عندما تأخر الجندي عن نوبة الحراسة الليلية، وبّخه زميله الذي انتهت فترة نوبته منذ ربع ساعة، قائلًا: “إذا تأخرتَ مرةً أخرى سأترك الحراسة وأمشي من دون تسليمٍ واستلام”. ردَّ الجندي وقد أنار وجهه ضوءٌ أصفر من عمود الإنارةٍ في طرف الشارع: “شو المشكلة؟ كلها دقيقتين، دوبني خلّصت كاسة الشاي وجيتك.”
تأفف زميله: “خلّصت الشاي؟ خلّصني هلأ، تعال ادخل واستلم.”
دخلا غرفة المخبر الواسعة، تتوسطها طاولةٌ حديديةٌ قديمةٌ كتلك الموضوعة في غرف تشريح الجثث.
سأل الجندي: “أستلم شو؟ وينه؟”
التفت زميله إلى الطاولة، ولم يجد عليها شيئًا، فصاح: “غير معقولٍ! اختفى! أقسم أنه كان ممددًا هنا صباح اليوم.”
ردّ الجندي: “يا أبله، انظر جيدًا، هل تراه؟ هل ترى أي شيء؟”
تمتم الآخر ضاربًا مقدمة رأسه بيديه، اتسعت حدقتاه في ذهولٍ تام، وجالتا في أرجاء الغرفة: “لا أدري أين هو! مصيبة! كارثة!”، ثم تقدم خطوتين نحو الطاولة، فأحسَّ بلزوجةٍ تحت قدميه، نظر إليهما ليجد نفسه وسط بركة دمٍ أحمر داكنٍ. تتبع بنظره أثر الدماء ليتوقف عند باب غرفة المستودع الجانبية حيث انسلّ الدم من تحته في مسارٍ متعرجٍ، ليستقر متجمّعًا تحت الطاولة. أشار إلى زميله أن يرافقه إلى المستودع، واقتربا بحذرٍ؛ عندما فتحا بابه على مهلٍ. بدّد الضوء العتمة، وانتشرت رائحةٌ نتنةٌ، فوجدا كومة لحمٍ بشريٍ مفتتٍ، ومختلطٍ مع بقايا عظامٍ، وكأنها مخلّفات مسلخ حيواناتٍ. طردا الذباب المجتمع عليها، ليطنّ هائجًا حولهما، فدفعا الباب بأيدٍ مرتعشة وهما يخرجان. حين انحرف مسار الضوء الداخل بدت مِزَقُ ثيابٍ تخص العاملين في المخبر، وبقايا حذاءٍ مقطعٍ، فعرفا الآن صاحب الدماء التي يرشفها كل ذلك الذباب.
قبل ستة أشهر، في يوم صيفيٍ حارٍ، استدعى مدير معهد تقنيات البحوث العلمية علاء وأسعد إلى مكتبه الخاص القابع في زاوية المبنى الإداري في الطبقة الرابعة. هما حاصلان على شهادة الدكتوراه في الهندسة الوراثية.
دخلا المكتب الواسع المزين بنقوشٍ شرقيةٍ خشبيةٍ مطعّمةٍ بقطعٍ نحاسيةٍ، وأخرى من زجاجٍ ملوّنٍ. أراد مصمِّمو المكتب أن تكون النقوش إسلامية الطابع، لكنها أضحت خليطًا متنافرًا من الزخارف الهندية والفرعونية والإغريقية. وقف رجلٌ طويل القامة خلف المكتب. كفّاه على الطاولة، وينقر بأصابعه سطح المكتب برتابةٍ. بدلته الرمادية راقية، وقميصه المكويّ ناصع البياض. يضع ربطة عنقٍ زرقاء معقودةً بأناقةٍ. يبدو بوجهه المربع ولحيته القصيرة المشذبة، وأنفه المعقوف، وكأنّه صار كذلك إثر تلقي لكمة ملاكمٍ محترفٍ. تجول نظرات عينيه السريعة -تحت حاجبيه المستقيمين- على الحاضرين الثلاثة.
عرّفه مدير المعهد قائلًا: “السكرتير الخاص برئاسة الجمهورية يحمل لكما رسالةً خاصةً، وبمنتهى السّرّية”، فرد السكرتير: “الرسالة لكم أنتم الثلاثة.” أومأ مدير المعهد، وقال: “نعم، طبعًا.”
بعد فترة صمتٍ، توقف السكرتير عن النقر على سطح المكتب، وأشار إلى الحاضرين بالجلوس. احتل مدير المعهد الكرسي الأوسط، بينما جلس علاء وأسعد بحذرٍ على حافة الكرسيَين الجانبيَين.
بعد أن تأكد السكرتير من جلوس الجميع، جلس بدوره إلى الكرسي المجلّد خلف طاولة مكتبه. كحّ لتنقية صوته، وشرع في الكلام بصوتٍ ناعمٍ رقيق النبرة، عكس ما توحي به ملامح وجهه القاسية: “لقد اختارتكم القيادة العليا لمهمةٍ عظيمةٍ، لا أريد أن أشدّد أكثر من مدير المعهد على خطورتها وسريتها.”
“مهمة عظيمة! قيادة عليا!” ارتعش جفنا أسعد عند سماعه هذه الكلمات وتجمد في مكانه. لم يبدُ القلق الذي انتابه عليه بسبب لون بشرته السمراء الداكنة التي أخفت امتقاع وجهه. بدا جسده القصير غير متناسبٍ مع رأسه الكروي الكبير. كان يتميّز بين زملائه كطفلٍ كبيرٍ مرحٍ، يتنقل بينهم شاهرًا هاتفه الخليوي ليريهم النكات والفيديوهات المضحكة على صفحة الفيسبوك أو في رسائل الواتساب غير عابئٍ بتذمر بعضهم، ولا سيما الإناث، من سوقيتها وبذاءتها. تصدح لهجته الريفية بغنةٍ عندما يمطُّ أواخر الكلمات، وينثر لعابه حين يقهقه ضاحكًا في وجوه مستمعيه. لذلك، وعلى الرغم من شعبيته الواسعة، كان زملاؤه يجتنبون الاقتراب منه عندما يرفع هاتفه كسلاحٍ في وجوههم.
نظر السكرتير إليهم وكأنه ينتظر تصفيقًا منهم، وحين لم يفعلوا، سألهم: هل أنتم مدركون شدة المحنة التي يمر بها الوطن؟
مكث “الدكاترة” في عمق وجومهم الحائر. كما هو حال جميع عمال المعهد، كانوا قد سمعوا في وقتٍ سابقٍ عن باحثِين كُلِّفوا بمهماتٍ خاصةٍ، آخر واحدٍ كان يدعى “ميشيل”، اختفى فجأةً بعد تولّيه القيام بمهمةٍ خاصةٍ، وكأنه شبحٌ. ويعلم الجميع أن تلك المهمات كلها بدأت بعبارات من قبيل: “عمق المحنة التي يمر بها الوطن.” هل المهمة المطلوب توليها هذه المرة أيضًا كسابقاتها؟ أم أنها مختلفة لارتباطها بالقصف الأخير على المعهد الذي دمّر أكثر من نصف مبانيه، وقتل الكثير من العاملين فيه؟ كان أسعد وعلاء من المحظوظين بالنجاة لأن مخبرهما متوارٍ في قبو مبنىً جانبيٍ. هما متخصِّصان في الهندسة الوراثية ولا يملكان أي خبرة عسكرية تُذكر، فما هو الدور المطلوب منهما؟ من يدري، الأمور لا يحكمها المنطق في السنوات الأخيرة. الحقيقة أنه لم يحكمها أي منطقٍ في السابق كذلك، إلا أن عبثيتها اليوم جاوزت حدود المعهود.
قطع مدير المعهد الصمت: “بالتأكيد ندرك ذلك، ناقشنا أنا والدكتور علاء هذا الصباح تداعيات المحنة.”
امتقع وجه علاء لذكر اسمه في نقاشٍ لا يتذكر حدوثه: “ابن الكلب. ما الذي يدفع المدير للتفوه بالكذب؟ هل يعتقد أن السكرتير رجلٌ غبيٌ؟ حين سُلِّمَ المدير منصبه منذ سنواتٍ، تفاءل العاملون باستقامته وإخلاصه. ما الذي غيّره؟ من حسن الحظ أنه لم يقل “كنّا أنا ورشدي…” ذلك لأن موظفي المعهد القدامى سمّوه رشدي تيمنًا برشدي أباظه، لحسن ملامحه وشاربيه الرفيعين كأنهما مرسومان بقلم كحلة استعاره من درج أدوات مكياج زوجته، ذلك الدرج المليء بمستحضرات التجميل الفرنسية المستوردة بأثمان باهظة. ارتبط بزوجته لميس ليس لسطوة حسنها، إنما بسبب عائلتها ميسورة الحال والمحافظة -كعائلته- وذات الأصول المتجذرة في قلب مدينته العريقة. بعد تخرّجه وحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد بحوث أريزونا الطبي، خمّن أن لميس ستفضل العيش في أميركا لكنها أجبرته على العودة لرغبتها في العيش قرب عائلتها، تلك العودة المشؤومة التي كثيرًا ما ندم عليها. كم كَرِه ترديدها بأن الحياة في أميركا لا تُحتَمَل “كل الناس فيها متشابهون، الطبيب والبائع في المتجر وعامل التنظيف… إلخ، كلهم مثل بعضهم،” وتضيف: “شيءٌ مقرفٌ”. وفي النهاية خضع لرغبتها في العودة.
أمعن السكرتير النظر في علاء وكأنه يعرف ما يخفيه، وقال: “كلنا جنود الوطن. حين تناط بنا مهمةٌ في خدمة بلدنا، ليس هناك من يتوانى أو يتقاعس.”
لَمَسَ عقدة ربطة عنقه كأنه يريد التأكد من إحكامها، وتابع: “لقد راجَعَت القيادة ملفاتكم بدقةٍ ولهذا اختارتكم لهذه المهمة الخاصة.”
سالت نقطة عرق باردة من خلف رقبة علاء. هل يعلم السكرتير بسره الخفي، ذلك الوشم الأزرق على عضده الأيمن؟ الوشم الذي أصرّت تانيا -الباحثة في علم الوراثة التي تعّرف إليها في أحد المؤتمرات في بولونيا، أن يرسمه على عضده- التقى بها أول مرةٍ عندما قصد إحدى محاضراتها، بعد أن سمع عن تألقها في مجال اختصاصه. راقب شفتيها مذهولًا وهي تتحدث من وراء المنصة بسلاسة أمٍ تقرأ قصةً مشوقةً لطفلٍ في سريره. ختمت محاضرتها بعرض صورةٍ بانوراميةٍ التقطتها على قمة جبل كالمنجارو، قائلةً بنبرة من يخاطب أمناء سرٍ: عندما لا تنتج التجربة نتيجتها المتوقعة، يجب ألا نَخْلُص إلى ما خَلُص إليه هيغل: هناك شرخٌ بين العقلِ والطبيعة. إنما أفضّل رؤية الأمر كما وصفته إيملي ديكنسون:
“Nature” is what we see
The Hill-the Afternoon
Squirrel-Eclipse-the Bumble bee
Nay-Nature is Heaven
Nature is what we hear
The Bobolink-the Sea
Thunder-the Cricket
Nay-Nature is Harmony
Nature is what we know
Yet have no art to say
So impotent Our Wisdom is
To her Simplicity.
الطبيعة هي ما نرى
الهضبة، بعيد الظهيرة
السنجاب، خسوف القمر، النحلة الطنانة.
لا، الطبيعة هي السماوات العليا
الطبيعة هي ما نسمع
طائر الوروار، البحر
الرعد، الخنفسة.
لا، الطبيعة هي التناسق.
الطبيعة هي ما نعرف
ولكن بلا وصفٍ.
حكمةٌ بالغةٌ نحتاجها
لكي نعي بساطتها.
خرج علاء من قاعة المحاضرات مفتونًا كأنه منتشٍ. لم تكن أجمل النساء. كان لباسها أنيقًا لبساطته فحسب. إلا أنها كانت ذات جاذبيةٍ خفيةٍ وهي تتحدث، وكأنها تتحوّل إلى مغناطيسٍ وكل من حولها شذرات حديد. كيف طوَّعت الدلالات العلمية لشرحها خلف تلك المنصة، كيف مزجتها بأصول الفلسفة، وكيف كوّمت صور الفن والأدب بذاك اليسر، وكأن وراء تشابك تلك المواضيع بديهية كونية ربطتها بخيوطٍ خفيةٍ لم يلحظها أحدٌ قبلها. متى خُلقت تلك المرأة التي فاقته ذكاء؟ دفعه ذلك للجنون، كانت كل ما يتمناه، كل شيء لم تكنه زوجته. لم يكفّ عن متابعة أخبارها، حتى حانت له فرصة الاقتراب منها خلال حفل عشاء تكريم زميلٍ مشتركٍ. بعد نقاشٍ دار معها -كان قد اختلقه مسبقًا ونظّم محاوره في ذهنه، وتدرّب عليه مرارًا أمام المرآة كي يظهر ذكيًا بلا تكلفٍ، ومقدامًا بلا فظاظةٍ- دعاها إلى الشرب في غرفته، مستمدًا شجاعته من لمسات رؤوس أصابعها لطرف كمه في أثناء حديثهما، كأنها أجنحة عصافير صغيرة تربت عليه. لم تضطرب لدعوته “السافرة”. تخيّلَ وميض شعلتين في عمق حدقتيها الواسعتين. خلال ثوانٍ، أدارت طرف سبابتها على حافة كأسها، ابتسمت ابتسامةً غامضةً، ثم دنت منه حتى تلاصق وجهها بوجهه، وخصلةٌ من شعرها الأشقر الطويل تمسح كتفه، واشتدّت زرقة عينيها، همست في أذنه: لن أكون تجربةً عابرةً تنساها بعد حين، ستذكرني إلى الأبد.
هبّت رائحة عطرها -وهي تهمس له- ممزوجة بشذى الخمر في فمها: أريد أولًا أن أرى اسمي موشومًا على جسدك كما تغرس النبتة في الأرض.
أشارت إلى أثر جرحٍ قديمٍ على طرف رقبتها الطويلة، ندبةٍ متعرجةٍ بدت له كثعبانٍ صغيرٍ. آهٍ كم تتغير الصور عند تجلي المسافة.
“لن تتحقق رغبتك قبل أن أرى الوشم، سيكون هذا سرنا الخاص.”: هكذا همست في أذنه قبل أن تفتّت قطعة جبنٍ فرنسيٍ معتقٍ على كسرة خبزٍ محمصٍ أخذتها من الطعام الموزّع على طاولة البوفيه، وقبل أن تَمْلأ كأسها مرةً أخرى بالنبيذ.
لم تقبل بحججه العديدة للتنصل، لكنه أقنعها أخيرًا أن توافق على الاكتفاء بوشم اسمها بحروفٍ مقلوبة بحجة أن الكتابة باللغة العربية تبدأ من اليمين. عليه الآن أن يجد حجةً أخرى، عند عودته إلى بيته، ليبرر لزوجته سبب الوشم على ذراعه، ومبررًا يُفَّسِرُ كلمةAINAT .
أكانت الاستخبارات تراقبه وهو في المؤتمر؟ إنهم في كل مكانٍ، لهم عيون وآذان في البلاد وخارجها، هل عندهم سجلاتٌ لزيارات تانيا الليلية لغرفته في فندق بريستول في وارسو؟ صحا من شروده وحاول عَصْرَ فوضى الشكوك من رأسه. مرت فترةٌ مربكةٌ حين أدرك أن نظرة السكرتير لا تزال ملتصقة به.
“نعم ندرك، بكل تأكيد”: قال بصوتٍ أجشّ.
اتجه السكرتير ببصره إلى الركن الأكثر عتمةً في الغرفة، حتى رسا على صورة الرئيس المعلقة في وسط الحائط البعيد، إطارها من الخشب المحفور المذهّب. كانت الصورة بالأبيض والأسود باستثناء العينين الملوّنتين بالأزرق.
قال: “أنتم تدركون سبب هذه المحنة”. ثم أحنى كتفيه وجمع كل ما استطاع من جهوريةٍ يمكن لصوته الناعم أن يصدرها ليكمل: “إنها المكائد التي تحاك ضدّ كيان الوطن. نحن اليوم محاطون بمؤامراتٍ كونيةٍ، صراعنا وجوديٌ، صراعٌ بين حضارة الوطن العريقة على مرّ آلاف السنين، وبين ثقافاتٍ دخيلةٍ، ثقافة الرعاع الصحراوية والقبائل الغازية التي فُرِضَت علينا لعقودٍ طويلةٍ، أطول بكثيرٍ مما ينبغي.”
ترك تلك الكلمات تأخذ مكانها للحظات، تفوّه: “أنتم-” عندما قاطعه طرقٌ على الباب. دخل الحاجب حاملًا صينية عليها ركوة القهوة وعدة كؤوس، مرتديًا سترةً سوداء فضفاضة بياقة لامعة من نوع التوكسيدو، من تركات أحد المحاربين الألمان القدامى في الحرب العالمية الثانية لجمعيةٍ خيريةٍ، ثم انتهى به المطاف في إحدى محالّ البالة في سوق ساروجة بدمشق، إذ اشتراه الحاجب من هناك لثمنه الرخيص. يلبسه اليوم فوق بنطالٍ عسكريٍ مرقعٍ، ومكان القدم اليمنى فارغٌ. في قدمه فردة نعالٍ بلاستيكيٍ، وتحت إبطه الأيمن عكازة خشبية. صب القهوة في كؤوسٍ صغيرةٍ مخصصةٍ للشاي عادةً، ووزعها على الحاضرين، عكازته تخدش الأرض مصدرةً أنينًا.
تابعه السكرتير بنظرةٍ فضولية، فبادر مدير المعهد إلى القول: “لقد بتُرت رجله لإصابته بسبب القصف الأخير، والأطراف الاصطناعية غير متوافرةٍ حاليًا. المصابون كثرٌ، قد ينتظر عدة سنوات قبل أن يأتي دوره.”
رشف السكرتير من قهوته وقال: “لاقيلك واحد غيره.” وضع الكأس على مهلٍ على طاولة المكتب مصقولة السطح، وعاد للنقر عليه.
تدرك القيادة أن محنة الوطن قد طالت. لذا قررت أنه لكي نخرج من المؤامرة التي حيكت ضدنا، يجب علينا أن نمحو كل أثرٍ لثقافة التطرف المقرون بالعنف والانحطاط. الثقافة التي اعتنقها المغترون بعصور الجهل، وأسموها تراثًا. يريدون أن يهدموا قواعد التطور والتقدم التي أرساها قائدنا الخالد، يستخدمون كل وسائل الإرهاب لتحقيق غايتهم. ولكننا سننتصر عليهم باللوذ إلى أصول حضارتنا النيرة.”
حكّ أسعد ذقنه شاعرًا بوجود خللٍ ما. ما الصلة بين ما اكتسبه خلال سنوات دراسته الهندسة الوراثية في معهد بيرغوف للأبحاث الوراثية في موسكو، وبين مهمة اليوم المتعلقة بمحاربة الثقافة الصحراوية؟ أيقظته لسعةٌ باردةٌ لنسمة هواء دخلت عبر النافذة. تصدعت أطراف النافذة الكئيبة، وانكسر بعض زجاجها بسبب القصف الذي لحق بالمعهد قبل أسابيع. سمع أسعد مدير المعهد يعتذر للسكرتير قائلًا: “تسير الإصلاحات على قدم وساق، إلا أنه لم تصل النوافذ الجديدة بعد لنقصٍ حادٍ في الميزانية.” لم تُظهِر تعبيرات وجه السكرتير أي اهتمامٍ بما قاله مدير المعهد، كان منشغلًا بمعاينة المبنى المجاور عبر النافذة. تراصّت طوابقه المهدمة فوق بعضها كالكفن المطوي، تتخللها أعمدة الإسمنت المسلّح بالحديد، كأنها ثآليل ضخمةٌ ناتئة من باطن الأرض. بين أطول عمودين باقيين عُلِّقتْ لافتةٌ طويلةٌ تتوسطها صورة الرئيس وهو واقفٌ، مبتسمٌ، رافعًا ذراعه اليمنى، باسطًا كفّه بتحيةٍ. قماش اللافتة يتمدد وينكمش مع هبّات الرياح، فيظهر ثم يختفي ما كُتب أسفلها بخطٍ فارسيٍ لونه أحمر: “لن نركع”.
بخواء قال أسعد: “الأحرى بنا أن نستنجد بوزارة الثقافة والإعلام، يجب أن نضع لافتاتٍ عريضةً في كل مكانٍ للتنديد بـثقافة الجهل.”
رفع السكرتير كفه: “لم أنهي كلامي بعد.”
استعان هذه المرة بذراعيه ويديه لدعم خطابه، مدركًا أن نبرة صوته لم تفِ بالغرض وحدها، فقال: “اللافتات لا تكفي. الوطن الآن في حاجةٍ ملحّةٍ إلى رمزٍ. رمز يحيي أصول حضارتنا القديمة وينشر من جديدٍ قيمنا الأصيلة.”
“من أين تأتي الرموز؟” تساءل مدير المعهد في نفسه، لم يستطع تفادي النظر إلى الرف العلوي خلف مكتبه حيث قبعت علبة فسيفسائية مغلقة. خبأ فيها علم البندرسادلر (النسر الألماني الأسود ذو المنقار والمخالب الحمر) أحضره من الكلية الحربية في لايبزيغ حيث درس أركان العلوم العسكرية في ألمانيا الشرقية حينذاك. رمز بلونين وبألف دلالةٍ، رمز إصرار الألمان في العمل. بعد عودته إلى الوطن وتقلده إدارة المعهد أراد أن يفرض نظامًا مماثلًا فيه، لكنه وجد نفسه مكبلًا بفسادٍ كالبحر ينحسر لبرهةٍ بخسة ثم يطغى بجبروت موجه. أخيرًا ضاع أمله حين كاد أن يفقد منصبه عندما تخطى أحد قرارات ضابط الأمن: “لازم تفهم حدودك وصلاحياتك، نحن الذين ندير العمل هنا”. نهره ضابط الأمن من وراء المكتب نفسه حيث يجلس السكرتير الآن (ذلك لأنه كان يرفض الجلوس في كراسي الضيوف). واسترسل الضابط بمحاضرةٍ طويلةٍ عن الوطنية والقومية والولاء للقيادة. هاجمه أرقٌ مزمنٌ ثم انحسر عن كابوسٍ متكررٍ، إذ يرى نفسه يمشي في نفقٍ طويلٍ تتخلله أبوابٌ حديديةٌ ثقيلةٌ متلمسًا خطواته في الظلام؛ كلما جهد في فتح بابٍ أُغلِقَ الباب وراءه بصوتٍ صدئٍ حادٍ ليجد نفسه في ظلمةٍ أحلك. وكلما حاول إضاءة طريقه بعود ثقابٍ وجد الجدران حوله ترتج وسط هالةٍ ضعيفةٍ من الضوء، ملطخة بالأقوال البيانية الخطابية ولافتات صور القادة بثيابهم العسكرية، ونظاراتهم الشمسية. وكلما تقدم باحثًا عن مخرجٍ، وجد النفق ممتدًا بلا نهايةٍ. في كل ليلةٍ أيقظه الحلم مخلّفًا في نفسه ركامًا من الشعور بالعجز، تاركًا إياه في حالةٍ من اليأس. تماهت الظلمة أمامه وكأنه بين نومٍ ويقظةٍ، ليسمع نفسه يقول: “رمز حضارتنا القديمة هو الرئيس القائد.”
“لا”! أجاب السكرتير سريعًا، لكنه استدرك: “أقصد نعم، هذا صحيحٌ، هو الرمز. لكن، انظر، علينا هنا أن ندرك حجم المهمات الملقاة على عاتقه و(….) و(.…) ومدى تعقيدها. لا يمكن للرئيس أن يكون رمزًا للحاضر وعنوانًا للمستقبل، وأن يكون دلالةً تاريخيةً في الوقت نفسه، أقصد، يمكن له بالطبع، ولكن غير ممكن، هل تفهمني؟ أعني إذا أردنا المقاربة، فهو كعمود الإسمنت المسلح في المبنى: إنه المركز. حتى لو تهدم كل ما حوله، يبقى، يبقى قائمًا. لهذا (….)” مستعينًا بذراعيه الممددتين عرضًا، ومختلسًا نظرةً سريعةً عبر النافذة) “هو لا يستطيع أن يكون في أرجاء المبنى كلها في وقتٍ واحدٍ، وإلا، وإلا تهدّم المبنى على من فيه، هل تفهمني؟”
من موقعه في الكرسي المقابل للنافذة قال المدير: “أفهمك” وحدّق في شروخ بلاطات الأرض خشية أن تقع عيناه على بقايا المبنى المجاور. أضاف أول ما خطر له: “يجب أن نغير مناهج التدريس، أن نمحو آثار ثقافة الجهل.”
اعتدل السكرتير في جلسته على الكرسي العريض ناقرًا عروق صدغه بسبابته بدل نقر سطح المكتب، وقال: “تعليم الجيل الناشئ قيمًا جديدةً يتطلب وقتًا طويلًا. الخطر آنيٌ ومباشرٌ. ما نحتاج إليه الآن رمزٌ تاريخيٌ. رمزٌ بقلبٍ نابضٍ، يمشي، يتكلم، ينطق، يلمس، قدوةٌ حية تعيد لنا مجدنا الماضي.”
أراد أسعد البوح بما يملأ صدره، وقول إن من قادوا الوطن مدة نصف قرنٍ هم أنفسهم الذين نشروا القيم المستحكمة الآن، لكنه توانى. ليس فقط لأنه أذكى من أن يخبر السكرتير بحالٍ يدركها السكرتير جيدًا، بل لأنه لا تزال سطوة الشخص التاريخي الحي الناطق الملموس متعمقة في نفسه، مذ ألهبت مخيلته أيام صباه. في عطلة الجمعة كان يقطع السفح من قريته مع والده، يعبر البساتين المزروعة بأشجار الخوخ والرمان، كان والده يمشي بصمتٍ في أخاديد الأرض المحروثة بينما يقفز هو على الصخور المبعثرة، حتى يرتقيا تلةً جرداء إلى مقام قبر الولي القابع فوقها. هناك يخلع والده قبعة الكاوبوي السوداء ويخرج منها حزمة شرائط قماشية. والقبعة مهداةٌ من ابن أخيه الذي هاجر في سنٍ صغيرة إلى الأرجنتين، ثم زارهم بعد سنواتٍ طويلة برفقة زوجته الأرجنتينية ذات الساقين الطويلتين. أصبحت قبعة الكاوبوي السوداء علامة والده المسجلة واشتُهر بها، بينما أمست سيرة الأرجنتينية على لسان نساء القرية لسنواتٍ. في المقام، يتأمل والده في إغماءته الساكنة والضوء حوله يمتد وينحسر بخيوطٍ من الغبار المتراكم. يربط بيديه الموسومتين شرائط القماش على قضبان الحديد المحاطة بالقبر الذي يتوسط غرفة المقام. شرائط بألف لونٍ، بعضها طويل وأخرى قصيرة، عليها أدعيةٌ وصلواتٌ وطلبات أفراد القرية. وحين سأل أباه كيف سيقرأ الولي هذه الطلبات، أجابه أن الولي ليس ميتًا، هو حيٌ لكنه في نومٍ طويلٍ، يستيقظ كل يوم جمعة بعد غياب الشمس، يسمع الصلوات ويجيب الدعوات.
هل الرمز المتكلم الناطق المنشود مثل ذلك الولي؟ رجل يغطّ في نومٍ عميقٍ ثم يستيقظ بعد غروب الشمس؟ هل هناك أثر ضريحٍ ما تحت أنقاض مباني المعهد المهدمة، أو بقايا قبرٍ بقضبان حديدية وأشرطة ملونة، أو بقايا قبعة كاوبوي سوداء؟
تابع السكرتير كلامه مشيرًا إلى علاء وأسعد: “اسمحا لي بطرح سؤالٍ عليكما كونكما متخصصَين بالهندسة الوراثية من أفضل الجامعات الأميركية.”
أسعد: “أنا تخرّجت في روسيا.”
على الرغم من أن أسعد أكثر شهرةً ونشاطًا من علاء، إلا أن علاء يحظى كمتخرّجٍ في جامعةٍ أميركية، باحترامٍ أكثر في المعهد. وعلى الرغم من شعور علاء بالفرح لتقديره وترقّيه، لا يطيب له أن يُحرَم زميله مما يستحقه، لكنه لم يحاول فعل شيءٍ لتغيير الوضع، ملقيًا اللوم كله على الإدارة. قال لأسعد مرةً: “لو أني أستطيع إلغاء هذه البيروقراطية العفنة لفعلت، ولكن ليس باليد حيلة”.
تراجع السكرتير في مقعده ملوّحًا بيده: “نعم، نعم، خريج من عند حلفائنا الروس، إنهم في ذروة التقدم العلمي. لكن، الآن دعاني أعود لسؤالكما: لو أن لدينا الحمض النووي لكائن عاش منذ آلاف السنين، هل يستطيع العلم الحديث استنساخه بتقنياته المتطورة؟ ألم يستنسخ العلماء خروفًا في نيوزيلندا؟”
أسعد: “في سكوتلندا.”
السكرتير: “لا يهم أين. المهم أن الخروف قد استنسخ بنجاحٍ وعاش، يمكن إذًا استنساخ كائنٍ عند توافر الحمض النووي، صحيح؟”
أسعد: “إذا كنت تقصد ما حصل في الفيلم الأميركي الجوراسيك بارك، نعم يمكن ذلك نظريًا.” (قال ذلك مشددًا على كلمة “الأميركي”)
السكرتير: “لكن الاستنساخ تم عمليًا في إيرلندا، أليس كذلك؟”
أسعد: “سكوتلندا.”
ضرب السكرتير المكتب بقبضته: “لا يهم. أريد إجابة عن السؤال.”
كمن يطلب الإذن بالكلام نيابةً عن الجميع، أمال علاء برأسه لأسعد ولمدير المعهد، ضم كفّيه، ثم قال:
هناك تطورٌ كبيرٌ في هذا المجال، لكن علم الاستنساخ ما زال تجريبيًا ومحدودًا في نطاق ضيق تجريبي. عوامل كثيرة يجب أن تؤخذ في الحسبان. الأمر معقدٌ.” قاطعه السكرتير ولا تزال كفه مقبوضةً: “معقد… عوامل… مثل ماذا؟”
علاء: “عوامل تتعلق بصعوبة استخراج الحمض النووي ثم إعادة تركيبه، هناك مئات آلاف الجينات في كل شريطٍ منه. أي فجوةٍ أو عطبٍ في أصغر جزءٍ منها قد يسبب الفشل. أو، حتى في حال النجاح، قد يسبب تشوهًا خطيرًا في الكائن المستنسخ.”
تململ السكرتير في جلسته وعاد للنقر الرتيب على سطح المكتب.
تابع علاء كلامه: “وهناك أمورٌ تقنيةٌ عديدةٌ، فهناك حاجةٌ إلى مخبرٍ معزولٍ كليًا عن التلوث، وآلاتٍ مخبريةٍ حديثةٍ، ومجموعة معاونين يملكون خبرةً عاليةً في أساليب وتقنيات العمل المخبري الحديث… إلخ، هناك أيضًا اعتباراتٌ أخلاقيةٌ.”
قاطعه السكرتير بحركةٍ من يده وكأنه يبعد بعوضةً طنت في أذنه: “دعك من الاعتبارات الأخلاقية، سؤالي عن الإمكانية العملية. تحديدًا، لو أن هناك قطعة عظمٍ من كائنٍ عاش منذ أربعة آلاف سنة وأردنا إعادته إلى الحياة، سيمكننا استخلاص حمضه النووي من العظم وتكوين نسخةٍ حيةٍ عنه، أليس كذلك؟”
ساد صمتٌ باعثٌ على التوتر، قطعه أسعد كمن يقطع شريطًا كهربائيًا بمقصٍ حديديٍ: “صعبٌ جدًا”. وأكمل: “أعتقد—”. قاطعه السكرتير بامتعاضٍ: “تعتقد ماذا؟ عليكم أن تتذكروا أن الرئيس نفسه حاصلٌ على شهادةٍ علميةٍ في الطب. وأنه اختص أيضًا في دول الغرب مثلكم جميعًا، وهو يعرف أين وصلت تقنيات العلم… ما هو ممكن… وما هو غير ممكن.”
أسعد: “أنا خريج روسيا.”
احتقن وجه السكرتير وارتعشت شفته العليا رعشة خفيفة، تجاهل أسعد والتقط لافتة المكتب الخشبية المحفور عليها اسم مدير المعهد، تفحصها، ثم رفع نظره وقال بحزمٍ كمن يتنفس من بين أسنانه: “المهمة ليست طلبًا، إنها أمر من الرئيس نفسه، لا مجال للأخذ والرد. الشأن مصيريٌ ويتعلق بأمن الوطن، شأن حياةٍ أو موتٍ.”
حلّ صمتٌ قصيرٌ، أعلن بعده بلهجة آمرة: “في إحدى عمليات التنقيب في جرف نهرٍ جافٍ قرب تل الجهمية، عَثَرَ منقبون على قطعةٍ عظميةٍ لكائنٍ تاريخيٍ له دورٌ أساس في تكوين حضارتنا. ونحن نريد منكم، بالسرعة القصوى، استنساخ ذلك الكائن وإعادته إلى الحياة بلحمه ودمه. مفهوم؟”
وقع هذا الكلام على الجميع وَقْعَ القنبلة. وكما يُمْتَصُ الأوكسجين من الجو إثر اشتعال القنبلة، شعر الجميع بضيقٍ في الصدر وكأن الهواء أُفرغَ من رئاتهم. الشعور نفسه الذي لفحهم في عقب الهجوم الصاروخي الذي أصاب المعهد منذ أسابيع، لا ينقصه سوى أصوات الانفجارات المدوية، وغيمة التراب الأصفر التي عمت الأعين وأزكمت الأنوف.
قال السكرتير ونظرة عينيه كالرمح المصوب تجاه مدير المعهد: “كتيبة الحراسة التي رافقتني ستبقى هنا في المعهد لضمان سلامة العينة العظمية وتوفير الأمن للعاملين. مهمتك أن تزود المهندسَين كلّ ما يحتاجان إليه من مخابر للعمل، من أدواتٍ، ومواد، وخبراء مساعدين، أي شيء يطلبانه، بلا أي تقصيرٍ. لأنهما سيقيمان في المعهد حتى انتهاء المهمة، عليك توفير الطعام ومكانٍ مريحٍ للنوم. ولحماية هذه المهمة وصيانة سريتها، يمنع على أيٍ منكم الاتصال خارج نطاق المعهد إلا بإذنٍ، وللضرورة القصوى.”
ترك السكرتير اللافتة تسقط على سطح المكتب، مقلوبةً، ووقف معلنًا انتهاء الاجتماع.
سأل مدير المعهد بصوت مستكين: “هل لنا أن نعرف من هو هذا الكائن مصدر عينة العظم؟”
“جلجامش”: قال السكرتير.
مالت الشمس، واصفرّ لون السماء للحظات ثم احمرّت، وكأنها وشاحٌ حريريٌ ملطّخٌ بالدم. انعكس لون السماء على نوافذ الأبنية وزجاج السيارات لتبدو كأنها كتل جمرٍ صغيرة مشتعلة بين الرماد. عندما وصل جلجامش إلى ساحة الروضة عبر شارع زهير بن أبي سلمى، وقف عدة ثوانٍ متأملًا جبل قاسيون. حلق سرب حمامٍ فوقه، فرفع عينيه نحوها ليلحظ ألق السماء، قال: “لون اللازورد، تلك نبوءة أوتنابشيم.”
تمشّى في شارع أبي جعفر المنصور بعكس اتجاه الريح. تاركًا في الشوارع الملتوية خلفه جثث المارة وعناصر الأمن هامدةً معلقةً بصمت على الأشجار، حدقات عيونها أطيافٌ من الرعب، تحيط بها العربات المقلوبة والأسلحة الرشاشة المفتتة وكأنها مصنوعةٌ من البسكويت.
في مقهىً يتنحّى في زاوية تبعدُ مئتي مترٍ عن الساحة كانت كوليت خوري تجلس مرخية البدن على كرسيها قرب الواجهة الزجاجية التي يخترقها لون السماء القرمزي ليُضِيءُ جانبًا من وجهها وهي تتلمس بيدٍ ياقة معطف الكشمير أصفر اللون كأنها تداعب قطةً، وتلفّ بسبابة يدها الأخرى خصلةً من شعرها المصبوغ بالأسود لتضعها وراء أذنها. على الكرسي المقابل جلس زكريا تامر يلعب بسلسلة مفاتيحه كمن يلعب باليويو. زفرت وهي ترمق ساعة الرولكس في معصمها: “تأخر مرةً أخرى!”
رد زكريا: “لا بد أنه مشغول بربط وشاحه.”
مقارنةً بمظهر كوليت بدا لباسه عاديًا ببنطالٍ وقميصٍ من الجينز، وحزامٍ عريضٍ من الجلد الأسود، وحذاءٍ ثقيلٍ بساقٍ عالية كالذي يرتديه العمال.
قالت كوليت ضاحكةً: “لا قيمة للمثقف السوري من دون وشاحٍ؟”
زكريا: “سيختنق بها ذات يومٍ، أو سينتحر خنقًا إن لم يُمنَح جائزة نوبل.”
كوليت: أدونيس ليس الوحيد الذي يضع وشاحًا، وليس الوحيد الساعي وراء نوبل. حل عن سماه. (سمعت خشخشة حزمة مفاتيحه) سألته: ما هذا؟”
زكريا: “علاقة مفاتيح صَنَعتُها منذ زمن.”
كوليت: “أووه، porte-clès، شكلها غريب.”
“لأنها كرةٌ زجاجيةٌ داخل قفصٍ حديديٍ: قال زكريا متأملًا اختراق ضوءٍ خفيفٍ من المكان الكرة الزجاجية في سجنها.
“والمفاتيح قديمةٌ، كأنها من زمن العثمانيين”: قالت كوليت.
“ها قد وصل أدونيس”: رد زكريا ملتفتًا نحو أدونيس الداخل من باب المقهى، وشاحه الأحمر الطويل، فوقه سترةٌ كحليةٌ من قماش الكوردروي الإنكليزي. بدا شعره الفضي الطويل كالهالة المشعة التي تزين رؤوس القدّيسين في الأيقونات. اقترب ببطءٍ فبادر زكريا بسؤاله: “في أخبار من ستوكهولم؟”
أجاب أدونيس: “سمعت أنهم سيمنحون جائزة نوبل لأحد كتّاب مجلة أسامة المغمورين.”
زكريا: “مدير تحرير مجلة أسامة لو سمحت. تخيل أن وزارة الإعلام عينتني مديرًا على الرغم من أني لا أضع وشاحًا حول عنقي.”
أدونيس: “ما علاقة الوشاح بإدارة مجلة أطفالٍ مغمورة؟”
” تظن كوليت أنها نموذج المثقف السوري.”
كفت كوليت عن مداعبة قبة معطفها، وتدخّلت: “زكريا يحب المزاح. ليش تأخرت؟”
ردّ أدونيس: “أزمة البنزين، ما في تكاسي.”
كوليت: “لا جديد.”
أضاف أدونيس: “والطريق الرئيس مغلقٌ، لا أدري لماذا.”
سأل زكريا: “الحواجز الأمنية؟”
أجاب أدونيس: “أخبرني سائق التكسي بوجود أناسٍ مذبوحين في أماكن متفرقة من المدينة، ومعلقين على الأشجار.”
رفع زكريا يديه وقال: “على الأشجار، غريبٌ جدًا، يا ساتر!”
قالت كوليت: “لا شيء غريبٌ هذه الأيام. المهم أنك وصلت (أشارت للنادل): ريناس!
عبر ريناس بهو المقهى الواسع مجتازًا الأثاث من مقاعد وأرائك وثيرة موزّعة وفق نمطٍ يحاكي مفروشات المقاهي الأميركية الحديثة. انعكست صورته على الواجهة الزجاجية الكبيرة المطلة على جبل قاسيون، فبدا وكأنه يخرج من عمق الجبل ببدلته السوداء وشعره اللامع المردود للخلف، بدا أقرب إلى مغنٍّ في نادٍ ليليٍ.
وقال: “دوبل إسبريسو سادة للأستاذ أدونيس، زهورات مع العسل للست كوليت، وشاي ثقيل سكر زيادة للأستاذ زكريا؟”
“براڤو”: قالت كوليت.
سألهم ريناس: “ما رأيكم بقطع كيك؟ حضّر الطبّاخ قالبًا توًا”.
أجابت كوليت: “لا، شكرًا.”
فسأل ريناس مجددًا: “أتمنى أن يكون المقهى قد قارب مستوى توقعاتكم؟”
أجابت كوليت: “الإطلالة على جبل قاسيون رائعة.”
“وأجواؤه حداثيّة، متى افتُتِح؟”: سأل زكريا
“منذ خمسة أسابيع”: أجاب ريناس، ثم همس: ” في اليوم الذي قُصِف معهد البحوث في منطقة برزة.”
زكريا: “لابد أنه كلّف ثروةً هائلة، قصدي في هذه المنطقة من المدينة.”
ريناس: “صاحبه ثريٌ جدًا، هو الذي استورد كل مولدات الكهرباء إلى سوريا منذ بدء الأزمة.”
“أنار بيوت الناس بالمولّدات، والآن يريد إنارة عقولهم بهذه!”: قال زكريا ذلك مشيرًا إلى الرفوف المنتشرة في المقهى، وقد وضعت عليها كتبٌ بالعربيةٌ ولغاتٍ أخرى. وعليها أيضًا منحوتاتٌ صغيرةٌ، وتماثيل آلهةٍ قديمةٍ، موضوعة كدعامات بينها، وكأن الكتب المرتبة في حاجة إلى عنايةٍ إلهية لكي تبقى قائمة.
“يرغب المالك أيضًا في جذب فنانين وكتّابًا، معارض فنية، حفلات توقيع الكتب، وأشياء من هذا القبيل”: قال ريناس.
“ليش بقي فنانين أو أدباء بالبلد؟”: قالت كوليت، وتأوهت.
اغتنم ريناس الفرصة، وقال: “ست كوليت، بالمناسبة، إذا ما في إزعاج، ممكن أن تقرئي قصيدة شعر من كتابتي، تعطيني رأيك فيها؟”
ردت كوليت: “ما في مشكلة.”
أخرج ريناس ورقة مطويةً من جيب سترته وأعطاها لكوليت. أخرجت ولاعة ذهبية اللون، فتحت الورقة وبدأت بالقراءة، ثم أشعلت سيجارة دنهيل وملأت صدرها بالدخان، حبسته للحظةٍ، ثم حررته. ذهب ريناس إلى حجرة تحضير المشروبات، وعاد يحمل “صينية” معدنية. وزع المشروبات ثم وضع منفضة سجائر زجاجية أمام كوليت، وأبطأ مكوثه حول الطاولة لعدة ثوانٍ. قالت له وهي ما تزال تلعب بولاعتها، تشعلها ثم تطفئها: “أسلوبك مقبول ولغتك جيدة لكني لا أحس بعواطفك، ولم أتحمّس للقراءة.”
قال ريناس: “أنا —”
كوليت: “ولم أفهم غرضك من القصيدة، كأنك تدور في حلقات ومربعات.”
حك زكريا رأسه: “يدور في مربعات؟”
اختلس ريناس النظر إلى الطاولة المجاورة حيث جلس أربعة أشخاصٍ يرتدون بدلاتٍ رسميةً غامقةً، وقال: “ست كوليت، أنت أدرى بما…”
قرأت كوليت عباراتٍ مكتوبة: “الزمن العنيد يهبّ ليقلب السفينة، لا السفينة في بحرٍ ولا الزمن له جسدٌ”. ما معنى هذه الطلاسم؟
تمتم ريناس: “لكن… أممممم… ست كوليت… كيف يمكن التعبير هذه الأيام؟”
كوليت: “كيف يمكن التعبير؟ من يسأل ذلك ليس شاعرًا أصلًا.”
قال ريناس: “شكرًا على أي حالٍ. مشى إلى الحجرة الخلفية، مطأطأ الرأس.”
نفخت كوليت دخان سيجارتها وقالت: “خسارة شباب هذه الأيام.”
سألها أدونيس: “لم قسوت عليه؟”
أجابت: “لا أرغب في خداعه.”
أدونيس: “ربما لا يمكنه التعبير الصريح. هل تلومينه؟”
كوليت: “ولكن ليس في شعره أي فكرة، فقط ألغازٌ ولفٌ ودوران.”
أدونيس: “ليس الشعر كالنصوص اللاهوتية. لا يمكن تكبيله بالفكرة أو المنطق.”
كوليت: “والشعر ليس عدميًا وجوديًا، يجب أن تكون له ثوابت.”
أدونيس: “على الشاعر أن يحرر النص من الثابت. في الواقع، يجب أن يرفض الأديب الجيد الثابت كليًا.”
أشار زكريا لريناس أن يحضر مزيدًا من السكر، قائلًا: “أتوافق مع وجهة نظر كوليت. على الأدب أن يكون واقعيًا. لا قيمة لأدبٍ لم يمتزج بصدقية العرق والدم.”
“العرق والدم!” سوّى أدونيس جلسته في كرسيه كي يرى جزءًا أكبر من جبل قاسيون. في مكانٍ ما هناك تقبع مغارة الدم حيث قتل قابيل أخاه هابيل. قلب بصره بصيرة قادته نحو جبلٍ آخر ترقد في سفحه ضيعة قصابين حيث نشأ، ليس كجبل قاسيون الأجرد، كان أخضرَ مليئًا بأشجار الفاكهة وكروم العنب. في أيام الصيف الصافية وبعد تلقيه دروسًا في اللغة العربية والقرآن والكتب الدينية الأخرى من شيخ الضيعة، كان يختلي بنفسه مستندًا إلى جدار ضريح الصوفي، ينهل من كتب أساطير حضارات بلاد الرافدين وسوريا، من فلسفات الإغريق، من الكتابات الصوفية، ومن علم الكلام. يستنبطنها كما يستبطن النهر رقائق الجداول التي تصب فيه، ثم تمرج في البحر الأزرق البعيد. يرمقه ويرى الإلهة عشتار، جوهرة الكتب، تضطجع على سطح الماء، تشير إليه، تلهمه الشعر. عندما قرأ شيخه أولى محاولاته الشعرية قال له: ” ستكون ذات يومٍ متنبِّي عصرك.”
“العرق والدم!” كم هي عبارةٌ وحشيةٌ في مقابل النقاء الذي عَرِفَهُ وألِفَهُ في عزلة قرية قصابين. استيقظ من غفوته، وقال: “حتى يبدع الأديب ينبغي له أن يعي الزمن كحركة تغييرٍ، أن يحرر النص من المكان، أن يحوله —”
“هراء”: قال زكريا، مشيرًا إلى مجموعة كتب على رفٍ مجاورٍ: “امسك أي كتاب، اقرأه، ماذا ترى؟ قيمة الكتاب في طرحه الواقعي، في سوية بنيته الأدبية، في صريح لغته.”
“معظم هذه الكتب زبالة، لا قيمة لكتابٍ يخلو من الجدلية والتناقض”: قال أدونيس متتبعًا بنظره الملعقة في يد زكريا وهي تُحرَّك بتوترٍ ملعقتي السكر الإضافيتين، ثم أردف: “عكس قصص الأطفال السخيفة التي تكتبها أنت.”
زكريا: “ليتك تدري أن كتابة قصص الأطفال أعقد من فلسفتك الأفلاطونية.”
أدونيس: “أتحدث عن الكتب الجادة.”
زكريا: “الجدية في اجتناب اللغو والغموض.”
أدونيس: “هذا يصح في قصص الأطفال.”
زكريا: “لو أولينا اهتمامًا كافيًا بأدب الطفل لما كنا الآن على هذه الحال؟”
رجتهما كوليت: “بلا ما تتخانقوا من جديد.”
احتج زكريا: “صرعنا بالثابت والمتحول تبعه، كأنه —”
قاطعته كوليت، وعلى وجهها ابتسامة مكرٍ: “ثابتٌ ومتحولٌ؟ الشيء الوحيد الثابت في حياتي هو التحوّل في علاقاتي مع الرجال، بين كل رجلٍ وآخر.”
رد زكريا ضاحكًا: “يا حسرتي! راح نصير في التسعينات ولم يحن دوري بعد.”
كوليت: “لست من جيلي.”
زكريا: “أي جيل؟”
كوليت: “الجيل الذي شهد الاستقلال، ثم الانقلابات والنكبة والنكسة والآن هذه الحرب.” ثم ضغطت على النصف المتبقي من سيجارتها في المنفضة.
زكريا: “نسيتِ التوريث، أو الورثة لكي ينسجم السجع مع النكبة والنكسة.”
كوليت: “لا تلمني. لم يكن نمتلك خيارًا آخر.”
زكريا: رحم الله جدك، لو عاش هذه الأيام لركض هاربًا إلى عتمة قبره.”
كوليت: “كانت أيامه مختلفة.”
زكريا: “هو وأقرانه كانوا المختلفين.”
ردد أدونيس ما قالته كوليت: “اختلف الزمن.”
“اختلف الناس”: انتفض زكريا قائلًا.
فتحت كوليت حقيبتها البربري، أخرجت أحمر شفاهٍ ومرآةً صغيرةً، كوّرت فمها وهي تصلح حمرة شفتيها، وقالت: “كنّا في مجلس الشعب نهتم بأحوال الناس، لكن الوضع الآن—”
“ماذا عن الوضع الآن… أين الثوابت؟ ماذا حلّ بها؟”: رد زكريا مراقبًا المرآة في يد كوليت، تعكس الضوء على مساحةٍ عاتمةٍ من سقف المقهى.
من خلال النافذة، على الرصيف المقابل، تبدو أرجل راكضة في اتجاهاتٍ مختلفة، أصحابها متعبون وآخرون يتسكعون. عدة طالباتٍ على الرصيف المقابل بمعاطفهن الزرقاء الطويلة وحجاباتهن البيضاء، يسرعن الخطو متراصات كأنهن جنديات.
قال أدونيس: “أرى أن الثابت الوحيد هو ثبات الرجعية والتخلف.”
رمقت كوليت الطالبات، ثم تابعت تفحُّص وجهها في المرآة: “حاولنا أن نصدر قانونًا في مجلس الشعب يمنع الحجاب في المدارس، كما فعلت فرنسا—”.
مال زكريا نحوها وقال: “هل تمزحين؟”
أجابت: “لا والله جد. قوبل برفضٍ قاطعٍ من وزارة الأوقاف.”
“ومن أين تستمد الوزارة سلطتها؟”: سأل زكريا.
ردت كوليت: من—، حين ارتفعت الأصوات في الشارع. تدافع المارة وبدأت مجموعة من النساء المحجبات بالركض وكأن عريفًا في كتيبة حراسةٍ أمرهن بالهرولة.”
لاح من زاوية الشارع المقابل رجلٌ عملاقٌ يكاد يلمس برأسه خطوط الكهرباء الممتدة ما بين الأعمدة، واقترب بخطىً ثقيلةٍ حتى حاذى واجهة المقهى الزجاجية. ألصق وجهه بالزجاج، وحدق النظر في طاولة الأدباء.
تبادل الثلاثة نظراتٍ مضطربةٍ صامتة.
قطع أدونيس الصمت قائلًا: “لا بد أنه ممثلٌ في فيلم، هل يصورون فيلمًا تاريخيًا في الأرجاء؟”
قالت كوليت: “فيلمًا تاريخيًا؟ هذا فيلم رعب. ولماذا يُصّور في وسط البلد؟”
مط أدونيس شفتيه: “لا أفهم. أفلام هذه الأيام تافهةٌ.”
قالت كوليت بقلقٍ: “قل له أن يبتعد عن الزجاج.”
أشار أدونيس للرجل العملاق أن يبتعد عن الزجاج، إلا أن حركة يده بدت للعملاق وكأنه يدعوه للدخول. ببطءٍ تحرك الرجل وكأنه جرافةٌ ضخمةٌ نحو الباب. اندسّ في باب المقهى حانيًا رأسه وتوجه إلى الأدباء الثلاثة. وقف أمامهم بصمت لم يقطعه سوى صفير أنفاسه، وكأنه محرك سيارة قديمة من نوع اسكانيا وهي تشق طريقًا جبليًا.
لم يجد أدونيس بدًا من أن يَتَحَمّلْ تَبِعة إشارته غير الموفقة. بلع ريقه وقال: “هلا عرّفتنا على نفسك؟”
- “جلجامش.
- “هل هذا دورك في الفيلم؟”
- “بذلك نبأني الحكيم أوتنابشيم.”
- “ماذا؟”
نظر جلجامش إلى عمق المقهى، وقال بصوتٍ بدا قادمًا من غورٍ: “هل هذا مقام الخلود؟”
همست كوليت: “المكياج واقعيٌ جدًا، رهيب!”
تفحص زكريا صدر جلجامش العاري بارز العضلات، تعلوه كتفان كدفتي مركبٍ، وعضلات ساعديه المفتولة كأسلاك جسرٍ حديديٍ معلقٍ، يديه الكبيرتين وأصابعه الثخينة، أظافره الطويلة المعقوفة. تحمل رقبته الغليظة رأسًا هائل الكبر يحيطه شعر ملبد، ومن ذقنه تمتد لحية ذات ضفائر. ثقبا عينيه مرسومتان بالكحل كأنهما لقناعٍ فرعونيٍ. فوق فرجة عينيه الضيقتين يمتد حاجبان كثيفان يلتقيان في منتصف جبهته، كأنهما جناحا غرابٍ.
صاح زكريا لريناس وقال: “فلنقدم لضيفنا كأسًا من الشاي.” ثم تلفت إلى جلجامش مشيرًا إلى يديه المشققتين: “يبدو أنك عانيت الكثير قبل وصولك إلى مقام الخلود!”
بسط جلجامش ساعده مشيرًا إلى جبل قاسيون: “عبرت الجبل الغربي وقتلت همبابا الذي أرسلته عشتار لعقابي، وذبحتُ حراسه وكل من أرسلهم خلفي وعلقتهم على الأشجار.”
اتسعت حدقتا أدونيس لذكر عشتار. وضع نظارته وحدق باهتمامٍ وكأنها آلة ستعيد الزمن البائد. عشتار التي استحوذت على لبه في صباه، هي أم الزلف، إنانا، كوكب الزهرة، أم الآلهه، وزوجة آنو الإله الأب.
سأل جلجامش: “لم أرادت عقابك؟” - “لأني رفضت مضاجعتها.”
- “ولم رفضت؟”
- “لقد زنت مع ملوك الأرض العشرة. أرسلتهم لخوض حروبٍ طاحنة لمجد أوروك. وبعد أن علّقوا خصومها مذبوحين على أسوار المدن، حجبت عنهم الشمس مدة اثني عشر يومًا ثم أرسلت ثور السماء ليقتلهم في العتمة.”
- “لكنك قتلت ثور السماء.”
- دموزي هو الذي صرعه بخنجره. استدرجه بثلاث مومسات، ثم طعنه بين قرنيه وهو يضاجعهن.”
- “ألم تخترك عشتار ملكًا على ملوك الأرض كلهم؟”
- “لقد عرّت صدرها وحرَّرتْ ثدييها الصلبين. أرادت أن أستسلم للنوم في حضنها كي تسرق مني سر الشباب.”
- “ألهذا هربت منها وذهبت في رحلتك مع… ما اسمه… أنكيدو؟”
- “أنكيدو، أين هو أنكيدو، هل ما زال حبيس أفاعي العالم السفلي؟”
- “اتخذ صديقك أنكيدو خليلةً له، وأظن أنه جالسٌ يريح رأسه على ردفيها الآن”: قال أدونيس وعلى شفتيه طيف ابتسامةٍ فيها شيءٌ من الخبث.
جهدت كوليت في فهم تفاصيل حوار أدونيس الغامض مع الضيف، وكل سؤال جال في رأسها أفرز سؤالًا آخر. تفاصيل تاريخ سورية أشبه بدقائق ساعة الرولكس في يدها، تقبع في مكانٍ ما، مغطّاةٌ لا يُرى منها سوى قالب الإطار المذهب، وزجاجها المقاوم للخدش.
همست في أذن أدونيس: “هل أنت جادٌ، أتتناقش معه من كل عقلك؟”
أجاب أدونيس واضعًا نظاراته على رأسه: “نعم.”
قال جلجامش: “قتلتُ شاماش العظيم، الناجي الوحيد من الطوفان، نزعت قلبه ومنحته لأنكيدو لكي يمنحه الشجاعة، وليس ليتخذ خليلةً.”
قالت كوليت بنبرة صوتٍ رقيقة: “رجاء هلأ، شبعنا قتل وضرب، اعملو لنا فيلم عن الحب.”
قال زكريا: “يجب أن تنتج مديرية السينما فيلمًا عن قصتك الرومانسية الخيالية ’ليلة واحدة‘.”
قالت: “القصة واقعيةٌ.”
رد زكريا: قصةٌ واقعيةٌ، وكيف ذلك؟ كأنه من المعتاد أن تقضي نساء سورية ليلةً مع رجلٍ غريبٍ.”
سحبت كوليت نفسًا عميقًا من سيكارتها حتى غار خداها، وقالت: “أنت لا تدري ما يحصل في الخفاء. ثم نفثت الدخان على دفعات.
“وضعت ساقًا على أخرى، وأكملت: على أي حالٍ تمنع مديرية السينما أي نصٍ فيه خيانة زوجية عن الإنتاج، كأنها دار إفتاء وليست راعية فن.”
رفع جلجامش حاجبيه عند سماع عبارة الخيانة الزوجية، وقال: “مررت بمدن يحكمها الملك كوش. ومع غياب القمر كل شهرٍ كان يجمع الملأ كي يشاهدوا عقاب النساء اللواتي أقدمن على خيانة أزواجهن.”
صاحت كوليت: “عقاب، ماذا؟” - “تُربط أيديهن خلف ظهورهن ثم يلقى بهن في النهر العظيم. ذلك لأن الملك كوش يطبق القوانين كما نقشها حمورابي على الحجر.”
- “هذه همجيةٌ!”
- “يسمح الملك للثريات منهن بشراء حياتهن مقابل أقراطٍ من الذهب، أما الأخريات فيصبحن طعامًا للأسماك.”
في الخارج، مرت مجموعةٌ أخرى من المحجبات، معاطفهن الطويلة كحلية، أكثر قتامة من الأوليات.
قال أدونيس: “الفقراء… فقراء الوجود والمعرفة، وفقراء العقل.”
رشف زكريا من كوبه المحلّى. إنه يعرف الفقر جيدًا. ويعرف زوايا أزقة دمشق القديمة ومخابئها. يعرف منافسات الأولاد للحصول على عمل. يعرف أيضًا وسائل التسلية مع صبيان الحي كلعبة الكرات الزجاجية عندما تقل فرص العمل. وهو يتقن إصابة هدفه من مسافاتٍ بعيدةٍ وبمهارة إعادة الكرات الزجاجية إلى حفرة البداية واحدةً تلو الأخرى، ثم يدسها في جيبه. عندما استولى بعض الأولاد الأكبر منه سنًا على كراته الزجاجية عنوةً، هرب منهم ثم اختبأ خلف جدارٍ نصف متهدمٍ. انتظر اقترابهم ليرمي الحجارة عليهم. وقبل أن يستعيد كراته منهم، ألقى بزعيمهم على الأرض، ركل رأسه قائلًا: لا أحد يسلبني كراتي البتة. ذاع صيته بين الصبية ولم يجرؤ أحدٌ على التعدي عليه بعد ذلك. في الرابعة عشر من العمر، وافق حدادٌ أن يعلمه المهنة، وقال له: “عليك أن تقّوي جسمك كي تتحمل عناء العمل في ورشة الحدادة.” لم يملك زكريا مالًا فالتقط قطعًا من الإسمنت المعلق بقضبان حديدية كبقايا بناءٍ متهدّم، وراح يمرّن عضلاته بها. صَلُبَ جسده واشتدت بنيته، وعرضت كتفاه. بعد مدةٍ وجيزة قال له الحداد وهو يراقب كيفية تعامله مع شظايا الحديد اللاهب: “أنت أسرع من تعلّم في هذه الورشة.”
قلده جلجامش فأمسك كوب الشاي الذي وضعه ريناس أمامه. لتبدو الكأس في يده ككشتبانٍ في يد خياط. التوت عضلات جبينه حين شرب، ثم أعاد الكأس. ظن زكريا أنه لم يستسغ مذاق الشاي، فطلب من ريناس أن يضع مزيدًا من السكر للسيد جلجامش.
حمل ريناس كأس الشاي إلى الغرفة الخلفية، راقبه جلجامش حذرًا، وعندما وضع ملعقةً من السكر الأبيض في الكوب وبدأ بتحريكها، قدَحَت عيناه، وانقلب تنفسه هديرًا، وانتفخت عروق رقبته. هجم على ريناس بقفزة واحدةٍ وكأنه ذئبٌ ينقض على حملٍ. تناثر الأثاث في طريقه كأنه مصنوعٌ من الورق. قبض ريناس من عنقه ورفعه صارخًا: السم! السم!
غابت كوليت عن الوعي وهَوَتْ عن كرسيها حين فصل جلجامش رأس ريناس عن جسده كمن يفصل فلينة عن عنق زجاجة. لم تشهد الدم النافر من الرقبة المبتورة، إلا أن أدونيس رآه بعينين جاحظتين من شدة الخوف. رأى الدم القاني نافرًا كما تنفر الشمبانيا عندما تفتح في الاحتفالات. فتح فمه ليشهق إلا أن صوته لم يخرج. حاول الوقوف لمساعدة كوليت لكنه تعثر بوشاحه فَخَرَّ فوقها مغشيًا عليه.
كشر جلجامش عن أنيابه والزبد يملأ فمه، حمل بيده اليسرى جسد ريناس المرمي، ورفع الرأس المقطوع بيده اليمنى. لوّح بهما بجنون في المقهى، صاح: انظري يا عشتار ما حلّ بالعقرب الذي أرسلته لتسميمي. ابعثي من شئت من أعلى السماوات أو من أسفل العوالم. لن تقفي في طريقي إلى الخلود.
سالت خطوط الدم على الجُدُر. تلفت جلجامش يمنة ويسرة، وهو يضرب رأس ريناس بصدره، لا يزال يصيح: سأعبر الجبل وأقطع غابات الأرز وأقتل حارسها العملاق. لن أموت… لن أموت، سأبقى أنا القائد الأوحد، إلى الأبد.
استفحلت الفوضى. تدافع رواد المقهى متعثرين بالكراسي والطاولات للخروج.
وحده زكريا انتفض، وكأنه عاد ذاك الصبي الذي سرق منه زعران الحارة كراته الزجاجية التي لم يمتلك شيئًا سواها. عضلاته منتفخة وهائجة، عروقه بارزة، أعصابه مشدودة، عيناه مثبتتان تشعّان بريقًا، قلبه يطرق بعنف من يضرب السندان بمطرقةٍ ثقيلةٍ. محكمًا قبضته على علاقة مفاتيحه، الكرة الزجاجية المحبوسة في قفصها تملأ راحته، والمفاتيح الطويلة ناتئة بين مفاصل أصابعه كمخالب النسر، صوبها نحو عين جلجامش اليسرى. سحبها ملوثةً بهلامٍ رمادي، ثم رماها نحو العين اليمنى. سمع عواءه، ورآه يتخبط والدم المختلط بسوائل عينيه ينضح على وجنتيه ويقطر من وجهه. عندها دفعه بكل ثقل جسده وطرحه أرضًا. انقض عليه كمحرك قطارٍ بخاريٍ منفلت وخارج عن السكة نحو المجهول.