كثيرًا ما كان موضوع “الحضارة العربية” أو “الحضارة الإسلامية”، أو “الحضارة العربية الإسلامية” موضوعًا شائكًا وغير واضح المعالم بالنسبة إليّ منذ دخولي في “عالم الأفكار”. إن أغلب ما كان يعتري الفكر والمناقشات العربية ينتمي إلى “المملكة الباردة للأفكار” أو ثقافة الأفكار المتشابهة، إذ تكوّنت بدايات اغترابي الداخلي من وعيٍ غير مكتملٍ لشعوري بعدم الارتباط مع المحيط الثقافي، أو بالأحرى سوء التفاهم الناجم عن كوني أتحدث بلغةٍ مغايرة ساهمت في زيادة البعد الثقافي ومن ثمّ عزلتي الفردية، فأدى ذلك كله إلى إحساسٍ متناقضٍ بالرضا أقرب إلى ما يقوله هايدغر حول “انزياح المسافات لتظهر الحقيقة”، تلك المسافة الفاصلة الدقيقة التي تؤسِّس للوعي بين عبارة المسيح “ماذا ينفع المرء لو ربح العالم وخسر نفسه” وعبارة نيتشه المناقضة “يجب أن أكون مستعدًا لقيادة ذاتي”.
لم يكن هذا الاغتراب لمجرّد أني نشأتُ على قراءة الكتب الأدبية والفلسفية الأوروبية المترجمة إلى اللغة العربية، فنادرًا ما كانت تستهويني القراءة لكاتبٍ عربيٍ، على الرغم من اهتمام عائلتي بالقراءة، وتوافر الكثير من المؤلفات العربية في مكتبة بيتنا، وتشجيع الجميع لي على ذلك أيضًا، فقرأت بعض الشعر العربي، ومدن الملح لـ عبد الرحمن منيف، وكتابين لـ حنا مينه، وأغلب مؤلفات محمد الماغوط، ومصطفى حجازي في سيكولوجية الإنسان المقهور، وكتبًا أخرى متنوعة أسست بداياتي المتواضعة في قراءة مؤلفات الكتّاب العرب. لم تتملّكني المشاعر والأحاسيس ذاتها التي كنت أشعر بها وأنا أقرأ كتبًا مثل هكذا تكلم زرادشت لـ نيتشه، وجمهورية أفلاطون، وزوربا للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكس وسقوط الحضارة لـ كولن ولسن.
في البداية لم يكن مستوى المؤلفات العربية هو ما يبعدني عنها، فأنا أقدر كثيرًا براعة الماغوط وحساسية مينه مثلًا، إنما بسبب الفارق الشاسع بينها وبين المؤلفات الأوروبية من حيث نوعية الأفكار والقضايا المطروحة، وانفتاح المؤلفات الأوروبية على الوعي والمعرفة، إضافةً إلى تعلقي بكتابات الأوربيين من الناحيتين النفسية والفلسفية، فقد كنت أشعر أن كتّابًا مثل فولتير وروسو ورامبو أقرب إليّ من مينا والماغوط، وأن ساحة مونمارتر أكثر قربًا من ساحة الأمويين في دمشق، وأن الريف الفرنسي والسويسري عندما يذكر مرور الكرام في الكتابات أكثر قربًا أيضًا من ريف إدلب ودير الزور.
يذكر هشام شرابي في مؤلفه “المثقفون العرب والغرب” أنّه بينما كان المسلم مطمئنًا ومرتاح البال إلى محيطه الاجتماعي، كان المسيحي دائمًا يعيش حالة القلق الواعي.
إن الابتعاد عن منزل العائلة، بالنسبة إلى المسلم، في منزلة نزهةٍ، وليس زجًا في المجهول، وإن المسلم، إلا في حالاتٍ نادرةٍ، يعود دائمًا إلى موطنه، بينما يبقى المسيحي في المنفى إلى الأبد في معظم الأحيان، ذلك أن المسلم الذي كان يذهب إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية أو إلى مصر، كان يجد نفسه في نطاق عالمٍ معروفٍ ومألوفٍ. ولم يكن المسلم المنتمي إلى “عائلةٍ كريمةٍ” من سورية أو العراق، يُعدّ غريبًا في مصر مثلًا، كما كان يُعدّ المسيحي العربي القادم من البلدين ذاتهما.
يرى شرابي أنّ سورية بالنسبة إلى العربي المسيحي “وطنٌ” تختلف معانيه عما هي عليه بالنسبة إلى قرينه المسلم، لذا طُرحت الهجرة كمخرجٍ طبيعيٍ: إذ صار للحياة معنىً ليس في وطن السلف، بل خارجه. وعُدّ الإحساس بالاقتلاع شرطًا طبيعيًا للحياة بالنسبة إلى المسيحي المتيقظ.
كان أول سؤال وجهته في مراهقتي إلى عدة أساتذة جامعيين في الأدب العربي بحضور عميد كلية الأدب العربي في محافظة حماه عن حقيقة وجود حضارةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ، فقد كنت متشككًا جدًا بهذا المصطلح الذي لا أشعر بارتباطٍ معرفيٍ به ولا حتى ارتباطٍ شعوريٍ. لم تكن لدي معلوماتٌ كافيةٌ في ذلك الوقت، ولم يكن سؤالي البسيط مبنيًا على معطياتٍ كثيرةٍ، إنما فقط تدخلت “أخلاق الشعور” في إعطاء حكم قيمي ووجودي على مصطلحٍ ما.
لقد كان بين الأساتذة الجامعيين مسلمون ومسيحيون وجمعيهم أجابوا بتأكيد وجودها وتعداد بعض معالمها، كنت مقتنعًا بها بالحد الذي عرضه هؤلاء الأساتذة بما لديهم من علمٍ وخبرةٍ ثقافيةٍ لا أملكها، ولا سيما أن التاريخ الذي ندرسه في مدارسنا الرسمية لا يتحدث إلا عن العرب وتاريخ الإسلام، ومن ثم من السهولة بمكانٍ أن يقتنع المرء بمعلوماتٍ يحصل عليها من محيطه الاجتماعي.
كنت أعتقد أن صورتي المتخيلة العامة عن الغرب تماثل تلك التي يتخيلها الناس في مجتمعي السوري، فقد شاهدنا الأفلام الأجنبية نفسها، تعرفنا إلى الفنون والآداب الأوروبية ذاتها، حتى أننا جميعًا في مدارسنا في طفولتنا كنا نرسم المنظر الطبيعي ذاته تقريبًا في حصة الرسم على نمط البيوت الأوروبية بسبب تأثرنا ببرامج أطفالٍ من إنتاجهم. باختصارٍ كنت أعتقد أني أملك نظرةً إيجابيةً عن الغرب الأوروبي وأعد نفسي قريبًا منه، وأن الآخرين من حولي كذلك أيضًا.
بدأ “القلق الواعي” تجاه ما يفكر فيه من حولي عن الغرب في أثناء إجرائي مقابلة مع الكاتب الراحل حنا مينه، في أثناء جلسةٍ وديةٍ في مطعم النادي العائلي في حماه، ذكر أمام المجتمعين محادثةً صغيرةً دارت بينه وبين مدير التلفزيون السوري السابق فايز الصائغ أنه قال: تمثل باريس بالنسبة إليه بلد الفجور والبغاء، فرد عليه مينه أن باريس هي بلد الثقافة والعطور والجمال والنور، وما تتفوه به هو البغاء.
لقد كانت باريس بالنسبة إليَّ أكثر بلدٍ يمكن أن ينشر البهاء والمجد والجمال، والسبب في ذلك يعود إلى أنني تعرّفتُ إلى جمال باريس وعظمتها من وجهة نظر مهاجرين، ليس أمثال فايز الصائغ، بل من شخصٍ قال عنها ذات يومٍ:
“من وجهة نظر فنانٍ، ليس هناك وطن في أوروبا كلها سوى باريس.”
لقد أحببت باريس بفضله، وبدأت اكتشاف تاريخها، وقرأت لمثقفيها وفلاسفتها، كما قال نيتشه إن ألمانيًّا ما، مبدعًا، لا بد أن تكون له جذورٌ فرنسيةٌ. بل وقال بحبٍ مفرطٍ لها:
“لا أؤمن إلا بالثقافة الفرنسية وأعتبر كل ما عداها في أوروبا مما يسمى (ثقافة) سوء فهمٍ؛ من الصعب أن نتحدث عن تنوع الثقافة الألمانية إذ إنها فرنسية في الأصل.”
اصطدام العرب بالغرب
“كشف وصول نابليون الأول إلى مصر مقدار التأخّر الكبير بين شعبين/ حضارتين؛ شعب متأخر كثيرًا عن الآخر المتقدم، وحضارة متخلفة عن العلم الأوروبي الحديث. ما دفع شيخًا من الأزهر إلى القول:
“إن ما رآه من علوم الغرب يجب أن يدفع المسلمين إلى إعادة النظر في كل ما كانوا يتلقونه من علمٍ”. ويشير فؤاد زكريا إلى أن ما يسمى علمًا بالنسبة إلى العرب يعني فقط العلوم الشرعية واللغوية والتي عُرفت على أساس أنها علومٌ دنيويةٌ حديثةٌ.
يذكر جورج طرابيشي من جانبه عبارةً مشابهةً لشيخ الأزهر حسن العطار في زمن الحملة الفرنسية على مصر بعد احتكاكه مع العلماء الذين أحضرهم نابليون معه: “لا بد أن تتغير بلادنا، وتنتشر فيها علومٌ جديدةٌ”.
هذه هي الصدمة التي وصفها طرابيشي بأنها نتيجة اصطدام جسمٍ متحركٍ مع آخر ثابت هو الجسم العربي والإسلامي الذي كان في حالة سباتٍ تامٍ، والصدام الذي حوّل سباته إلى حركةٍ لم ينتج عن طاقته الكامنة، بل عن قوة الدفع التي تلقاها من الجسم المتحرك، وقد سميت هذه الحركة الإجبارية في الخطاب العربي المعاصر باسم “حركة النهضة”.
ويقسّم جورج طرابيشي تيارات هذه الحركة في الخطاب العربي إلى ثلاثة هي: التيار العقلاني النسبي، التيار السلفي المتنور، والتيار السلفي الخالص، وقدم في مؤلفه “المرض بالغرب” تحليلًا نفسيًا لعصاب جماعي عربي متمثِّلٍ بالتيارات الثلاثة، بوصف هذه الصدمة أنها شكلت في الحقيقة رضةً نفسيةً في عقل وقلب المسلم، لذا كان لا بد من تحليل أعراضها، والمرادفات العربية لوصف هذه النهضة “الاستفاقة، اليقظة، الصحوة”. كما سمى محمد عمارة أعراض هذه الصدمة بـ “مسّ الكهرباء” فعندما أدهش هذا المشهد عقل العرب وقلبهم، حرك فيهم ما يحركه “مس” الكهرباء الذي إذا لم يكن صعقة مميتةً فإنه سيكون سببًا في الإيقاظ والتنبيه.
كان اصطدام المسلمين عمومًا بالغرب على نحوٍ مبكرٍ في تركيا العثمانية منذ أوائل القرن السابع عشر، حيث بدأ المسلمون يشعرون بالانحطاط والتأخر مقارنةً بالغرب، كما يشير ألبرت حوراني، ولأن اهتمام العثمانيين في ذلك الزمن كان منصبًّا على الأعمال والتقنيات العسكرية، جاء انفتاحهم من باب “الانتفاع” من الغرب وأساليبه التقنية لإنشاء الجيوش. ومنذ عهد سليم الثالث، اتسعت المنفعة إلى مجالاتٍ أخرى تخدم الإمبراطورية مثل ترجمة الكتب من اللغات الأوروبية في مجالات العلم كافةً، وزيادة الاحتكاك مع أفكار الثورة الفرنسية، ما أدى إلى نتائج إصلاحيةٍ نسبيةٍ في تغيير بعض القوانين لجعلها أكثر عصريةً، وهذا ما فتح باب النقاش والجدال في العالمين العربي والإسلامي حول كيفية التعامل مع المارد الغريب عنهما، أي الغرب المسيحي المتفوق!
يقسم هشام شرابي العصر المسمى بـ “عصر النهضة العربية” كعمليةٍ تحديثيةٍ، إلى ثلاث مراحل، تبدأ الأولى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتتمثل المرحلة الثانية باليقظة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بينما تبدأ المرحلة الثالثة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. اعتمد هشام شرابي في كتابه على دراسة التحليلات الاجتماعية والنفسية لطبقات المثقفين التي أسست لـ “النهضة” الناتجة من اليقظة ومرحلة الاصطدام، من أجل فهمٍ أوضح للتغييرات الاجتماعية المرافقة والحصول على وعيٍ أكمل عن طريق ما يسمى سوسيولوجيا المعرفة.
من جانبه، يرى صاحب مؤلف “المثقفون العرب والغرب” أن هناك أربع فئاتٍ عاصرت المراحل الثلاث للنهضة: المسلمون المحافظون، المسلمون الإصلاحيون، المسلمون العلمانيون، والمسيحيون المثقفون.
يحدد شرابي الفرق بين المسلمين المحافظين والإصلاحيين، بالفرق بين النظرة الرجعية والتقدمية، الأولى ترنو إلى الماضي لأن “مواقفهم الفكرية كانت تستلزم دائمًا عودةً إلى الوراء”، لأن استعادة مجد التاريخ هي السبيل الوحيد لمواجهة التهديد الأوروبي. بينما كانت التقدمية عكس التقليدية/ الرجعية، ترنو إلى الأمام “التحديث الإسلامي”، إلا أن حركة التحديث هذه، أو حركة الإصلاح، كانت محكومة بالتقاليد، وهدفها الأولي حماية الإسلام والمؤسسات التي يقوم عليها. ويرى شرابي أن الحركة الإصلاحية ليست أكثر من نزعةٍ محافظةٍ إنما متنورة ومتسلحة بإدراكٍ عقليٍ لوضعها وحاجاتها، وهي تلتقي مع النزعة المحافظة التقليدية في رفضها في الحصيلة العوامل العلمانية والغربية للتحديث الاجتماعي، بشكل أكبر وبفعاليةٍ أشد من معارضة المسلمين المحافظين لأوروبا، إذ كانوا أكثر عقلانية، ومن ثم كان موقفهم متماسكًا أكثر في معارضة القيم الأوروبية.
ينتمي إلى هذه الفئة المسماة إصلاحية جمال الدين الأفغاني وتلميذاه محمد عبده ورشيد رضا، إذ كان الإصلاح الإسلامي بالنسبة إليهم يعني سؤالًا واحدًا له تفرعات كثيرة: كيف علينا أن نواجه الغرب؟
لم ينطلق الأفغاني وعبده ورضا من فكرة رغبتهم في اللحاق بالركب الحضاري أو المشاركة في البناء الحضاري الإنساني للعالم، بل كانت فكرتهم الإصلاحية تعني: كيف علينا أن نحافظ على الإسلام من الغرب وتأثيراته التقنية والفكرية والاجتماعية، لذلك طور هؤلاء الثلاثة استراتيجيةً للبحث عن العوامل التي يمكن أن تؤمِّن التماسك في الشكل والمضمون لمجتمعٍ إسلاميٍ غارقٍ في التخلف والجهل.
فكانت القضايا المركزية التي تشغل بالهم هي كيفية تحقيق انبعاث الإسلام، وكيف من الممكن مواجهة تهديد الحضارة الأوروبية وتقوية الروابط بين أمم العالم الإسلامي، ومحاولة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
نتيجة هذه الاستراتيجية كانت ثلاثة مبادئ عامة لا تزال حاضرةً حتى وقتنا الحالي (وسأعود لتطبيقاتها العملية المعاصرة عند أغلب المثقفين السوريين):
الغرب الأوروبي هو غربٌ مسيحيٌ، ومن ثم لا بد من مواجه هذا الغرب المسيحي بالعامل الديني أولًا وهو الإسلام.
الغرب الأوروبي متقدم علميًا وتكنولوجيًا، لذا يجب البحث عن مجد التاريخ الإسلامي في العلم لتعديل الكفة وتأمين التوازن.
الغرب الأوروبي تهديد، منافس، وعدو، ولكنه متطور، ومن ثم يجب إيجاد طريقة للاستفادة من تطوره من دون الخضوع له.
قال الأفغاني: “المجتمع الإسلامي مريضٌ وخلاصه يكمن في الإسلام، كل مسلمٍ مريضٌ، ودواؤه في القرآن”، و “ما تراه اليوم عند المسلمين من تقهقرٍ ليس سببه دين الإسلام، بل جهل المسلمين”.
فكانت مهمة محمد عبده إذًا هي شفاء العالم الإسلامي من حالته، ومن ثمّ كانت عملية الشفاء، بحسب عبده، هي تحديد ماهية الإسلام الحقيقي، والنظر في مقتضياته بالنسبة إلى المجتمع الحديث وتدخلات المفاهيم الأوروبية في عقول المسلمين، حيث اعترف أن التغيير مقبلٌ لا محالة، إنما يجب أن يكون مرتبطًا بمبادئ الإسلام على الدوام، ليس لأنها تقرر ما يجوز وما لا يجوز فحسب، بل لأن متطلبات التغيير بحد ذاتها مستمدة من مبادئ الإسلام إذا ما فُهم على حقيقته، ولذلك كان يوجه خطابه إلى الفئة المأخوذة بالأفكار الغربية والتي تريد تطبيقها على أرض مصر والإسلام عمومًا كما هي مستوردة، من دون فهم أصلها ومنبعها، وكان هؤلاء، المسلمون العلمانيون، بحسب توصيف شرابي، الخطر الأكبر على الأمة، والذين أراد عبده هدايتهم ومنعهم من الانجراف نحو كل ما يأتي من مفاهيم أوروبية، فقال في هذا الصدد: إن القوانين المستوردة من أوروبا ليست قوانين حقيقية على الإطلاق، إذ لا أحد يفهمها، ولا يمكنه أن يحترمها أو يخضع لها، ومن هنا أوشكت مصر أن تصبح بلادًا بلا قوانين.
وها هو برهان غليون يطبق نظرية محمد عبده حرفيًا في عملية تطبيق المفاهيم الأوروبية المستوردة، فهو يعرض في مؤلفه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” فكرة أن المجتمع العربي الإسلامي لا يمكنه تطبيق العلمانية، ولا تصلح له، لأنها منتج غربي مسيحي، ونتاج ثقافة وصراعات شعبٍ مختلفٍ عن المسلمين، أي أن خلاصة هذه العلمانية كانت نتيجة تراكم مراحل تاريخية لم يمر بها المجتمع العربي الإسلامي، حيث يقول: “وهناك الكثير من المسلمين الذين لا يتعرفون إلى أنفسهم في الثقافة الإسلامية إلا بشكلٍ سطحيٍ، وهذا نتيجة توسع انتشار الثقافة الغربية الحديثة، وبسبب السياسة الثقافية التي بدأت تمارسها الدول الإسلامية والعربية منذ القرن التاسع عشر”، ويضيف: “والأسباب التي قادت الغرب إلى نظامه الاجتماعي القائم اليوم، كالأخلاق أي الثقافة، والسياسة أي النظام البرلماني، والاقتصاد أي الرأسمالية بكل أنواعها الخاصة والحكومية، هي أسبابٌ مختلفةٌ في الجوهر عن التي يحملها التاريخ العربي والإسلامي بشكلٍ عامٍ”.
كما ويعدّ أيضًا أن الدين المسيحي كان عقبةً في وجه تطور الحضارة الأوروبية، وأن سبب تطور أوروبا هو في تحررها من الدين والسلطة الدينية، وهذا ما ردده محمد عبده والأفغاني، عندما قاما ببناء استراتيجية “الإصلاح والنهضة” والانبعاث الإسلامي، على فكرة أن أوروبا ليس لها دينٌ كالإسلام، ومن ثمّ لا يمكن بناء التطور العربي بالطريقة نفسها التي مر بها الغرب، فمن وجهة “الإسلاميين الإصلاحيين” الدين الإسلامي نقيٌ وصحيحٌ وصالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، والدين المسيحي تشوبه الانحرافات أو هو فقط دينٌ روحيٌ ولا يستطيع ضبط الحياة الدنيوية والواقعية، ولهذا لا يمكن للدين المسيحي أن يساهم في تطور الحضارة الأوروبية، على عكس الدين الإسلامي الذي هو دينٌ ودولةٌ.
يتابع غليون تطبيق استراتيجية عبده والأفغاني في شرح الفروقات بين تاريخ العرب والأوروبيين بالقول إن الدين المسيحي في بداية انتشاره حمل معه إلى أوروبا أزمته الاجتماعية، كما تحمل الأيديولوجيات الغربية الليبرالية والاشتراكية اليوم في انتقالها إلى الشرق أزمتها، وإن أوروبا قد أنشأت دولًا وإمبراطورياتٍ مستمدةً من الدين، ومن ثم فقد نفت الطابع القومي لها، بينما حمل الدين الإسلامي معه دولةً مركزيةً وقوميةً، وإمبراطوريةً عالميةً وسلطةً كونيةً، ويشرح أيضًا أن فكرة فصل الدين عن الدولة عندنا [أي عند العرب المسلمين] إشكاليةٌ مصطنعةٌ منقولةٌ عن الغرب.
وفي تناوله لمشكلة الطائفية والأقليات في كتابه يشعر المرء أنه بالكاد يتقبل الديمقراطية على النموذج الغربي، ولا سيما بعد رفضه تطبيق العلمانية في المجتمع العربي الإسلامي بوصفها فصل الدين عن الدولة، وأعتقد أنه قبل شرعيًا مبدأ “الاستعارة” الذي أسسه “الإصلاحيون الإسلاميون” من أجل مواجهة التهديد المتمثل بانتشار القيم والثقافة الأوروبية، ودعا -كما أراد محمد عبده ورشيد رضا- إلى تشكيل “العصبية القومية الإسلامية” التي تمثل ذاتية المجتمع العربي، محاولًا استعارة فكرة مفهوم الأمة القومية الأوروبية التي نشأت من عقيدةٍ اجتماعيةٍ أساسها القيم المسيحية في الحرية والإخاء والمساواة، ولكن يجب أن تكون من ثمّ في مجتمعه العربي قيم حريةٍ وإخاء ومساواةٍ بصبغة إسلامية، حتى يستطيع معالجة الرضّة النفسية للشعب العربي المسلم، والناتجة من انتشار الثقافة الغربية الحديثة التي ينتقدها بوصفها “تؤدي لنزع فئةٍ من المتعلمين من بيئتهم، وربطهم بنسغٍ فكريٍ وحضاريٍ آخر، وتخلق لا منتميًا مغتربًا، معاديًا للمجتمع، ويعتبر تعليمه واسطةً للصعود والترفع، وأهليةً للدخول في وسط الحياة والتمتع بنمط الحياة الغربي الحديث”.
ويقول في هذا الصدد إن التراث: “يشكل ثقلًا نوعيًا يمنع الجماعة من التحول إلى ورقةٍ في مهب الريح والجريان وراء كل بدعةٍ وصرعةٍ، ويسلحها بقوة عطالةٍ ضروريةٍ، ويشكل بالضرورة قيدًا على النخبة العليا التي يمكن أن تجنح مع غياب أي مقاومةٍ ثقافيةٍ محليةٍ إلى الاندماج في الحضارة الصاعدة واستخدام آلياتها وأدواتها لتقوية سلطتها؛ وتزداد أهمية التراث للوجود العربي، كلما تعرض البنيان السياسي والاقتصادي إلى الهزات والانقلابات العنيفة، فيؤدي فيه دور المرساة”.
لقد بدأت استراتيجية “الإصلاح” أو باسمها الفعلي والواقعي “كيفية مواجهة الغرب” أو “التحدي” كما حدَّده محمد عمارة في كتابه “العرب والتحدي” الذي يتناول مرض المسلمين وحالتهم الاجتماعية، لذا كان لا بد من البحث عن الإسلام الحقيقي أو الإسلام الصحيح لكي يُقدَّم على شكل “العصر الذهبي للإسلام”، ليشكل المعادل الموضوعي لعصر التنوير الغربي المسيحي. وفي هذا الصدد يبدو لي أن المصطلح الصحيح لما يسمى حركة الإصلاح الإسلامي، هو حركة البعث أو “الانبعاث الإسلامي”، فكان الهدف من الإصلاح هو حماية المجتمع الإسلامي بالاستجابة للتحدي الغربي بطريقةٍ “إيجابيةٍ”، وقد كافح (دعاة النهضة) لإعادة تأسيس الحقيقة الإسلامية وتقويتها من دون تعريضها للنقد الحر.
تمثلت إذًا استراتيجية الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا بمحاولة “تحرير العقل من التقليد” من أجل تغيير النظرة التقليدية المحافظة للعقيدة الإسلامية، فتوصلوا في محاولتهم تلك إلى مفهوم “الاجتهاد” في النص؛ وعلى الرغم من محاولات هؤلاء إلباسه لبوس العقل، إلا أنه لم يخرج عن إطار إدخال “المفردات العقلية” كألفاظ ٍوليس كمنهجٍ عقليٍ وعلميٍ في إعادة تفسير القرآن.
لقد كانت نظرة محمد عبده إلى العلم تعني المحافظة على الدين أولًا، وهذه الفتوى التي نجدها في كتاب عصر الصورة في مصر الحديثة (1839-1924) للكاتب محمد رفعت الأمام، تلخص كل فكر عبده في نظرته إلى العلم والدين، بعد أن طُلب إليه إصدار فتوىً بعد غزو الصور الفوتوغرافية مصر في زمنه، إذ قيل له إنّ طالبًا مصريًا يدرس في روسيا يريد أن يستفتيه في موضوع الصور، لأن الحكومة الروسية طلبت منهم صورًا لإثبات شخصيتهم عند تقديم الامتحان، وبعد جدالٍ طويلٍ حول مشروعية الصور أفتى الإمام عبده ما يلي:
“يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرّم وسيلةً من أفضل وسائل العلم، بعد التحقق من عدم خطورتها على الدين، لا من وجهة العقيدة ولا من وجهة العمل.”
ثم كانت مهمة تحقيق “الفهم السليم” للدين وإرساء دعائمه، ما يعني أن النص القرآني والدين صحيحان، وأن الخطأ يكمن في فهم عامة المسلمين ورجال الدين التقليديين المحافظين لهذا الدين أو لهذا النص.
ليس غريبًا إذًا أن يجد المرء آلاف المقولات المنتشرة بين عامة المسلمين حاليًا والتي تقول: عصر المجد عند المسلمين، يوم كان المسلمون يتسيدون العالم بالعلم والحضارة، أو كان الإسلام الصحيح في زمن الرسول فقط، وبعدها صار ينخر الفساد جسد الأمة الإسلامية؛ وما يردده المسلمون بشكلٍ يوميٍ أن الدين صحيحٌ ولكن فهم عامة المسلمين له خاطئٌ. ومن الجدير ذكره هنا أن نظرية التمييز بين المسلمين والإسلام، أي بين فهم المسلمين الخاطئ للإسلام وبين الإسلام الصحيح، هي نظرية اليسار الأوروبي، واليسار الإسلامي الذي يفند وجود العنف أو الإرهاب بدواعي الفهم الخاطئ والتأويلات والتفسيرات غير المتوافقة مع الدين الإسلامي الصحيح، ولكن مع ذلك فإنّه عندما وقّع مثقفون فرنسيون عريضةً لتجميد بعض الآيات التي تدعو للعنف، كان أوائل من اعترضوا على هذه الوثيقة هم اليساريون والإسلام اليساري في فرنسا، إذ اعتبروها محاولةً عنصريةً وطعنًا بالقرآن والإسلام الصحيح، لذا يؤكد مثقفو اليسار الإسلامي نظرية محمد عبده والأفغاني أن الدين الإسلامي صحيحٌ، وإنما هناك تفسيراتٌ خاطئةٌ لهذا الدين من المسلمين، ما يؤكد أنّ مفهوم الاجتهاد والحركة الإصلاحية الإسلامية لم يخرج عن إطار إدخال “المفردات العقلية” كألفاظٍ لا كمنهجٍ عقليٍ وعلميٍ يمكن فيه التعرض بالنقد للنص الأصلي لأي كتابٍ وليس فقط التدخل في عقول المسلمين وتعليمهم عملية الفهم.
من أجل ذلك، إذًا، وفي محاولةٍ لبث فكرة إسلام العصر الذهبي، يجب تحرير العقل، والخلاص من التقليد في فهم النصوص الإسلامية، وهذا الشيء بالتحديد كان مهمة هؤلاء الفرسان الثلاثة في محاولة بث روح الاجتهاد الذي تمثل بشكلٍ طاغٍ بـ “الانهماك اللغوي والنحوي” في إعادة تفسير القرآن والنصوص الإسلامية وابتعاده عن النقد الجوهري الحر، ومن ثمّ هناك فكرةٌ أصيلةٌ يجب أن تغرس في عقول المسلمين: ليست المشكلة في الدين، وإنما في رجال الدين، ليست المشكلة في النص، وإنما في عملية الفهم، والتأويل والاجتهاد هما المخرج النوراني.
المبدأ الثاني في تحقيق هذه الاستراتيجية هو محاولة معالجة الرضّة الإسلامية عن طريق البحث عن علماء إسلاميين في العصر الإسلامي “الذهبي”، لذلك ساد نوعٌ من الانهماك في تضخيم أي عملٍ قام به أي عربيٍ مسلمٍ في التاريخ الإسلامي على أنه مقابل لأعمال علماء الغرب ومنجزاتهم العلمية. يوجد عند المسلمين أيضًا في حضارتهم عشرات العلماء المسلمين، لذلك أكبَّ هؤلاء على تضخيم مكانة ابن رشد، ابن طفيل وابن باجة، ابن سينا، الفارابي وغيرهم، وحاولوا غرس أفكار غير مسندةٍ علميًا أو تاريخيًا أو معرفيًا، عن مفهوم الحضارة، بربطها مع وجود علماء أو منجزاتٍ علميةٍ. ليس هذا فحسب، وإنما هي الأساس الذي اعتمد عليه الغرب المسيحي في نهضته وتطوره، فكانت نتيجة هذا المبدأ شيوع فكرةٍ عامةٍ لدى المسلمين العرب الحاليين بأنه لولا ابن رشد لما كانت هناك نهضةٌ أوروبيةٌ، أو أنه كان المحرك الأول لهذه النهضة، ومن خلاله اكتشف الأوروبيون تاريخهم السقراطي والأرسطي وعلوم اليونان.
هذا النوع من الخطاب “الإصلاحي” ذي اللغط الشديد في التحليل التاريخي وفقر المعلومات، والذي يستند أساسًا إلى أيديولوجيةٍ عقائديةٍ وردة فعلٍ نفسيةٍ، وليس إلى المعرفة، يفتقر إلى المعايير الرئيسة في فهم التاريخ الأوروبي، كما أنه يقدم نفسه علنًا بهذه القراءة أنه “عدوٌ غير شريفٍ” في نزالٍ شريفٍ ضمن ميدان المعرفة والمساهمة في تكوين الروح النقدية. ولعلّ إرنست رينان يعدّ أفضل من عبّر بسخريةٍ معرفيةٍ عن نظرية العرب المسلمين وأسطورتهم حول نهضة أوروبا المنطلقة عن طريق ابن رشد، عندما قال: وأما جفاء أسلوب ابن رشد فهل يُحَار منه إذا ما فُكِّر في أن طبعات كتبه لا تعرض غير ترجمةٍ لاتينيةٍ من ترجمةٍ عبريةٍ لشرحٍ قام على ترجمةٍ عربيةٍ من ترجمةٍ سريانيةٍ من أصلٍ يونانيٍ! (….) وكيف لا يتبخر الفكر الأصلي في هذا النقل المكرَّر؟!.
يقول فؤاد زكريا إن هناك اختلافًا جذريًا بين أحوال وناتج الاتصال الأول للعرب المسلمين بالغرب، عن الثاني، حيث حدث الاتصال الأول عندما كان المسلمون في أوج قوتهم بينما كان الغربيون يمرون في عصور الظلمة والسبات، بينما كان الاتصال الثاني مرافقًا لانحدارٍ وتخلفٍ شديدٍ في المجتمع الإسلامي مع مجتمعٍ غربيٍ مسيحيٍ يتطور باستمرارٍ، كانت العلوم في الاتصال الأول آتيةً من اليونان (الوثنيين) فلم يشكل تهديدًا مباشرًا للعقيدة الإسلامية، في حين رافق الاتصال الثاني وجود علمٍ غربيٍ ولكن في قلب الحضارة المسيحية والذي كان له تأثيرٌ سلبيٌّ على أنفس المسلمين، “وأول ما ينبغي لنا ملاحظته، في خضمّ المقارنة بين الحركتين القديمة والحديثة، أن الأولى كانت تعريبًا لنتاجٍ ثقافيٍ ينتمي إلى حضارةٍ قد توقفت عن العطاء في الوقت الذي اهتدت فيه الثقافة العربية إليها، وأما اتصالنا المعاصر بالحضارة الغربية وسعينا إلى تعريب نواتجها، فهو اتصالٌ بحضارةٍ دائمة التغير، تتخذ كل يومٍ موقعًا جديدًا، وتفاجئنا دائمًا بتحولاتٍ وثوراتٍ غير متوقعةٍ في ميادين العلم والفكر والأدب، وهكذا انقلبت الأدوار فأصبحنا نحن أصحاب التراث الثابت المحدد، الذي توقف منذ زمنٍ طويلٍ عن التجدد والعطاء، وأصبحوا هم أصحاب الثقافة المتوثبة الطموح، التي لا تظل ثابتةً ولو للحظةٍ واحدةٍ”.
لا يختلف فؤاد زكريا هنا عن برهان غليون في استعراض مخاوفه من عملية التغريب عبر التعريب ونقل العلوم الغربية كما هي، بينما يختلف عنه في طريقة مواجهة الغرب مواجهةً ثقافيةً جدليةً “إيجابيةً عبر الحوار والعراك والصراع بين وجهات النظر”، بينما يدعو غليون إلى تشكيل العصبية الذاتية الإسلامية، التي تخلق عبر وسائل التعليم الحديث “نخبةً مثقفةً” قريبةً من الشعب وليست متعاليةً عليه، بمعنى أن غليون كان يركز على صنع ذاتيةٍ قوميةٍ من خلال الثقافة، بينما كان زكريا يركز على صنع ثقافةٍ أخرى “إيجابيةٍ وإنسانيةٍ محلها”.
لا يعيد التاريخ نفسه، إنما يؤكد صيرورة الحقيقة
في زمن الاصطدام الأولي للعرب والمسلمين بالحضارة الغربية، عبر غزوهم مناطق الإمبراطورية الرومانية، تشكلت بدايات تحول العرب من عصر البداوة وأخلاق الصحراء إلى ولاياتٍ مستقرةٍ، اتصلوا فيها مع كل ما له صلةٌ بعلوم الفرس واليونان والسريان، ومع أنه لا توجد وثائق ومخطوطاتٌ عربيةٌ على مدى قرنين من الزمن منذ بداية الغزوات بحسب جواد علي في تاريخ العرب في الإسلام، وبسبب الجهل الذي كان يعم العرب في تلك المرحلة، كانت أغلب التنظيمات الإدارية والسياسية في الدولة الأموية والعباسية من الفرس والروم، وكان الفضل الأكبر في حركة الترجمة التي نشطت في عهد المأمون للمترجمين المسيحيين الذي ترجموا علوم اليونان في الفلسفة والطب وسائر العلوم (أخذ المسلمون منها ما يلائمهم فحسب)، بسبب إتقانهم لغات أجنبية، وكونهم على اتصالٍ وثيقٍ بالتراث اليوناني والروماني، وبما أن هذه المعلومة شائعةٌ لدى أغلب المسلمين والمسيحيين لن أخوض في تفصيلاتها حاليًا لما يمكن أن يثار من أسئلةٍ كثيرةٍ حول طريقة صناعة “الحضارة العربية الإسلامية”، فهذه تحتاج إلى بحثٍ خاصٍ منفردٍ.
والمهم أن حركة التعريب الثانية، إبان عصر النهضة، قد حدثت أيضًا بفضل المثقفين المسيحيين، وخصوصًا اللبنانيين والسوريين، وهذه المرة ليس فقط بسبب معرفتهم باللغات الأجنبية، وليس فقط نتيجة اتصالهم الوثيق بالغرب الأوروبي المسيحي، ولكن أيضًا بسبب وجود جدلٍ ثقافيٍ وراء فكرة إعادة كتابة التاريخ في أنه لا وجود للجدلية التاريخية من دون جدليةٍ عقليةٍ، حتى وإن طغت عليها جدليةٌ ماديةٌ تستطيع صناعة نظريةٍ عبر استنتاجٍ من التاريخ، بينما في حالة وجود الجدلية العقلية المتقدة تستطيع صناعة نظريةٍ معرفيةٍ للتاريخ تسبر إمكان وجود العقل من عدمه في تحليل اللحظة المعاصرة لأي عملية تحديثٍ أو تطويرٍ مستقبليٍ.
لقد حاول فرح أنطون وجورجي زيدان وشبلي الشميل وسلامة موسى وبطرس البستاني محاولة إقناع العرب بالغرب وحضارته، لقد كانوا الجسر الحضاري الوحيد الذي نجح في تأسيس نظرياتٍ قوميةٍ، أو مشاريع نهضويةٍ للعالم العربي، وبما أن محاولاتهم كانت نابعةً من توقهم لتحررٍ تاريخيٍ ونفسيٍ له أوضاعه الاجتماعية، ولتوقهم لإيجاد وطنٍ آمن لهم في محيطٍ عربيٍ إسلاميٍ يريدون من خلاله تحرر أوضاعهم الاجتماعية والثقافية، من خلال تحرر العرب المسلمين، لذلك “لم يضعوا مبدءًا للإصلاح مستندًا إلى التغرب وبتحديد أكثر، لم تصدر عن النظرة المسيحية التجديدية، أيديولوجية غربية الاتجاه في شكلٍ واضحٍ كما صدرت الأيديولوجية الإصلاحية من النزعة الإسلامية الإصلاحية”.
ذلك أن “المثقف المسيحي هو في وضع انسجامٍ طبيعيٍ مع الوسائل والقيم الأوروبية، بينما كانت بمنزلة عقبةٍ أمام المسلمين” كما يقول شرابي. ولذلك كان يسمى الحراك الفكري لدى المسيحيين بـ “التجديد”، بينما سمي لدى المسلمين بـ “الإصلاح”.
يُفهم من التجديد تجديد المجتمع، بينما يُفهم من الإصلاح إصلاح أمة معطوبة من النواحي كلها. التجديد يعني أن تكون هناك علاقة صحية مع إدخال قيم ووسائل جديدةٍ إلى المجتمع كي ينهض به، في وضعه الحالي، على أساس أن علاقات ووسائل الإنتاج تفرض تطورًا مجتمعيًا سليمًا عبر تجديد أساليبه وتقنياته التي ستؤدي إلى تغييرٍ في العقلية، ولذلك كان تركيز المثقف المسيحي على الجانب الاجتماعي والعلوم الثقافية والتقنية والفلسفية أكثر من اهتمام العلماني المسلم الذي كان يبرِّر استخدامه للوسائل والتقنيات والأفكار الغربية من أجل “المنفعة” في سبيل إصلاح مجتمعٍ معطوبٍ سياسيًا ودينيًا، مع المحافظة على العقلية التي شكلت المجتمع، والحذر الشديد من أي عملية طغيانٍ ثقافيٍ تغير هوية الشعب العربي والإسلامي وذاتيته.
كان المثقف المسيحي يفهم الإصلاح على أنه “استبدال الحضارة” بفكرة “العصر الذهبي للإسلام”، بينما لم تكن تعني النظرة الإصلاحية عند العرب المسلمين -أو بعض المسيحيين الذين يتبنون مفهوم الثقافة العربية- المشاركة في عملية البناء الحضاري، ولا حتى محاولة اللحاق بركب الحضارة وتعويض التأخر، بل كانت عبارة عن عملية مواجهةٍ وتحدٍ للغرب، ولذلك ولدت فكرة النهضة من أساسها مع المرض في جوهرها، وكانت مناظرة فرح أنطون مع محمد عبده دليلًا واضحًا على الفرق بين النظرتين، وبالتأكيد، تندرج مناظرة إرنست رينان مع الأفغاني في إطار إظهار الاختلاف الجذري الواضح بين العقلية الأوروبية في التنوير والنقد، والعقلية العربية في فهم الإصلاح عن طريق المناورة.
من هو المسلم المثقف العلماني؟
تساهم عوامل عديدةٌ في تشكيل شخصية الإنسان، وإنّ كتاباته وأفكاره تعريفٌ واضحٌ عن سيرة حياته الذاتية. في حالاتٍ قليلةٍ من الصعب جدًا التقاط التفاصيل الدقيقة التي تكشف أفكار إنسانٍ ما، ما لم يتحصل أولًا على حريته في نشر أفكاره، فعندما يتكلم المرء، نستطيع أن نراه، ولا يهمنا صدق الكاتب في عرض أفكاره، لأن النقد المعرفي يستطيع كشف عدم ترابط أفكاره، أو تماسكها العقلي من عدمه، ويستطيع في حالاتٍ كثيرةٍ، كشف نفاقه، أو بتعبيرٍ إيجابيٍ نقول: ضعف أفكاره وجهله “بالفكر ذي الطبيعة البشرية”.
يبدي فؤاد زكريا انتقاده لإخلاص المثقفين الذين يعرفون اللغات الأجنبية في ترجمتهم أو نقل المعارف الأوروبية بحيث يكون النقل ركيكًا و يصل بعضه إلى الابتعاد عن الأصل وتحريف المعاني، إلا أنني سأنتقل من جانب الترجمة إلى حركة نقل المعارف بالتحديد بطرفيها المتناقضين، أي نقل المعارف من الشرق إلى الغرب والعملية العكسية بنقل المعارف من الغرب إلى الشرق، والمستوى الذي سأتناوله بالتحديد هو نقل هذه المعارف من المثقفين السوريين “العلمانيين” إلى العرب السوريين الشرقيين سواء أولئك الذين يعيشون في بلاد العرب أو أولئك الذين يسكنون في أوروبا.
عملية نقل المعرفة هذه لها علاقةٌ رئيسةٌ، تكاد تكون الوحيدة، هي علاقة المثقف السوري مع الغرب، التي تحتم نقلًا مختلطًا، انتقائيًا، وتلفيقيًا في آنٍ معًا، وسأورد عملية نقل المعرفة هذه عن طريق استعراض بعض الأمثلة وشرح الأبعاد النفسية والتاريخية والفكرية التي تؤسس لشيوع مثقفي “الشلف التأويلي” بحسب تعبير ياسين الحافظ.
يمكن عدّ شرح ياسين الحافظ عن خاصية الشلف التأويلي، شرحًا موفّقًا للصفة المميزة لعقلية المثقف السوري عندما يناقش موضوعًا يتعلق بالغرب، أو بالأحرى، عندما يناقش أي موضوعٍ مهما كان. إن علاقة المثقف السوري ذي “الشلف التأويلي” بالغرب علاقةٌ مَرَضيةٌ، تتسم بتأصل العقيدة الإيمانية من جهةٍ، وردات الفعل الشعورية المستفزة التي اتخذتها الإنتلجينسيا إزاء التجربة الكولونيالية، القسم الأكبر إما colonise (أي مركوبة بتجربة الإذلال الاستعماري) أوdécolonise (أي الذي تحرر من السيطرة المباشرة، ولكن بقي هاجسها يلاحقه) من جهة ثانية.
يستمد مثقف “الشلف التأويلي” السوري في علاقته مع الغرب شلْفَه من الكسل في البحث والتمسك بالعموميات، الأمر الذي يفقده التقاط عناصر ونوابض الواقع العياني، المتحركة، المتغيرة، المعقدة، وفي السياق نفسه يستخدم التأويل الذي يزعم أنه يغوص عميقًا وراء البحث عن الأسباب البعيدة للحدث السياسي أو أنه يمسك بأسبابه الخفية، متجاهلًا أو مهملًا أسبابه القريبة، الجلية، المشخصة.
إن نتيجة انتشار هذا النوع من المثقفين هو التحليلات السطحية والفقيرة؛ إدراكٌ مشوهٌ ومجتزئٌ للواقع ونظرةٌ عموميةٌ تقريبيةٌ وضبابيةٌ عن واقعٍ دقيقٍ جدًا بتفصيلاته وتمايزاته.
هؤلاء يرون أن الاستعمار وحده هو مصدر تأخر العرب، بل ويضيفون إليه تأخر أفريقيا أيضًا بسبب الكولونيالية الغربية، وأنه هو مصدر الفقر والنزاعات والخصومات وجميع الهزائم التي حلت بالعرب، حتى تلك التي حدثت بين العرب أنفسهم. وبما أن الاستعمار والغرب يشكّلان القوّة المسيطرة كما يرى مثقف “الشلف التأويلي” -ولعدم قدرته على المواجهة- تكون مهمته إذًا هي المناجاة بأن هذا قدرٌ محتومٌ، وأنّه لا يمكن للشعب العربي إفشال مؤامرات الغرب، بل يمكنه في أحسن الأحوال تشكيل ثقافة الندب وتعويض الرضة النفسية عبر اتخاذ موقفٍ يقول من ناحيةٍ إن العرب مظلومون، ويتفاخر من ناحيةٍ أخرى بأن العرب أسمى وأفضل أخلاقيًا، شاتمًا الغرب بأنه أرض العنصرية، الفوقية، الاستعمار، وسالب ثروات الشعوب العربية والأفريقية، وسبب تخلفها ودمارها.
لا تكمن خطورة أغلب المثقفين السوريين -في علاقتهم بموضوع الغرب- على الغرب أبدًا، فهؤلاء لا يشكلون حتى فزاعةٍ صغيرةٍ لأي عنصريٍ أو أوروبيٍ يساريٍ، بل تكمن خطورتهم في أنهم ينشرون نظرة الكراهية تجاه الغرب بين عامة الناس، وبذلك يكون تأكيد هذه الفكرة على المستوى الشعبي لدى المهاجرين واللاجئين تحديدًا سببًا في إنشاء علاقةٍ غير متوازنةٍ مع البلد الأوروبي المضيف، والتي تؤدي لاحقًا إلى مشاكل متناميةٍ على مختلف الصُعُد سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية وحتى الاقتصادية.
إلا أنه يضاف إلى ميزة الشلف التأويلي عند المثقف السوري ميزة النفاق المختلطة بشكلٍ مباشرٍ مع ثقافة الشلف، حيث يشعر المرء بأن المثقف يمكن أن ينسى أحيانًا ما كتبه قبل بضعة أيام، أو حتى قبل بضع ساعاتٍ، فيظهر متناقضًا جلفًا. وآلية كشف تناقض المثقف السوري، ليست سهلةً على الجميع، بسبب عدم تمتع أغلبية السوريين -باستثناء عددٍ قليلٍ منهم، والمغيبين أصلًا لأنهم لا يتبعون أسلوب الشعبوية الثقافية- بالحس النقدي الذي يختلف عن ثقافة الشلف الشعورية وردّات الفعل النفسية، والسبب في ذلك ربما عدم التعلم والاطلاع بعد على أساسات التحليل والمقارنة والبحث العلمي والفلسفي الرصين.
ينتج عن ذلك صفة التناقض التي تمنحنا رؤيةً واضحةً عن لاديمقراطية المثقف السوري؛ إذ لا يمكن للمرء أن يكون ديمقراطيًا عندما يكون شلَّافًا حيث تكون أهواؤه فقط هي من تحدد المعيار الديمقراطي، ربما عطفه على عامة الشعب في أن يسمح له بإبداء الرأي أمامه أو ربما على صفحته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يمنحه صكًّا على بياض بالموافقة على كل ما يقول، وفي الحالة المعاكسة فإنه يرفض ليس المختلف عنه فحسب، بل الديمقراطية ذاتها، ليصنع دكتاتوريةً محسنةً، مغلفةً بإطارٍ ديمقراطيٍ، كأن يقول:
“لا أسمح في منبري بوجود العنصريين وغير الديمقراطيين”. وهو أيضًا لا يسمح بالشتائم وتوجيه الإهانات العرقية أو الإثنية؛ لكنه يسمح لنفسه فقط بكل ما سبق تجاه غيره، خصوصًا ضد الأوروبي، شعوبًا وحكوماتٍ ورؤساء.
إن مشكلة المثقف العربي السوري بشكلٍ خاصٍ، والإنسان العربي السوري بشكلٍ عامٍ في علاقته مع الغرب، مشكلةٌ ثقافيةٌ وفكريةٌ في الأساس؛ والثقافة والفكر ناتجان من عوامل عديدةٍ ومتداخلةٍ في التراث، كالدين المترابط بشكلٍ قويٍ مع هذا التراث، كما يضاف إليهما التاريخ النفسي للحوادث، وهو العلاقة المركبة بين جدلية التاريخ والمادة عندما يكون ممزوجًا بمصادر عديدةٍ للتخلف وقدرٍ كبيرٍ من الهزائم، ومصحوبًا بخطابات الانتصار تارةً، والحنين والأسى على تاريخٍ مجيدٍ تارةً أخرى.
هذه المشكلة الثقافية، أي مشكلة العربي السوري في الاغتراب الثقافي عن الحضارة، هي التي تميز المسلم الأصولي (الإصلاحي) مثل محمد عبده والأفغاني ومحمد رضا، عن المسلم العلماني المعاصر، ولو أن لكليهما المشكلة الثقافية ذاتها، إنما تختلف طريقة التعامل معها بحسب أدوات كلٍ منهما؛ فقد أثبتت التجربة والملاحظات أن وسائلهما أو الأصح مناوراتهما لنكران المشكلة الفكرية من الجذر قد أودى بهما إلى الإصابة بالمرض نفسه -المرض بالغرب- وزادت شدته فتحول إلى عصابٍ جماعيٍ وهوسٍ كبيرٍ بمعاداة الغرب.
يقول هشام شرابي في معرض تحليله للفرق بين المسلم العلماني والمثقف المسيحي إنه وإن كانت هناك أرضيةٌ مشتركةٌ للمسلمين العلمانيين مع المثقفين المسحيين في القيم والنظم العلمانية، خاصةً في مجال السياسة، إلا أنه تبقى ذهنيتهم مرتبطةً بواقعهم الإسلامي (كذلك نمط التفكير الخاص به)؛ فكان العنصر الإسلامي المتأصل في حركة المثقفين المسلمين العلمانيين يفرض استمرار حدودٍ معينةٍ لهذه الوحدة وهذه الأرضية المشتركة، حيث كان المغزى النفسي للدين بالنسبة إلى المسلم يختلف نوعيًا عن مغزى المسيحية بالنسبة إلى المثقف المسيحي، ففي حين كان الأخير يعتقد بإمكان طلاقٍ كاملٍ تقريبًا مع الفرضيات الدينية، كان المسلم العلماني يؤمن بأن عملية العلمنة تتوقف عند حدود العقيدة الموروثة، ومن ثم تظل في الأساس مشروطةً، فتكون الحركة العلمانية في الإسلام مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا باتخاذ موقفٍ علمانيٍ وإسلاميٍ معًا، وهذا يبدو جليًا في كثرة المحاضرات والندوات والكتب والمؤتمرات التي يدعو إليها هؤلاء المسلمون العلمانيون مثل: الإسلام والعلمانية، الإسلام والليبرالية، الإسلام والديمقراطية، والإسلام والعلم، وكثيرٍ من العناوين الأخرى التي تبين هذا الموقف الاستراتيجي العميق للمثقف المسلم العلماني، وهكذا فإن الإسلام والعلمانية صفتان رئيستان لمن سميناهم المثقفين المسلمين العلمانيين، لذا فإن النقد في هذه المقالة لا يتعرض للمثقف السوري العلماني، بل لمن يجمع صفتَي الإسلام والعلمانية في التعريف عن نفسه وأفكاره.
هناك الكثير من العناوين والأمثلة التي تدل على هذا النوع من المثقفين المسلمين العلمانيين في قضية تعاطيهم مع الغرب، كأن نقول على سبيل المثال: “جذور عربية، قصة التبادل العلمي والحضاري بين إنكلترا والعالم المسلم”، حيث يكون علم المصطلحات والفروقات الدقيقة، والموضوعية، مسألةً هامشيةً لدى المثقف المسلم العلماني عندما يتعاطى مع الغرب، ويفضِّل النسبية* عليها، فينتقل بسهولةٍ تامةٍ، ومفاجئةٍ من الجذور العربية، إلى وصفها في النهاية بأنها في الواقع في عقل المثقف المسلم العلماني جذورٌ إسلاميةٌ، لتبادلٍ علميٍ وحضاريٍ بين إنكلترا والعالم المسلم، وليس العالم العربي، هذه الأشياء نفسها تدل المقالة عليها في مضمونها وليس فقط في عنوانها، حيث تسوق المقالة بدايةً في عنوانها قصة تبادلٍ علميٍ وحضاريٍ بين إنكلترا والعالم المسلم، ثم تنتقل سريعًا لجعلها بين أوروبا كلها والعالم المسلم من دون أي إشارةٍ مرجعيةٍ أو علميةٍ أو تاريخيةٍ لسبب نقلنا من إنكلترا إلى أوروبا بشكلٍ كاملٍ، ولا علاقة لفحوى المقالة بعنوانها، ما يتبين عند قراءتها أن هذه القصة “قصة التبادل العلمي والحضاري” كانت من جانبٍ واحدٍ فقط، أي من طرف الإنكليز، ولم يكن هناك بالمقابل أي استيعابٍ أو استيرادٍ لأي منتجٍ علميٍ وحضاريٍ إنكليزيٍ من طرف العرب أو المسلمين لدرجة وصلت بالإنكليز إلى الطلب من المسلمين في حلب أن يعلموهم طريقة تقشير الرز، ولم نجد إشارةً واحدةً في متن المقالة تشير إلى العنوان الأساس الذي يفرض أيضًا على العالم الإسلامي “المتحضر في ذلك الزمن وصاحب العلوم والأنوار” أن يقوم هو نفسه أيضًا باستيراد أو استعارة أيّ شيءٍ من العلوم الإنكليزية، ولو معنى عبارة “التبادل العلمي والحضاري” على الأقل، وشرحها للحلبيين. وهذا يؤكد أن نية الكاتب من المقالة أو المعرض ليس فقط تقديم معلومةٍ تاريخيةٍ موثقةٍ وإنما ترويج فكرة علو كعب المسلمين وفضلهم على إنكلترا وأوروبا، وهذا يعني من ضمن ما يعنيه، التأكيد على فكرة أصولية وإصلاحية من عصر النهضة التي تقول إن الغرب، أوروبا تحديدًا، لم تكن لتتطور لولا علوم المسلمين وحضارتهم، بل إنهم أسسوا نهضتهم بكاملها على أساسات نهضة المسلمين.
لقد أمضى الأوروبيون عمومًا قرونًا عديدةً في البحث العلمي والتاريخي، وهم من أسسوا العلوم المختلفة استنادًا إلى روحٍ علميةٍ أوروبيةٍ، ناقدةٍ، فاحصةٍ ومدققةٍ، ومن ضمن هذه العلوم: علم المصطلحات.
إن عملية الخلط الدائم بين المصطلحات تشكل حاجزًا أساسًا أمام عملية الفهم أولًا، لأن عملية الفهم مرتبطةٌ بالعقل الذي تكون مهمته رصد الفروقات الدقيقة وإنشاء المقارنات، ولذلك فإن تعبير “العلاقات بين إنكلترا والعالم المسلم” يفتقر للأمانة، علميةً كانت أو تاريخيةً، بل لقد تم تحميل هذا التعبير مصطلحاتٍ نابعةٍ من أيديولوجيا تريد إفهام القارئ أن تسمية العالم في ذلك الوقت بالعالم الإسلامي يعني من ضمن ما يعنيه أن العالم في زمن الإمبراطورية العثمانية، كان عالمًا مسلمًا فقط، وأن العرب -المسيحيين على الأقل- لم يساهموا في العلاقات “بين إنكلترا والعالم المسلم” أبدًا، كما ينفي حقيقة أنه في تلك الفترة في القرنين السابع والثامن عشر كانت الدول التي تحدثنا عنها المقالة ولايات عثمانية (والتي كانت بالفعل حضارة لها تاريخٌ وأساسٌ مرجعيٌ). لذلك كان من الأجدى وضع قوميةٍ مقابل قوميةٍ أخرى، أو دينٍ مقابل دينٍ آخر، فلا يمكن وسم عالمٍ ما بقوميةٍ مقابل آخر موسومٍ بالدين فقط.
فبينما كان المسلمون الإصلاحيون كما وصفهم هشام شرابي هم من طوروا فكرة استرداد علوم العرب من الأوروبيين الذين أخذوا هذه العلوم عنهم، يحاول المسلم المثقف العلماني قلب التاريخ رأسًا على عقب وفي المرحلة الزمنية ذاتها، أي في القرنين السابع والثامن عشر، ليؤكد حدوث عملية الاسترداد بشكلٍ معاكسٍ: لقد كان الإنكليز والأوروبيون في حاجةٍ ماسةٍ إلى علوم العرب المسلمين حتى استطاعوا تشكيل ثورتهم العلمية. والله أعلم!
)”الله أعلم” هي الكلمة الأخيرة في كل نقاشٍ إسلاميٍ)
ويمكن لـ إرنست رينان أن يعطينا مثالًا عن الروح الأوروبية في النقد والعلم والتفكير في مصطلحات التاريخ عندما نستدعي حوادثها لنؤسس علومًا صحيحةً:
“لقد كان ابن رشد وابن سينا والباطني عربًا، مثلما كان ألبرت الأكبر، وروجيه بيكون، وفرنسيس بيكون وسبينوزا لاتينيين. ثمة أيضًا سوء فهمٍ كبيٍر عندما نضيف العلم والفلسفة العربية إلى حساب الجزيرة العربية مثلما نضيف كل الآداب المسيحية للّاتينية، وكل الإسكولائيات، وكل النهضة، وكل علم القرن السادس عشر وجزءٍ من القرن السابع عشر لحساب مدينة روما، لأن كل هذا قد كتب باللاتينية”.
لا يوجد أوروبيٌ واحدٌ يقول عن سبينوزا إنه لاتينيٌ في الأكاديميات العلمية بل يقولون إنه فيلسوفٌ هولنديٌ، كما أنه من النادر أن تتم الإشارة إلى أنّ سبينوزا يهوديٌ، ولا يمكن نسب فلسفته إلى اليهودية، كما تم نسب فلسفة ابن رشد إلى الإسلام؛ ولا يمكن وصف غاليليو في الأكاديميات الأوروبية بأنه عالمٌ ومفكرٌ مسيحيٌ، لا يرفق العرب أنفسهم ديانة غاليليو مع اسمه، كما يتم ربط ديانة ابن رشد إلى جانب فلسفته في محاولة عدّ كتابات ابن رشد أنها ثقافة أو حضارة أو فلسفة إسلامية، على الرغم من أنه تم التعامل مع العالمَين ابن رشد وغاليليو بشيءٍ من السوء في محيطهما الديني والسياسي. إلا أنه في الشرق تحديدًا يُقال: ابن رشد عالمٌ مسلمٌ، بينما يذكر اسم غاليليو من دون أي أضافاتٍ، بل يتم ذكره أحيانًا، ليس لعلمه، بل للطعن في الحضارة المسيحية الأوروبية.
ولكن مسألة هوس العرب بأن حضارة وعلوم أوروبا بشكلٍ خاصٍ، والغرب بشكلٍ عامٍ، هي نتاج علوم أو علماء المسلمين لم تعد أولوية نضال المسلم العلماني الحديث في علاقته مع الغرب، وإن كانت لا تزال تشكل دافعًا نفسيًا عميقًا له لتأمين التوازن الفكري أمام الأوروبي.
كانت باريس ولا تزال قلب العالم الأوروبي بالنسبة إلى الأوروبي نفسه وبالنسبة إلى العربي، على الأقل منذ انطلاق الثورة الفرنسية ورفعها شعار التنوير، فأصبحت حاضرةً في أغلب المراجع الثقافية كونها تمثل المحور الذي يمكن أن نصف من خلاله علاقة عالمٍ أوروبيٍ غربيٍّ بعالمٍ عربيٍ شرقيٍّ. مثّل هذا المحور علاقةً مختلفةً بشكلٍ شبه جذريٍ بين المثقف المسيحي والمثقف المسلم العلماني، يصفها هشام شرابي بدقةٍ:
“كان سهلًا جدًا على العربي المسلم الشاب ألا يتغير، إذ كان موقفه تجاه باريس (أوروبا عمومًا) قائمًا في الأصل على الخوف والعداء، وتحول من بعد إلى غطرسةٍ ممزوجةٍ بالفزع، وأعماه خجله ووحدته والعديد من الكوابت، عن المجتمع الغريب من حوله، مما قيد كثيرًا قدرته على التعلم والاستفادة من الفرصة المتاحة، فلم تبدُ أوروبا بعيدةً يومًا كما بدت الآن بعيدةً من قلب باريس”.
ربما يكون هذا مفهومًا خاصًا عندما نقارن موقف المسلم مع موقف مواطنه المسيحي. إذ أحس الشاب المسيحي، الذي وصل إلى باريس في 1910 مثلًا بالراحة ذاتها التي أحس بها الشاب المسلم لدى وصوله إلى القسطنطينية؛ فقد تكوّن لدى الشاب المسلم الذي يدرس في أوروبا موقفٌ معادٍ لأوروبا، ووجد الملاذ في تأليه الإسلام والثقافة الإسلامية، وانعكس موقفه داخليًا فخلق عقباتٍ ضد الفهم السليم للغرب، خاصةً علومه وآدابه، وانحصر ما اكتسبه الشاب المسلم من فهمٍ للتراث الأوروبي الفكري في ما حصل عليه من الأدب والتاريخ أو السياسة. لكن الهوة لم تردم كليًا إذ ظلت المبادئ القيمية والاعتبارات المنهجية التي كونت المعرفة والذوق الأوروبيين خارج الأفق العقلي للشاب المسلم.
بمَ يتميز المسلم العلماني عن غيره؟ إنه يؤكد تمسكه بالقيم الغربية (الأوروبية على وجه الخصوص) والأفكار المعاصرة، ولكنه في الوقت نفسه يؤكد هويته الإسلامية المستقلة، ومن ثم فإنه من الممكن أن يوجد من هو مسلمٌ علمانيٌ بعيدٌ أو قريبٌ من الأفكار الدينية، ذلك يعني أن المسلم العلماني -كما يقول هشام شرابي- لا يمكن أن يكون علمانيًا بالقدر الذي كان عليه المسيحي المغترب؛ ومع أنه لم يسمح بطغيان النظرة الدينية على أسلوبه في مقارنة الأمور، فإنه لم يكن مستعدًا لولوج باب النقد الديني الجدي، فتوقفت ميوله العلمانية ليصبح غير راغبٍ في التصدي للإصلاح الاجتماعي والسياسي، بعيدًا عن الاختبارات الدينية.
هذا يعني أنه يمكن أن تجد مسلمًا علمانيًّا -وهذا شائع جدًا- يقبل بالعلمانية، ولكن من دون تعارضها مع الدين الإسلامي، بل وفي حالاتٍ غالبةٍ، يؤكد إمكان توافق العلمانية مع الدين، وهذا ما تدل عليه المحاضرات والندوات الكثيرة حول إمكان التوفيق بينهما، وأنه في قانون العلمانية نفسه لا يوجد تعارضٌ بين الدين والعلمانية، وأنه من الممكن أن تكون الدولة علمانيةً ومسلمةً أو مسيحيةً في الوقت نفسه، (انظر المحاضرات الكثيرة لمركز حرمون، وأيضًا محاضرات وكتابات د. حسام الدين الدرويش وتركيزه الدائم على ألمانيا وبريطانيا كمثالَين).
هؤلاء يرفضون فكرة التحول الجذري في السياسة والفكر كما حدث في علمانية فرنسا، ويطالبون بسياسةٍ إصلاحيةٍ “معتدلةٍ” ويعتقدون أيضًا بوجود دولٍ كألمانيا وبريطانيا يمكن أن توجد فيها علمانيةٌ لا تفصل الدين المسيحي عن الدولة تمامًا وبشكلٍ مطلقٍ، فهذا يعني حكمًا إمكان تطبيق هذا المبدأ على عدم وجوب فصل الدولة عن الدين الإسلامي.
في الحقيقة إنهم يفكرون في الدين الإسلامي، أكثر مما يفكرون في العلمانية!
ولكن موضوع العلمانية ليس هو الموضوع الشائك والمحوري في علاقة المسلم المثقف بالغرب، إنما موضوعاتٌ أخرى جديدةٌ وحديثةٌ تشكل المحور الأساس الذي ينطلق منه في تحديد علاقته مع أوروبا، ألا وهي الكولونيالية والاستعمار الأوروبي، دراسات ما بعد الاستعمار، وإدخال مفاهيم جديدةٍ “يسارية” حول العنصرية، فوقية الرجل “الأبيض” والأوروبيين على غيرهم من الشعوب، ومفاهيم اندماج المهاجرين في بلاد الأوروبيين والغرب؛ وهنا يستطيع أن يرى المرء بدقةٍ كل ما يفكر فيه المسلم العلماني في باطنه وظاهره معًا.
إن هذه الموضوعات على تنوعها، ولأن المثقف المسلم العلماني هو مثقف الشلف التأويلي، لا بد إذًا من أن يقع في متناقضاتٍ كبيرةٍ، تصل إلى حد النفاق وعدم فهم السياق الثقافي ومسار تطور الشعوب أو كيفية صناعة المجتمعات، بل يصل الأمر أيضًا إلى أن يدافع هذا المسلم العلماني المثقف (اليميني في وطنه واليساري بشدةٍ في أوروبا) عن فكرة اليمين المتطرف الذي يعاديه بشراسةٍ في موضوع اختلاف ثقافة المهاجر عن ثقافة الأوروبي “الفوقي”. وهذه بعض الأمثلة الواضحة:
في إحدى مقالات مجلة رواق ميسلون، يستعرض سلام كواكبي تاريخ منفاه الداخلي في وطنه الأصلي، بوصف المنفى الذي عاشه داخل سورية. لم يكن العامل الثقافي سببًا لخروجه وإحساسه بهذا المنفى الداخلي؛ فقد ذكر في بداية مقالته الأسباب السياسية والاقتصادية والأمنية والبيئية والطبيعية التي دفعته لاختيار منفاه، كما أكد أن هذا الاختيار يرتبط حتمًا بقطع الجسور مع بلد المنشأ في محاولةٍ لبدء حياة جديدة تمامًا.
وفي معرض كلامه عن مسألة الهوية في ما يتعلق بالهجرة والمهاجرين يقول:
“فالهوية وتحديدها هي من أهم عوائق الاندماج في مجتمع المنفى الخارجي، حيث يتمسّك الإنسان بها رافضًا إدماجها أو استبدالها بهوية موقع قدمه وموطئ رزقه، وحيث كرامته مُصانة، وحيث حقوقه كاملةٌ وواجباته واضحةٌ”.
يعرف أي مهاجرٍ عربيٍ سوريٍ أن اليمين المتطرف الأوروبي كما يسميه العرب هو أول الداعين لمفهوم الانصهار، أي كما يدعونا إليه سلام كواكبي تمامًا عبر “استبدالها [أي الهوية] بهوية موقع قدمه ومصدر رزقه حيث كرامته مصانة”. حيث يطالب اليمين “المتطرف” المهاجرين بالاندماج الكلي في ثقافة البلد المضيف حتى يصبحوا مواطنين أوروبيين مشبعين بحب البلد وثقافته ويتبنون تاريخه. بل وزاد سلام كواكبي في طلباته أو في منفاه الاختياري ما لم يطالب به اليمين “المتطرف” وزاد عليه في موضوع قطع الجسور مع بلد المنشأ.
إن مثقف الشلف التأويلي، والذي يمكن تسميته في بعض الأحيان بصاحب الخطاب المزدوج، يمكن أن يذكر في مقالةٍ أخرى كلامًا مناقضًا ضمن الموضوع نفسه، حيث أن الكاتب نفسه وفي مقالةٍ أخرى، وعند الحديث عن الهجرة واليمين “المتطرف” الفرنسي، اعتبر أن الأمر لا يتم بتاتًا عبر مسألة إدماج الهوية الثقافية، بل لم يذكرها أصلًا، واعتبر أن الاندماج يتم عبر سوق العمل وتعلم اللغة فقط، أي أنه بالتالي لا يضع أبدًا في حسبانه ما ذكره في مقالته الأولى عن أن الهوية وتحديداتها السابقة من أهم العوامل التي تمنع الاندماج في البلد المضيف، حين عدّ استبدال هذه الهوية أنه السبيل الذي سيخلصنا من ترسبات الماضي. وهكذا، وفي مقالة العربي الجديد، اتبع أسلوبًا تشليفيًا وتأويليًا آخر دفعه لنسيان العوامل الثقافية أو التأكيد على تجاهلها الدائم تمامًا كما هو الحال في تحليلات اليسار الإسلامي وخطابه، إضافةً إلى نكران تأثير هذه العوامل في مفهوم الاندماج. لعله كان في مقالة رواق ميسلون أكثر هدوءًا فتذكر الأستاذة في الجامعة التي علمته طريقةً أخرى في فهم الهوية، ولم يكن منفعلًا بشدة كما كان عندما كتب مقالته في العربي الجديد، والله أعلم!
لا يقطع المثقف المسلم العلماني الجسور مع بلد المنشأ، فهو ما زال منذ أربعين سنة في فرنسا أو بلاد أوروبا ويركز اهتمامه الرئيس- إن لم يكن الوحيد- على المسائل التي تتعلق بالعرب والإسلام. كما أننا بالكاد نرى مقالةً -من بين مقالاتٍ كثيرةٍ- للمثقفين المسلمين العلمانيين تتحدث عن تاريخ فرنسا وأوروبا أو مثقفيها وآدابها وفلاسفتها، والتعريف بحجم ونوعية المعرفة في بلاد النور والثقافة والتاريخ الكبير، بل إن كل اهتمامهم موجه لإعادة ربط هذا الجسر الذي لم يقطعوه يومًا.
إن ما يعوق عملية المعرفة أو نقل المعارف هو استحضار التاريخ النفسي وإدخاله عنوةً في قلب التحليل، وهذا ما سيعوق اندماج المهاجر السوري في فرنسا على اعتبار أن الانتداب الفرنسي هو إحدى العقبات التي تمنع اللاجئ والمهاجر السوري من الاندماج! بل ويسارع هؤلاء أيضًا إلى الجزم بأنه يجب على كل السوريين عدّ الفرنسيين محتلين سلبيين لوطنه السوري، أو منفاهم الداخلي كما يقولون، ولا يمكن بالتالي أن يسمح المثقف المسلم العلماني بوجود سوريين ينظرون إلى الفرنسيين المنتدبين بعينٍ أخرى غير الواقع النفسي والإسلامي أو المفهوم الوطني التقليدي عند هؤلاء. وهذا يعني فرض نظرةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ عامةٍ على مفهوم تلك الحقبة التاريخية، التي تتبناها أغلبية المسلمين العرب في علاقتهم مع فرنسا.
كما يسارع المثقف المسلم العلماني قبل غيره للسخرية أو النقد اللاذع للعربي الذي يقطع الجسور فعليًا مع بلد المنشأ، لينتمي إلى حضارةٍ وثقافةٍ جديدةٍ، بقول إنه “ينزع جلده” أو إنه “يتنكر لأصله” أو “إنه دونيٌّ تجاه الغرب”، والكثير من الصفات التي لا تعبر عن أي توجهٍ ديمقراطيٍ، أو منح أي نوعٍ من الحرية الفردية للأشخاص في تقرير ليس أوطانهم فحسب، بل هوياتهم الثقافية أيضًا، وهم في هذه الحال يلصقون التهم بـ “المتغربنين” الذين تنكروا لبلدانهم التي ولدوا فيها، بل ويصل الأمر إلى حرمان الإنسان من حقّ استخدام ملكة التعبير عن أفكاره بحريةٍ وعدم الاعتراف بأنه وحده صاحب الحق فيها، بنعتهم بـ “عرب الخدمة” أو “المتصهينين الجدد” وما إلى ذلك من الأوصاف الشعبوية المبتذلة.
قد يكون المسلم المثقف العلماني الذي يعادي الغرب، مسلمًا، إلا أنه لن يكون مثقفًا ولا علمانيًا إذا اقتصرت قراءاته على العموميات والمقالات الصغيرة فحسب، أو إذا قرأ ولم يستطع فهم ما يقرأ، وإن فهم ولم يستطيع أن يفعل شيئًا، وهذا الشيء يماثل تمامًا النكتة البلجيكية حول الفرنسيين: لماذا يضحك الفرنسي ثلاث مراتٍ على النكتة؟ لأنه يضحك أولًا عند سماعها، وثانيًا عند إعادة تلاوتها، وثالثًا عندما يفهمها.
لا يمكن إذًا للمثقف المسلم العلماني فهم العقلية الأوروبية والروح التنويرية التي حملت مشاعل النور التي أضاءت طريق تحرير العقل الأوروبي. وبدل أن يستفيد من العلم الذي اكتسبه في بلاد الأنوار في نقد تاريخ العرب والمسلمين ودينهم وتحليله وسبر أغواره العميقة، راح ينتقد أوروبا نفسها، ويبحث انتقائيًا في تاريخها ويتحدث عن استعمارها وعن عنصرية شعوبها وفوقية ثقافتها على ثقافته العربية الإسلامية، وكل اهتمامه منصبٌّ على محاولة الهروب من ثقافته العربية قبل قطع الجسر، إلى إدخالها قسرًا أو شلفًا في “بلده” الأوروبي بعد قطع الجسر.
إن المعاداة اليومية لأوروبا، وبث خطاب الكراهية ضدها، ضد الحكومات والشعوب الأوروبية، والبحث عن أي تفصيلٍ سيئٍ في تاريخ أوروبا، والتكرار الدائم لمقولات العنصرية الأوروبية والفوقية… إلخ، كلها عبارات مستوردة حديثًا من أميركا مثل “عنصرية الرجل الأبيض” وكتابات ما بعد الكولونيالية التي أصبحت تهم المسلمين المثقفين الذين يعيشون في أوروبا، وأيضًا اتهام الشرطة الأوروبية بالعنف الممنهج، والعنصرية الممنهجة، هي أحاديث المثقف المسلم العلماني الذي يعيش في أوروبا. لقد استولى هؤلاء المثقفون على منصات الصحف والمجلات ومراكز الدراسات ووسائل التواصل الاجتماعي من أجل بث هذا النوع من الخطاب الذي لم يقم به الإصلاحيون المسلمون في زمن عبده والأفغاني أنفسهم. كان هذان أكثر ذكاءً على الأقل، أو لنقل أكثر إسلاميةً وفهمًا لطبيعة وحجم الإسلام، أكثر كثيرًا من المثقفين المسلمين العلمانيين المعاصرين الذين نشأت عن طريقهم ثقافةٌ شعبيةٌ سوريةٌ عربيةٌ طاغيةٌ على أرض أوروبا، ترفض الاندماج، غريبةٌ عن الحضارة، غريبةٌ عن المجتمع الأوروبي المحيط، معاديةٌ له، وكل همها أن تثبت للأوروبي أن الإسلام والمسلمين على قدر المساواة بل ربما يتفوقون على الأوروبيين وبلادهم وأديانهم وثقافاتهم، فتراهم يركزون على أن الحجاب رمزٌ للدفاع عن حريات وحقوق الإنسان. وهم في بلادهم العربية يُعدون أن الحجاب رمزٌ ديني ورمزُ طاعةٍ وعفةٍ وإيمانٍ، ولكنه يتحول في أوروبا ببساطةٍ إلى نوعٍ من حرية اللباس. يحاولون بشدة التركيز على إنتاجات “العرب والمسلمين” الغارقة في الماضي لإعادة إدخالها في جسد الثقافة الأوروبية على أنها الأساس لنهضة الأوروبيين، أو يحاول البعض قول إنّه يحارب سياسة التهميش الأوروبي والاستعلاء الثقافي الأوروبي الممنهج الذي يهمش مساهمات هؤلاء “العرب والمسلمين”. إن المسلم المثقف العلماني يطبّق تمامًا سياسة المسلمين الأصوليين والإصلاحيين في عصر النهضة، بل ويحاول البحث في كتابات مبدعيه العرب والمسلمين عن مفرداتٍ أو حتى جمل هامشيةٍ ذُكرت فيها كلمة العقل، أو المدنية، أو العلمانية، ليؤرشفها أمام الأوروبي بمسمى “دراسات أكاديمية”.
أما في موضوع الهوية الثقافية والوطنية وموضوع حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية فهناك حالةٌ خاصةٌ يتميز بها المثقف العلماني السوري، مسلمًا كان أم مسيحيًا، ويشترك فيها مع العربي السوري المسلم العادي، وهي أنه يستطيع، من وحي ثورته السورية، تعليم الفرنسي والأوروبي مبادئ الديمقراطية، بل ويستطيع بسهولةٍ تعليمه مبادئ احترام حقوق الإنسان ويقوم بالتنظير عليه، ويسقط صفات العنصرية على المبادئ الأوروبية التي لا تلائم نمط حياة المسلم العربي السوري؛ فهو بعيدٌ كل البعد عنها، ومن ثم فوجئ بحجم “العنصرية” في أوروبا والتي لم يعتد عليها، كما أنه يعتقد أن تاريخ الاستعمار الفرنسي في أفريقيا أو الانتداب الفرنسي في سورية هو أمرٌ يخص الشعب الأوروبي وعنصريته، فينتقد هذا الشعب قبل انتقاد الحكومات الأوروبية التي قامت بأفعال الاستعمار، فيما يبرئ نفسه وشعبه السوري من احتلال لبنان مثلًا وعنصريته تجاه الشعب اللبناني بالقول إنه كان من أفعال نظام حافظ الأسد المستبد، والشعب السوري براء منها، بل ولا يعدها نقطةً سوداء في تاريخه، بوصفها أنها لا تمثل جزءًا من سوريته. ومع ذلك يستطيع بسهولةٍ إلصاق العنصرية بكل الأوروبيين دفعةً واحدةً، شعبًا وحكومةً، ويتهمهم بالعيش في مستوى من الرفاه بسبب سرقة موارد أفريقيا، ولكنه لا يمانع أبدًا في التقدم إلى طلب جنسية بلدٍ احتل بلدًا أفريقيًا، راغبًا في التمتع بمزايا هذه السرقة ومستوى الرفاهية، وثم يقول في نهاية كل حديثٍ:
“انتبه! أنا فرنسيٌ وأنتقد فرنسا على تاريخها الاستعماري”، معتقدًا أنها جملةٌ سحريةٌ تمنحه ميزة أنه إنسانٌ ديمقراطيٌ، ويسارع بالضرورة إلى عدّ الأسلمة والإرهاب “اليمين المتطرف الإسلامي” شيئًا معادلًا لليمين “المتطرف” الفرنسي في مقارباته التي يسميها “تحليلاتٌ ثقافيةٌ”.
المسلم والمسيحي المثقف العلماني في أوروبا، وإن حمل جنسية بلادها، يبقى حاملًا جنسيةً أجنبيةً، حاملًا جواز سفرٍ، إلا أنه لا يُعد نفسه أبدًا مواطنًا حقيقيًا في هذا البلد؛ فلا يهتم ببلده ولا بعَلَمه ولا بجيشه ولا بمجتمعه الجديد، بل إن كل قضاياه منحصرةٌ في توجيه “ثقافته وعلمانيته” نحو بلده القديم. لقد ندم هذا الإنسان على قطع الجسر “تشليفيًا”، فحاول تأويل عقدة النقص فيه واغترابه عن الحضارة بفقدان الذاكرة والوقوف على عتبات أطلال جسرٍ لم يقطعه نهائيًا ولم يفكر أبدًا في قطعه، ربما فقط في حالة هذيان عربية مستمرة.
إن المثقف المسلم السوري العلماني والمثقف المسيحي السوري العلماني نمطان لمثقف الشلف التأويلي، مصابان بمرضٍ طويلٍ مع الحياة، اسمه المرض بالغرب.
قال إرنست رينان: إن تحرير مسلمٍ من دينه، أكبر خدمةٍ يمكن أن يقدمها المرء له.
إنه مخطئ بلا شك، لأنه لم يتحدث إلا عن المسلم الذي يعيش في بلاد الإسلام، ولو كان يتحدث عن المثقف السوري العلماني، مسلمًا كان أم مسيحيًا، فأنا واثقٌ من أنه كان سيقول: إن تحرير العربي السوري العلماني المثقف من مرضه بالغرب أكبر خدمةٍ يمكن أن يقدمها المرء للإنسان والحضارة الأوروبية.
قائمة المراجع
الإمام، محمد رفعت، عصر الصورة في مصر الحديثة (1839-1924) (القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، 2013).
الحافظ، ياسين، الهزيمة والأيديولوجية المهزومة، (بيروت: د. ن، تشرين الأول/ أكتوبر 1978).
حوراني، ألبرت، الفكر العربي في عصر النهضة 1798-1939 (بيروت: دار النهار للنشر، د. ت).
رينان، إرنست، ابن رشد والرشدية (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1957).
زكريا، فؤاد، خطاب إلى العقل العربي، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010).
شرابي، هشام، المثقفون العرب والغرب، (بيروت: دار النهار للنشر، 1981).
طرابيشي، جورج، المرض بالغرب (د. م: دار بترا، د. ت).
غليون، برهان، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ط3 (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني/ يناير، 2012).