أنا امرأة، زوجة، وأمّ.. وأحلم بأن أكون رئيسة للجمهورية السوريّة

لم تكن مزحة
لم تكن نكتة خفيفة الظل، هذه العبارة التي قلتها يومًا لمجموعة من الشابات السوريات في محافظة إدلب عندما بدأت معهن رحلة التدريب على الحقوق المدنية والتمكين السياسي منذ عامين.
ولم تأت أيضًا في سياق “كسر الجليد” الذي نمارسه كمدربين/ات، لسهولة التعارف والبدء في أي تدريب من دون عراقيل محتملة، فكيف إذا كان هذا النوع من التدريبات مجهزًا سلفًا بمطبّات ثقافتنا الشعبية التي تنمّط دور المرأة في المجتمع وتحدّ من طموحها وأحلامها.
بالتأكيد، أعلم أنه طريق ملغوم، خصوصًا مع تطبيع عدد كبير من النساء مع هذه الأدوار، بحيث أن النساء أنفسهن قد يسخرن بالخفاء من هذه الأمنية، لمعرفتهن أنها شبه مستحيلة التحقيق، وأغلبهن يختبرن يوميًا أنواعًا مختلفة من التمييز الجندري، على مستويات أدنى بكثير من الحلم بوصولهن لمراكز القرار.

مناهضة العنف ضد النساء.. حرب واحدة ومعركتان
تحمل المرأة في العالم كلّه منذ ولادتها تركة ثقيلة من التمييز على أساس النوع الاجتماعي، لكنّ المتغيرات الكبيرة على مستوى القانون وحقوق الإنسان، التي رافقت النضال النسوي الغربي، الذي تبلور في بداية القرن العشرين واتّسم بخطوات جدية للمطالبة بحق النساء بالانتخاب وإلغاء المعايير المزدوجة وتكريس المساواة بين الجنسين في دول العالم التي تصنف دول عالم متقدمة (على الرغم من اعتراضي على هذا التصنيف العنصري)، أدت إلى نجاح النساء في الغرب بعد نضال طويل في التخلص من التمييز الجندري في كثير من القوانين على مستوى العمل والمشاركة بالحياة العامة، حيث استطعن حجز مواقع متقدمة في مراكز القيادة واتخاذ القرار السياسي، وبرزت أسماء مهمة في عالم السياسية مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي صُنّفت لعدة سنوات كأقوى شخصية في العالم. حتى أن المؤسّسات الأشدّ ذكوريّةً وعداءً للنساء في البلدان الغربيّة، أي التنظيمات الشعبويّة والقوميّة المتطرّفة، باتت لا تمانع في زعامة نساء كمارين لوبن في فرنسا.
في المقابل، في البلدان التي تخضع لأنماط بدائية بالحكم كالأنظمة الديكتاتورية المستبدة وما تنتجه هذه الأنظمة من انعدام للحريات العامة والخاصة ومن بنى تشريعية ترسّخ انعدام المساواة بين أفراد المجتمع من جهة، وبين الرجل والمرأة من جهة أخرى، بقيت المطالب بحقوق المرأة مجرد غطاء أو عملية تجميلية تُحسِّن شروط الحياة مع العبودية. حتى جاءت ثورات الربيع العربي، التي زادت معها توقعات الشعوب ببناء دولة مدنية سقفها القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة الكاملة بين الجنسين، دولة مكرسة في دستورٍ يكفل حقوق المواطنة للجميع، لكن مع اختلاف مآلات ثورات الربيع العربي، فإنها لم تقدم أي جديد على هذا الصعيد، بل على العكس، بات للمخاوف من أن تفقد النساء مكتسباتٍ استحقتها زمن الأنظمة السابقة ما يبرّرها، وفي حالتنا السورية تحديدًا وتحوُّل الثورة إلى حرب غير منتهية صحابها تدويل الملف السوري، وُضع الحلم في خانة انتظار حلّ يكفل الانتقال السياسي والنهوض بسوريا من جديد.
إلا أن سنوات الحرب والتهجير وما رافقها من إجحافٍ وتجاهلٍ لحقوق المرأة من قبل جميع الأطراف أثبتت أن مواجهة المجتمع السلطوي الأبوي لا تقل أهميةً عن مواجهة المستبدّ والسلطات القمعية، وأن ثمة ارتباطًا عضويًا أو وحدةً في النضال بينهما، وأن دولة المواطنة هي الحلّ الوحيد لتحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع الواحد، وللتخلص من آثار عقودٍ من انعدام المساواة ومن الذاكرة الشعبية المحمّلة بثقافة تُخضِع المرأة وتحطّ من قدرتها وتقللّ من دورها في المجتمع. كما بيّنت سنوات الحرب حتمية العمل على تفكيك هذا الإرث، لإعادة الاعتراف بالمرأة كإنسان كامل الأهلية لا تحتاج لوصاية أو رقابة، ولتفكيك البنية المجتمعية الذكورية التي تناقض المواطنة المتساوية وتقف في وجه تحقيقها.
اختلال ميزان القوى والسلطة
تُحدَّد أدوار المرأة في مجتمعاتنا الشرقية منذ اليوم الأول الذي تبصر فيه النور، وتترسَّخ في عقلها الباطن قائمة طويلة من المسلمات تبدأ بـ (ناقصات العقل) وهو المدخل الذي يبيح للرجال مبدأ (الولاية والقوامة)، ولا تنتهي عند الأدوار النمطية المتاحة للنساء في المجتمع بوصفها زوجة وأم وإذا حظيت بفرصة للتعليم تصبح طبيبة أو معلمة.
وتبدأ رحلة إقصاء النساء من الشأن العام منذ الطفولة، ولا تخلو تقريبًا ذاكرة امرأة سورية من تجربة حرمانها من اللعب مع باقي الأطفال بالشارع بعد سن البلوغ، من هذه اللحظة الفارقة، أصبحت كل تصرفاتها وحركاتها وهواياتها وخياراتها بالحياة ترتبط بشكل مباشر بتضاريس جسدها (كأنثى)، وفي سبيل المحافظة عليه من عيون الناس وألسنتهم تقبل، مرغمة أحيانًا ومتماهيةً مع العادات والتقاليد في أغلب الأحيان، بطرق الأبواب المتاحة لها والتي تحدِّد مسار حياتها.
في حين تشرع الأبواب أمام الذكور للدراسة والعمل واكتساب الخبرات، واحتلال جميع المراكز القيادية في المجتمع من صفة رب الأسرة حتى رئيس الجمهورية، وتعمل جميع الدوائر الاجتماعية والتعليمية والثقافية وحتى الفنية على تكريس هذا الدور، والدفع بتفوق الرجل على المرأة بالعلم والعمل، والحكمة باتخاذ القرارات والشجاعة لمواجهة التحديات، فيكتسب صفة القائد وتشغل النساء مقعد التابع من دون أن يطلب منها حتى “الجلوس عليه”.
إن تنامي شعور القوة والتفوق عند الرجال يعرّض النساء بطبيعة الحال إلى جميع أنواع العنف النفسي والجسدي، فقد وثّقت عشرات التقارير الدولية أرقامًا مخيفة للممارسات العنيفة ضد النساء في “الدول النامية” ومن بينها سوريا، في حين أن هناك أنماطًا من العنف ضد النساء من الصعب رصدها بالأرقام في مجتمعاتنا، لكنها تظهر بالنتائج في حياتنا اليومية، ومن بينها العنف الممارس على النساء العاملات بالشأن العام والسياسي بشكل خاص، الذي يجبرهن على الانسحاب والانكفاء عن المنافسة أو يحصر وجود بعضهن كأرقام تحقق كوتا نسائية في بعض المجالات، لكنها مهملة ولا تؤثّر في اتخاذ القرارات الحاسمة لعدم الثقة بكفاءتها، وهذا سبب إضافي يجعلني أرفض نظام الكوتا السياسية وأطالب بحقوق متساوية كمّية وكيفيّة تجعل دور النساء حقيقيًا وفاعلًا في جميع المجالات التي تعمل بها.

امرأة بألف رجل
اختبرت بنفسي هذا النوع من العنف النفسي الواقع علينا كنساء في الخوض في مجالات يظن الرجال أنها حكرًا لهم، وذلك عندما بدأت التدوين عام ٢٠٠٥ كوني مهتمة بالشأن السياسي في دولة لها تاريخ قمعي مثل سوريا، لم أتجرأ على الكتابة باسمي واخترت اسمًا مستعارًا، وخلال عامين وصل عدد متابعي مدونتي إلى ١٠٠ ألف متابعٍ من جميع الدول العربية. كانت الأغلبية بطبيعة الحال من الرجال بسبب انكفاء النساء عن الخوض في الشأن السياسي خصوصًا في تلك الفترة.
بعد عامين امتلكت الجرأة لأعلن عن اسمي الصريح، وكانت معرفة أغلب الرجال أن وراء هذا العقل الحكيم كما وصفوه (امرأة) مفاجأة كبيرة لهم. توالت السنوات وبدأتْ الثورة وكنت أملك حسابًا على الفيس بوك منذ عام ٢٠٠٨ يحمل اسمي، وكانت أول مواجهة لي ضد النظام الديكتاتوري والمجتمع على حد سواء هو ضرب كل النصائح بإخفاء هويتي خوفًا من الاعتقال والتشبّث باسمي الصريح. لم يعرف المحيط الضيق في حينها السبب الحقيقي وراء قرار خطير كهذا، لكنني اختبرت شعوري سابقًا بالدونية عندما ظنَّ المدونون أنني رجل حتى استطعت أنا أنال اعترافهم بمنطقية أفكاري وارتقيت بنظرهم إلى مرتبة تسمح لهم بمناقشتها بجدية لأنني بنظرهم (امرأة بألف رجل).

الشرف والعار ليست صفات أنثوية
طوال سنوات الثورة، من موقعي كصحفية مهتمة بالشأن السياسي وناشطة نسوية تدافع عن حقوق المرأة، لم أستطع فصل مطالب الثورة عن مقاومة الظلم الذي نتعرض له كنساء، خصوصًا بعد أن شاهدنا بالتجربة كيف أن النساء دفعن ثمنًا باهظًا من كل الأطراف المتنازعة التي استخدمتْ أجسادهن كأدوات حرب أو استغلتهن في المخيمات ودول اللجوء. حتى الناشطات والعاملات في الشأن السياسي لم ينجينَ من هذا العنف، وقد يبدو للآخرين أن واقع المرأة العاملة في الشأن العام أفضل مقارنة بالنساء في المخيمات او النازحات، لكن التمييز والإقصاء ومحاولات الابتزاز واحدة، وإن اختلفت ظاهريًا بالنوع والكم.
تصلني يوميًا عشرات الرسائل من رجال يتابعون صفحتي على الفيس بوك، يهاجمونني فيها بأبشع العبارات حول هدم قيم الأسرة وتشجيع النساء على التحرر والفجور، عند كل منشور أشير فيه إلى حادثة عنف تتعرض له النساء أو عند نشر مقال يوضح أهمية النضال لبناء دولة مدنية تتمتع فيها النساء بحقوق المواطنة المتساوية. ولا تنتهي أشكال العنف عند هذا الإطار، بل تتصاعد بالتدريج حتى تصل إلى المنابر في المساجد من خلال التجييش ضد النساء العاملات في الشأن العام، حتى أصبح العمل السياسي للنساء على وجه الخصوص في الداخل السوري محفوفًا بمخاطر محاولات إبعاد النساء عن العمل السياسي التي لم تتوقف حتى في المؤسسات والأحزاب السياسية التي تشكلت بعد الثورة ومحاولات تهميش دورهن أو محاربتهن من خلال أجسادهن، تارةً بنشر صور خاصة لهن للتحريض ضدهن، وتارةً أخرى باستخدام الفن لنقد العمل السياسي النسائي باستخدام إيحاءات جنسية وضيعة. قد أكون محظوظة بأنني لم أتعرض لتجربة كهذه، لكن عدم تعرض بعضنا حتى الآن لا يحمينا من أن يكون السيف (الشرف/العار) مسلطًا نحو رقابنا في أي لحظة يصنّفنا فيها الخصم أعداءً محتمَلين.
في المجتمعات الذكورية تُقيَّم النساء بناءً على جنسهن، ومن هنا يُمارَس العنف على مقاييس جسدها ومظهرها ومعدل جمالها، وتُحاسب على أي تقصير في العمل من خلال مفهوم الشرف الذي لُصِق بالأنثى، فهي من دون إرادة منها تتحمّل شرف الأب والأخ وابن العم وأصغر فرد في العائلة حتى تشمل المجتمع كله، وأي سلوك يصنّفه المجتمع خارج حدود هذا الشرف يبيح للجميع انتهاك خصوصيتها بأبشع الطرق ومحاسبتها على خيارتها الشخصية، فإذا خلعت الحجاب باعت دينها، وإذا ارتدت لباس السباحة على البحر تحولت إلى عاهرة، وإذا لمع اسمها في المجتمع وأصبحت شخصية مؤثرة فهي بالتأكيد وصلت إلى ذلك من خلال جسدها. المرأة لا تستحق أي منصب مهما صغر أو كبر في الدولة، ليس لأنها ليست كفؤة أو جديرة بتحمل مسؤوليتها المهنية، مهما بلغ مستوى ذكائها ورجاحة عقلها، يكفي أنها تعيش حياة خاصة لا تتفق مع شرف الأمة.
إننا لا نكاد ننسى حادثة معينة تؤكد العنف الجنسي الممنهج ضد النساء العاملات في الفضاء العام، حتى تأتي حادثة أخرى تؤكد سهولة استخدام أجساد النساء لتصفية حسابات سياسية. إن تصدر وسم “القاضية الزانية”، التي أقيلت مع عدد من القضاة في تونس منذ أسبوع بقرار منفرد من رئيس الجمهورية، هو أكبر دليل على ذلك. نلاحظ كيف أن التهمة المعلَنة من قبل السلطة السياسية تتمحور حول قضايا فساد في حين أُجبرت القاضية على فحص “العذرية”، لم يسأل أحد عن علاقة فحص العذرية بتهم فساد مالي، ولم يهتم أحد باختراق خصوصية امرأة من دون إرادتها، ولم يفكر أحد بخطورة إلقاء التهم جزافًا على المستقبل المهني لامرأة قضت نصف حياتها في الدراسة حتى وصلت إلى رتبة قاضية، كل ما يهم أنها “ليست عذراء”، هذا سبب كاف لإبعادها بشكل تام عن العمل وموقعها القضائي. يحق لنا كنسويات بعد كل ما حدث أن نسأل، لو كانت الحادثة ذاتها تتعلق برجل، هل تتساوى العقوبة؟؟

طوق النجاة للنساء يبدأ بالمعرفة
أعمل منذ عامين على تدريب شابات سوريات في الداخل السوري على الحقوق المدنية والتمكين السياسي، أتعرض لكثير من التشكيك في جدوى هذه التدريبات في بلد يغوص بالكوارث وتتعرض فيه النساء لأبشع أنواع العنف، ويسألوني كثيرًا، باستخفاف بالعمل النسوي السوري وأولوياته، عن أهمية رفع مستوى الوعي السياسي عند فئة لا خبرة لها ولا معرفة بالشأن السياسي.
عندي إيمان راسخ بأن جذور العنف الذي نتعرض له كنساء يبدأ من الجهل، جهل النساء بذواتهن وحقوقهن وقدرتهن على التغيير، تطبيع النساء مع العنف ومع التصغير ومع الأدوار النمطية، عدم المساواة في الوصول إلى الموارد، إبعاد النساء عن الحياة العامة. إن المعرفة هي الطريق الوحيد للتمرد على كل المسلّمات التي سجنتنا داخل أجسادنا، فإما نحن أدوات جنسية أو أمهات تقف الجنة تحت أقدامنا.
أذكر أنني في أول جلسة تدريبية توجهت للشابات قائلة: المعرفة حق لكل إنسان، لا يوجد مجال في هذه الحياة يعجز عقلكن عن فهمه أو استيعابه، مهمتنا معًا أن نبحث عن الحقيقة، الحرية، العدالة، والمواطنة، وأن نكتشف معًا موقعنا كنساء من هذه المفاهيم في مجتمعاتنا، سيأتي اليوم الذي تُتاح فيه للسوريين/ات بداية عقد جديد. لذلك، بالتأكيد، أنتن فتيات جميلات وأمهات رائعات، لكني امرأة، زوجة، وأمّ.. وأحلم بأن أترشح لرئاسة الجمهورية السورية.

  • هدى أبو نبوت

    صحافية وناشطة نسوية سورية، مهتمة بالشأن السياسي السوري، مدربة وناشطة في المجتمع المدني في مجال التمكين السياسي للنساء في سورية، تكتب في مواقع إلكترونية عديدة.

مشاركة: