روبسبير أو “العنف الإلهي” للإرهاب
بقلم الفيلسوف سلافوي جيجك

روبسبير أو “العنف الإلهي” للإرهاب
بقلم الفيلسوف سلافوي جيجك
Robespierre or the “Divine Violence” of Terror
Slavoj Zizek

في عام 1953، عندما كان رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي Chou En Lai في جنيف للمشاركة في مفاوضات السلام لإنهاء الحرب الكورية، طرح عليه صحافيٌ فرنسيٌ سؤالًا عن رأيه في الثورة الفرنسية؛ فأجاب: “ما زال الوقت باكرًا لمعرفة ذلك”. بطريقةٍ ما، كان محقًا: فمع تفكك “الديمقراطيات الشعبية” في أواخر التسعينيات، اندلع النضال من أجل المكانة التاريخية للثورة الفرنسية مرةً أخرى. حاول التحريفيون الليبراليون (liberal revisionists) فرض النظرية القائلة إن زوال الشيوعية في عام 1989 حدث في اللحظة الملائمة تمامًا: لقد أشار زوال الشيوعية إلى نهاية الحقبة التي بدأت عام 1789، والفشل النهائي لنموذج الدولة الثوري الذي دخل الساحة أول مرةٍ مع اليعاقبة.
تنطبق صحة مقولة “كل تاريخٍ هو تاريخ الحاضر” على حالة الثورة الفرنسية أكثر من أي حالةٍ أخرى: إن تناول أدبها التأريخي يعكس دومًا إلى حدٍ بعيدٍ تقلبات ومنعطفات الصراعات السياسية. الرفض القاطع هو السمة المميزة لجميع أنواع المحافظين الذين عدّوا الثورة الفرنسية كارثةً منذ بدايتها، ونتاج عقلٍ عصريٍ ملحدٍ، وتفسَّر أنها عقابٌ أنزله الله على الطرائق الشريرة التي تمارسها البشرية جمعاء، لذا ينبغي لنا التراجع عن آثارها كليًا قدر الإمكان.
الموقف الليبرالي النموذجي موقفٌ متباينٌ: صيغته هي “1789 من دون 1793”. باختصارٍ، يريد الليبراليون سريعو التأثر ثورةً منزوعة الكافيين، ثورةً ليس لها رائحة الثورة (ثورة لا تحمل سمات الثورة). وهكذا يحاول فرانسوا فوريه Francois Furet وآخرون تجريد الثورة الفرنسية من مكانتها بوصفها الحدث التأسيسي للديمقراطية الحديثة، وتحويلها إلى حالة نشازٍ تاريخيٍ: كانت هناك ضرورةٌ تاريخيةٌ لتأكيد مبادئ الحرية الشخصية الحديثة، وما إلى ذلك، لكن، كما يوضح المثل الإنجليزي، كان من الممكن تحقيق الشيء نفسه بشكلٍ أكثر فاعليةً وبطريقةٍ أكثر سلميةً، لكن على العكس من ذلك، يستحوذ على الراديكاليين ما أسماه آلان باديو Alain Badiou “شغف الحقيقة” “La passion du réel”: إذا قلت إن أ تمثل المساواة وحقوق الإنسان والحريات، يجب ألا تتملص من عواقب ذلك وتحشد الشجاعة لتقول إن ب تعني الإرهاب الذي يجب أن يدافع عن أ ويوطده.
لكن، من السهولة بمكان القول إن على اليسار اليوم الاستمرار في هذا الطريق. حدث شيءٌ ما، نوعٌ من القطع التاريخي، فعليًا في عام 1990: الجميع، بما في ذلك “اليساريون الراديكاليون” الحاليون، محرجون بطريقةٍ ما من إرث اليعاقبة المتعلق بالإرهاب الثوري ذي الطابع المركزي للدولة، بحيث يكون الشعار المقبول عمومًا أنه ينبغي لليساريين إن رغبوا في استعادة الكفاءة السياسية، إعادة اكتشاف أنفسهم بشكلٍ كاملٍ، وفي النهاية التخلي عن ما يسمى بــ “نموذج اليعاقبة”. في عصر ما بعد الحداثة لـ”الخصائص الناشئة”، والتفاعل الفوضوي للمواضيع المتعددة، والتفاعل الحر بدلًا من التسلسل الهرمي المركزي، وتعدد الآراء بدلًا من الحقيقة الواحدة، فإن ديكتاتورية اليعاقبة في الأساس “لا تلائم ذوقنا” (يجب منح مصطلح “الذوق” كل وزنه التاريخي، كاسمٍ لترتيباتٍ أيديولوجيةٍ أساسيةٍ). هل يمكن المرء أن يتخيل شيئًا دخيلًا في عالمنا أكثر من حرية الآراء، والمنافسة في الأسواق، والتفاعل التعددي غير المستقر، وما إلى ذلك، من سياسة الحقيقة لـ روبسبير (رأس الحقيقة، بالطبع) التي يتمثل هدفها المعلن في “إعادة مصير الحرية إلى يدَي الحقيقة”؟ لا يمكن فرض مثل هذه الحقيقة إلا بطريقةٍ إرهابيةٍ:
إذا كانت القوة الدافعة الرئيسة للحكومة الشعبية في زمن السلم هي الفضيلة، فإنها في خضم الثورة الفضيلة والإرهاب في آنٍ واحد: فضيلةٌ، يكون الإرهاب قاتلًا من دونها؛ وإرهابٌ، تكون الفضيلة ضعيفةً من دونه. ليس الإرهاب إلا عدالة سريعة وعنيفة وغير مرنةٍ. ومن ثم، نتيجة للفضيلة. إنه ليس مبدأٌ خاصٌ بقدر ما هو نتيجةٌ منطقيةٌ لمبدأ الديمقراطية العام المطبق على حاجات بلدنا الأكثر إلحاحًا.
يصل مسار حجج روبسبير إلى ذروته في التحديد المتناقض للأضداد: الإرهاب الثوري “ينكر” التعارض بين العقوبة والعفو، فإنزال العقوبة العادلة والصارمة بالأعداء، هي أعلى شكلٍ من أشكال العفو، بحيث تتوافق فيها الشدة والإحسان:
الرأفة هي العقاب الذي ننزله على مضطهدي الإنسانية؛ والعفو عنهم هو الهمجية. إن قسوة الطغاة ليست إلا من أجل المبدأ؛ بينما مبعث قسوة الحكومة الجمهورية هو الإحسان.
إذًا، ما الذي ينبغي لأولئك الذين لا يزالون مخلصين لإرث اليسار الراديكالي أن يفعلوا إزاء هذه الأمور؟ شيئان، على الأقل. أولًا، يجب قبول الماضي الإرهابي على أنه ماضينا، حتى -أو على وجه التحديد- لأنه مرفوضٌ بشكلٍ حاسمٍ. البديل الوحيد للموقف الدفاعي الفاتر حيال الشعور بالذنب أمام نقادنا الليبراليين أو اليمينيين هو: القيام بالمهمة الحاسمة بشكلٍ أفضل من خصومنا. لكن، هذه ليست القصة برمتها: لا ينبغي للمرء أيضًا أن يسمح لخصومنا بتحديد مجال وموضوع النضال. هذا يعني أن على النقد الذاتي الشرس السير جنبًا إلى جنبٍ مع الاعتراف الجَسور، في صوغٍ جديدٍ لحكم ماركس Marx على منطق هيغل Hegel، بما يميل المرء إلى تسميته «النواة العقلانية» لإرهاب اليعاقبة: يفترض المنطق الجدلي المادي، من دون معلوماتٍ تفصيليةٍ، عدم قدرة أي موضوعٍ سياسيٍ حتى الآن، الوصول إلى الحقيقة الأبدية التي كان ينشرها بعيدًا عن لحظات الترويع. إذ كما سأل سانت جاست Saint-Just: “ماذا يريد أولئك الذين لا يريدون الفضيلة ولا الإرهاب؟ “إجابته معروفةٌ جدًا: يريدون الفساد، الاسم الآخر لدحر الموضوع. أو، كما قال سانت جاست Saint-Just باقتضابٍ: “ما ينتجه الصالح العام يكون مروعًا دومًا”. ينبغي لنا عدم تفسير هذه الكلمات أنها تحذيرٌ من الميل إلى فرض الصالح العام بعنفٍ على مجتمعٍ ما، بل على العكس من ذلك، وهي حقيقةٌ مريرةٌ يجب تأييدها بالكامل. ثانيًا، النقطة الحاسمة الأخرى التي علينا أخذها في الحسبان، أن الإرهاب الثوري، بالنسبة إلى روبسبير Robespierre، هو عكس الحرب تمامًا: كان روبسبير من دعاة السلام، ليس بسبب النفاق أو الحساسية الإنسانية، بل لأنه كان يدرك جيدًا أن الحرب بين الدول كقاعدةٍ، تعمل كوسيلةٍ لحجب النضال الثوري داخل كل أمةٍ. يتسم خطاب روبسبير “عن الحرب” بأهميةٍ خاصةٍ اليوم: فهو يظهره على أنه من دعاة السلام الحقيقيين، يستنكر بلا هوادةٍ الدعوة الوطنية للحرب، حتى لو صيغت على أنها دفاعٌ عن الثورة، كمحاولة أولئك الذين يريدون “ثورةً من دون ثورةٍ” لتحويل اتجاه راديكالية العملية الثورية. ومن ثم فإن موقفه هو النقيض تمامًا لمن هم في حاجةٍ إلى الحرب من أجل عسكرة الحياة الاجتماعية والسيطرة عليها بشكلٍ ديكتاتوريٍ. وهذا هو السبب في استنكار روبسبير نزعة تصدير الثورة إلى دولٍ أخرى، و”تحريرها” بالقوة: “إن الفرنسيين ليسوا مهووسين بجعل أي أمةٍ سعيدةً وحرةً ضد مشيئتها. كان من الممكن أن يحيا كل الملوك أو يموتوا دون عقابٍ على عروشهم الملطخة بالدماء، لو أنهم تمكنوا من احترام استقلال الشعب الفرنسي”.
أحيانًا يكون الإرهاب الثوري اليعاقبي (نصف مبرَّرٍ) مُبَررًا جزئيًا على أنه “الجريمة التأسيسية” لعالم القانون والنظام البرجوازي، حيث يُسمح للمواطنين بالسعي لمصالحهم، ينبغي للمرء رفض هذا الادعاء لسببين: ليس فقط لأنه في الواقع خطأٌ (كان العديد من المحافظين محقين تمامًا في الإشارة إلى أنه يمكن المرء أن يحقق أيضًا القانون والنظام البرجوازي من دون الشطط الإرهابي، كما كان الحال في بريطانيا العظمى، على الرغم من وجود القائد السياسي والعسكري كرومويل Cromwell)؛ بل الأهم من ذلك كثيرًا، أن الإرهاب الثوري في الفترة بين عام 1792 و1794 لم يكن الحالة التي يسميها والتر بنجامين Walter Benjamin وآخرون العنف المؤسس للدولة، لكنه حالة “عنفٍ إلهيٍ”. يعاني مفسرو كتابات بنجامين مع ما يمكن أن يعنيه “العنف الإلهي” حقًا، هل هو حلمٌ يساريٌ آخر لحدثٍ “نقيٍ” لا يحدث أبدًا؟ يجدر بنا أن نتذكر هنا إشارة فريدريك إنغلز Friedrich Engels إلى كومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة) كمثالٍ لديكتاتورية البروليتاريا:
في الآونة الأخيرة، تملّكَ الاشتراكي الديمقراطي المعتد بنفسه رعبٌ حقيقيٌ ناجمٌ عن الكلمات: دكتاتورية البروليتاريا. جيد وحسن، أيها السادة، هل تريدون أن تعرفوا كيف تبدو هذه الدكتاتورية؟ انظروا إلى كومونة باريس. كانت تلك دكتاتورية البروليتاريا.
ينبغي للمرء أن يكرر هذا، مع مراعاة ما يقتضيه الحال، في ما يتعلق بالعنف الإلهي: “حسنًا، أيها السادة أصحاب النظريات النقدية، هل تريدون معرفة كيف يبدو هذا العنف الإلهي؟ انظروا إلى الإرهاب الثوري بين 1992 و1994. كان هذا هو العنف الإلهي”. (وتستمر السلسلة: الرعب الأحمر عام 1919… إلخ) وهذا يعني أنه يجب على المرء أن يحدد دون خوفٍ العنف الإلهي في الظواهر التاريخية الموجودة بشكلٍ مؤكدٍ، ومن ثم يتجنب كل الغموض الظلامي. عندما يهجم أشخاصٌ من خارج المجال الاجتماعي المنظم “عشوائيًا”، مطالبين و مشرعين لعدالةٍ/ انتقامٍ فوريٍ، فهذا “عنفٌ إلهيٌ”. تذكروا، منذ عقدٍ تقريبًا، الذعر في ريو دي جانيرو Rio de Janeiro عندما نزلت الحشود من الأحياء الفقيرة إلى الجزء الغني من المدينة وبدأوا في نهب وحرق المتاجر الكبرى، كان هذا “عنفًا إلهيًا”… إن العقاب الإلهي لحياة البشر الآثمة -مثل الجراد الذي ذُكر في التوراة، يخرج من العدم- وسيلةٌ بلا غايةٍ، أو كما قال روبسبير في خطابه الذي طالب فيه بإعدام لويس السادس عشر Louis XVI: “الشعوب لا تحكم بالطريقة نفسها التي تحكم بها المحاكم؛ فهم لا يصدرون الأحكام، بل يلقون الصواعق؛ لا يدينون الملوك، بل يعيدونهم مرةً أخرى إلى العدم؛ وهذه العدالة تساوي قيمة عدالة المحاكم”. ومن ثمّ ينبغي لنا تصور كلام بنجامين عن “العنف الإلهي” أنه إلهيٌ بالمعنى الدقيق للشعار اللاتيني القديم vox populi، vox dei صوت الشعب، صوت الله: ليس بالمعنى السلبي “نحن نفعل ذلك كمجرد أدواتٍ لمشيئة الشعب”، ولكن بوصفه الافتراض البطولي لعزلة القرار السيادي. إن قرار (أن تقتل أو تخاطر أو تفقد حياتك) يُتَّخَذُ في عزلةٍ مطلقةٍ، من دون كلفةٍ إضافيةٍ للتغيير الجذري. إذا كان الأمر لا أخلاقيًا، فهو ليس “فاسدًا”، ولا يمنح ذلك ببساطةٍ رخصةً إلى القتل كنوعٍ من أنواع البراءة الملائكية. إن شعار العنف الإلهي: دَعِ العدالة تتحقق، على الرغم من أن العالم يهلك fiat iustitia, pereat mundus: إنها العدالة، نقطة عدم التمييز بين العدالة والانتقام، حيث يفرض “الناس” (الجزء المجهول من اللاجزء) إرهابهم ويجعلون الأجزاء الأخرى تدفع الثمن -يوم الحساب لتاريخ القمع الطويل، من الاستغلال والمعاناة- أو كما وصفها روبسبير نفسه بطريقةٍ مؤثرةٍ:
ماذا تريد يا من ترغب في أن تكون الحقيقة ضعيفةً على شفاه ممثلي الشعب الفرنسي؟ للحقيقة بلا شكٍ قوتها، وغضبها واستبدادها؛ لها لهجاتٌ مؤثرةٌ وأخرى رهيبةٌ، تدوي بقوةٍ في القلوب الطاهرة كما في الضمائر المذنبة، ولا يمكن لهذا الكذب أن يحاكي الحقيقة أكثر مما تستطيع سالومي محاكاة صواعق السماء؛ لكن يتهمون طبيعته، ويتهمون الشعب، الذي يريدها ويحبها.
وهذا ما يهدف إليه روبسبير في اتهامه الشهير للمعتدلين أن ما يريدونه حقًا هو “ثورةٌ بلا ثورةٍ”: يريدون ثورةً مجردةً من الشطط الذي تتوافق فيه الديمقراطية والإرهاب، ثورةً تحترم القواعد الاجتماعية، خاضعةً للأعراف الموجودة مسبقًا، ثورةً يُحرم فيها العنف من البعد “الإلهي” ومن ثمّ يُختصر في تدخلٍ استراتيجيٍ يخدم أهدافًا دقيقةً ومحدودةً:
أيها المواطنون هل أردتم ثورةً بلا ثورةٍ؟ ما روح الاضطهاد التي أتت لتعيد النظر، إذا جاز التعبير، في تلك التي حطمت قيودنا؟ ولكن ما الحكم المتيقن الذي يمكن المرء أن يتخذه بشأن الآثار التي يمكن أن تتبع هذه الاضطرابات العظيمة؟ من يستطيع أن يحدد، بعد الحدث، النقطة الدقيقة التي يجب أن تتكسر عندها موجات الانتفاضة الشعبية؟ أي شعبٍ كان بإمكانه التخلص من نير الاستبداد بذاك الثمن؟ صحيح أن أمةً عظيمةً لا يمكن أن تنهض في حركةٍ متزامنةٍ، وأن الاستبداد لا يمكن أن يقضي عليه إلا جزءٌ من المواطنين الأقرب إليه، فكيف يجرؤ هؤلاء إذًا على مهاجمته إذا حمّلهم مندوبون من المناطق النائية، بعد النصر، المسؤولية عن مدة أو عنف العذاب السياسي الذي أنقذ الوطن؟ يجب اعتبارها مبررة بالوكالة الضمنية للمجتمع بأسره. اضطلع الفرنسيون، أصدقاء الحرية، الذين اجتمعوا في باريس في آب/ أغسطس الماضي، بهذا الدور، باسم جميع الدوائر، وينبغي لهم إما أن يوافقوا عليه أو يتنصلوا منه بالكامل. إن تحميلهم المسؤولية الجنائية عن بعض الاضطرابات الظاهرة أو الحقيقية، التي لا يمكن فصلها عن الصدمة الكبيرة، سيكون بمنزلة معاقبتهم على إخلاصهم.
يمكن تمييز هذا المنطق الثوري الأصيل بالفعل على مستوى الشخصيات البلاغية، حيث يرغب روبسبير في تغيير الإجراء القياسي المتمثل في إثارة موقفٍ «واقعيٍ» ظاهريًا، ثم عرض طبيعته الوهمية: غالبًا ما يبدأ بتقديم موقفٍ أو وصفٍ لموقفٍ على أنه مبالغةٌ سخيفةٌ، وخيالٌ، ثم يستمر في تذكيرنا بأن ما لا يمكن إلا أن يظهر إلا كخيالٍ، في المقاربة الأولى، هو في الواقع الحقيقة نفسها: “ولكن ما الذي أقوله؟ إن ما قدمته توًّا كفرضيةٍ سخيفةٍ هو في الواقع حقيقةٌ مؤكدةٌ جدًا. “هذا الموقف الثوري الراديكالي هو الذي يمكّن أيضًا روبسبير من إدانة القلق “الإنساني” بشأن ضحايا “العنف الإلهي” الثوري: “الإحساس الذي ينوح على أعداء الحرية بشكلٍ شبه حصريٍ يبدو لي مشتبهًا فيه. توقف عن هز رداء الطاغية الدموي في وجهي، أو سأصدق أنك ترغب في تقييد روما بالسلاسل.” يتداخل التحليل النقدي وقبول الإرث التاريخي لليعاقبة في السؤال الحقيقي الذي ينبغي لنا طرحه: هل واقع الإرهاب الثوري (المؤسف في كثيرٍ من الأحيان) يحملنا على رفض فكرة الإرهاب ذاتها، أم أن هناك طريقةٌ لتكرارها في كوكبةٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ اليوم، لتعويض أخطاء محتواها الافتراضي؟ يمكن، وينبغي لنا القيام بذلك، والصيغة الأكثر إيجازًا لتكرار الحدث وفقًا لما حدده روبسبير هي: الانتقال من إرهاب (رويسبير) الإنساني إلى الإرهاب المعادي للإنسانية (أو بالأحرى غير الإنساني).
في كتابه “القرن” Le siècle، يرى آلان باديو التحول من “الإنسانية والإرهاب” إلى “الإنسانية أو الإرهاب، كعلامةٍ على التراجع السياسي الذي حدث مع نهاية القرن العشرين. في عام 1946، كتب موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau-Ponty كتاب “الإنسانية والإرهاب” humanism and terror، كان دفاعه عن الشيوعية السوفياتية بوصفها تنطوي على نوعٍ من الرهان الباسكالي Pascalean wager الذي يعرض موضوعًا قام برنارد ويليامز Bernard Williams بتطويره لاحقًا في كتابه “حظٌ أخلاقي” moral luck: سيكون الإرهاب الحالي مبررًا بأثرٍ رجعيٍ إذا كان المجتمع الذي سينبعث منه إنسانيًا حقًا؛ اليوم، لا يمكن تصور مثل هذا الاقتران بين الإرهاب والإنسانية بشكلٍ صحيحٍ، فالنظرة الليبرالية السائدة استبدلت “و” بـ “أو”: إما الإنسانية أو الإرهاب.
بمزيدٍ من الدقة، هناك أربعة اختلافاتٍ حول هذا الدافع: الإنسانية والإرهاب، والإنسانية أو الإرهاب، كلٌ منها بمعنىً “إيجابيٍ” أو “سلبيٍ”. “الإنسانية والإرهاب” بالمعنى الإيجابي” هي ما ذكره مريلو بونتي Merleau-Ponty مفصلًا، فهي تدعم الستالينية (التوليد القوي -“الإرهابي”- للإنسان الجديد) وتُرى بوضوحٍ حقًا في الثورة الفرنسية، على هيئة اقتران الفضيلة والإرهاب عند روبسبير. هناك طريقتان لإلغاء هذا الاقتران: يمكن أن يتضمن خيار “الإنسانية أو الإرهاب”، أي المشروع الإنساني الليبرالي بجميع نماذجه، منذ النزعة الإنسانية المنشقة المناهضة للستالينية حتى الهبرماسيين الجدد اليوم (لوك فيري وألان رينو في فرنسا) Luc Ferry & Alain Renault وغيرها من المدافعين عن حقوق الإنسان ضد الإرهاب (الاستبدادي، والأصولي). أو يمكن الاحتفاظ بالاقتران بين “الإنسانية والإرهاب”، لكن بطريقةٍ سلبيةٍ: كل تلك التوجهات الفلسفية والأيديولوجية، من هايدجر Heidegger والمسيحيين المحافظين إلى أنصار الروحانية الشرقية والإيكولوجيا العميقة Deep Ecology، الذين ينظرون إلى الإرهاب على أنه الحقيقة -النتيجة النهائية- للمشروع الإنساني ذاته، وغطرسته.
ومع ذلك، هناك اختلافٌ رابع يُترك جانبًا عادةً: اختيار “الإنسانية أو الإرهاب”، لكن مع الإرهاب، وليس الإنسانية، كمصطلحٍ إيجابيٍ. هذا موقفٌ راديكاليٌ يصعب الحفاظ عليه، ولكن ربما يكون أملنا الوحيد: أنه لا يرقى إلى الجنون البذيء المتمثل في الاتجاه إلى “سياسةٍ إرهابيةٍ وغير إنسانيةٍ” بشكلٍ علنيٍ، ولكنه شيءٌ أكثر صعوبةً في التفكير. في تفكير “ما بعد التفكيك” الحالي (إذا جازف المرء بهذا التعيين السخيف الذي لا يمكن إلا أن يبدو محاكاةً ساخرةً خاصةً به)، اكتسب مصطلح “غير إنساني” ثقلًا جديدًا، ولا سيما في أعمال أغامبين Agamben وباديو Badiou. أفضل طريقةٍ لتقديمها هي من خلال إحجام فرويد Freud عن تأييد الأمر الزجري “أحب جارك!” -الإغراء الذي يجب مقاومته هنا هو الترويض الأخلاقي للجار- على سبيل المثال، ما فعله إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas بمفهومه عن الجار بوصفه النقطة العميقة التي ينطلق منها نداء المسؤولية الأخلاقية. وبذلك، فإن ما يشوش عليه ليفيناس Levinas هو فظاعة الجار، وحشية بسببها يطبق لاكان Lacan على الجار مصطلح الشيء (das Ding)، التي استخدمها فرويد Freud لتعيين هدف رغباتنا النهائي في شدتها التي لا تطاق وعدم قابليتها للاختراق. يجب على المرء أن يسمع في هذا المصطلح كل دلالات روايات الرعب: الجار هو الشيء (الشرير) الذي يحتمل أن يتوارى تحت كل وجهٍ إنسانيٍ عائليٍ. فكر فقط في فيلم “البريق” Shining لـ ستيفان كينغ Stephen King حيث يتحول الأب، وهو كاتبٌ متواضعٌ فاشلٌ، تدريجًا إلى وحشٍ قاتلٍ تعلو وجهه تكشيرةٌ شريرةٌ، يذبح عائلته بأكملها. في تناقضٍ جدليٍ صحيحٍ، ما فشل ليفيناس في أخذه بالحسبان مع كل احتفاله بالغيرية، ليس بعض التشابه الضمني لجميع البشر ولكن الغيرية الجذرية “اللاإنسانية” ذاتها: اختزال غيرية إنسانٍ ما إلى اللاإنسانية، تتمثل الغيرية في شخصية مسلمان Muselmann الراعبة، “الحي الميت” في معسكرات الاعتقال. على مستوىً آخر، ينطبق الشيء نفسه على الشيوعية الستالينية. في السرد الستاليني القياسي، حتى معسكرات الاعتقال كانت مكانًا للكفاح ضد الفاشية، حيث كان الشيوعيون المسجونون ينظمون شبكات المقاومة البطولية -في مثل هذا العالم، بالطبع، لا يوجد مكانٌ للتجربة المحدودة لـ مسلمان Muselmann، الموتى الأحياء محرومون من القدرة على العمل الإنساني- فلا عجب أن الشيوعيين الستالينيين كانوا حريصين جدًا على “تطبيع” المعسكرات إلى مجرد موقعٍ آخر للنضال ضد الفاشية، ورفض مشاركة مسلمان بوصفه ببساطةٍ أحد الأشخاص الذين يمنعهم ضعفهم الشديد من الانخراط في الكفاح.
على هذه الخلفية يمكن أن يفهم المرء لماذا يتحدث لاكان Lacan عن جوهر الجار اللاإنساني. بالعودة إلى الستينيات، عصر البنيوية، أطلق لويس ألتوسير Louis Althusser الصيغة سيئة السمعة لـ “نظرية معاداة الإنسانية”، مما سمح وحتى طالب باستكمالها بالإنسانية العملية. في عملنا، ينبغي لنا أن نتصرف كإنسانيين نحترم الآخرين ونعاملهم كأشخاص أحرار يتمتعون بكرامةٍ كاملةٍ، منشئين لعالمهم. ومع ذلك، من الناحية النظرية، ينبغي لنا أن نضع في حسباننا دائمًا أن الإنسانية هي مذهبٌ فكريٌ، الطريقة التي نواجه بها مآزقنا بطريقةٍ عفويةٍ، وأن المعرفة الحقيقية للبشر وتاريخهم لا يجب أن تتطرق للأفراد على أنهم أشخاصٌ مستقلون، بل عناصر في بنيةٍ تتبع قوانينها الخاصة. على النقيض من ألتوسير Althusser، يمضي لاكان Lacan بعملية الانتقال من مناهضة الإنسانية النظرية إلى العملية، أي إلى أخلاقٍ تتجاوز أبعاد ما أسماه نيتشه Nietzsche “إنسان، كل البشر” human, all too human، وتواجه جوهر الإنسانية اللاإنساني. هذا لا يعني الأخلاق التي لم تعد تنكر فقط، بل تأخذ في الحسبان دون خوفٍ، البشاعة الكامنة لكوننا آدميين، والبعد الشرير الذي انفجر في ظواهر يغطيها عادةً مفهومٌ اسمه “Auschwitz” “معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة”، وهي أخلاقٌ كان يمكن أن تظل قائمةً بعد سقوط أوشفيتز Auschwitz، لإعادة صوغ كتابات أدورنو Adorno. هذا البعد اللاإنساني هو في الوقت نفسه بالنسبة إلى لاكان Lacan، الدعم النهائي للأخلاق. من الناحية الفلسفية، يمكن تعريف هذا البعد “اللاإنساني” على أنه البعد الخاص بموضوعٍ مجتزأ من كل أشكال “فردية” الإنسان أو شخصيته (ولهذا السبب، في الثقافة الشعبية الحالية، فإن إحدى الشخصيات النموذجية للذات الصافية غير بشرية – فضائية؛ يُظهر سايبورغ إخلاصًا أكبر للمهمة والكرامة والحرية من نظرائه البشريين، (من شخصية شوارزنيجر Schwarzenegger في فيلم المدمر Terminator، وشخصية الإنسان الآلي التي أداها الممثل Rutger-Hauer روتجر هاو في فيلم بليد رنر Blade Runner). تذكر حلم هوسرل المظلم، من تأملاته الديكارتية Cartesian، كيف سيظل الكوجيتو السامي غير متأثرٍ بالطاعون الذي سيبيد البشرية أجمعها: من السهل، وفقًا لهذا المثال، التفوق بشكلٍ مبتذلٍ في ما يتعلق بالخلفية ذاتية التدمير للذات السامية، وحول كيف أغفل هوسرل Husserl التناقض الذي كتب عنه فوكو Foucault في كتابه “الكلمات والأشياء” Let mots et les choses وأطلق عليه اسم “الثنائي التجريبي المتسامي” للرابط الذي يربط دائمًا بين الأنا المتسامية والأنا التجريبية، بحيث يتم تدمير الأخيرة من خلال تعريفٍ يؤدي إلى اختفاء الأولى. لكن، ماذا لو أدرك المرء تمامًا هذا التبعية كحقيقةٍ (وليس أكثر من هذا: حقيقة غبية عن الوجود)، ومع ذلك يصر على إنكارها، وحقيقة تأكيد استقلالية الذات في ما يتعلق بالأفراد التجريبين بصفتهم كائناتٍ حيةٍ؟ ألا يظهر هذا الاستقلال في بادرة المخاطرة بحياة المرء، والاستعداد للتخلي عن كيانه؟ على خلفية هذا الموضوع المتمثل في القبول السيادي للموت، يجب على المرء إعادة قراءة التحول الخطابي الذي يشار إليه في كثيرٍ من الأحيان على أنه دليلٌ على تلاعب روبسبير «الشمولي» بجمهوره. حدث هذا التحول في خضم خطاب روبسبير في الجمعية الوطنية في الحادي عشر من السنة الجرمينية الثانية (31 آذار/ مارس 1794)؛ في الليلة السابقة، أُلقي القبض على دانتون Danton، وكاميل ديسمولين Camille Desmoulins وآخرين، لذلك، وبصورةٍ مفهومةٍ، خشي العديد من أعضاء الجمعية أن يطالهم الأمر أيضًا. يتعامل روبسبير مباشرةً مع اللحظة لكونها محورية: “أيها المواطنون، حان الوقت لقول الحقيقة”، ثم يستمر في إثارة الخوف الذي ينتشر في أرجاء الغرفة:
يريد أحدهم أن يجعلك تخاف من إساءة استخدام السلطة، للسلطة الوطنية التي مارستها [….] يريد أحدهم أن يجعلنا نخشى وقوع الناس ضحية اللجان [….] يخاف أحدهم من أن السجناء يتعرضون للقمع [….].
المعارضة هنا بين “الأشخاص” المجردين (لا يتم تجسيد المحرضين على الخوف) ومن ثمّ تتعرض المجموعة للضغط، وتتحول بشكلٍ غير محسوسٍ تقريبًا من صيغة ضمير الجمع “أنتم/ vous” إلى صيغة المتكلم “نحن” (يُدرج روبسبير نفسه بشجاعةٍ في الضمير الدال على الجمع). ومع ذلك، فإن الصيغة النهائية تقدم تطورًا ينذر بالسوء: لم يعد الأمر أن “أحدهم يريد أن يجعلكم تخافون/ يجعلنا نخاف”، بل أن “المرء يخاف”، مما يعني أن العدو الذي يثير الخوف لم يعد خارج نطاق “أنتم/ نحن”، خاطب روبسبير أعضاء الجمعية قائلًا: إنه هنا، “بيننا”، و”بينكم”، يقوض وحدتنا من الداخل. في هذه اللحظة بالتحديد، اضطلع روبسبير، بضربةٍ قاضيةٍ حقيقيةٍ، بالخطاب الذاتي التام، انتظر قليلًا لحدوث التأثير المشؤوم لكلماته، ثم تابع في صيغة ضمير المتكلم المفرد:
أنا أقول إن أي شخصٍ يرتجف في هذه اللحظة مذنبٌ؛ لأن البراءة لا تخشى الرقابة العامة.
ما الذي يمكن أن يكون أكثر “شموليةً” من هذه الحلقة المغلقة، أن “خوفك الشديد من أن تكون مذنبًا يجعلك مذنبًا”، نسخةٌ غريبةٌ ملتويةٌ من الأنا العليا للشعار المعروف “الشيء الوحيد الذي يجب أن تخافه، هو الخوف بحد ذاته”؟ ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يتجاوز الإقصاء السريع لاستراتيجية روبسبير الخطابية بوصفها استراتيجية “الذنب الإرهابي”، وأن يميز لحظة الحقيقة الخاصة بها: لا يوجد متفرجون أبرياء في اللحظات الحاسمة للقرار الثوري، لأنه في مثل هذه اللحظات، البراءة بحد ذاتها: أن يعفي المرء نفسه من القرار، أن أمضي وكأن النضال الذي أشهده لا يعنيني حقًا، هي الخيانة العظمى. وهذا يعني أن الخوف من اتهامي بالخيانة هو الخيانة العظمى، لأنه حتى لو “لم أفعل شيئًا ضد الثورة”، فإن هذا الخوف بحد ذاته، وحقيقة أنه ظهر في داخلي، يوضح أن موقفي الذاتي هو موقفٌ خارجيٌ بالنسبة إلى لثورة، وأنني أختبر “الثورة” كقوةٍ خارجيةٍ تهددني.
لكن ما يدور في هذا الخطاب الفريد يُعدّ أكثر وضوحًا: يتعامل روبسبير مباشرةً مع السؤال الحساس الذي ينبغي له أن يطرأ في أذهان جمهوره -كيف يمكن له التأكد أنه لن يكون المتَّهم التالي؟ إنه ليس السيد المُستثنى من المجموعة، الـ “أنا” خارج “نحن”- في النهاية، كان سابقًا وثيق الصلة بـ دانتون، وهو شخصيةٌ قويةٌ قيد الاعتقال الآن، إذًا، ماذا لو تمّ غدًا استخدام قربه من دانتون ضده؟ باختصارٍ، كيف يمكن لـ روبسبير أن يتأكد من أن العملية التي أطلقها لن تودي به؟ هنا يفترض موقعه العظمة السامية، فهو يفترض تمامًا أن الخطر الذي يهدد دانتون الآن سيهدده غدًا. السبب في أنه هادئٌ جدًا، ولا يخشى هذا المصير، ليس لأن دانتون كان خائنًا، بينما كان روبسبير بريئًا، ويمثل التجسيد المباشر لإرادة الشعب؛ بل لأنه، روبسبير Robespierre، ليس خائفًا من الموت، ستكون وفاته في نهاية المطاف مجرد حادثٍ لا يعني شيئًا:
ما الذي يهمني من الخطر؟ حياتي تنتمي إلى الوطن، قلبي خالٍ من الخوف، وإذا قُدّر لي أن أموت، فسأفعل ذلك من دون تأنيبٍ أو عارٍ.
ومن ثمّ، بقدر ما يمكن تحديد التحول من “نحن” إلى “أنا” بفعاليةٍ على أنه اللحظة التي يسقط فيها القناع الديمقراطي، وعندما يثبت روبسبير بحد ذاته علنًا على أنه سيدٌ (حتى هذه النقطة، نتبع تحليل ليفورت Lefort) فإن مصطلح “السيد” يجب أن يُعطى هنا ثقله الهيغلي Hegelian الكامل: السيد هو شخصية السيادة، الشخص الذي لا يخشى الموت، والمستعد للمخاطرة بكل شيءٍ. بعبارةٍ أخرى، المعنى النهائي لضمير روبسبير المفرد المتكلم (“أنا”) هو: أنا لست خائفًا من الموت. ما يخوّله هو هذا فقط، وليس أي نوعٍ من الوصول المباشر إلى التغيير الجذري، أي لا يدعي أنه يمتلك وصولًا مباشرًا إلى إرادة الشعب التي تتحدث من خلاله. هذه هي الطريقة التي وصف بها ياماموتو يوتشو Yamamoto Jocho -كاهنٌ بوذيٌ من زن Zen- موقف المحارب الصحيح: “يجب على المرء أن يُعدّ نفسه ميتًا كل يومٍ دون توقفٍ. هناك قولٌ مأثورٌ للمسنين: “اخطُ من تحت الإفريز، واعتبر نفسك رجلًا ميتًا. اترك البوابة، واعتبر أن العدو ينتظر.” هذا ليس من باب توخي الحذر. إنه عدُّ المرء نفسه ميتًا مسبقًا.” ولهذا، وفقًا لـ هيليس لوري Hillis Lory، أقام العديد من الجنود اليابانيين في الحرب العالمية الثانية جنازاتهم الخاصة قبل ذهابهم إلى ساحة المعركة:
العديد من الجنود في الحرب الحالية عازمون على الموت في ساحة المعركة لدرجة أنهم يقيمون جنازاتهم العامة قبل مغادرتهم إلى الجبهات. هذا لا يُعدّ أمرًا سخيفًا بالنسبة إلى ليابانيين. على العكس، إنه يحظى بالاحترام بوصفه روح الساموراي الحقيقي الذي يدخل المعركة دون أي تفكيرٍ في العودة.
هذا الإقصاء الذاتي الوقائي من نطاق الحياة، يحول الجندي بالطبع إلى شخصيةٍ ساميةٍ تمامًا. بدلًا من رفض هذه الميزة بوصفها جزءًا من العسكرة الفاشية، يجب على المرء أن يؤكد أنها تشكل أيضًا موقفًا ثوريًا راديكاليًا: هناك خطٌ مستقيمٌ يمتد من قبول المرء لاختفائه إلى ردة فعل ماو تسي تونغ Mao Zedong على تهديد القنبلة الذرية من عام 1955:
لا يمكن للولايات المتحدة أن تفني الأمة الصينية بحزمتها الصغيرة من القنابل الذرية. حتى وإن كانت القنابل الذرية الأميركية قويةً جدًا لدرجة أنه عند إسقاطها على الصين، فإنها ستحدث تجويفًا في الأرض، أو حتى تفجرها، هذا بالكاد سيعني أيّ شيءٍ للكون بأسره، على الرغم من أنه قد يكون حدثًا مهمًا بالنسبة إلى النظام الشمسي. (“لا يمكن للقنبلة الذرية أن تروّع الشعب الصيني”).
من الواضح أن هناك “جنونٌ غير إنسانيٍ” في هذه الحجة: ألا تُعدّ حقيقة أن تدمير كوكب الأرض “بالكاد سيعني أيّ شيءٍ للكون بأسره” عزاءً سيئًا إلى حدٍ ما للإنسانية المندثرة؟ لا تنجح الحجة إلا إذا افترض المرء جدلًا، بطريقةٍ كانطية Kantian، وجود شخصٍ متسامٍ تمامًا غير متأثرٍ بهذه الكارثة. شخصٌ، على الرغم من عدم وجوده في الواقع، إلا أنه مؤثرٌ كنقطةٍ مرجعيةٍ افتراضيةٍ. ينبغي لكل ثوريٍ أصيل أن يضطلع بهذا الموقف المتمثل في التجرد التام من الخصوصية الحمقاء لوجود المرء الحالي وحتى ازدراءها، أو، كما عبر سانت جاست Saint-Just بطريقةٍ لا يعلى عليها عن هذه اللامبالاة تجاه ما أسماه بنجامين Benjamin “الحياة العارية”: أنا أحتقر التراب الذي يشكلني ويتحدث إليكم”. اقترب تشي جيفارا Che Guevara من نفس الخط على الرغم من أنه في خضم التوتر الذي لا يُحتمل لأزمة الصواريخ الكوبية، دعا إلى نهجٍ شجاعٍ للمخاطرة بالحرب العالمية الجديدة التي ستشمل (على الأقل) الفناء الكامل للشعب الكوبي، أشاد بالاستعداد البطولي للشعب الكوبي للمخاطرة بفنائه.
بعدٌ آخر “غير إنسانيٍ” لثنائي “الإرهاب- الفضيلة” الذي روج له روبسبير، هو رفض العادة (بمعنى قوة التسويات الواقعية). على كل نظامٍ قانونيٍ (أو كل ترتيبٍ معياريٍ صريحٍ) أن يعتمد على شبكةٍ “انعكاسيةٍ” معقدةٍ من القواعد غير الرسمية التي تخبرنا كيف نتعامل مع المعايير الصريحة، وكيف نطبقها: إلى أي مدىً نأخذها حرفيًا، كيف ومتى يُسمح لنا تجاهلها، بل يُطلب منا، وهلم جرا، وهذا هو مجال العادة. إن معرفة عادات المجتمع يعني معرفة القواعد الوصفية لكيفية تطبيق معاييره الصريحة: متى ينبغي لنا استخدامها أو عدم استخدامها؛ متى نخالفها؛ متى لا نستخدم الخيار المطروح؛ متى نكون ملزمين فعليًا بفعل شيءٍ ما، ولكن يتعين علينا التظاهر بأننا نقوم به كخيارٍ حرٍ (كما في حالة احتفالات البوتلاش potlatch، وهي احتفالاتٌ كبيرةٌ عند الهنود الحمر).
تذكر العرض المهذب، المراد رفضه: إنها “عادة” أن يتم رفض مثل هذا العرض، وأي شخصٍ يقبل مثل هذا العرض يرتكب خطًا فادحًا. ينطبق الأمر نفسه على العديد من المواقف السياسية التي يتم فيها الاختيار بشرط أن نتخذ الخيار الصحيح: يتم تذكيرنا بجديةٍ أنه يمكننا أن نقول لا، ولكن من المتوقع أن نرفض هذا العرض ونقول نعم بحماسةٍ. مع العديد من المحظورات الجنسية، يكون الموقف عكس ذلك: تعمل “لا” الصريحة فعليًا مثل الأمر الزجري الضمني “افعل ذلك، ولكن بطريقةٍ سريةٍ!” قياسًا على هذه الخلفية، فإن الشخصيات الثورية القائمة على المساواة، من روبسبير إلى جون براون John Brown (ربما على أقل تقدير)، هي شخصياتٌ بلا عاداتٍ: إنهم يرفضون مراعاة العادات التي تؤهل عمل قاعدةٍ عالميةٍ:
هذه هي السيادة الطبيعية للعادة التي نعتبرها أكثر الأعراف تعسفًا، وأحيانًا أكثر المؤسسات التي تتخللها العيوب، كمعايير مطلقةٍ للحقيقة أو الباطل أو العدالة أو الظلم. لا يخطر ببالنا حتى أن معظمهم لا يزالون مرتبطين حتمًا بالأحكام المسبقة التي أتخمنا بها الاستبداد. لقد رزحنا طويلًا تحت نيرها لدرجة أننا نواجه بعض الصعوبة في الارتقاء إلى مبادئ العقل الأبدية؛ وأي شيءٍ يشير إلى المصدر المقدس لجميع القوانين يبدو لنا أنه يتخذ طابعًا غير قانونيٍ، ويبدو أن نظام الطبيعة ذاته يمثل اضطرابًا. إن الحركات المهيبة لشعبٍ عظيمٍ واتقاد الفضيلة السامية، غالبًا ما تبدو لأعيننا الخجولة وكأنها بركانٌ ثائرٌ أو إطاحة مجتمعٍ سياسي؛ وهي بالتأكيد ليست أقل المشاكل التي تزعجنا، هذا التناقض بين ضعف أخلاقنا، فساد عقولنا، ونقاء المبدأ وطاقة الشخصية التي طالبت بها الحكومة الحرة التي تجرأنا على التطلع إليها.
إن كسر نير العادات يعني ما يلي: إذا كان جميع الرجال متساوين، إذًا يجب معاملة جميع الرجال على قدم المساواة؛ إذا كان أصحاب البشرة السوداء بشرًا أيضًا، فيجب معاملتهم على الفور على هذا النحو. لنتذكر المراحل الأولى من النضال ضد العبودية في الولايات المتحدة، والتي، حتى قبل الحرب الأهلية، بلغت ذروتها في الصراع المسلح بين تدرج الليبراليين الرحيمين، والشخصية الفريدة لـ جون براون:
كان الأميركيون من أصلٍ أفريقي رسومًا كاريكاتورية للناس، وقد صُنِّفوا كمهرجين وكوميديين، كانوا عرضةً للسخرية والاستهزاء في المجتمع الأميركي. وحتى دعاة إلغاء الرق، على الرغم من كونهم مناهضين للعبودية، فإن الغالبية منهم لم يُعدّوا الأميركيين من أصلٍ أفريقيٍ مساوون لهم. كان معظمهم -وهذا أمرٌ اشتكى منه الأميركيون الأفارقة طوال الوقت- على استعدادٍ للعمل من أجل إنهاء العبودية في الجنوب لكنهم لم يكونوا مستعدين للعمل على إنهاء التمييز في الشمال. /…/ لم يكن جون براون كذلك، فبالنسبة إليه، كان تطبيق المساواة خطوةً أولى نحو إنهاء العبودية. وعرف الأميركيون الأفارقة الذين تواصلوا معه ذلك على الفور، لقد أوضح أنه لا يرى فرقًا، ولم يوضح ذلك بقوله، بل أوضح ذلك بأفعاله.
لهذا السبب، يعدُّ جون براون الشخصية السياسية الرئيسة في تاريخ الولايات المتحدة: في سعيه إلى “الإلغاء الجذري للرق” والذي اتسم بالتمسك بمبادئ الدين المسيحي، شارف على إدخال منطق اليعاقبة في المشهد السياسي الأميركي: “اعتبر جون براون نفسه متساويًا بشكلٍ كاملٍ. وكان من المهم جدًا بالنسبة إليه أن يمارس المساواة على المستويات كلها. [….] لقد أوضح أنه لا يرى فرقًا، ولم يوضح ذلك بقوله، بل أوضحه من خلال أفعاله”.
اليوم، وحتى بعد زمنٍ طويلٍ من إلغاء العبودية، يُعدّ براون Brown الشخصية الفاصلة في الذاكرة الجماعية الأميركية، أولئك البيض الذين يدعمون براون هم الأكثر قيمةً، ومن بينهم، على نحوٍ مفاجئٍ، هنري ديفيد ثورو Henry David Thoreau المعارض الأكبر للعنف: ضد الإقصاء الاعتيادي لبراون بوصفه متعطشًا للدماء، وأحمق ومجنون، رسم ثورو Thoreau لوحةً لرجٍل منقطع النظير كان تبنّيه للقضية لا مثيل له؛ حتى أنه ذهب إلى أبعد من ذلك ليشبّه إعدام براون Brown بالمسيح (يقول إنه يُعدّ براون ميتًا قبل موته الفعلي). يعبر ثورو عن غضبه تجاه العشرات ممن أعربوا عن استيائهم واحتقارهم لـ جون براون: لا يمكن لمثل هؤلاء الأشخاص فهم براون بسبب مواقفهم المتحجرة ووجودهم “الميت”؛ إنهم حقًا لا يعيشون، القليل من الرجال فقط قد عاشوا.
ومع ذلك، فإن هذه المساواة الناتجة هي في الوقت ذاته قيود سياسة اليعاقبة. تذكروا الرؤية الأساسية الدقيقة لــ ماركس Marx حول التقييد “البرجوازي” لمنطق المساواة: إن عدم المساواة الرأسمالية (“الاستغلال”) ليست “انتهاكاتٍ غير مبدئيةٍ لمبدأ المساواة”، لكنها متأصلةٌ تمامًا في منطق المساواة، وهي نتيجةٌ متناقضةٌ لإدراكها المترتب على ذلك. ما يتبادر إلى ذهننا هنا لا يقتصر فقط على الفكرة القديمة المضجرة حول الطريقة التي يفترض فيها نظام المقايضة مسبقًا وجود أشخاص متساوين رسميًا/ قانونيًا يلتقون ويتفاعلون في السوق؛ إن اللحظة الحاسمة في نقد ماركس للاشتراكيين “البرجوازيين” هي أن الاستغلال الرأسمالي لا ينطوي على أي نوعٍ من المقايضة “غير المتكافئة” بين العامل والرأسمالي -فهذه المقايضة متساويةٌ تمامًا و”عادلةٌ”، مثاليةٌ (من حيث المبدأ)، حيث يتقاضى العامل أجرًا على كامل قيمة السلعة التي يبيعها (قوته العاملة). بالطبع، يدرك الثوريون البرجوازيون الراديكاليون هذا التقييد. بيد أن الطريقة التي يحاولون بها تعديله تكون من خلال فرضٍ “إرهابيٍ” مباشرٍ لمزيدٍ من المساواة الفعلية (الرواتب المتساوية، الخدمات الصحية المتساوية… إلخ) والتي لا يمكن فرضها إلا من خلال أنواع جديدةٍ من عدم المساواة الرسمية (أنواع مختلفة من أساليب التعامل التمييزية ضد الأشخاص المحرومين في المجتمع). باختصارٍ، إن بديهية “المساواة” تعني إما لا يكفي (وهو يبقى الشكل المجرد لعدم المساواة الفعلية) أو أكثر من اللازم (فرض المساواة “الإرهابية”) – إنها فكرةٌ شكليةٌ بالمعنى الديالكتيكي الصارم، أي أن تقييدها على وجه التحديد ناجمٌ عن أن صيغتها ليست محددةً بدرجةٍ كافيةٍ، ولكنها مجرد وعاءٍ كبيرٍ محايدٍ لبعض المضامين التي تتملص من هذا الشكل.
المشكلة هنا ليست الإرهاب في حد ذاته -تتطلب مهمتنا اليوم على وجه التحديد، إعادة اختراع الإرهاب التحرري- إنما تكمن المشكلة في مكانٍ آخر: يجب دائمًا قراءة “التطرف” السياسي المتساوي أو “الراديكالية المفرطة” كظاهرة نزوحٍ أيديولوجيٍ سياسيٍ: كمؤشرٍ لنقيضه، للقيود، لرفض “المضي حتى النهاية” بفاعليةٍ، ما الذي كان يعنيه لجوء جاكوبين إلى “الإرهاب” الراديكالي إن لم يكن نوعًا من التصرف الهستيري الذي يشهد على عدم قدرتهم على الإخلال بأساسيات النظام الاقتصادي (الملكية الخاصة… إلخ)؟ وهل لا ينطبق الأمر نفسه حتى على ما يسمى “تجاوزات” الصواب السياسي؟ ألا يخفون أيضًا إحجامًا عن تعطيل الأسباب الفعلية (الاقتصادية وما إلى ذلك) للعنصرية والتمييز على أساس الجنس؟ ربما، بالتالي يكون الوقت قد حان لتقديم إشكالية الاستعارات القياسية، التي يتقاسمها عمليًا جميع يساريّي “ما بعد الحداثة”، والتي بموجبها تنتج “الشمولية” السياسية بطريقةٍ ما، عن هيمنة الإنتاج المادي والتكنولوجيا على التواصل بين الذات و/ أو الممارسات الرمزية، كما لو أن أصل الإرهاب السياسي يكمن في حقيقة أن “مبدأ” العقل الذرائعي، والاستغلال التكنولوجي للطبيعة، يمتد أيضًا إلى المجتمع، بحيث يتم التعامل مع الناس على أنهم مواد خام يُراد تحويلها إلى إنسانٍ جديدٍ. ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟ ماذا لو أشار “الإرهاب” السياسي بدقةٍ إلى أن مجال الإنتاج (المادي) محرومٌ من استقلاليته وخاضعٌ للمنطق السياسي؟ أليس صحيحًا أن كل “الإرهاب” السياسي، من اليعاقبة Jacobins إلى الثورة الثقافية الماوية، يفترض مسبقًا الاستئثار بالإنتاج الملائم، وتحويله إلى ساحة المعركة السياسية؟ وبعبارةٍ أخرى، ما يرقى إليه فعليًا ليس أقل من التخلي عن نظرة ماركس Marx الرئيسة إلى الصراع السياسي بوصفه مشهدًا يجب، حتى يتم فك شفرته، إحالته على مجال الاقتصاد (“إذا كان للماركسية أي قيمةٍ تحليليةٍ للنظرية السياسية، فهي لم تكن في الإصرار على احتواء مشكلة الحرية في العلاقات الاجتماعية المعلنة ضمنيًا على أنها “غير سياسيةٍ” -أي طبيعية- في الخطاب الليبرالي”). بالنظر إلى الجذور الفلسفية لتقييد الإرهاب القائم على المساواة هذا، فإن من السهل نسبيًا تبيّن أسباب الخطأ في إرهاب اليعاقبة بالنسبة إلى روسو Rousseau الذي كان مستعدًا لمتابعة تناقض الإرادة العالمية إلى أقصى حدٍ “ستالينيٍ”:
بصرف النظر عن هذا العقد البدائي، فإن تصويت الأغلبية يرتبط دائمًا بالباقي، وهذا ينجم عن العقد ذاته. لكن يتبادر إلى البال سؤالٌ مفاده كيف يمكن للرجل أن يكون حرًا ومجبرًا في الوقت ذاته، على الانصياع لوصايا لا تخصه. كيف يكون الخصوم أحرارًا، وخاضعين لقوانين لم يوافقوا عليها في آنٍ معًا؟
أجيب أنه قد طُرِحَ السؤال بشكلٍ خاطئٍ. يوافق المواطن على جميع القوانين، بما في ذلك تلك التي أبرمت على الرغم من معارضته، وحتى تلك التي تعاقبه عندما يجرؤ على خرق أيٍ منها. الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة؛ وهم مواطنون وأحرار بموجبها. عندما يُقترح قانونٌ في الجمعية الشعبية، فإن ما يُسأل عنه الناس ليس بالضبط ما إذا كانوا يوافقون أو يرفضون الاقتراح، ولكن ما إذا كان يتوافق مع الإرادة العامة، التي تعتبر إرادتهم. وكل رجلٍ، بإعطائه صوته، يبدي رأيه في هذه النقطة؛ ويتم العثور على الإرادة العامة عبر فرز الأصوات. ومن ثمّ، عندما يسود الرأي المخالف لرأيي، فإن هذا لا يثبت إلا أنني كنتُ مخطئًا، وأنّ ما اعتقدتُ أنه الإرادة العامة لم يكن كذلك. لو انتصر رأيي الخاص، لتوجب عليَّ أن أحقق عكس ما كانت عليه إرادتي؛ والتي هي في هذه الحالة، أنه لم يكن ينبغي لي أن أكون حرًا. (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل 2، “التصويت”).
اللقطة “الشمولية” هنا هي الخلل بين التقريريّ والأدائي: من خلال عدم تفسير عملية التصويت على أنها تشريعٌ أدائيٌّ للقرار، بل تشريعٌ تقريريٌ، كإجراءٍ للتعبير عن الرأي (للتخمين) بشأن ماهيّة الإرادة العامة (التي هي بالنتيجة تتجسد في شيءٍ كان موجودًا قبل التصويت)، إنه يتجنب المعضلة المتمثلة بحقوق أولئك الذين يبقون في فئة الأقلية (عليهم الامتثال لقرار الأغلبية، لأنهم يكتشفون في نتيجة التصويت، ما تعنيه الإرادة العامة حقًا). بعبارةٍ أخرى، أولئك الذين ظلوا مع فئة الأقلية ليسوا مجرد أقليةٍ: لا يعرفون أنهم مجرد أقليةٍ، من خلال معرفة نتيجة التصويت (الذي يتعارض مع تصويتهم الفردي)، ما يعرفونه حقًا هو أنهم كانوا مخطئين بشأن ماهية الإرادة العامة.
إن التوازي بين جوهر الإرادة العامة والمفهوم الديني عن القدر المحتوم (القضاء والقدر) لا يمكن إلا أن يلفت النظر: في حالة القدر المحتوم، يتجسد القدر أيضًا في قرارٍ يسبق العملية، بحيث لا تكون مصلحة نشاط الأفراد في تشكيل مصيرهم بشكلٍ أدائيٍ، بل في اكتشاف (أو تخمين) مصير المرء الموجود مسبقًا. ما يتم التعتيم عليه في كلتا الحالتين هو التغير الجدليّ للاحتمال ليصبح اضطرارًا، أي أن الطريقة التي تنتج منها العملية المحتملة، هي ظهور الضرورة: الأشياء ذات الأثر الرجعي “ستكون ضروريةً”. هذا الانعكاس وصفه جان بيير دوبوي Jean-Pierre Dupuy:
من المؤكد أنه سيدوَّن الحدث الكارثي في المستقبل على أنه المصير، ولكن أيضًا على أنه حادثٌ عرضيٌ: كان من الممكن ألّا يقع، حتى لو سيبدو أنه ضروريٌ في المستقبل […] على سبيل المثال، إذا وقع حدثٌ بارزٌ، أو مصيبةٌ، كان من الممكن ألا يحدث؛ ومع ذلك، بقدر عدم حدوثه، فإنه ليس حتميًا. ومن ثمّ، فإن تحقيق الحدث -حقيقة حدوثه- هو الذي يخلق ضرورته بأثرٍ رجعيٍ.
يقدم دوبوي Dupuy مثالًا عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أيار/ مايو 1995؛ في ما يلي توقعات كانون الثاني/ يناير لمعهد الاقتراع الرئيس: “إذا انتُخِبَت الآنسة بالادور Balladur في الثامن من أيار/ مايو المقبل، فيمكن القول إن الانتخابات الرئاسية حُسمت حتى قبل إجرائها”. إذا وقع حدثٌ -مصادفةً- فإنه يخلق السلسلة السابقة التي تجعله يبدو حتميًا: هذا ما ورد في جدلية هيغل the Hegelian dialectics عن الاحتمالية والضرورة، وليس ما هو شائعٌ حول كيفية تعبير الضرورة الأساسية عن نفسها، في ومن خلال اللعب العرضي للمظاهر. الأمر نفسه ينطبق على ثورة تشرين الأول/ أكتوبر (بمجرد فوز البلاشفة وتوليهم السلطة، ظهر انتصارهم كنتيجةٍ وتعبيرٍ عن ضرورةٍ تاريخيةٍ أعمق)، وحتى فوز بوش Bush الرئاسي الأول المتنازع عليه بشدةٍ (بعد الأغلبية المتنازع عليها في فلوريدا، يبدو بأثرٍ رجعيٍ أن فوزه كان تعبيرًا عن اتجاهٍ سياسيٍ أميركيٍ أعمق). بهذا المعنى على الرغم من أن القدر يحدد مصائرنا، إلا أننا مع ذلك أحرار في اختيار مصيرنا. وهذا وفقًا لـ دوبوي Dupuy، يعني أيضًا الطريقة التي ينبغي لنا أن نتعامل بها مع الأزمة البيئية: ليس تخمين احتمالات الكارثة “بشكلٍ واقعيٍ”، ولكن قبولها على أنها مصيرٌ بالمعنى الهيغلي الدقيق: يشبه انتخاب بالادور Balladur، “إذا كانت الكارثة ستحدث، يمكن القول إن حدوثها قد تقرر حتى قبل حدوثها”. ومن ثمّ، فإن المصير والعمل الحر (لمنع “إذا”) يسيران جنبًا إلى جنبٍ: الحرية في أقصى درجاتها هي حرية تغيير المصير. يعيدنا هذا إلى سؤالنا الرئيس: كيف ستبدو سياسة اليعاقبة التي يمكن أن تأخذ في الحسبان هذا الارتفاع العرضي ذا الأثر الرجعي للعالمية؟ كيف يمكن لنا أن نعيد اختراع إرهاب اليعاقبة؟
يمكننا أن نرى الآن لماذا يقودنا شعار لاكان Lacan “لا يوجد شيءٌ آخر كبير” il n’y a pas de grand Autre إلى جوهر الإشكالية الأخلاقية: ما تستبعده هو تحديدًا “منظور يوم الحساب”، فكرة أنه في مكانٍ ما -وإن بدا كنقطةٍ مرجعيةٍ افتراضيةٍ تمامًا، حتى لو سلمنا بأنه لا يمكننا شغل مكانه وإصدار الحكم الفعلي- يجب أن يكون هناك معيارٌ يسمح لنا باتخاذ إجراءاتٍ لأفعالنا وإعلان “صحة معناها”، “وضعهم الأخلاقي الحقيقي. حتى مفهوم جاك دريدا Jacques Derrida عن “التفكيكية كعدالةٍ” يبدو أنه يعتمد على أملٍ طوباويٍ يحافظ على شبح “العدالة المطلقة”، المؤجلة إلى الأبد، الآتية دائمًا، ولكنها مع ذلك هنا كأفق نهائي لأعمالنا. حدّد لاكان Lacan طريق الخروج من هذا المأزق بالإشارة إلى فلسفة كانط Kant بوصفها السابقة الحاسمة لأخلاقيات التحليل النفسي. على هذا النحو، فإن الأخلاق الكانطية Kantian تنطوي فعليًا على إمكاناتٍ “إرهابيةٍ” -وهي سمةٌ تشير في هذا الاتجاه إلى أن أطروحة كانط Kant المعروفة بأن العقل فارغٌ من دون الحدس، بينما الحدس من دون سببٍ أعمى: ليست مقولة نظيره السياسي روبسبير التي تفيد بأن الفضيلة عاجزةٌ من دون الإرهاب، بينما الإرهاب من دون فضيلةٍ قاتلٌ، ويضرب بشكلٍ عشوائيٍ.
وفقًا للنقد القياسي، فإن تقييد الأخلاق الكونية الكانطية لـ “الحتمية القاطعة” (الإلزام غير المشروط للقيام بواجبنا) يكمن في عدم تحديدها رسميًا: لا يملي عليّ القانون الأخلاقي واجبي، إنه يخبرني بكل بساطةٍ أنه ينبغي لي إنجاز واجبي، ومن ثمّ يترك المجال مفتوحًا للطوعية (الإرادية) الخاوية (كل ما أقرر أنه واجبي فهو واجبي). ومع ذلك، بعيدًا عن كونها تقييدًا، فإن هذه الميزة بالذات تقودنا إلى جوهر الاستقلالية الأخلاقية الكانطية: ليس من الممكن اشتقاق المعايير الملموسة التي يجب عليّ اتباعها في موقفي الخاص، من القانون الأخلاقي نفسه، ما يعني أن على الشخص بحد ذاته تحمل مسؤولية ترجمة التعليمات المجردة للقانون الأخلاقي إلى سلسلةٍ من الالتزامات الملموسة. إن القبول الكامل لهذه المفارقة يجبرنا على رفض أي إشارةٍ إلى الواجب على أنه عذرٌ: “أعلم أن هذا مجهدٌ ويمكن أن يكون مؤلمًا، لكن ما الذي يمكنني فعله، هذا هو واجبي”، غالبًا ما تؤخذ أخلاقيات كانط Kant للواجب غير المشروط كتبريرٍ لمثل هذا الموقف، فلا عجب أن أشار أدولف أيخمان Adolf Eichmann إلى الأخلاق الكانطية عندما حاول تبرير دوره في التخطيط للمحرقة وتنفيذها: لقد كان يقوم بواجبه فقط ويطيع أوامر هتلر. ومع ذلك، فإن الهدف من تأكيد كانط Kant على استقلالية الشخص والمسؤولية الأخلاقية الكاملة، هو منع أي مناورةٍ من هذا القبيل لإلقاء اللوم على بعض أشكال التغيير الجذري.
إن الشعار المعياري للصرامة الأخلاقية هو: “لا عذر لعدم أداء المرء واجبه!” على الرغم من أن حكمة كانط Kant الشهيرة Du kannst ,denn du sollst (“يمكنك، لأنه يجب عليك!”) تبدو أنها تقدم نسخةً جديدةً من هذا الشعار، إلا أنها تكمله ضمنيًا بانعكاسٍ أكثر غرابةً: “لا عذر في أداء المرء واجبه!” يجب رفض الإشارة إلى الواجب كذريعةٍ للقيام بواجبي بوصفها نفاقًا. لنتذكر المثل الذي يتحدث عن معلمٍ ساديٍ شديدٍ يُخضع تلاميذه للتأديب والتعذيب بلا رحمةٍ؛ عذره الذي يتذرع به لنفسه (وللآخرين) هو: “أنا نفسي أجد صعوبةً في ممارسة مثل هذا الضغط على الأطفال المساكين، ولكن ما الذي يمكنني فعله، إنه واجبي!” هذا ما تحظره أخلاقيات التحليل النفسي تمامًا: أنا مسؤولٌ تمامًا ليس فقط عن القيام بواجبي، وإنما عن تحديد واجبي أيضًا.
على المنوال نفسه، في كتاباته عام 1917، يدّخر لينين Lenin غاية تهكمه اللاذع لأولئك الذين ينخرطون في البحث اللامتناهي عن نوعٍ من “الضمان” للثورة؛ يفترض هذا الضمان شكلين رئيسَين: إما المفهوم المجرد للضرورة الاجتماعية (لا ينبغي للمرء أن يخاطر بالثورة باكرًا؛ على المرء أن ينتظر اللحظة الملائمة، عندما يكون الوضع “مدروسًا” في ما يتعلق بقوانين التطور التاريخي: “من السابق لأوانه قيام الثورة الاشتراكية، الطبقة العاملة لم تنمُ بعد”) أو الشرعية المعيارية (“الديمقراطية”) (“غالبية الشعب ليسوا في صفنا، لذا لن تكون الثورة ديمقراطية حقًا”): كما يقول لينين مرارًا وتكرارًا، كما لو أن التوكيل الثوري، قبل أن يخاطر بالاستيلاء على سلطة الدولة، يجب أن يحصل على إذنٍ من إحدى صور التغيير الجذري (تنظيم استفتاءٍ شعبيٍ للتأكد من أن الأغلبية تدعم الثورة). بالنسبة إلى لينين، كما الحال مع لاكان Lacan، في الثورةne s’autorise que d’elle-même: ينبغي للمرء أن يأخذ على عاتقه العمل الثوري الذي لا يشمل التغيير الجذري، الخوف من الاستيلاء على السلطة “قبل الأوان”، والبحث عن الضمان، هو الخوف من الوقوع في هاوية العمل.
إن مثل هذا الموقف الراديكالي فقط هو الذي يسمح لنا بالانفصال عن النمط السائد في السياسة اليوم، الاحتكارات الحيوية ما بعد السياسية، وهي سياسة الخوف، المصاغة كدفاعٍ ضد الظلم أو المضايقة المحتملة. هنا يكمن الخط الحقيقي الفاصل بين السياسة التحررية الراديكالية وسياسة الوضع الراهن السائدة: إنه ليس التباين بين رؤيتين إيجابيتين مختلفتين، ومجموعةٍ من الحقائق، بل هو الاختلاف بين السياسة القائمة على مجموعةٍ من الحقائق العالمية، والسياسة التي تتخلى عن البعد التأسيسي للسياسة، لأنها تلجأ إلى الخوف كمبدئها الأمثل للتعبئة: الخوف من المهاجرين، والخوف من الجريمة، والخوف من الانحراف الجنسي الشنيع، والخوف من الدولة التي تفرط في الإنفاق (مع فرض ضرائب باهظة)، والخوف من الكوارث البيئية، مثل هذه السياسة (اللاحقة) تعادل دائمًا حشدًا مخيفًا من الرجال الخائفين. لهذا السبب كان الحدث الكبير، ليس فقط في أوروبا في أوائل عام 2006، أن السياسات المناهضة للهجرة “أصبحت سائدةً”: لقد قطعوا أخيرًا الحبل السري الذي يربطهم بالأحزاب اليمينية المتطرفة. من فرنسا إلى ألمانيا، ومن النمسا إلى هولندا، بالروح الجديدة الفخورة بالهوية الثقافية والتاريخية للفرد، تجد الأحزاب الرئيسة الآن أنه من المقبول التأكيد أن المهاجرين ضيوفٌ يتعين عليهم التكيف مع القيم الثقافية التي تحدد المجتمع المضيف، إنها “بلدنا، أحبها أو اتركها”.
كيف لنا أن نهرب من سياسة الخوف (اللاحقة) هذه؟ الإدارة السياسية الحيوية للحياة هي المحتوى الحقيقي للديمقراطية الليبرالية العالمية، وهذا يقود إلى التوتر بين الشكل الديمقراطي والمحتوى التنظيمي الإداري. أيهما إذًا سيكون عكس السياسة الحيوية؟ ماذا لو جازفنا بإنعاش “دكتاتورية البروليتاريا” القديمة الطيبة بوصفها السبيل الوحيد لكسر السياسة الحيوية؟ لا يمكن إلا أن يبدو هذا سخيفًا اليوم، لا يمكن إلا أن يتّضح أن هذين المصطلحين غير متوافقين في مجالاتٍ مختلفةٍ، من دون مساحة مشتركةٍ: تحليل القوة السياسية الأخير مقابل الأساطير الشيوعية القديمة التي فقدت مصداقيتها ومع ذلك: هذا هو الخيار الحقيقي الوحيد اليوم. لا يزال مصطلح “دكتاتورية البروليتاريا” يشير إلى المشكلة الرئيسة.
ينشأ هنا عتابٌ منطقيٌ: لماذا الدكتاتورية؟ لماذا لا تكون ديمقراطيةً حقيقيةً أو مجرد سلطة البروليتاريا؟ “الدكتاتورية” لا تعني عكس الديمقراطية، بل هو أسلوب عمل الديمقراطية الأساس، منذ البداية، تضمنت أطروحة “دكتاتورية البروليتاريا” الافتراض المسبق بأنها عكس شكل (أشكال) الدكتاتورية الأخرى، لأن مجال سلطة الدولة بأكمله هو مجال الدكتاتورية. عندما حدد لينين الديمقراطية الليبرالية على أنها شكلٌ من أشكال الدكتاتورية البرجوازية، لم يشر ضمنًا إلى فكرةٍ بسيطةٍ حول كيفية التلاعب بالديمقراطية حقًا، مجرد فكرةٍ، عن كيفية وجود زمرةٍ سريةٍ في السلطة بالفعل وتحكمها في الأشياء، وإذا هُدِّدت بفقدان السلطة في انتخاباتٍ ديمقراطية، سوف يظهرون وجههم الحقيقي ويتولون السلطة المباشرة. ما قصده هو أن شكل الدولة البرجوازية الديمقراطية، وسيادة سلطتها في افتراضاتها الأيديولوجية السياسية المسبقة، يجسد منطقًا “برجوازيًا”.
لذلك ينبغي للمرء أن يستخدم مصطلح “دكتاتورية” بالمعنى الدقيق الذي تكون فيه الديمقراطية أيضًا شكلًا من أشكال الديكتاتورية، أي كتحديدٍ رسميٍ بحتٍ. يحب على المرء أن يشير إلى أن استجواب الذات مكونٌ للديمقراطية، وأن الديمقراطية تسمح لنا دائمًا، بل وتحثنا، على التشكيك بميزاتها الخاصة. ومع ذلك، يجب أن تتوقف هذه المرجعية الذاتية عند نقطةٍ ما: حتى أكثر الانتخابات “حريةً” لا يمكنها أن تشكك في الإجراءات القانونية التي تضفي الشرعية عليها وتنظمها، وأجهزة الدولة التي تضمن (بالقوة، إذا لزم الأمر) العملية الانتخابية… إلخ. إن الدولة في جانبها المؤسسي وجودٌ هائل لا يمكن تفسيره من حيث تمثيل المصالح، والوهم الديمقراطي هو أنها تستطيع ذلك. تصور باديو Badiou هذا التجاوز على أنه تجاوزٌ لتمثيل الدولة إزاء ما تعبر عنه؛ يمكن للمرء أيضًا أن يصيغها بمصطلحات بنجامين Benjamin: في حين أنه يمكن أن تقضي الديمقراطية إلى حدٍ ما على العنف المنشأ، فلا يزال يتعين عليها الاعتماد باستمرارٍ على العنف التأسيسي.
تذكر درس “العالمية الملموسة” الهيغلية، تخيل نقاشًا فلسفيًا بين فيلسوفٍ تأويليٍ، وتفكيكيٍ، وآخر تحليلي. ما اكتشفوه عاجلًا أو آجلًا هو أنهم لا يشغلون ببساطةٍ مناصب داخل مساحةٍ مشتركةٍ عامةٍ تسمى “الفلسفة”: ما يميزهم هو مفهوم الفلسفة بحد ذاتها، أي أن الفيلسوف التحليلي يدرك مجال الفلسفة العالمي والاختلافات الخاصة بين المشاركين بشكلٍ مختلفٍ عن الفيلسوف الذي ينتمي إلى المذهب التأويلي: الاختلاف بينهم هو الفوارق نفسها، وهو ما يجعل اختلافاتهم الحقيقية في النهج الأول غير مرئيةٍ، ينهار منطق التصنيف التدريجي “هذا ما نشاركه، وهنا تبدأ اختلافاتنا”. بالنسبة إلى الفيلسوف التحليلي المعرفي اليوم، مع التحول المعرفي، وصلت الفلسفة أخيرًا إلى إدراك التفكير الجاد، تاركةً وراءها التخمينات الميتافيزيقية. بالنسبة إلى الفيلسوف التأويلي، فإن الفلسفة التحليلية هي، على العكس من ذلك، نهاية الفلسفة، الخسارة النهائية للموقف الفلسفي الحقيقي، تحول الفلسفة إلى علمٍ إيجابيٍ آخر. لذلك عندما يصطدم المشاركون في النقاش بهذه الفجوة الأساسية التي تفصل بينهم، فإن لحظة “الدكتاتورية” تستوقفهم. وبطريقةٍ متماثلةٍ، ينطبق الشيء نفسه على الديمقراطية السياسية: يصبح بعدها الدكتاتوري واضحًا عندما يتحول النضال إلى صراعٍ حول ميدان النضال نفسه.
ماذا إذًا عن البروليتاريا؟ بقدر ما يكون جانبٌ من جوانب البروليتاريا “غير منسجمٍ”، داخل صرحٍ اجتماعيٍ، فإن العنصر الذي لن يكون له مكانٌ محددٌ بداخله، على الرغم من كونه جزءًا رسميًا من هذا الصرح، هو “الجزء من لاجزءٍ” الذي يرمز للعالمية، إن “دكتاتورية البروليتاريا” تعني: التمكين المباشر للعالمية، بحيث يقرر أولئك الذين هم “جزءٌ من لاجزءٍ” الأسلوب. إنهم يمثلون المساواة العالمية لأسبابٍ شكليةٍ بحت: فهم يفتقرون، كجزءٍ من اللاجزء، إلى السمات الخاصة التي من شأنها جعل مكانهم شرعيًا داخل الجسم الاجتماعي، فهم ينتمون إلى مجموعة المجتمع دون الانتماء إلى أيٍ من مجموعاته الفرعية؛ على هذا النحو، فإن انتماءهم عالميٌ بشكلٍ مباشرٍ. وهنا يصل منطق تمثيل المصالح الخاصة المتعددة ووساطتها من خلال الحلول الوسط إلى حده الأقصى؛ تتعارض كل دكتاتورية مع منطق التمثيل هذا (وهذا هو السبب في أن التعريف المبسط للفاشية على أنها دكتاتورية الأصول المالية خاطئٌ: لقد كان ماركس يعلم بالفعل أن نابليون الثالث Napoleon III هذا الفاشستي الأصلي، خالف منطق التمثيل). ومن ثمّ، ينبغي للمرء إيضاح حقيقة فزّاعة “ديكتاتورية البروليتاريا”: لأنها في أبسط أشكالها، تمثل اللحظة المضطربة عندما يتم تعطيل شبكة التمثيلات المعقدة بسبب تدخل العالمية المباشر في المجال السياسي. في ما يتعلق بالثورة الفرنسية، وبشكلٍ ملحوظٍ، كان دانتون وليس روبسبير هو الذي قدم الصيغة الأكثر إيجازًا للتحول التدريجي الضئيل من “دكتاتورية البروليتاريا” إلى عنف الدولة، أو، وفقًا لمصطلحات بنجامين Benjamin، من العنف الإلهي إلى العنف الأسطوري: “دعونا نكون مروعين حتى لا يكون الناس مضطرين إلى أن يكونوا كذلك”. بالنسبة إلى دانتون، كان إرهاب الدولة اليعاقبي الثوري نوعًا من العمل الوقائي، هدفه الحقيقي ليس الثأر من الأعداء ولكن منع العنف “الإلهي” المباشر من جهة “اللامتسرولين” sans-culottes (حركة الكادحين الفقراء التمردية في الثورة) ومن الناس أنفسهم. بعبارةٍ أخرى، لنفعل ما يطلبه الناس حتى لا يفعلوا ذلك بأنفسهم.
نستمد من اليونان القديمة اسمًا لهذا التدخل: الديمقراطية. وهذا يدفعنا للتساؤل عن ماهية الديمقراطية في أبسط حالاتها، إنها ظاهرة بزغت أول مرةٍ في اليونان القديمة عندما لم يطالب أعضاء الديمو (عامة الشعب) (أولئك الذين ليس لديهم مكانٌ محددٌ في الصرح الاجتماعي الهرمي) بأن يُسمع صوتهم فحسب ضد من يتولون السلطة، ولم يحتجوا على الفساد الذي عانوا منه فحسب، بل أرادوا أن يتم الاعتراف بأصواتهم وإدراجها في المجال العام، على قدم المساواة مع الأوليغارشية الحاكمة (حكم الأقلية) والأرستقراطية؛ والأكثر من ذلك، فإن المستبعدين، أولئك الذين ليس لديهم مكانٌ ثابتٌ داخل الصرح الاجتماعي، قدموا أنفسهم على أنهم تجسيدٌ للمجتمع بأسره، للعالمية الحقيقية: “نحن الناس على الرغم من أننا نُعَدّ “اللاشيء”، غير المشمولين في النظام. نحن جميعًا ضد الآخرين الذين يمثلون مصالحهم المميزة فقط”. يحدد الصراع السياسي الحقيقي، التوتر بين الهيئة الاجتماعية المنظمة حيث لدى كل جزءٍ مكانه، و “الجزء من لاجزءٍ” الذي يقلق هذا النظام على حساب مبدأ العالمية الفارغ، الذي أطلق إتيان باليبار Etienne Balibar عليه اسم égaliberté “المساواة”، المساواة المبدئية بين جميع الناس كمخلوقات ناطقة، وصولًا إلى الـ liumang، “الأشرار” في الصين اليوم، أولئك الذين هُجِّروا وتعويمهم بحريةٍ، ويفتقرون إلى عملهم ومنازلهم، ويفتقرون أيضًا إلى تسجيل هويتهم الثقافية أو الجنسية.
هذا التطابق لجزءٍ من المجتمع من دون مكانٍ محددٍ بكل دقيقٍ بداخله (أو مقاومة المكان التابع المخصص بداخله) مع الكل، هو إشارةٌ أوليةٌ لعملية التسييس، يمكن تمييزها في جميع الأحداث الديمقراطية العظيمة من الثورة الفرنسية (حيث أعلنت السلطة الثالثة le troisième état نفسها متطابقةً مع الأمة على هذا النحو، ضد الأرستقراطية ورجال الدين) إلى نهاية اشتراكية أوروبا الشرقية (حيث أعلنت “المنتديات” المنشقة نفسها ممثلةً عن المجتمع بأسره ضد حزب nomenklatura). بهذا المعنى الدقيق، فإن السياسة والديمقراطية مترادفتان: عدم التسييس هو الهدف الأساس للسياسات المعادية للديمقراطية دائمًا وبحكم تعريفها، أي المطالبة بـ “عودة الأمور إلى طبيعتها”، مع تمسك كل فردٍ بعمله الخاص. وهذا يقودنا إلى النتيجة المتناقضة الحتمية: “دكتاتورية البروليتاريا” الاسم الآخر لعنف الانفجار الديموقراطي بحد ذاته. ومن ثمّ، فإن “ديكتاتورية البروليتاريا” هي المستوى الصفري الذي يتم عنده تعليق الفرق بين سلطة الدولة الشرعية وغير الشرعية، أي حيث تكون سلطة الدولة على هذا النحو غير شرعيةٍ. قال سانت جاست Saint-Just في تشرين الثاني/ نوفمبر 1792: “كل ملكٍ متمردٌ ومغتصبٌ للسلطة”. هذه العبارة هي الركن الأساس في السياسة التحررية: لا يوجد ملكٌ “شرعيٌ” ليس مغتصبًا للسلطة، لأن كونك ملكًا في حد ذاته اغتصابٌ للسلطة، بنفس المعنى بالنسبة إلى برودون Proudhon الذي اعتبر أن المَلكية بحد ذاتها سرقةٌ. ما لدينا هنا هو “نفي النفي” الهيغلي، الانتقال من النفي المباشر البسيط (“هذا الملك ليس ملكًا شرعيًا، إنه مغتصبٌ”) إلى نفي الذات المتأصل (“الملك الحقيقي” هو تناقضٌ لغويٌ، كونه ملك هو اغتصاب للسلطة). لهذا السبب، بالنسبة إلى روبسبير، فإن محاكمة الملك ليست محاكمةً على الإطلاق:
لا توجد محاكمةٌ تُعقد هنا، لويس Louis ليس مدعىً عليه، أنتم لستم قضاة، لستم كذلك، لا يمكنكم أن تكونوا سوى رجال دولةٍ وممثلين للأمة. ليس لديك حكمٌ تعلنه لصالح الرجل أو ضده، ولكن لديك مقياس خلاصٍ (إنقاذ) عام تنفذه، عملٌ من أعمال العناية الوطنية لتؤديه. […] كان لويس ملكًا، وتأسست الجمهورية: السؤال الشهير الذي تفكر فيه سُوِّيَ بهذه الكلمات وحدها. خُلِعَ لويس عن العرش بسبب جرائمه؛ ندد لويس بالشعب الفرنسي بوصفه متمردًا؛ ولمعاقبته طالب بالاستعانة برفاقه الطغاة؛ تحقق النصر وقرر الشعب أنه هو المتمرد: لذلك لا يمكن الحكم على لويس؛ إما أنه مدانٌ بالفعل أو أن الجمهورية لم تبرء ساحته. إن اقتراح محاكمة لويس Louis، بأي طريقة أمكن القيام بها، كانت في منزلة تراجعٍ نحو الاستبداد الملكي والدستوري؛ إنها فكرةٌ مناهضةٌ للثورة، لأنها تعني وضع الثورة نفسها في موضع نزاعٍ. في الواقع، إذا كان لا يزال من الممكن محاكمة لويس، فيمكن تبرئته؛ قد يكون بريئًا. ماذا أقول! يفترض أن يكون كذلك حتى تتم محاكمته. لكن إذا تمت تبرئته، وإذا كان من الممكن افتراض أنه بريءٌ، ماذا يحدث للثورة؟
يرتكز هذا الاقتران الغريب بين الديمقراطية والدكتاتورية على التوتر الذي يتعلق بفكرة الديمقراطية ذاتها. وهو ما أسمته شانتال موف Chantal Mouffe بـ “المفارقة الديمقراطية” التي تقلب بانتظامٍ تقريبًا التناقض الأساس للفاشية السلطوية: إذا كان رهان الديمقراطية (المؤسسية) هو دمج النضال المعادي نفسه في المجال المؤسسي/ التفاضلي، وتحويله إلى تفاعلٍ منظمٍ، فإن الفاشية تمضي في الاتجاه المعاكس. بينما الفاشية، في نمط نشاطها، تقود المنطق المعادي إلى أقصى حدوده (نتحدث عن “الصراع حتى الموت” بينها وبين أعدائها، والحفاظ دائمًا على -إن لم يكن تحقيق- حدٍ أدنى من التهديد غير المؤسسي بالعنف، ناجمٍ عن “ضغطٍ مباشرٍ من الشعب” يتجاوز القنوات القانونية والمؤسسية المعقدة)، يفترض كهدفٍ سياسيٍ له على وجه التحديد عكس ذلك، أي هيئةٍ اجتماعيةٍ هرميةٍ منظمةٍ جدًا (لا عجب أن الفاشية دائمة الاعتماد على الاستعارات العضوية- النقابية). يمكن تقديم هذا التناقض بشكلٍ جيدٍ وفقًا لشروط التعارض اللاكاني Lacanian بين “موضوع النطق” و”موضوع (المحتوى) المعلن”: بينما تعترف الديمقراطية بالنضال المعادي كهدفٍ لها (في لاكانيس Lacanese: محتواه كما هو معلنٌ) تتسم إجراءاتها بأنها منظمةٌ منهجية؛ بينما الفاشية، على العكس من ذلك، تحاول فرض هدف الانسجام الهرمي من خلال وسائل العداء الجامح.
بطريقةٍ متجانسةٍ، يتجلى تجسيد هذا التناقض بغموض الطبقة الوسطى (التناقض الذي وصفه ماركس بالفعل على لسان برودون Proudhon) بشكلٍ أفضل من خلال الطريقة التي يرتبط بها بالسياسة: من ناحية، الطبقة الوسطى ضد التسييس، يريدون الحفاظ على أسلوب حياتهم، وتركهم للعمل وعيش حياتهم بسلام فحسب (وهذا هو السبب في أنهم يميلون إلى دعم الانقلابات الاستبدادية التي تعد بوضع حدٍ للتعبئة السياسية المجنونة للمجتمع، بحيث يمكن للجميع العودة إلى أعمالهم الملائمة). من ناحيةٍ أخرى، إنهم -تحت ستار الغالبية الأخلاقية الوطنية النشطة- المحرضون الرئيسون على التعبئة الجماهيرية الشعبية (تحت ستار الشعبوية اليمينية يقال، في فرنسا الحالية، إن القوة الوحيدة التي تسبب الإزعاج للإدارة الإنسانية التكنوقراطية ما بعد السياسية، هي جبهة لوبان le Pen الوطنية.
هناك جانبان أساسيان للديمقراطية ولا يمكن اختزالهما: الفرض العنيف للمساواة على أولئك “الزائدين عن الحاجة”، “جزءٌ من لاجزءٍ”، أولئك الذين على الرغم من أنهم مدرجون رسميًا في الصرح الاجتماعي، إلا أنه ليس لديهم مكانٌ محددٌ بداخله؛ والإجراء الشامل المنظم (إلى حدٍ ما) المتمثل في اختيار من سيمارس السلطة. كيف ترتبط هذه الأطراف ببعضها البعض؟ ماذا لو كانت الديمقراطية بالمعنى الثاني (الإجراء المنظم لتسجيل “صوت الشعب”) هي في نهاية المطاف دفاعٌ ضد نفسها، ضد الديمقراطية بمعنى التدخل العنيف لمنطق المساواة الذي يزعج الأداء الهرمي للصرح الاجتماعي، محاولة إعادة تفعيل هذا الفائض، لجعله جزءًا من الإدارة الطبيعية للصرح الاجتماعي؟
ومن ثمّ، فإن المشكلة هي: كيفية تنظيم/ إضفاء الطابع المؤسسي على الدافع الديمقراطي القائم على المساواة العنيفة جدًا، وكيفية الحيلولة دون إغراقه في الديمقراطية بالمعنى الثاني للمصطلح (إجراءٌ منظمٌ)؟ إذا لم تكن هناك طريقةٌ للقيام بذلك، فإن الديمقراطية “الأصيلة” تظل لحظة فورةٍ طوباويةٍ يجب تطبيعها، في صباح اليوم التالي الذي يضرب به المثل.
وهكذا فإن اقتراح أورويل Orwell أن “الديمقراطية هي الإرهاب” هو بالتالي “حكمٌ لا نهائيٌ” للديمقراطية، وهو الهوية التأملية الأعلى. يضيع هذا البعد في مفهوم كلود ليفورت Claude Lefort للديمقراطية على أنها تنطوي على مكانٍ فارغٍ للسلطة، والفجوة التأسيسية بين مكان السلطة والوكلاء المحتملين الذين، لفترةٍ محدودةٍ، يمكن أن يشغلوا ذلك المكان. ومن المفارقات، أن الفرضية الأساسية للديمقراطية ليست فقط أنه لا يوجد عاملٌ سياسيٌ له حقٌ “طبيعيٌ” في السلطة، ولكن بشكلٍ أكثر راديكالية، أن “الناس” أنفسهم، المصدر النهائي للسلطة السيادية في الديمقراطية، لا وجود لهم ككيانٍ جوهريٍ. في الطريقة الكانطية Kantian، فإن المفهوم الديمقراطي عن “الشعب” مفهومٌ سلبيٌ، مفهومٌ تنحصر مهمته بمجرد تعيين حدٍ معينٍ: فهو يحظر على أي عنصرٍ فاعلٍ محددٍ أن يحكم بسيادةٍ كاملةٍ. (اللحظة الوحيدة التي يكون فيها “الشعب حيًا” هي عند مشاركتهم في الانتخابات الديمقراطية، وهي بالضبط لحظة تفكك الصرح الاجتماعي بأكمله في الانتخابات، يتم اختزال “الناس” في مجموعةٍ ميكانيكيةٍ من الأفراد) الادعاء أن الناس موجودون بالفعل، هي البديهية الأساسية لـ “الشمولية”، وخطأ “الشمولية” مماثلٌ تمامًا لإساءة استخدام كانط (“مغالطة”) للسبب السياسي: “الشعب موجودٌ” من خلال عنصرٍ فاعلٍ سياسيٍ محددٍ، يتصرف كما لو أنه يجسد بشكلٍ مباشرٍ ( لا يعيد فقط تقديم) الشعب، وإرادته الحقيقية (الحزب الشمولي وقائده)، أي بمصطلحات النقد التجاوزي، كتجسيدٍ ظاهريٍ مباشرٍ للشعب النوميني (الميتافيزيقي). وُضِّحَ الرابط الظاهر بين مفهوم الديمقراطية هذا ومفهوم لاكان Lacan عن تناقض “التغيير الجذري” من جهة جاك آلان ميللر Jacques-Alain Miller، من ضمن آخرين:
هل “الديمقراطية” دلالةٌ رئيسةٌ؟ من دون أي شكٍ. إنها الدلالة الرئيسية التي تقول إنه لا توجد دلالةٌ رئيسةٌ، على الأقل ليست دالًا رئيسًا يمكن أن يصمد بمفرده، إن كل دالٍ رئيسٍ يجب أن يدرج نفسه بحكمةٍ بين الآخرين. الديمقراطية بالنسبة إلى لاكان هي S الذات المتعالية من A الذات المحظورة، التي تقول: أنا الدال على حقيقة أن الآخر لديه فجوةٌ، أو أنه غير موجودٍ.
بالطبع، يدرك ميلر أن كل دلالةٍ رئيسةٍ تشهد على حقيقة أنه لا يوجد دالٌ رئيسٌ، ولا آخر من الآخر، وأن هناك نقصٌ في الآخر، وما إلى ذلك. تحدث الفجوة ذاتها بين S1 و S2 بسبب هذا النقص (كما الحال مع الله عند سبينوزا Spinoza، الدلالة الرئيسة بالتعريف، تملأ الفراغ في سلسلة الدالات “العادية”). الفرق هو أنه، مع الديمقراطية، يتم إدراج هذا النقص بشكلٍ مباشرٍ في الصرح الاجتماعي، ويتم إضفاء الطابع المؤسسي عليه في مجموعةٍ من الإجراءات والقوانين. فلا عجب أن يقتبس ميللر Miller بموافقة مارسيل غوشيه Marcel Gauchet كيف أن الحقيقة في الديمقراطية لا تقدم سوى نفسها “في الانقسام والتحلل” (ولا يسع المرء إلا أن يلاحظ بسخريةٍ كيف قدم ستالين Stalin وماو Mao الادعاء نفسه، على الرغم من تحولٍ “شموليٍ”: في السياسة، لا تظهر الحقيقة إلا من خلال انقسامات الصراع الطبقي القاسية).
من السهل أن نلاحظ كيف يمكن لجانب الديمقراطية “الإرهابي” من داخل هذا الأفق الكانطي للديمقراطية، أن يفرض المساواة العنيفة لأولئك “الزائدين عن الحاجة”، “جزءٌ من لاجزءٍ”، وأن يظهر فقط على أنه تشويهٌ “شموليٌ”، أي كيف -ضمن هذا الأفق- طُمِسَ الخط الذي يفصل الانفجار الديمقراطي الحقيقي للإرهاب الثوري عن نظام الحزب الواحد “الشمولي” (أو، بمصطلحاتٍ رجعيةٍ، الخط الذي يفصل بين “نظام الرعاع الغوغائي” وقمعه الوحشي للغوغاء). (يمكن للمرء، بالطبع، أن يجادل في أن “حكم الغوغاء” المباشر غير مستقرٍ بطبيعته وتتحول بالضرورة إلى نقيضه، استبداد يمارَس على الأسلوب نفسه؛ ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يغير بأي حالٍ من الأحوال حقيقة أننا، على وجه التحديد، نتعامل مع تحولٍ، ومنعطف تحولٍ) تعامل فوكو Foucault مع هذا التحول في كتاباته عن الثورة الإيرانية، حيث يعارض الواقع التاريخي لعمليةٍ معقدةٍ من التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وما إلى ذلك، إلى حدث الثورة السحري الذي يعلق بطريقةٍ أو بأخرى بيت العنكبوت للسببية التاريخية. إنه غير قابل للاختزال بالنسبة إليها:
الإنسان المتمرد عصيٌ على التفسير في النهاية. يجب أن يكون هناك اجتثاثٌ يعيق مجريات التاريخ، وسلسلة أسبابه الطويلة التي تجعل الإنسان يفضل “حقًا” خطر الموت على حقيقة الاضطرار إلى الانصياع.
يجب أن يكون المرء مدركًا للدلالة الكانطية لهذه الافتراضات: فالثورة هي فعل حريةٍ يعلق موقتًا وشائج السببية التاريخية، أي في الثورة، يتضح البعد النوميني. المفارقة، بالطبع، هي أن هذا البعد النومنالي يتطابق مع نقيضه، مع السطح النقي لظاهرةٍ ما: لا يظهر النومينون فقط، فالنومينال، في ظاهرةٍ ما، غير قابلٍ للاختزال في الشبكة السببية للواقع الذي ولّد هذه الظاهرة باختصارٍ، النومينون ظاهرةٌ قائمةٌ. هناك ارتباطٌ واضحٌ بين خاصية هذه الظاهرة غير القابلة للاختزال، وبين مفهوم دولوز Deleuze للحدث بوصفه تدفقًا للصيرورة، وبوصفه ظهورًا سطحيًا لا يمكن اختزاله في أسبابه “المادية”. كان رده على النقاد المحافظين الذين استنكروا نتائج الاضطراب الثوري الفعلية البائسة وحتى الراعبةة، أنهم محجوبين عن بُعد الصيرورة:
من المألوف هذه الأيام إدانة أهوال الثورة. لا شيء جديد، تتخلل الرومانسية الإنكليزية تأملاتٍ في كرومويل Cromwell تشبه إلى حدٍ بعيدٍ تأملات ستالين الحالية. يقولون إن نتيجة الثورات سيئةٌ. لكنهم يخلطون باستمرارٍ بين شيئين مختلفين، الطريقة التي تتحول بها الثورات تاريخيًا، وصيرورة الشعب الثورية. هذه تتعلق بمجموعتين مختلفتين من الناس، يكمن أمل الناس الوحيد في الصيرورة الثورية: الطريقة الوحيدة للتحرر من خزيهم أو الاستجابة لما لا يطاق.
يشير دولوز Deleuze هنا إلى الانفجارات الثورية بطريقةٍ موازيةٍ تمامًا لانفجارات فوكو Foucault:
لم تشهد الحركة الإيرانية «قانون» الثورات الذي من شأنه، كما يقول البعض، أن يجعل الطغيان الذي يسكنها سرًا بالفعل يعاود الظهور بموجب حماسة الجماهير المتهورة. إن ما شكّل الجزء الأكثر داخليةً والأكثر كثافةً من الانتفاضة لامست، بطريقةٍ غير وسيطةٍ، رقعة شطرنجٍ سياسيةٍ مكتظةٍ بالفعل، لكن هذا الاتصال ليس هويةً. إن روحانية أولئك الذين كانوا في طريقهم إلى حتفهم لا تتشابه على الإطلاق مع رجال الدين الأصوليين المتعطشين للدماء. يريد رجال الدين الإيرانيين إضفاء الشرعية على نظامهم من خلال مغزى الانتفاضة. لا يختلف الأمر في حالة تشويه حقيقة الانتفاضة على أساس وجود حكومة ملالي اليوم. في الحالتين، هناك “خوفٌ”، خوفٌ مما حدث في الخريف الماضي في إيران، وهو شيءٌ لم يشهد العالم مثيلًا له لفترةٍ طويلةٍ.
فوكو هنا عمليًا هو دولوز: ما يهمه ليس الأحداث الإيرانية على مستوى الواقع الاجتماعي الفعلي وتفاعلاته السببية، ولكن السطح الشبيه بالحدث، والافتراضية الخالصة لـ “شرارة الحياة” التي تفسر فقط تفرد الحدث. ما حدث في إيران بين فترتين من الواقع الاجتماعي لم يكن انفجار الشعب ككيانٍ جوهريٍ له مجموعةٌ من الخصائص، ولكن كان التحول إلى بشرٍ. ومن ثمّ، فإن المسألة ليست في تحول علاقات القوة والسيطرة بين الفاعلين الاجتماعيين السياسيين الفعليين، وإعادة توزيع الرقابة الاجتماعية، وما إلى ذلك، بل حقيقة تجاوزٍ -أو بالأحرى إلغاءٌ موقتٌ- هذا المجال بالذات، من ظهور مجالٍ مختلفٍ تمامًا من “الإرادة الجماعية” كحدثٍ حسيٍ خالصٍ يتم فيه طمس جميع الاختلافات، وجعلها غير ذات صلةٍ. مثل هذا الحدث ليس جديدًا فقط في ما يتعلق بما كان يحدث من قبل، إنه جديدٌ “في حد ذاته” ومن ثمّ يبقى جديدًا إلى الأبد.
على هذه الخلفية يمكن للمرء أن يصوغ نقدًا لجماليات السياسة عند جاك رانسيير Jacques Rancière، لفكرته عن البعد الجمالي للفعل السياسي الصحيح: يعيد الانفجار الديمقراطي وضع نظام “ضبط” الفضاء الاجتماعي الهرمي المعمول به، ويقدم مشهدًا لنظامٍ مختلفٍ، لجزءٍ مختلفٍ من الفضاء العام. في “مجتمع مشهد” اليوم، فقدت إعادة التشكيل الجمالي هذه بُعدها التخريبي: يمكن بسهولةٍ أن يتم الاستيلاء عليها من خلال النظام القائم. المهمات الحقيقية ليست الانفجارات الديمقراطية اللحظية التي تقوض نظام “تنظيم المجتمع” القائم، وإنما البعد الذي حدده باديو Badiou على أنه بُعد “الإخلاص” للحدث: كيفية ترجمة/ إدراج الانفجار الديمقراطي في النظام “الضبط” الإيجابي، كيف نفرض على الواقع الاجتماعي نظامًا جديدًا دائمًا. هذا تمامًا هو البعد “الإرهابي” لكل انفجارٍ ديمقراطيٍ حقيقيٍ: الفرض الصارم لنظامٍ جديدٍ. وهذا هو السبب في أنه بينما يحب الجميع التمردات الديمقراطية، وإنجازات الإرادة الشعبية المذهلة/ الاحتفالية، ينشأ القلق عندما تريد هذه الإرادة أن تستمر، لإضفاء الطابع المؤسسي على نفسها، وكلما كان التمرد أكثر «أصالةً»، زاد «الإرهاب» في هذه المؤسسات. وعلى هذا المستوى ينبغي للمرء أن يبحث عن اللحظة الحاسمة للعملية الثورية: على سبيل المثال، في حالة ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، لا يتعلق الأمر بالانفجار الذي حدث بين عامي 1917 و1918، ولا حتى بالحرب الأهلية التي تلت ذلك، ولكن بالتجارب المكثفة في أوائل عام 1920، والمحاولات (اليائسة، السخيفة في كثيرٍ من الأحيان) لابتكار طقوسٍ جديدةٍ للحياة اليومية: بماذا نستبدل إجراءات زيجات وجنازات ما قبل الثورة؟ كيف ننظم تفاعلًا أكثر شيوعًا في معملٍ ما، أو في بناءٍ سكنيٍ؟ على هذا المستوى، على عكس “الإرهاب المجرد” للثورة السياسية “الكبرى”، يميل المرء إلى استدعاء “الإرهاب الملموس” المتمثل في فرض نظامٍ جديدٍ على الحياة اليومية، وفشل اليعاقبة، وكل من الثورة السوفياتية والصينية في النهاية، وبالتأكيد ليس بسبب عدم وجود محاولاتٍ في هذا الاتجاه. لم يكن اليعاقبة في أفضل حالاتهم في مسرحيات الإرهاب، ولكنهم كانوا كذلك في انفجارات الخيال السياسي الطوباوية لإعادة تنظيم الحياة اليومية: كل شيءٍ كان هناك، اقتُرِحَ في مسار النشاط المحموم الذي تكثف في غضون عامين، من التنظيم الذاتي للنساء إلى المساكن الجماعية التي سيتمكن فيها المسنون من قضاء سنواتهم الأخيرة في سلامٍ وكرامةٍ. (فماذا عن محاولة روبسبير السخيفة إلى حدٍ ما لفرض دينٍ مدنيٍ جديدٍ يمجّد كائنًا أسمى؟ صاغ روبسبير بحد ذاته بإيجازٍ، السبب الرئيس لمعارضته للإلحاد: “الإلحاد أرستقراطيٌ”. (كان الإلحاد بالنسبة إليه أيديولوجية الأرستقراطيين المتهكمين الذين فقدوا كل إحساسٍ بالمهمة التاريخية).
والنتيجة القاسية التي يجب قبولها هنا هي أن هذا الإفراط في ديمقراطية المساواة على الإجراء الديمقراطي لا يمكن إلا أن “يضفي الطابع المؤسسي” على نفسه تحت ستار نقيضه، كإرهابٍ ديمقراطيٍ ثوريٍ. إذًا، مرةً أخرى، كيف نعيد اختراع رعب الوقت الحالي؟ في كتابه Logiques des mondes منطق العوالم، يشرح ألان باديو الفكرة الأبدية لسياسات العدالة الثورية -مستمدًا العمل من “المشرعين” الصينيين القدامى، ثم من اليعاقبة Jacobins وصولًا إلى لينين وماو- أنها تتكون من أربع مراحل: الطوعية (الاعتقاد أن المرء يستطيع “تحريك الجبال”، ويتجاهل القوانين والعقبات “الموضوعية”)، الإرهاب (إرادةٌ قاسيةٌ لسحق عدو الشعب) وعدالة المساواة (فرضها الوحشي الفوري، مع عدم فهم “الأحوال المعقدة” التي يُزعم أنها تجبرنا على المضي قدمًا تدريجًا) وأخيرًا وليس آخرًا، الثقة في الشعب. يكفي أن نتذكر مثالين هنا، روبسبير نفسه، “حقيقته العظيمة” (“سمة الحكومة الشعبية هي أن تكون واثقةً من الناس، وصارمةً تجاه نفسها”)، ونقد ماو لمشكلات ستالين الاشتراكية الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي USSR، حيث يصف وجهة نظر ستالين أنها “خاطئةٌ تمامًا تقريبًا. والخطأ الأساس هو عدم الثقة بالفلاحين. وهل الطريقة الوحيدة الملائمة لمواجهة خطر الكارثة البيئية التي تلوح في أفقنا، ليست بالضبط مزيجًا هذه المراحل الأربع؟ المطلوب هو:
⦁ عدالة مساواةٍ صارمةٌ (يجب على جميع الأشخاص دفع الثمن نفسه في حالات التنازل النهائية، أي على المرء أن يفرض المعايير العالمية نفسها لاستهلاك الفرد من الطاقة، وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وما إلى ذلك؛ لا يجب السماح للدول المتقدمة بتسميم البيئة بالمعدل الحالي، وإلقاء اللوم على دول العالم الثالث النامية، من البرازيل إلى الصين، لتدمير بيئتنا المشتركة من خلال تنميتها السريعة)؛
⦁ الإرهاب (العقاب القاسي لكل من ينتهك تدابير الحماية المفروضة، بما في ذلك القيود الصارمة المفروضة على “الحريات” الليبرالية، والرقابة التكنولوجية على منتهكي القانون المحتملين)؛
⦁ الطوعية (الطريقة الوحيدة لمواجهة تهديد الكارثة البيئية، من خلال قراراتٍ جماعيةٍ واسعة النطاق ستتعارض مع المنطق الجوهري “التلقائي” للتطور الرأسمالي، إنها ليست مسألة مساعدة النزعة التاريخية أو ضرورة إدراك ذاتها، ولكن من أجل “إيقاف قطار التاريخ” الذي يسير نحو حافة كارثةٍ عالميةٍ.
⦁ وأخيرًا وليس آخرًا، كل هذا بالاقتران مع الثقة بالشعب (الرهان على أن الغالبية العظمى من الشعب يدعمون هذه الإجراءات الصارمة، ويُعدّونها خاصةً بهم، ومستعدين للمشاركة في تطبيقها). لا ينبغي للمرء أن يخاف من التأكيد -كمزيجٍ من الرعب والثقة بالشعب- على إعادة تنشيط إحدى شخصيات الإرهاب الثوري المتكافئ، “المُخبر” الذي يبلّغ عن الجناة للسلطات. (سابقًا، في قضية فضيحة إنرون Enron، كانت مجلة تايم Time محقةً في الاحتفال بالمطلعين الذين أبلغوا السلطات المالية عن معلوماتٍ، كأبطالٍ عامين حقيقيين).
بالعودة إلى أوائل القرن السابع عشر، بعد إنشاء نظام شوغون shogun، اتخذت اليابان قرارًا جماعيًا فريدًا لعزل نفسها عن الثقافة الأجنبية ومتابعة مسارها الخاص لحياةٍ تحتوي على تكاثرٍ متوازنٍ، مع التركيز على الصقل الثقافي، وتجنب التوسع الجامح. هل كانت الفترة التي تلت ذلك واستمرت حتى منتصف القرن التاسع عشر، مجرد حلمٍ انعزاليٍ قام العميد البحري بيري على متن السفينة الحربية الأميركية بإيقاظ اليابان منه بقسوةٍ؟ ماذا لو كان الحلم أنه يمكننا الاستمرار إلى أجلٍ غير مسمىً في مذهبنا التوسعي؟ ماذا لو احتجنا جميعًا إلى تكرار القرار الياباني، مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال، وقررنا بشكلٍ جماعيٍ التدخل في تنميتنا الطبيعية الزائفة، لتغيير اتجاهها؟ تكمن المأساة في أن فكرةً مثل هذا القرار الجماعي قد فقدت مصداقيتها اليوم. ينبغي لنا ألا ننسى تفكك اشتراكية الدولة قبل عقدين من الزمن، وفي الوقت نفسه تقريبًا، تعرضت أيديولوجيا دولة الرفاهية الاجتماعية الديمقراطية الغربية أيضًا لضربةٍ حاسمةٍ، كما أنها توقفت عن العمل كخيالٍ قادرٍ على إثارة أتباع متحمسين جماعيين. الفكرة القائلة إن “زمن دولة الرفاهية قد ولى، هي اليوم حكمةٌ مقبولةٌ عمومًا. ما تشترك فيه هاتان الأيديولوجيتان المهزومتان، هو الفكرة المتمثلة بأن الإنسانية كموضوعٍ جماعيٍ لديها القدرة على الحد بطريقةٍ ما من التنمية الاجتماعية والتاريخية غير الشخصية ومجهولة الهوية، لقيادتها إلى الاتجاه المرغوب.
اليوم، يتم رفض مثل هذه الفكرة بسرعةٍ بوصفها “أيديولوجية” و/ أو “شمولية”: يُنظر مرة أخرى إلى العملية الاجتماعية على أنها خاضعةٌ لسيطرة مصيرٍ مجهولٍ خارج نطاق السيطرة الاجتماعية. يُقدَم نهوض الرأسمالية العالمية لنا على أنه مصيرٌ محتومٌ لا يمكن لأحدٍ أن يناضل ضده، فإما أن يتكيف المرء معه، أو يخرج عن مسار التاريخ، ويتم سحقه. الشيء الوحيد الذي يمكن المرء القيام به هو جعل الرأسمالية العالمية إنسانيةً قدر الإمكان، للنضال من أجل “رأسماليةٍ عالميةٍ ذات وجهٍ إنسانيٍ” (في النهاية، هذا هو الطريق الثالث، -أو بالأحرى، ما كان عليه-). سيتعين كسر حاجز الصوت هنا، وسيتعين المخاطرة من أجل الموافقة على قراراتٍ جماعيةٍ كبيرةٍ مرةً أخرى. ربما يكون هذا هو الإرث الرئيس الذي تركه روبسبير ورفاقه لنا اليوم.
قبل لحظاتٍ من وفاة روبسبير، لاحظ السيّاف أن رأسه لن يتناسب مع المقصلة مع الضمادات المستعملة على جروح فكه، لذلك قام بنزعها بوحشيةٍ؛ من حنجرة روبسبير المتمزقة صدرت صرخةٌ خارقةٌ مروعةٌ، تم إيقافها فقط عندما سقط النصل على رقبته. إن مكانة هذه الصرخة الأخيرة أسطوريةٌ: فقد أدت إلى ظهور مجموعة تفسيراتٍ كاملة، معظمها على غرار الصراخ اللاإنساني الراعب للروح الطفيلية الشريرة التي تشير إلى احتجاجها الواهن عندما تفقد حيازتها لجسمها البشري المضيف؛ كما لو قام روبسبير، في هذه اللحظة الأخيرة، بإضفاء الطابع الإنساني على نفسه، نابذًا شخصية الفضيلة الثورية المجسدة، وظهر كإنسانٍ خائفٍ بائسٍ.
الصورة الشعبية لـ روبسبير صورةٌ مقتبسةٌ عن الرجل الفيل: فبينما كان للأخير جسدٌ مشوهٌ بشكلٍ رهيبٍ إلا أنه يخفي روحًا لطيفةً وذكيةً، كان روبسبير شخصًا لطيفًا ومهذبًا، يخفي عزيمةً قاسيةً جليديةً أشارت إليها عيناه الخضراوان. على هذا النحو، يخدم روبسبير تمامًا الليبراليين المناهضين للاستبداد اليوم، والذين لم يعودوا في حاجةٍ إلى تصويره على أنه وحشٌ قاسٍ بابتسامةٍ شريرةٍ ساخرةٍ، كما كان الحال مع الرجعيين في القرن التاسع عشر: الجميع مستعدٌ للاعتراف بنزاهته الأخلاقية وتفانيه الكامل للقضية الثورية، حيث أن نقاءه هو المشكلة وسبب كل المتاعب، كما يشير عنوانٌ آخر لسيرةٍ ذاتيةٍ عن روبسبير للناقدة والكاتبة البريطانية روث سكور Ruth Scurr “النقاء القاتل”. عناوين بعض مراجعات الكتاب تدل على: “الإرهاب يرتدي معطفًا أخضر بحريًا”، “الإرهابي الصالح”، “جلاد الفضيلة الشيطاني”، ويتفوق عليهم جميعًا غراهام روب Graham Robb “البحر الأخضر، مجنونٌ مثل سمكةٍ” (في صحيفة الديلي تلغراف، 6 أيار/ مايو 2006). وحتى لا تفوت هذه المسألة أحدًا، ترسم أنطونيا فريزر Antonia Fraser في مراجعتها، “درسًا مخيفًا لنا اليوم”: كان روبسبير شخصيًا صادقًا ومخلصًا، ولكن “إراقة الدماء بسبب هذا الرجل الصادق” تحذرنا بالتأكيد من أن الإيمان باستقامتك مع استبعاد كل شيءٍ آخر، يمكن أن يكون خطرًا بقدر دوافع الطاغية المتعمدة الأكثر تشاؤمًا”. كم نحن سعداء!، نحن الذين نعيش في ظل المتلاعبين بسخريةٍ بالرأي العام، وليس في ظل الأصوليين المسلمين المخلصين المستعدين للانخراط الكامل في مشاريعهم، ما أفضل دليلٍ على البؤس الأخلاقي والسياسي لعصرنا الذي يتمثل دافع التعبئة النهائي له في سوء الظن في الفضيلة! ألا يجب أن نؤكد على الإيمان البسيط بفكرة الحرية الأبدية التي تستمر خلال كل الهزائم، ضد هذه الواقعية الانتهازية، والتي من دونها، كما كان واضحًا لـ روبسبير، فإن الثورة “مجرد جريمةٍ صاخبةٍ تدمر جريمةً أخرى”، الإيمان الذي عُبِّرَ عنه بشكلٍ مؤثرٍ في خطاب Robespierre الأخير، في الثامن من الشهر الحادي عشر من التقويم الجمهوري 1994، في اليوم السابق لاعتقاله وإعدامه:
ولكن هناك، ويمكنني أن أؤكد لكم، أرواح طاهرة وتشعر؛ الإيمان موجودٌ، تلك العاطفة الرقيقة، المتعجرفة والتي لا تُقاوم، عذاب وسرور القلوب السمحة؛ ذلك الرعب العميق من الاستبداد، تلك الحمية الرحيمة بالمضطهدين، ذلك الحب المقدس للوطن، ذلك الحب الأكثر رفعةً وقدسيةً للإنسانية، والذي من دونه تصبح الثورة العظيمة مجرد جريمةٍ صاخبةٍ تدمر جريمةً أخرى؛ الإيمان موجودٌ حقًا، ذلك الطموح المعطاء لتأسيس أول جمهوريةٍ في العالم، هنا على الأرض.

قائمة المصادر والمراجع
⦁ Afary, Janet and Kevin B. Anderson, Foucault and the Iranian Revolution (Chicago: The University of Chicago Press 2005).
⦁ Andress, David, The Terror – Little, Brown 2005.
⦁ Badiou, Alain, Logiques des mondes (Paris: Seuil 2006).
⦁ Benjamin, Walter, Critique of Violence (Cambridge (Ma): Harvard University Press 1996).
⦁ Brown, Wendy, States of Injury (Princeton: Princeton University Press 1995).
⦁ Dupuy, Jean-Pierre, Petite métaphysique des tsunami (Paris: Seuil 2005).
⦁ Fraser, Antonia, “Head of the revolution,” The Times, April 22 2006, Books.
⦁ Lacan, Jacques, The Ethics of Psychoanalysis (London: Routledge 1992).
⦁ Lefort, Claude, in Democracy and Political Theory (Minneapolis: University of Minnesota Press 1988).
⦁ Marx/ Engels/ Lenin: On Historical Materialism (New York: International Publishers 1974)
⦁ Miller, Jacques-Alain, Le Neveau de Lacan (Verdier 2003).
⦁ Palmer, P.R., Twelve Who Ruled (New York: Atheneum 1965).
⦁ Robespierre, Maximilien, Oeuvres Complètes (Paris: Ernest Leroux 1910-1967, Vol. 10).
⦁ Saint-Just, Louis-Antoine-Leon, Oeuvres choisies (Paris: Gallimard 1968).
⦁ Schama, Simon, Citizens (New York: Viking Penguin 1989).
⦁ Scurr, Ruth, Fatal Purity (London: Chatto & Windus 2006).
⦁ Thoreau, Henry David, Civil Disobedience and Other Essays (New York: Dover Publications 1993).
⦁ Victoria, Brian Daizen, Zen War Stories (London: Routledge 2003).

مشاركة: