير الرسمي”، واكب العنف نشوء وتنظيم الجماعات، ثم المجتمعات المدنية ثم قيام الدولة، بتكوينها الهجين من جماعاتٍ كانت متحاربة، ثم كانت دولة المؤسسات المنظمة اللاحقة التي احتكرت القوة وشرعت لنفسها ممارسة القوة والعنف ضد معارضيها أولًا. وهكذا، نشأ عنف السلطة الرسمية كتطورٍ (فرضه المنتصر، المنتصرون بشكلٍ ما) للعنف غير الرسمي.
إذًا، العنف والسلطة صنوان، حتى في المجتمعات الأكثر ديمقراطيةً وسلميةً حيث تكثر القوانين والقواعد الضابطة لانتهاك حريات التعبير والتظاهر والتجمع، أو المقيدة للتمرد على القهر. فالدولة تحتاج إلى قوةٍ إقناعيةٍ كانت سابقًا قوىً أكثر قمعية (ردعية)، ولكنها بقيت وستبقى، ويجب أن تكون جاهزةً لحفظ مبادئ العقد والتشارك ولو بالقوة، ولا يحق لغيرها استخدام هذا العنف (تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا- ومن المفارقات أن الرئيس الفرنسي اتهم المتظاهرين بالبلطجة).
من هنا يمكن القول إن عودة ظهور هذا العنف بعد نشوء الدولة الحديثة، يعكس من جهةٍ عجز السلطة التي تلجأ إليه، ويحمل من جهةٍ ثانيةٍ دلالاتٍ تتجاوز الانحراف عن مسار التاريخ والانقلاب على مفهوم المؤسسات والدولة، وتصل إما إلى الإجرام، بمعنى الانتقام، وإما إلى ميولٍ ونياتٍ للتراجع عن أسس الاجتماع السياسي القائم للكيان المعني، ما ينزع “الشرعية” الزمنية التي اكتسبتها سلطة هذا الكيان حتى لحظة اعترافها بفشل أجهزتها الردعية عن التعامل المسؤول مع الاحتجاجات السلمية واضطرارها إلى العودة واللجوء إلى عنفٍ غير شرعيٍ بالاستعانة بمجموعاتٍ غير رسميةٍ، من موالين لها أو مرتزقة. وهذا بدوره يعني المغامرة بكل شيءٍ من أجل السلطة، بما في ذلك الدفع باتجاه إعادة/ إرجاع الكيان إلى مراحل تاريخيةٍ سابقةٍ، للدولة والمجتمع، خاصةً إذا كان مثل هذا الكيان لا يزال عرضةً للتفكك والتقسيم، ولم يكتمل نضوجه بعد، ولا تزال تنقصه أركان بناء الثقة بين مكونات الشعب الرئيسة والمؤسسات الرسمية والقوى السياسية القائمة عليها.
أي أن السلطة، سواء في حالات هيمنة عائلةٍ أو حزبٍ أو فئةٍ خاصةٍ من الأقليات الإثنية أو الطائفية، عندما تلجأ إلى هذا النوع من العنف وتتيح لمجموعاتٍ “موازيةٍ” استخدام أدوات وأسلحة من كل نوعٍ ممكن، هي تبلغ الآخرين -ضمنًا وعبر بعض منابرها “غير الرسمية” أحيانًا- أنها مستعدةٌ لكل أنواع العنف الهمجي كي تحافظ على الحكم والهيمنة استنادًا إلى شرعية القوة بصرف النظر عن أي شرعيةٍ أخرى على الرغم من مخاطر العودة بالتنظيمات السياسية الحالية إلى مرحلة تاريخية سابقة.
دلالاتٌ في العمق
على الرغم من وحدة المنشأ في السياق التاريخي- السياسي، وكذلك منطلقات المصلحة العضوية بين السلطة والمدافعين عنها بكل الطرائق، فإن التجارب أو الاستخدامات الحديثة الأخيرة في العالم العربي لهذا العنف تبيّن أن الأحوال الخاصة بكل كيانٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ تطبع بلا شكٍ طرائق استخدامه ومسمياته والقائمين به، كما تؤثر في نجاحه أو فشله في تحقيق الأهداف التي تتوخاها السلطة منه. وهذا ما يمكن استكشافه أو الاقتراب منه أكثر من خلال دراساتٍ مفصلةٍ أكثر لكلٍ من حالات تونس ومصر وسورية والعراق وأخيرًا لبنان.
ومن خلال تتبع هذه الحالات في السنوات الماضية ومعايشة بعضها عن كثبٍ، يمكن استنتاج الكثير من الخلاصات، كما أن المقارنة بين هذه الحالات- الاستخدامات، من حيث السياق الوطني الداخلي لكل منها، ومن حيث طبيعة النظام، ومن حيث هوية وانتماء القائمين بالعنف الموازي، يتيح استخراج العديد من السمات والقواعد والقوانين الحاكمة لهذه الظاهرة.
فانتشار هذه الظاهرة في كل ثورات وانتفاضات العقد الماضي تقريبًا (بدءًا من ثورة الياسمين في كانون أول/ ديسمبر 2010 في تونس)، يؤكد أننا أمام أنظمة حكمٍ عربيةٍ ذات طبيعة تفكيرٍ متشابهةٍ إلى حدٍ كبيرٍ لدى الفئات المهيمنة وتعلقها بالسلطة وكيفية الدفاع عن كراسيها. الأكثر دلالةً هو أنها تؤكد وجود فئاتٍ غير قليلةٍ وغير هامشيةٍ وعوامل موضوعيةٍ راسخةٍ، في التركيبة السياسية الاجتماعية السائدة في مجتمعاتٍ تدعم “الحق” في استخدام النظام والقوى المهيمنة لهذا النوع من العنف.
ترتبط المجموعات القائمة بالعنف لمصلحة النظام والسلطة بالبيئة والتركيبة الاجتماعية لها ارتباطًا وثيقًا، ولا يمكن فصلها عن مسار الدائرة الداخلية الضيقة للنظام ذي الطبيعة الأمنية، حيث تسعى الطبقات/ الفئات التي تستفيد من السلطة بطرائق شتى إلى الدفاع عن مصالحها ما استطاعت، وهي مستعدةٌ للانخراط في مواجهة كل من يهدد منافعها المستمدة من هذه السلطة وهذا ينطبق حتى على جماعات وأفراد المرتزقة. وهي لا تنفكّ تظهر وتثبت وجودها، قبل الثورات الاحتجاجية، حيث إنها (كانت) تشتهر مثلًا بأدوارها في مواسم الانتخابات وفي مشاكل القرى والأحياء، وفي مواسم الفتن والتظاهرات، وفي تعبئة الجماهير وقت المهرجانات، وهي لا تتحرك تلقائيًا، بل لها مفاتيح معروفةٌ لدى السلطات بصورةٍ أو أخرى، وهي تمثل في بعض الانظمة جزءًا تشغله الأجهزة القمعية الرسمية بوتيرةٍ “موسميةٍ” أو على الطلب، وقد كان لمجموعات البلطجة في مصر مثلًا مفاتيح- زعماء نُشرت أسماؤهم في مواقع الإنترنت. وفي سورية بدأ تسليح الميليشيات الحامية للنظام بُعيد حوادث ومجازر حماه مثلًا، فأصبحت مثل سلطةٍ موازيةٍ فعلًا وقد فصّل الكاتب والصحافي البريطاني باتريك سيل الذي اشتهر بقربه من الأسد الأب وأركان نظامه: كيف ولماذا أقام الأخير نظامًا أقرب إلى “النظام المزدوج”، الذي كان أساسه “أمن النظام”، في “المجتمع السوري كله”، ثم شرح أسباب “تسليح الحزب الحاكم والمتعاطفين معه” إثر المواجهات مع الجماعات والأخوان المسلمين وحوادث حماه في 1979 و1980، حيث “تكونت في كل مدينةٍ ميليشياتٌ من المواطنين”.
وترتبط مجموعات العنف الموازي مع السلطة الرسمية بنيويًا، لكنه ارتباطٌ غير رسميٍ، وذلك من أجل تحقيق الأهداف المرجوّة منها. وهي قد تتألف من “فتوات” ومن مساجين أحيانًا، و”مخبرين” متعاونين على القطعة (كما الحال في مصر)، ومن طبقاتٍ منضويةٍ في شبكة مصالح النظام أيضًا أحيانًا أخرى، مثل مجموعاتٍ شبابية تنتمي إلى أسر طائفية أو عائلات محظية تستفيد من موظفين و”مفاتيح” كبار (كما في سورية)، أو من قوىً غير رسميةٍ مهيمنة بالمعنى الأمني، مثل تنظيماتٍ حزبيةٍ مسلحةٍ موازيةٍ، بحيث أصبحت هي نفسها بما تملكه من القوة والنفوذ سلطةً موازيةً للسلطة أو ما يسمى “دويلة داخل الدولة” (كما في لبنان والعراق). وتتنوع هذه الاستفادة بين نشاطٍ تجاريٍ غير مشروعٍ ومخصصاتٍ حزبيةٍ دوريةٍ، بدلًا من القيام بمهمات مراقبةٍ أمنيةٍ واستخباراتيةٍ، حتى في حالات السلم، كما الحال في لبنان والعراق مثلًا.
مخاطر وتوصيات
أخطر الأدوار التي تؤديها مجموعات العنف غير الرسمي المدفوع من السلطة هو نجاحها، مع بعض الحملات الدعائية، بإظهار انقسامٍ شعبيٍ “ميدانيٍ” مهما كان حجمه، في الشارع، وأمام العالم عن طريق الكاميرات والبث المباشر، حيال السلطة والنظام. فهي تقوم بسهولةٍ بافتعال المواجهات مع أو داخل المتظاهرين والتسلل إلى تجمعاتهم، بغاية زرع الشك لدى الرأي العام والمراقبين بحجم تمثيلهم الشعبي، وأن هناك انقسامٌ شعبيٌ، وحتى داخل صفوف المعارضين و”الثوار” بشأن المطالبة بتغيير أو إصلاح النظام.
وفي الاتجاه نفسه تقريبًا، يمكن أن تهدف بعض المجموعات إلى زرع الفوضى وإشاعة البلبلة في صفوف المتظاهرين وساحات المعتصمين، بما في ذلك ارتكاب سرقاتٍ منظمةٍ، والتسبب باعتداءاتٍ شتى وتضخيمها إعلاميًا، مثل التضارب بين مجموعات المتظاهرين، أو التحرش المنظّم وأحيانًا الجماعي بالنساء (وببعض المشهورات أحيانًا)، كما حدث في ميدان التحرير في القاهرة ومداخله ومخارجه على يد مجموعاتٍ منسقةٍ، بهدف تشويه سمعة الثورة والمتظاهرين وإثارة غضب المرجعيات الدينية عليهم، ودفع الفئات المحافظة إلى هجر ساحات الاعتصام والتظاهرات.
لقد طورت جماعات العنف الموازي ممارساتها في مواجهة الثورات والانتفاضات العربية، وتمكنت بنسبةٍ كبيرةٍ من التشويش على بعض الثورات والانتفاضات العربية، وسبّبت أحيانًا انقسامًا داخل صفوف المتظاهرين، ولا سيما إثارة الفوضى أو تكسير ممتلكاتٍ عامةٍ ومنشآتٍ خاصةٍ بحجة الانتقام من رموز النظام أو المنظومة والفئات المستفيدة منها (مثل تكسير فروعٍ المصارف ومحالّ العلامات التجارية في وسط بيروت، بهدف تشويه انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وإبعاد بعض الفئات الاجتماعية عن المشاركة فيها.
ويزداد خطر مجموعات العنف الموازي في المجتمعات المتنوعة طائفيًا وإثنيًا (وعشائريًا) حيث يمكن السلطة من خلالها أن تلوح للمتظاهرين والمعارضين ولقوى المعارضة ككلٍ، بقدرتها على تحويل الصراع باتجاه الفتنة العامة، أو الحرب الأهلية، وتأجيج العنف وتحويله شيئًا فشيئًا إلى مواجهاتٍ مسلحةٍ (وحتى الاستعانة بقوىً خارجيةٍ).
وتطرح هذه المخاطر الكثير من التحديات على مستوياتٍ عدةٍ. أولها الوعي السياسي والوطني الشامل تجاهها، وقد يكون طرحها على النقاش العام أفضل كثيرًا من المهادنة والنيات المبيتة، وانتظار الحلول من الخارج. أما استمرار موازين القوى الداخلية لمصلحة سلطاتٍ موازيةٍ تتفوّق بقدرٍ ما على سلطة مؤسسات الدولة، من شأنه أن يتحوّل إلى أمرٍ واقعٍ من نوعٍ جديدٍ في المجتمعات التعددية، تحديدًا.
وأمام قوى المعارضة الشعبية والحركات المدنية تحدٍ من نوعٍ آخر يقطع مع الاحتجاجات العفوية القابلة للخرق والخالية من تنظيمٍ مسؤولٍ يمنع استغلالها يمينًا أو شمالًا ويساعد أحيانًا في تحقيق أهداف السلطة وتغطية العنف ضد الحركات الشعبية. ومن ذلك الاهتمام بمعلومات بعض المشاركين وسجلاتهم. وفي موازاة ذلك تكتسب التوعية بمختلف جوانب هذا العنف أهميةً قصوى وتتطلب اهتمام المراكز الحقوقية كلها، ومنظمات المجتمع المدني والمعارضة الوطنية والمحامين ووسائل الإعلام “المستقلة”، إلى جانب اهتمام مؤسسات الدولة مثل القضاء والجيش في الدول التي لا ينحاز فيها هذان الجهازان للسلطة الحاكمة.
ولا بدّ على المدى المتوسط والبعيد من الاهتمام الاجتماعي والتشريعي لوضع حدٍ للسكوت المريب عن العنف غير الرسمي وانتهاكات القائمين فيه، وإفلاتهم من العقاب على جرائمها ضد المدنيين ودورهم في حماية الأنظمة الاستبدادية والقمعية. كما حصل في محاكمة المسؤولين المتهمين بالوقوف وراء موقعة الجمل في القاهرة، ذلك يبقى عنصر تهديد يزعزع الامان والاجتماعي ويشوه الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة، حتى وإن رحل النظام وتغير الحكام. علمًا أن ذلك لا يلغي ضرورة دمج هذه المجموعات وعناصرها وتأهيلها في النسيج الوطني الديمقراطي، إنما ليس مكافأتها.
وبناءً عليه، ونظرًا إلى سعة الظاهرة ومخاطرها وتداعياتها، فإن على الدارسين والباحثين أيضًا التوسع في إخضاع كل جوانب هذه المشكلة للبحث ومحاولة استخراج أفضل سبل التعامل المنهجي معها، اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا.