حرٌّ طليقٌ (قصة قصيرة)

فجأةً، وجد أسعد نفسه في شارعٍ يغص بالمارة، كان النهار في منتصفه، والشمس تزين سماء العاصمة؛ العاصمة التي لا يعرفها حقّ المعرفة، ولا يعرف دروبها، لقد سبق له أن زارها مرةً واحدةً مرغمًا، ولكن على عجلٍ؛ اضطر حينها إلى المجيء إليها لإنهاء معاملةٍ تتعلق بتأجيل الخدمة الإلزامية، بعد إخفاقه في إنهائها في فرع تجنيد المنطقة التي تتبع لها قريته في ريف حلب الشرقي، كما واجه المصير نفسه في أحد مراكز تجنيد حلب المدينة.
وقف على ناصية الشارع شارد الذهن، مذهولًا لدقائق قصيرة، مكتفيًا بالنظر إلى العابرين، وكأنهم من عالمٍ آخر، أو كأنه خارجٌ من كهفٍ سحيقٍ. استجمع جرأته لوهلةٍ، وطلب إلى أحد المارة سيجارةً، لكن المدخن رمقه بنظرة استغرابٍ، بل أقرب إلى الاستهجان، وتابع طريقه غير مبالٍ. نجحت محاولته الثانية بالحصول على سيجارةٍ، دخنها بمتعة فائقة كعادة معظم المدخنين المتمرِّسين، وبدأت عيناه تجولان بحثًا عن أقرب دكانٍ يشتري منها علبة سجائر، فالطريق إلى قريته سيستغرق عدة ساعاتٍ لا يمكنه أن يمضيها من دون تدخينٍ. كان ثمن علبة السجائر أكثر من توقعاته، تردّد قليلًا قبل أن يدفع، لكنه استغنى في النهاية عن ربع ما يملك مقابل الحصول عليها. خرج من الدكان، بدأ بفتح علبة السجائر، لكن رائحةً مألوفةً ملأت أنفه بشكلٍ لا يقاوم، سأل عن سعر سندويشة الفلافل، بدأ يعدّ ما بقي معه من نقود، وقرر شراءها بعد فراقٍ دام نحو عشر سنوات. سأل البائع في أثناء تحضيره السندويشة عن مكان الكراجات، ولحسن حظه لم يكن المكان بعيدًا، فقرر الذهاب راجلًا لسببين، أولهما أنه يريد إمتاع عينيه بطرقات وأناس العاصمة، والسبب الثاني، وربما الأهم، هو أنه يريد الحفاظ على ما تبقى من نقودٍ لعلها تكفيه لأجرة الحافلة التي ستقله إلى حلب، أو إلى قريته مباشرةً.
كان الكراج الذي وصل إليه ماشيًا بعد خمسٍ وعشرين دقيقة يغص بالمسافرين، الكل يبحث عن حافلةٍ تقله إلى مدينته أو قريته. كان أسعد محظوظًا، لأنه وجد حافلةً ستتجه إلى قريته مباشرة، كانت واقفةً بانتظار مسافرين لملء مقاعدها قبل التحرك، اقترب منها وسأل معاون السائق -الذي كان يصيح بأعلى صوته مرددًا اسم قريته ليجذب أنظار المسافرين- عن تكلفة الرحلة، كان الرقم صادمًا بالنسبة إلى أسعد، فهو لا يملك المبلغ الكافي للصعود إلى الحافلة، ومن ثمّ الوصول إلى قريته، ولأن أسعد كان محظوظًا ذلك اليوم، سرعان ما وقعت عيناه على مسافرٍ يسير باتجاه الحافلة. يعرف أسعد ذلك الوجه جيدًا، استدعى الأسماء من ذاكرته، نعم، إنه أبو صبري، صاحب الفرن القريب من سكن العائلة، تذكره أسعد تمامًا، وهو الذي كان يذهب إلى الفرن كل صباحٍ لشراء خبزٍ للعائلة، لكن السؤال الذي جال برأس أسعد كان: “هل سيعرفني أبو صبري بعد هذه السنين؟” اقترب منه قائلًا: “عمي أبو صبري”، بصيغة سؤالٍ، واستطرد “ألا تذكرني؟ ألم تعرفني؟” حاول أبو صبري أن يتذكر السائل عندما أخبره: “أنا أسعد، ابن أبو إبراهيم، جاركم، هل تتذكرني؟” ومن دون أن ينطق كلمةً فتح ذراعيه وأطبقهما على أسعد يحضنه، ثم همس في أذنه: “الحمد لله على السلامة، طولت الغيبة”. أجابه أسعد حذرًا، وهو يتلفّت يمينًا وشمالًا: “الله يسلمك عمي أبو صبري، سيكون بيننا حديثٌ طويلٌ يومًا ما”.
ركبا الحافلة، دفع أبو صبري عن راكبين، انتظرا قليلًا حتى امتلأت الحافلة التي شقت طريقها بين الحافلات خارج سور الكراج باتجاه القرية، وما هي إلّا دقائق قليلة حتى غط أبو صبري في نومٍ عميقٍ، شاخرًا بصوتٍ لا يقلّ إزعاجًا عن صوت محرك الحافلة. كان أسعد يمني نفسه بالحصول على إجاباتٍ عن عشرات الأسئلة التي جالت في خاطره خلال الرحلة، لكن نوم “أبو صبري” أفسد ذلك، كان يفضل معرفة ما حلّ بزوجته وطفليه قبل الوصول إلى القرية، لأن والديه توفيا تباعًا بفارقٍ زمنيٍ لم يتجاوز الشهر، بعد فترةٍ قصيرةٍ من غيابه، وانقطاع أخباره بشكلٍ كاملٍ عنهم، كما توفي أخوه الأكبر في المستشفى بعد رحلة علاجٍ باءت بالفشل، بسبب جراحٍ خطرةٍ أصابت معظم أعضاء جسده نتيجة قصف الطائرات الحربية. وأخوه همام الذي يصغره بسنتين، لم يسمع عن أخباره شيئًا، ولا يعرف ماذا حلّ به، أما أختاه، فهو يعرف أن إحداهما هربت مع عائلتها واستقرت في تركيا، بينما استقرت عائلة أخته الثانية في ألمانيا بعد رحلة ذاقت خلالها صنوف العذاب والقهر كلها.
الحافلة تسير، وأسعد ينقل ناظريه نحو اليمين تارةً، وتارةً نحو اليسار، كمن لا يريد أن يضيع منه أي مشهدٍ. يمضي الوقت بطيئًا ولا إجابات عن الأسئلة الملحة التي لا تفارق مخيلة أسعد، بدأت ملامح القرى القريبة من قريته ترتسم أمام ناظريه، اقتربت اللحظة التي ستمكنه، بعد عشر سنوات، من رؤية زوجته حليمة، وطفليه.
عندما اختفى أسعد، كان عمر ابنه همام ست سنواتٍ، أما الآن فهو شابٌ في السادسة عشر من عمره، ولا بد أن شاربين صغيرين يزينان وجهه. سلمى ابنته الصغيرة، كان عمرها سنتين، ولا بد أنها على وشك دخول المرحلة الإعدادية. هو الزمن يمضي سريعًا بلا استئذانٍ.
بينما كان أسعد سارحًا بأفكاره، توقفت الحافلة في ساحة القرية، لم تختلف الساحة عليه كثيرًا، باستثناء دهانٍ أسود اللون على بعض الجُدُر، من الواضح أنه وُضع لتغطية كتاباتٍ ما، وكذلك آثار رصاصٍ تغطي مساحاتٍ غير قليلةٍ من جُدُر الساحة، ما عدا ذلك، لم يكن هناك ما يلفت الانتباه. كان أبو صبري ما يزال نائمًا، حاول أسعد إيقاظه بلطفٍ فلم يفلح، ما اضطره إلى دفعه إلى الاستيقاظ عنوةً.
نزلا من الحافلة، سأله أبو صبري مازحًا: “هل أدلك على الطريق”، رد عليه أسعد مبتسمًا: “لا داعي عمي أبو صبري، لا زلتُ أذكر بيتنا جيدًا”. أحس أسعد، في طريقه نحو بيته، أن قلبه يكاد يخرج من صدره، أما عقله فكان خارجًا عن سيطرته تمامًا. لحظاتٌ ويصل أسعد إلى باب بيته، تُرى كيف ستستقبله زوجته وطفلاه بعد هذا الغياب، ها هو أسعد يواجه باب المنزل، بيدٍ مرتجفةٍ، طرق الباب بعد ترددٍ، وخلال لحظات فتحت سلمى الباب. “لا بد أنها سلمى، ومن غيرها يمكن أن تكون؟” يسأل أسعد نفسه. لم تتعرف سلمى إلى الزائر؛ لحيةٌ ذات شعرٍ أبيض، بقايا شعرٍ يعلو الرأس، ثيابٌ رثةٌ لا تمتّ إلى الأناقة أو النظافة بصلةٍ، صاحت سلمى: “بابا، هناك زائرٌ على الباب”، عندما سمع أسعد كلمة “بابا” من ابنته، كاد يغمى عليه، تماسك قليلًا إلى أن ظهر أمامه أخوه همام، نعم إنه همام، كانت ملامح وجهه عصيةً على التفسير، عبارة عن خليطٍ من ذهولٍ وصدمةٍ لا تخلوان من سعادةٍ من نوعٍ ما، لم يكن لباسه يدلّ على أنه ضيفٌ أو زائرٌ، كان أقرب ما يكون إلى ثياب النوم، عند خروج حليمة من المطبخ لمحت صورة الزائر على عجلٍ وتابعت طريقها، هي خطوةٌ واحدةٌ، لا أكثر، نظرت ثانيةً إلى وجه الضيف، تعرفت إليه وسقطت مغشيًا عليها، ركضت سلمى باكيةً باتجاه أمها تحاول إيقاظها، وفهم ما يحدث. يركض همام سريعًا نحو المطبخ، يحضر قليلًا من الماء، يرشه برفقٍ على وجه زوجته لينعشها من الغيبوبة، نعم هي اليوم زوجته، تفتح حليمة عينيها ببطءٍ وتستعيد وعيها تدريجًا، إلا أن عينيها كانتا في ذهول مطلق. في أثناء الهرج والمرج الذي حصل، وجد الضيف نفسه في ساحة المنزل، لكنه كان كالمشلول عاجزًا عن القيام بأي حركةٍ، التقت نظرات الأخوين، كانا لا يزالان في حالة ذهولٍ، تقدم همام مرتبكًا من أخيه أسعد، ضمه إلى صدره بقوةٍ، بادره أسعد بالمثل، ما أعطى حليمة المزيد من الجرأة، اقتربت منهما، وقفت خلف همام وكأنها تحتمي به، ثم وضعت يدها الأولى على كتف همام، والثانية على كتف أسعد وانخرط الجميع في بكاءٍ مريرٍ.
انتهى.
أما نايف، صديق أسعد الذي شاركه المكان سبع سنين، فسأحدثكم عنه في القصة التالية.

مشاركة: