تاريخ الحجوم
قصة قصيرة

عندما أتى بويندا كان الفريق قد اكتمل، وكان موضوع النقاش حادًّا هذه المرّة، فقد رفض معظم المجتمعين الخروج على المكونات الفعلية للعالم، كان اقتراح الفيلسوف الواقعي العظيم زينمر هو البدء من النانو متر.
“هناك كائنات تعيش في هذا الحجم.”
هكذا بدأ مداخلته واسترسل في شرح الكائنات وحيدة الخلية وأهميتها في السلسلة الطبيعية. سيدور الذي قدّم عرضًا، سيغير المجتمعون بموجبه طريقة بحثهم الحسية لطرق أكثر تعقّلًا، لم ينبس ببنت شفا عندما بدأ تاغو بالحديث عن الحجوم الكبيرة للكائنات ومعناها الناقص.
“حجم الحوت لا يعطيه أي أهمية زائدة عن سمك (سملّيس)، فكثرة عدد الأخير ومذاقه الجيد يعطيانه الأهمية نفسها…” تحدّث تاغو بشغف.
كان في الاجتماع مهندسون وأطبّاء وعلماء نفس وفنانون. وكان الهدف الرئيس للاجتماع هو الوصول إلى تعريف حقيقي جامع أبدي مثالي لا يحوي أيّ تناقضات في جميع مستوياته العلمية والاجتماعية والفلسفية والأخلاقية للحجم، يبدؤون به عقدًا اجتماعيًا جديدًا للبشرية.
استمرّ هذا الاحتفال لـ 03: 52: 067 /دقائق، ثوانٍ، أجزاء المئة من الثانية/. وإليكم ما حدث في أثناء الاجتماع:
أفرد مايكل مخططاته الهندسية وبدأ يشرح:
“نستطيع أن نجعل الحجوم مركز كل العلوم، فالحجم يتغير بالحرارة وبالتالي… حركة الطاقة داخل الكائن، وتزداد وتنقص بتغيّر صيغة اتحاد العناصر مع بعضها بعضًا أيضًا…”
شرح بالتفصيل كيف أن احتكاك المركبة الفضائية بالهواء يزيد من حرارتها وبالتالي من حجمها، فإذا ما تمّت دراسة الحجم سنستغني عن السرعة والزمن كمقاييس في تحليق المركبة، وتـتبدد هذه النظرية عند خروجها من الأرض، إذ إنه لا هواء هناك. لا هواء… (ضحك بويندا) لمدة ثلاث ثوانٍ.
قال ميشيل الطبيب: “القادة أعني القادة الذين يتمتعون بحجم دول وقارات بأكملها، مالكي العالم أصحاب البنوك والشركات العابرة لكل شيء، يمتلكون البنية التشريحية نفسها لفلاح بسيط في جبال الهملايا.”
(عندما شقّ ميشيل بطن إحدى نجمات الغناء والإغراء في العالم كاد أن يقتل من رائحة تراكم شوكولا تشارلي، كان وضعًا مزريًا!)
“لم أكن أعلم أن الطبّ يصلح للملائكة أيضًا”، هكذا صرّح بعدها.
ميزوتا كان يعتقد طوال الاجتماع أن منظر المجتمعين وحركات أجسادهم الإيمائية تجعل منهم دراما متواصلة مدهشة مكثّفة تصلح لعرض خاص على أكثر القنوات طلبًا في العالم، وتمنّى لو أن هذا يدوم خارج مفهوم الحجم الحقيقي لغرفة الاجتماع الضئيلة نسبيًا، ولكون هذا العمل هو معنىً كامل يخترق التعاقب المتكلّف للزمن. وبينما كان يدخّن في وضع غير رسمي وبلهجته الساخرة قال:
“أعتقد أن الحجم الشخصي سيزيد بمقدار معرفة كل شخص لحجمه، لا تفكروا في الأمر، إنّها دوّامة، فقط علينا أن نعتقد أن حجم شخص ما يزيد وينقص بمعرفته لهذا الحجم.”
“الحيرة: هي التي ستصنع من الحجم عقيدةً شاملة وناقصة بشكل دائم.” دوّن هذا على دفتر ملاحظاته من دون أن يصرح به.
ارتأى كيتو عالم الرياضيات أن نجعل من الزمن حجمًا مرنًا، فجعلني أدوّن مدة الاجتماع، (دقائق، ثوانٍ، أجزاء من الثانية) بدلًا من (سنوات، أشهر، ساعات). وبهذه الملاحظة البسيطة أوضح نظريته حول الحجوم. فالتناسب القائم بين الأجزاء مازال محافظًا على المعنى الكامل للتقسيم البنيوي لمراحل الاجتماع، مدّة الاجتماع الكلية التقريبية هي كرقم لا يعبر عن الحجم الحقيقي للاجتماع، ربما هذا الهيوم النسبي سيعطي معنىً أوسع.
“إننا حلقة بسيطة من اجتماعات مضت وأخرى ستأتي.” أقنعني بهذه العبارة البسيطة، وقمت بذلك كما تعلمون.
اقتحمَت (بالغت بهذا الفعل لأثني على المفعول المعنوي لحضورها) بعدها ريميدوس (فتاة ماركيز) بثوبها الفضفاض الذي جعل كلَّ المجتمعين يفتتنون بمحاسن جسدها الخلاب، غرفةَ الاجتماع. ما إن تتحرك حتّى يتكشّف جزء بديع ساحر يُذهب العقل. هكذا أوصاها خالقها، اقتربت من بورخيس الذي بدأ يرى بوضوح الآن، وهمست بأذنيه:
“أراك في الحمّام”، وحالًا بدأت متاهةٌ جديدة تنشأ. وراح نمور الاجتماع يزأرون، يحاولون تضخيم حجومهم، علّها تراهم.
“المرايا والجماع شيئان مقيتان لأنهما يكثران من الكون، الكون مجرد سفسطة، تحسس لواقع ما مختلف، المرايا والجماع تكثران الأشياء (تزيد الحجوم) بلا معنى”. هذا ما قاله بورخيس قبل اللحاق بفاتنة ماركيز.
اعتقد الطبيب أن بطن ريميدوس سيكون خلابًا حتّى من الداخل وبدأ يشرح: “لا يستطيع طبيب بمثل رقة مشاعري أن يشق بطنًا كبطن ريميدوس.”
تداخلت الأفكار كثيرًا، وأصبح المنطق والفنتازيا ضيقين.
عندما بدأ بويندا، غادر طبيبان ومهندس ورجلا أعمال الغرفة الصغيرة بحجّة ارتباطهما بمواعيد مهمّة. وأصبح المجتمعون أطفالًا ونساءً ورجالًا. كما كان هناك بعض العشّاق الهائمين في عشقهم، ما عقّد طرق التحاور والإدلاء بالآراء، فقد اختلطت على نحو غريب مع ثرثرات عامّة ويومية مع بعض الأحلام والتأملات، وسادت فوضى عارمة مكان الاجتماع.
“لقد انكشف المكان على العراء، أو على المدى المطلق، لم يعد هناك جدران وغرفة اجتماع صغيرة تقبع في أذهاننا، لقد أصبحنا الآن… عرضةً للحياة.” همهم عجوز مسكين وكأنّه يخطط لمعركته الأخيرة. بدأت الحوادث تتغير وتأخذ مستويات أكثر واقعيّة، وقد دونت ما ظننت أنها الحوادث الأكثر أهميّة في تغيير مجرى الاجتماع.
وسأكتفي ببعض ما حدث وقتها.
أولًاـ أطلق قاتل أنيق النار على وعلٍ برّي، بينما كانت سيدةٌ وقورة تسقي أزهارها في مكانٍ بعيدٍ جدًا حتّى إنها لم تسمع صوت إطلاق النار… كانت تستمع إلى عازف ناي حزين، كانوا قد نقلوا آلامه توًّا عبر الأسلاك. تنهّد القاتل وبصبر محارب قال:
“إن حجم القتل عظيم، عظيم لا يصنعه سوى القتلة.”
كان يوخا وقتئذ قد انتهى منها، كانت نظراته ملآى بالشفقة، كما أنّه يستطيع أن ينسى بسهولة. وبّخها قائلًا:
“كان بإمكاننا أن نقضي أوقاتًا ممتعة لولا رعونة الرفض لديك.” وانصرف يتابع بناء عرش زوجته الذهبيّ بعيدًا عن “الهفوات”، تربت ابنتها (ماريانا يوخا) فيما بعد على كذبةٍ كبيرة جعلتها تردد:
“هذا العالم لطيف، ومنسّق، مليء بالرومانسية.”
كلماتها كانت تزيد من ألم أمّها الذي أصبح غير محتمل، حجم مطلق، حيث إنّه أغرق نظريتنا في هاويّة كبيرة.
“مأزق للبشرية.” قال مارتينيز، ذاك الذي ينطق بجملة واحدة فقط كل مئة عامٍ من التأمّل.
في مكان بعيد عن مركز الاجتماع، أنجبت تيريزا لزوجها اثني عشر ولدًا وبنتين، ومات في بطنها ثلاثة أبناء. في أوقات فراغ الحياة الزوجية السعيدة كانت ترتب له بزّته لتتباهى بها غيبًا أمام الجميع. إحدى البنات (بيترا) تربت غفلةً على يد ساحرةٍ كانت تقطن بالقرب منهم، عندما أحرقت قريتها وذكرياتها وحجمها الحقيقي في عقلها وقلبها، تنهدت بارتياح، عاشت بعدها حياةً يشوبها بعض القلق وقلّة التوازن في مدينةٍ بهيةٍ.
“لن نعرف سرّها قبل زمن طويل، ربما يصلنا كإيحاءات، وقتها نستطيع تصوّر تفسير ما.” قال صديقها الذي يظنّ أنّها تعاني حالة اكتئاب عرضية.
في غمرة الكلام القاسي، كان شاب وفتاة يتبادلان القبل على بساط ربيع وسط هدوء لا نعرف بالضبط من أين استحضراه، يبعث على الطيران، كانا يحلمان بالشمس، وسط تغافلهما، أو غفلتهما (فيما لو كانا محظوظين). أمضينا قسطًا واسعًا من الاجتماع بعضنا يتفرج وبعضنا يحلم، وكان هناك من يدوّن ملاحظاته الخاصة حول حجمهما الحقيقي في الاجتماع.
كما كان هناك أيضًا حنظلة وحميد اللذان يسرقان أحد البنوك.
حميد: “لولا جهد البشرية في جمع المال لاستغرقت سرقةٌ كهذه مئات السنين.”
يرد حنظلة في الشأن نفسه:
“تحديد شرعية الملكية، يحدِّد على وجهه الآخر (طبيعة فعل السرقة).”
“أنجذب لقضاء أوقاتٍ فارغةٍ وممتعةٍ وبلا رقيب.” ردّ حميد على ما اعتَقَد أنّه السؤال.
جعلني مارتينيز أحتار كثيرًا في الحجم الحقيقي المطلوب لتدوين محضر الاجتماع، قال بهدوء:
“اللغة تجعلك تفكّر كما يريده الآخرون. إنّها تاريخهم… فكّر في الحروف، الحروف لا تحمل في تعاريجها تاريخًا…. إنها طازجة.”
تعجّب (أمراء الشعر) كيف يستطيع شعراء أوروبا أن يكتبوا شعرًا بلا ألف تسميةٍ لجسد أنثى.
الرقم (53) ليس مبالغًا فيه حتى لو أشار إلى قرون، إنّه مجرّد رقم لا يحمل في ثناياه حجمًا.
“ماذا لو كان حجمي لا يضاهي الفراغ الذي يتركه خلفه…؟”
“الحجم هو إعلان القدرة، السلطة، النفوذ. احتلال ما للفراغ… إنّه مجرد إعلان.” قال بويندا الذي بدأ توًّا اجتماعاته غير المنتهية حول… الفراغ.
مثلًا:
فيما أنا جالس في المقهى وحيدًا، إحداهن (تلك التي يوجد منها الكثير) اقتربت، حيّتني بحرارة وجلست، بقيت واقفًا لبرهةِ بدء إشكال ما لغير حياة الأطفال، قالت: هل من مشكلة؟
“نعمـ ….. إنّ هذا الكرسي محجوز”
محجوز! لمن؟
“للفراغ…” رحلت بهدوء.
هناك من يشّوش صفاء الفراغ، لا يملؤه بل يحرمني إياه.
انتهى.

مشاركة: