اشتغال الذاكرة في الرواية السجنيّة
سرديات عبد القادر الشاوي أنموذجًا

مقدمة
شهدت العقود الأخيرة تحولات اجتماعية، وسياسية، ثقافية متسارعة في العالم العربي، ومن بين العناوين الكبرى التي ظهرت في هذه المرحلة: غياب الحريات العامة، تقلُّص الهامش الديمقراطي أو انعدامه أحيانًا، واستفحال ظاهرة الاعتقال السياسي الذي أفرز ثيمةً رئيسةً في الكتابة الروائية في الأدب العربي، محورها الأساس استعادة تجربة الاعتقال السياسي، بكل آلامها وآمالها. فقد ركّزت موضوعات هذه الثيمة على قضايا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحدّة التعذيب البدنيّ والنفسيّ، وامتهان الكرامة واحتقار الفرد في هذه الفضاءات السالبة للحريات. حتى حين يُسمَح للمعتقل باستعادة حريته المفقودة، يجد نفسه في الشارع تائهًا أو منبوذًا ومرفوضًا، وهذا من بين أشدّ أنواع العذاب النفسيّ الذي يلاحق كلّ معتقلٍ سياسيٍ، إذ يجد نفسه أسير هذه الحال المأسوية.
في هذا الصدد، لا بدّ أن نشير إلى كوكبة من الكتّاب الذين كتبوا عن هذا الموضوع بصفة عامة. فنذكر على سبيل المثال لا الحصر: “تلك الرائحة”، و”يوميات الواحات” لصنع الله إبراهيم؛ و”الأقدام العارية” للراحل طاهر عبد الحكيم؛ و”زمن عبد الناصر” و”الشبكة” لشريف حتاتة الذي اعتُقل في حملة حوادث أيلول/ سبتمبر 1981، وقضى مدة خمس عشرة سنة في السجن في مصر؛ ورواية “الشرنقة” لحسيبة عبد الرحمن التي تطرّقت إلى التجربة الإنسانية لمعتقلات حزب العمل الشيوعي في سورية زمن حكم حافظ الأسد؛ وتجربة الاعتقال في رواية “الوشم” لعبد الرحمن مجيد الربيعي سنوات السبعينيات في العراق. أما في المغرب، فقد طالت تجربة الاعتقال السياسيّ بعض المبدعين في ما يسمى بـ “سنوات الرصاص”. حيث كانت النتيجة اعتقال ثلة من المبدعين الذين أثْروا الساحة الأدبية بهذا النوع من الكتابات. نشير هنا إلى تجربة الشاعر والروائي عبد اللطيف اللعبي في روايته “مجنون الأمل”، وعبد القادر الشاوي في روايته “كان وأخواتها” وما تلاها من أعمال سردية، والشاعر والروائي صلاح الوديع في رواية “العريس”، وعبد الله زريقة في روايته “المرأة ذات الحصانين”. كما كتب عبد الكريم غلاب قبل سنوات الرصاص السيرة السجنية الموسومة بعنوان “سبعة أبواب” (1965) التي توثّق تجربته الذاتية في معتقلات الاستعمار الفرنسيّ. وقد اشتهرت مجموعة من السجون سيئة الذكر في هذا المجال، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: سجن “أبو زعبل” ومعتقل “الواحات” في مصر، وسجن “تدمر” في سورية. إضافةً إلى مواقع تعذيب مشهورة في المغرب منها: “دار المقري” و”درب مولاي الشريف”، و”تازمامارت”… إلخ، كنقاط سوداء في تاريخ حقوق الإنسان في المغرب، في الستينيات من القرن الماضي. كما تجدر الإشارة إلى أن هناك روائيين كتبوا في هذا النوع الأدبي (الرواية السجنيّة) من دون أن يعيشوا جحيم الزنازين والمعتقلات. لأن هذا الموضوع أعمّ من أن يكون حكرًا على المعتقلين فحسب، إذ تعاملوا مع ثيمة السجن من منظور روائيّ تخيليّ؛ مع الإشارة إلى وجود فارق مميز بين تجربة الاعتقال السياسي والسَجن بتهمةٍ أخرى. وهذا ما جسدته رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ الذي لم تكن تهمته سياسيةً، بل وجدت شخصية سعيد مهران نفسها مقذوفًا بها في السجن، بفعل تواطؤ الزوجة مع أعز أصحاب شخصية سعيد مهران بدعم من المُخبر. وقد اشرأبّ إلى الكتّاب في هذا الموضوع العديد من المعتقلين المغاربة الذين لم تكن لهم علاقة وطيدة مع الكتابة الأدبية من قبل، خصوصًا إذا علمنا أن هؤلاء كانوا جنودًا أو ضباطًا في الجيش، ووقعوا في شَرَك الاعتقال إبان المحاولة الانقلابية سنة 1971، في ليلة عيد ميلاد الحسن الثاني والأربعين في قصر الصخيرات، حين وجد ضيوف الملك الراحل الحسن الثاني أنفسهم عرضةً لوابل من الرصاص يطلقه عشرات الضباط اليافعين كانوا قد تلقوا أوامر للمشاركة في مناورة عسكرية. لكنهم وجدوا أنفسهم في قصر الملك. وبعد فشل المحاولة الانقلابية، زُجّ بهم في معتقلات رهيبة. أبرزها معتقل تازمامارت الرهيب. حيث بدأت عملية تعرية المستور وتسليط الأضواء الكاشفة على دروبه المعتمة، حين تولى المهمة أولًا الضحايا المدنيون والعسكريون الذين اقتُرفت في حقهم خروقات وتعديات لم يعد بإمكانهم محو آثارها النفسية والجسدية. فصاغوها بأنفسهم في مذكراتهم، أو استعانوا بمن يتقن صنعة الكتابة. ومن بين أبرز مذكرات الضباط التي كُتِبَت باللغة الفرنسية، نجد مذكرات أحمد المرزوقي: “الزنزانة رقم 10″، ومذكرات عبد اللطيف بلكبير: “مذكرات عائد من جحيم تازمامارت”. ولا شك أنّ هؤلاء الكتّاب يعتقدون بأنهم يكتبون سير ذاتية ولا يزعمون أنهم أدباء. كما يقرّون كذلك أنهم يكتبون للمغاربة جميعًا ما قاسوه في سجن تازمامارت الذي كان حتى وقت قريب من المواضيع المحرَّمة على عموم الشعب ذكرها. وبهذا الصنع الفني، يصرّون على أن يتركوا شهادتهم صارخةً وحيةً وساطعةً عما عاشوه، وما قاسوه من أصناف التعذيب النفسيّ والبدنيّ. أما في مرحلة لاحقة، فقد اتسعت دائرة الكتابة في أدب السجون. لتشمل زوجات معتقلين سابقين، دخلن بدورهن على الخط، وشكّلن بأقلامهن عناصر مقاومة إضافية لدعم إطلاق سراح أزواجهن المعتقلين. ومن أبرزهن كريستين دور التي اختارت أن تتشارك مع زوجها المعارض السياسي أبراهام السرفاتي، حكمًا بالسجن مدى الحياة، ولم تتوان في الكتابة عن حالة زوجها في المعتقل. لتشكل هذه الكتابات سيرة ذاتية تعددت أساليبها السردية والفنية وتثير العديد من الأسئلة الجوهرية، أبرزها: هل ينطلق الكاتب من الذاكرة لمجرد بناء عوالمه النصية، أم من أجل استرجاع معاناة/ مأساة الاعتقال؟ ما طرائق السرد التي تعمل على تشكيل حوادث الرواية استنادًا إلى الذاكرة؟ ما الإضافات التي تضيفها ذاكرة السجين للأدب السجنيّ خاصةً والرواية بشكل عام؟ من خلال هذه الأسئلة الجوهرية وغيرها، عملت هذه الدراسة على تناول مجموعة من القضايا المحورية المرتبطة بالرواية السجنية: الرواية السجنية والإشكال الأجناسي، العلاقة بين الرواية السجنية والسيرة الذاتية/ الغيرية، الرواية السجنية وتجربة الاعتقال السياسيّ، وَجَع الذاكرة في الرواية السجنية، فضاء السجن وعين السارد، الذاكرة وفضاء السجن. ولئلّا تنحصر الدراسة في بعدها النظري، فقد ركزت في جانبها التطبيقي على سرديات الروائي المغربي عبد القادر الشاوي، بوصفه أبرز الشخصيات المغربية التي عاشت تجربة الاعتقال. إذ اشتغل على الذاكرة بوصفها حركية متوالية من الحاضر إلى الماضي، ومن الماضي إلى الحاضر. لكن خصوصية كل ذاكرة، ومرجعيتها الواقعية، هي ما يموضع هذا الماضي في زمن واقعي أو مجرد، ويمنحه أهميته الدلالية.
أولًا: الرواية السجنيّة والإشكال الأجناسي
العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية علاقة ملتبسة وخلّاقة بين جنسين سرديين كثيرًا ما تفضي التفاعلات بينهما إلى نصوص إبداعية متميزة، تثير اهتمام القرّاء والنقاد داخل سياقات التداول المحلّيّ والعالميّ. لكن وجه الالتباس فيها يلمحه ويُبرزه الخطاب النقدي العارف والحريص على التمييز بين الأشكال والخطابات والأساليب.
لم يعد هذا التوجه، من حيث المبدأ، مبررًا مجديًا، حين يظن الناقد أن بين الأجناس الأدبية أو بين أشكالها الفرعية حدود فاصلة ثابتة تنتهكها الكتابة الإبداعية. أما الوجه الآخر في ذلك أنه من الموكّد أن الكاتب يعيه ويستثمره ويغنيه، إذ ينزع إلى البحث والتجريب والاكتشاف والإنجاز غير عابئٍ بشيءٍ من نظريات النقد وتنظيرات النقاد. فحين أفرد ميخائيل باختين جزءًا مهمًا من بحوثه في مجال السرديات وجماليات الخطاب الروائي لـ”رواية السيرة الذاتية”، كان معنيًا في المقام الأول بالكشف عن الخصائص الدقيقة المائزة لفنٍ سرديٍ يؤسَّس على مركزية الأنا الكاتبة في النص. بحيث لا نرى أو نسمع أو نفكر في شيء من مروياتها إلا من منظور هذه الذات الفردية الخلاقة(). هكذا، لا نجد عند ميخائيل باختين، أو عند هيغل من قبله، نظريةً عقيمةً تنتج من أسئلة مغلوطة من قبيل: هل هذه رواية فنية أم سيرة ذاتية عادية؟ لم لا يحترم الكاتب الحدود بين المتخيَّل والواقعيّ؟ من له حق تسمية العمل المنجَز، أهو الكاتب المنتِج أم الناقد الخبير؟ ألا ينبغي محاسبة الكاتب على أقواله وأفعاله حينما يتجرأ فيقحم تجربته المعيشية الخاصة في النص الروائي؟… إلخ(). إن رواية السيرة الذاتية موجودة في الواقع كما في النظرية النقدية، وهذا الوجود المزدوج، يفترض أن يوجه الخطاب النقدي إلى الحوار معها كما هي عليه. وذلك من خلال وعيه بأن جماليات هذا الشكل السردي الفرعي، إنما تتحقق بفضل التفاعلات الخلّاقة بين الشكلين السرديين اللذين يتولّد عنهما شكل ثالث يختلف عنهما في كثير من المقولات والخصائص().
حينما تكون حكايات الذات الكاتبة/ السارد طريفة عجيبة وملاحظاتها مرهفة دقيقة، وآراؤها عميقة نافذة تثير إعجابنا وتكسب تعاطفنا، وتعزز ثقتنا في نصها حتى التماهي مع تجاربها الخاصة كما لو كانت تجاربنا نحن. وحينما تتجه الأمور في غير هذا المنحى، تتسع المسافة بيننا وبين النص. وقد تتحول إلى هوّة لا يمكن ردمها أو تجسيرها. لأن التجارب النمطية المعتادة والملاحظات الأولية الفجة والأفكار المبسّطة النزقة، ليست من الفن في شيء. وكثيرًا ما نصادفها في مختلف مقامات الحياة وأشكال الثرثرة اليومية من دون أن نعيرها اهتمامًا يُذكر. ذلك صوغ آخر لقول إن علاقة الرواية بالسيرة الذاتية، أو العكس، هي من حيث المبدأ، علاقات حوارية تفاعلية خلاقة مثلها مثل علاقة الرواية بالشعر والتاريخ والفكر الفلسفي أو الاجتماعي. لكونها خطابات يمكن أن يُعاد صوغها بشكل جمالي متفرد متميز أو بشكل عادي غث بارد.
ثانيًا: العلاقة بين الرواية السجنية والسيرة الذاتية
هكذا، تحوّل معتقلون سابقون إلى كتّاب رواية، بحكم كتاباتهم التي تدور في فلك السيرة الذاتية من منظور مغاير. لكن المفارقة التي يجب تسجيلها، هي أنه في الوقت الذي كانت فيه هذه الكتابات الجريئة، تؤدي بأصحابها إلى غياهب السجون (صنع الله إبراهيم، عبد القادر الشاوي، صلاح الوديع، عبد اللطيف اللعبي… إلخ)، نجد أن كتابات هؤلاء لم تقدهم هذه المرة إلى الاعتقال، بقدر ما رقّتهم إلى مصافّ الكتّاب المتألقين في ما سُمّيَ في مرحلة لاحقة بـ “محكيات السجون” التي غدت من المواضيع المهمة في الأدب المغربي في الوقت الراهن. سواء على مستوى الكتابة أو التلقّي. هذه المحكيات الموازنة لأدب السيرة الذاتية، أصبح يُنظر إليها بوصفها تجربة فريدة يعيشها الأدب المغربي. تتحوّل فيها السجون -في حالة استثنائية– من فضاءات للقمع والمنع وخنق الحريات إلى مدارس لتخريج كتّاب وروائيين أتقنوا اللغة الفرنسية، وكتبوا بها لاحقًا محكياتهم التي غدت بصمة بارزة من بصمات الأدب المغربي المعاصر. من هذا المنطق، فإن اختيار بعض الروائيين العرب لثيمة السجن، أو ما أصبح يُعرف لاحقًا بأدب السجون، تستحثّ كل مهتمٍ بهذا المجال لقراءة هذه الظاهرة وفق الشروط الاجتماعية والسياسية التي يعيشها الروائي؛ والتي بوّأت ثيمة السجن في الأدب العربي راهنًا هذا الموقع البارز والملحوظ. كما يستحق هذا الموضوع دراسةً سوسيولوجيةً معمّقةً لتجليات هذه الظاهرة التي لا تخلو من دلالات عميقة على مختلف المستويات. نشير إلى هذه الكتابات، آخذين بالحسبان طبيعة الاختلافات بين هذه التجارب الكتابية. لكن ليس من زاوية المعيار الفني والقيمة الأدبية والسياسية والتاريخية، وحتى “التعليمية” أحيانًا، بل من خلال استجلاء ما تضمره وتنطوي عليه من أسئلةٍ تتسم بالطابع الوجودي لمأساة الفرد. وهذا ما تجليه العناصر الجمالية في هذه النصوص التي أضفى عليها أصحابها غلالة الأسى والحزن الشفيف تارةً، والسخرية المبطنة بالتهكّم حول ما حصل تارةً أخرى. ذلك أن مواصفات هذه اللحظة المأسوية في سيرة حياة الفرد الخارج لتوّه من السجن هو التيه، وضبابية المصير وانسداد الآفاق، والغربة القاتلة. فمصير هذا المفرَج عنه يشعرنا منذ البداية أن القضية أكبر من أن تكون مأساة فردية، وإنما هي مأساة جيل، بل مأساة بلد بكامله، وأن الجناية كانت في حق الوطن برمته. لكونها، من ثمّ، محنة تتسع لتتجاوز محنة فرد، واضطراب نفسي يلازم فاجعةً ما حصلتْ، ولا تزال ظلالها تخيّم على الأفراد كما الجماعات.
عند العودة إلى السرود المغربية، وبنظرة دقيقة، نلاحظ أن تجربة الكاتب الشاوي مهمّة جدًا في الكتابة السردية السجنية، نتيجة رؤيته العاكسة بصدق حجم المعاناة، والمحلِّلة للتفاصيل الوجودية المعيشة داخل المربع الأسود، وضمن هذه السرود يبرز الإشكال الأجناسي، فيبدو السرد كسيرة ذاتية مرّةً، ومرةً أخرى رواية، وثالثة يتأرجح بينهما، وهكذا يمكن عدّ رواية “كان وأخواتها”() روايةً سجنيةً، ورواية “دليل العنفوان”() كسيرة ذاتية، و”باب تازة”()، و”الساحة الشرفية”() و”التيهاء”() كسيرة متخيَّلة. وبقدر ما تتعدد هذه الانشغالات في التعامل مع أنواع السرد في التعبير عن التجربة وما يتصل بها، تجيء كردات فعل واعية على مرحلة بأكملها، “إلا أن ما يميز الشاوي -إلى جانب الروائي والمفكّر عبد الله العروي- عن الكثير من كتاب السيرة الذاتية في المغرب هو أن الكتابة السيرذاتية عنده لم تنتج من فراغ في التجربة، أو جاءت كنتيجة لبواعث حنين الذات فقط، بل أتت كإجابات عن العديد من الأسئلة المتصلة بصوغ سؤال الأزمة والذات والكينونة، في علاقتها بتحولات الزمن والمكان والعالم بشكل عام. هذا التعدد والتداخل الأجناسي، منح عبد القادر الشاوي تنويعًا في أساليب التغير. وربما حتّم عليه إضافة كتابة سردية نوعية، تمزج بين الواقعي والتخيلي، بين الذات وخارجها، بما أن رواية “دليل العنفوان” تقدَّم أجناسيًا بوصفها رواية، لكنها منذ سطرها الأول في القسم الأول المعنون بـ”الخلطاء”، يوكَّد تراكم السيرذاتي على حساب المتخيّل الروائيّ. يأتي على لسان السارد بضمير المتكلم في رواية “دليل العنفوان” ما يلي: “أقمتُ في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطلّ على الجوطية”، ونجد أيضًا في رواية “الساحة الشرفية” صيغة ضمير المتكلم: “عندما وصلتُ إلى براندة، في تلك الأيام من شهر غشت، كانت سنوات الجفاف، فعلًا، قد قست نوعًا ما على تلك المناطق الجبلية المنيعة، أو هكذا توهمتُ”. والأسلوب نفسه نلاحظه في رواية “باب تازة”: “شرعتُ في كتابة هذه الأوراق كما اتفق، بُعيد إطلاق سراح المفضل وخروجي من باب تازة، وأنا في حال من الغيظ كظيم”.
هكذا تتمظهر أواليات السير الذاتية وهي تحرص على شكلنة الكتابة السردية من منظورات جديدة. إذ تسعى لتحقيق كلفة المعاناة من خلال مساءلة الذات والموضوع، وذلك في إطار العلاقة بين الكاتب والقارئ. أي بين الواقع النصي بوصفه معطى ومرجعية تختزل ما يرتبط بالخارج وذاكرته المتنوعة ككلّ. لقد كان من الضروري أن يتم إعمال الأسلوب الواقعي لتبرير الربط بين النص ومحيطه، أو الاشتغال على تخيّلٍ ما بغية إعادة إنتاج تعالقات وتراكمات الذات، وما يستلزم تشييدها وهندستها. لكن في سرود عبد القادر الشاوي، نلاحظ هذه الصيغة المتعدية غير اللازمة في كتابة الحكاية، وفي لغتها وبنائها. يمكن القول إن رواية “دليل العنفوان” توكّد لنا، مثل بعض النصوص الجيدة، أن متعة النص يمكن أن تتحقق من خلال مادة أولية شديدة الصلة بالمجتمع وهمومه وأسئلته، إذا ما أُتيح لها وعي فني، يعرف كيف يقيّم تلك المسافة الضرورية بين الوقائع ومقتضيات التخيل ومد جسور الكلام”(). قد تبدو طبيعة الربط بين المتن وخارجه في بعض الأحيان ملزمة في مرحلة ما من حياة الكاتب، خاصةً إذا كانت تستعيد صور مرحلة الطفولة، أو الشباب، أو توثّق لمعاناة السجين، كما في روايات الشاوي. إذا تختزل هذه الفرادة المخصوصة حياةً مأزومةً في ظل مرحلة استثنائية. فقد تجاوز الشاوي كتابة السير الذاتية من منظورها الكلاسيكي إلى الحديث المعاصر. ليتضح لديه نوع من التميز في الرؤية واللغة والدلالة. من هنا، نجد أن هؤلاء الكتاب –أكانوا متخصصين أم هواة- يشهرون سلاح التذكّر في وجه هذا الزمن العربي الرديء الذي يطغى فيه النسيان على التذكر، أو على حد تعبير الروائي نجيب محفوظ في روايته “أولاد حارتنا”: “آفة حارتنا النسيان”(). تعبّر هذه الحكايات من جهةٍ، عن وجدان جماعيّ لحقبة استثنائية مظلمة في تاريخ المغرب الحديث. ومن جهة ثانية، تترجم اتساع هامش الحرية، وإصرار ضحايا المرحلة على إسماع صوتهم ومقاومة النسيان. ما يجعل فعل التذكر رافعة أساس من أجل إعادة الاعتبار إلى أولائك الذين أفنوا زهرة شبابهم وراء القضبان، في أحوال لا إنسانية تناقض تمامًا كل الأعراف والمواثيق الدولية، والإنسانية على حد سواء.
ثالثًا: الرواية السجنية وتجربة الاعتقال السياسيّ
يعد أدب السجون من بين أهم الكتابات الإبداعية التي اختزلت التجربة الحياتية في مختلف صنوفها للكاتب داخل السجن. من هذا المنظور، يمكن قول إن التجربة التي عاشها المبدع في قلب معتقله، استطاعت أن تخلق نمطًا إبداعيًا نوعيًا، كان إلى حدود القرن التاسع عشر، شبه مغيّب؛ على الرغم من وجود بعض التوظيفات هنا وهناك عند البعض، وبطريقة مقنعةٍ، خاصة عندما يكون الحديث عن فضاء السجن أو تجربة الاعتقال حبيس نزعة ذاتية غير واضحة. لكن مع ضرورة الانفتاح على مختلف الأسئلة الثقافية، والاجتماعية والسياسية الراهنة، بخصوص أهم الإشكالات ذات الخصوصية النوعية التي برزت كالديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان، وقِيَم المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على الآخر، ونقد الذات. فبات من الطبيعي أن يعيد الكاتب رسم صورته، ووضعها في إطارها الإنساني. بحيث يجعلها خاضعةً إلى التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ما يجعل انتسابها إلى هذه الدينامية، ويدفعها إلى تجاوز اللحظات الحرجة الذاتية والموضوعية. وكذا علاقة التوتر والعنف بين الفرد ومؤسسات المجتمع الرسمية أو الأهلية، كونها من الظواهر البارزة في كل المجتمعات العربية؛ وإن كانت بدرجات متفاوتة في الحدة. إنها الوضعية التاريخية العامة، ومن الموضوعات الشائعة في خُطُب إعلامية وأدبية ومعرفية كثيرة. لذا، فمن المنطقي تمامًا أن نجد ثيمةً مشتركةً بين أعمال روائية من مختلف الأنواع والفترات. لهذا، فإن الرواية السيرة ليست بدعة إذًا في هذا المجال؛ وإن كانت تجربة الحياة الشخصية القاسية لكاتبها تضفي على النص قيمة الشهادة ذات الصدقية العالية فنيًا ودلاليًا. لأن كل نصٍ كما يشير محمد برادة، لا يمكنه أن يكون في نهاية الأمر، سوى قراءة عن الذات وعن هموم الذات(). لهذا، فإن هذه الروايات/ السير الذاتية، هي نوع من وضع الذات في موضع التساؤل والبحث والكشف والانطلاق بعدها إلى تجربة أخرى. فكأن نهاية رحلة اكتشاف الذات هي بداية رحلة لاكتشاف العالم الآخر.
رابعًا: وجع الذاكرة في الرواية السجنية
ترتكز رواية “دليل العنفوان” للروائي المغربي عبد القادر الشاوي على مقولة الذات في علاقتها بالكتابة. على الرغم من أن هذا النص السردي يثير إشكالية التجنيس وإن كان الكاتب قد أخرجه من دون تحديد هويته التجنيسية، فإنه من الممكن التعامل معه بوصفه سيرة ذاتية تستقي وقائعها من التركيز على الذاكرة، مع عدم تجاهل عنصرَي التخيل واللعب اللذين يهبانه فرادته، ويميزانه عن السيرة الذاتية الكلاسيكية التي تقوم على الصدق وحده. استنادًا إلى مجموعة من المفاهيم مثل الواقع النصي والمرجع الخارج- نصي، والذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية؛ يشكل نص رواية “دليل العنفوان” نوعًا جديدًا من السيرة الذاتية؛ وذلك بالنظر إلى مجموع التراكم في النصوص السردية المغربية المكتوبة باللغة العربية (روايات، وسير ذاتية على الخصوص) الصادرة حتى الآن. حيث يمكن التوقف عند طبيعة هذا التراكم السير- ذاتي الذي يشكل نسبةً ضئيلةً -إلى حد ما- من التراكم العام، مقارنةً بعدد الروايات مثلًا. ساهمت في هذا التراكم مجموعة من الأسماء: التهامي الوزاني، عبد المجيد بنجلون، عبد الكريم غلاب، محمد شكري، عبد القادر الشاوي، عبد الله العروي، عبد الغني أبو العزم، محمد عابد الجابري، العربي باطما، ليلى أبو زيد، عبد اللطيف البياتي، ربيعة السالمي، وغيرهم.

وجع الذاكرة في سرود عبد القادر الشاوي
يعدّ الروائي عبد القادر الشاوي أحد الكتاب المغاربة الذين ساهموا بشكل بارز في إغناء المشهد السير- ذاتي المغربي، إبداعًا ونقدًا. إلا أن ما يميزه إلى جانب عبد الله العروي، عن كثير من كتاب السيرة الذاتية في المغرب هو أن السيرة الذاتية عنده لم تنتج من فراغ في التجربة الإبداعية، أو جاءت نتيجة لإرغامات حنين الذات فقط، بل أتت بوصفها إجابة عن العديد من الأسئلة المتصلة بصوغ سؤال الأزمة والذات والكينونة، في علاقتها بتحولات الزمن والمكان والعالم بشكل عام. أما على مستوى الشكل، فالملاحَظ أن طريقة كتابة السير- ذاتية للمؤلف من خلال نصوصه “كان وأخواتها”، و”دليل العنفوان”، وكذلك رواية “التيهاء”، جاءت بأسلوب حديث خارجٍ عن المنحى الكلاسيكي المعروف عادة في السير الذاتية هو “السيرة الذاتية/ الأوتوبيوغرافيا الجديدة” على حد تعبير ميشال بوتور على غرار الرواية الجديدة(). إنه الأمر الذي يمكن تلمّسه خاصةً في نص “دليل العنفوان” ذي الشكل المفتوح على الكتابة، وفي البناء النصي واللغوي وفي عملية التخيل ذاتها. لقد صدر نص “دليل العنفوان” وعبد القادر الشاوي خارج أسوار السجن، بعد أن أصدر رواية “كان وأخواتها” وهو داخلها. وما بين الداخل والخارج، مسافة من المعاناة والتأمل والتذكر والسؤال: سؤال الذات وتأمل العالم من حولها. لأجل ذلك كله يطالعنا نص “دليل العنفوان” بكثرة الحركة التي تلجأ إليها الذات (بوصفها ساردة أو كاتبة). حركة يولدها عدم الاستقرار الجغرافي والبيولوجي والنفسي. نتيجة كثرة التنقل بين العديد من الأمكنة والأزمنة الطافحة بالكثير من المعاناة والمحددة للعديد من المصائر أحيانًا (تطوان والرباط كفضائَين مركزيَين، إلى جانب استحضار النص لمجموعة أخرى من الفضاءات الموازية، كتلك التي تؤطر أقدم تذكرات طفولة السارد/ الكاتب/ تازة)، والمليئة بالعديد من الإكراهات الذاتية والغيرية أحيانًا أخرى. كما أنها حركة تتدخل فيها ذوات أخرى (الوجوه القديمة: الواقعية والمتخيّلة). لكي تشاطر تلك الذات المركزية إيقاعها الحياتي والذهني الذي تحاصره في المقابل، اختيارات معاكسة (غير ذاتية هذه المرة)، اختيارات حددتها ما يؤشر عليه السارد، من حين لآخر، في واقعة 1974 وما بعدها (الزنزانة). كما حكاهما سارد رواية “كان وأخواتها”. لهذا، يأسر نص “دليل العنفوان” القارئ منذ البداية، بذلك السؤال النقدي نفسه الذي جاء محايثًا للنص السردي الأول “كان وأخواتها”. يتعلق الأمر بسؤال الجنس الأدبي، أو الميثاق النصي، إلى جانب السؤال المتعلق بالبحث عن مستويات تناص الكتابة وتناص الكلام بين رواية “كان وأخواتها” ورواية “دليل العنفوان”. فإذا كان النص الأول قد جاء محدِّدًا لميثاقه النصي التمويهي كـ”رواية”، وهو تحديد تداخلت العديد من العوامل آنذاك في اختياره، فإن النص الثاني، صدر من دون تحديد لهويته التجنيسية. ما يجعله نصًا مفتوحًا على الاحتمال التصنيفي. سواء كـ”رواية” أو “سيرة ذاتية”، أو “سفرًا” فقط كما يسميه السارد. بوصفه اختيارا يحدد النص وطبيعة القراءة الممكنة في الوقت نفسه. بمعنى، تلك القراءة المفتوحة على نوع من الحرية المشروطة بالاحتمال، انطلاقًا من انفتاح هذا النص على نمط من المحكيات الذاتية التي تقوم بتركيب العديد من الوقائع والمسارات الحكائية فيه، عبر التركيز أولًا على الذاكرة كونها الخزان الأساس للكلام السير- ذاتي كله، عبر الاستعانة بالتخيل واللعب والتذويب (تذويب المرجعي وتحريفه وتغليفه بالعديد من الصور والأوهام، والأحلام والسخرية). يتحدد شكل الكتابة إذًا في هذا النص/ السفر، انطلاقا من لعبة الكتابة ذاتها. حيث يكشف السارد/ الروائي الضمني تمفصلاتها في القسم الثاني “اللغو والتأثيم” خصوصًا، بما أنه تتكشف في هذا القسم طرائق الكتابة والسرد بمختلف مكوناتها. يمرَّرُ ذلك كله انطلاقًا من سلطةٍ عليا يفرضها السرد نفسه: “ومع ذلك قال لي السرد، بعد البسملة، اكتب أيها السارد، فكتبتُ”(). كما يقوم السارد نفسه، بفضح كتاباته أيضًا بوصفها “كذبًا” سرديًا و”فانتازيا” حكائية. وذلك من خلال اللجوء إلى الكشف عن مجموعة من الأساليب الأخرى. حيث تتقدم شخصية السارد من خلال هيمنة ضمير المتكلم، بوصفه ساردًا غير موثوق به (بخلاف ساردي السير الكلاسيكية). أي كساردٍ يجهد نفسه قدر الإمكان. لخلق لعب وإيهام حكائي بالواقع الذي يقدّمه/ يشخّصه، ويحكي عنه للقارئ الفعليّ الذي لن يتأخر بدوره في التواطؤ مع هذه الخدعة السردية، بحكم مواقعه التي يحتلها، من أجل تلقي المحكي ومحاورته وإعادة ترتيبه وفق خطاطة خاصة. تؤطر العديد من المسافات القائمة بين مجموعة من المؤشرات: بين زمن الكتابة وزمن الحدث، بين السارد والمؤلف/ الروائي، بين الحقيقة والكذب، بين الواقعي والتخيّلي، بين الذاكرة والنسيان، بين السارد والقارئ… إلخ. عدا عن قيام نوع آخر من المسافات التي تباعد وتقارب في الآن ذاته بين مختلف الأصناف واللغات التي يقوم السارد بتنشيطها في النص.
ومن ثم، فإن القسم الثاني من هذا “السفر” بخلاف القسم الأول “الخلطاء”، قسم يحدد لنفسه اختياراته النظرية والشكلية الخاصة به، والمرتبطة ببقية أجزاء السفر ككلّ. تُصاغُ من خلاله بعض الأجوبة عن مجموعة من الأسئلة التي بقيت معلّقةً منذ قراءة العتبة الرئيسة للنص (الغلاف). بوصفها أجوبة لها ارتباط بمستويات تحديد هوية النص وتشكّل الخطاب وطرائق اشتغال المحكي عمومًا. من هذا المنطلق، يأتي القسم الثاني ليزاوج بين مستويي الخطاب والميتا- خطاب. حيث يشغل السارد بعض المكونات السردية المتعلقة إما بتلقي الخطاب السردي، من خلال التفكير في محفلي المسرود له والقارئ. سواء كمتلقين للخطاب نفسه، أو كمنتجين له “وأزيدك في هذا الشأن بيانًا، وهي مفارقة لطيفة: أن امرأة أحبّها كشفت لي، بعد أن اطلعت على القسم الأول من هذا السفر الفقير، بأنني لم أكن واهمًا فقط، بل ومخدوعًا كذلك، لأنها لم تغفر لي أبهة تصنّعها على الورق عندما نسبتُ بالسرد لنفسي قدرًا من الثقافة في ذلك الإبان، فاقتنعتُ بأن السرد ولو كانت فضاءاته مبتَدعة وحكاياته مُخترعة، يولد حالات من الغيرة بقدر ما تولَّد العلاقات من مواقف حساسة”(). ثم ربط ذلك الخطاب أيضًا تلك التنويعات والمقامات السردية، كالترتيب السردي والإيهام بتعددية الأصوات والقلب السردي، كما في المقطع الأخير. وتوظيف الشكل التراسلي والتوسل بالسخرية. عدا تفكير القسم الثاني من القسم الأول على مستوى الملء والإضافة والنقد، ينفتح القسم الثاني أيضًا على مجموعة أخرى من الأسئلة ذات الارتباط مع الواقع الخارج– نصي. لتكون بذلك نوعًا من التجاذب بين المعطى الداخل- حكائي، بوصفه معطى يمتزج فيه الواقعي بالخيالي، وصورته، كما هي معطاة في الواقع الخارج- حكائي. من هذا المنطلق، يأتي تضمين ذلك المستوى من التعيينات الاسمية (الإيهامية)؛ انطلاقًا من استحضار صورة الروائي (الكاتب) الملموس (الحقيقي) إلى جانب الصور الإيهامية له في الوقت نفسه (المؤلف/ عبد القادر الشاوي ومضاعفوه). فقد كان اللجوء في مرحلة زمنية سابقة (وحتى في المرحلة الراهنة) من تاريخ الذات الكاتبة إلى التوسل بالاستعارة الاسمية كما استهلكها القارئ الفعلي، ويعيد الآن إنتاجها ضمن هذا السياق السردي السير- ذاتي: “وزادني أنني قد ركّبت في نفسي وهمًا باطلًا بأن الكاتب المجدّ الذي أحمله في الصميم سوف يقنعهم بأن مجد الثقافة أبلغ من الشهادة، وكنت على استعدادٍ أن أكشف أوراقي لهم، فقد نشرتً بعضًا منها في الجرائد وحملتْ ذلك الاسم المميز الذي كان لي، ولكنهم خذلوني كما يُخذل كل متوهم”().
يتأسس السرد في رواية “دليل العنفوان” انطلاقًا من عملية تركيبية بين الواقع النصي ومرجعه الخارج- نصي، ثم عبر نوع من التركيب المزدوج الذي كان نتيجة طبيعة ذلك الحوار القائم بين القسم الثاني والقسم الأول من النص الروائي، إلى جانب التركيب الذي مسَّ الذاكرة أيضًا. ذلك أنه إلى جانب الذاكرة الفردية (الأوتوبيوغرافية) بما يتخللها من “خيال مستذكر”، تشتغل في المقابل الذاكرة الجماعية “التاريخية” كما يسميها بول ريكور()، بوصفهما ذاكرتين محوريتين. يلجأ السارد إلى تحريكهما من أجل توليد المحكيّ، وديناميته. سواء حول ذاته/ ذاكرته، أو حول الماضي العام للمجتمع ولبقية الذوات الأخرى التي يتفاعل معها السارد، انطلاقًا من اعتماده على ثلاثة مستويات من التركيب الحكائي- السيري في هذا السفر: “سيرة الحياة”، و”سيرة الكتابة”، و”سيرة الثقافة” التي تُفجَّر مرجعياتها السياسية والأيديولوجية في النص. كما هي متداولة داخل حقبة معينة من التاريخ الثقافي والسياسي لمغرب الاستقلال. لكن بقدر ما يبئر السارد المحكي (في هذا النص) حول ذاته، بقدر ما لا يتم تغييب الحكي عن “خلطائه” كونهم محافل سردية أيضًا. يأتي التفكير فيها كمحاولة من السارد لتخفيف حدة هيمنة المكون الذاتي وحنين الذات “إلا أنني-والاعتراف فضيلة- لا أستطيع التجرد مطلقًا من أهواء الذات، بل وأرى أن الوقائع كلها تجرني الآن إلى ذاتي، ولكن من قال أيضًا إنني كنتُ في القسم الأول، وهو بين يدي شخصية نامية، متجردًا من ذاتي، من أهواء ذاتي تحديدًا؟”(). نتيجة لذلك كله، فإن المحكي، ومنذ افتتاحه في النص؛ هو متابعة سردية لمواقع هذا السارد/ “المثقف العضوي” ضمن مجموعة من المؤسسات الثقافية والسياسية التي شكّلت في ما بعد مشروع سيره الثلاث السابقة. بما يتخللها من نكسات وتوقفات وآمال وأوهام، وأحلام وطموحات وانتقادات؛ من منطلق اللجوء دائمًا إلى أسلوب تفجير المنسيّ من تاريخ الذات والمجتمع. ومن ثم، شكّلت الذات في صورتها الفردية أهم المصادر المرجعية التي يُحتمى بها، بقصد تزويد الذاكرة الساردة بشحنة من المحكيات التي تُستَعاد من أجل تفجيرها عبر الكتابة. لذلك، تعددت أشكال المكتوب/ L’écrit في النص. لكن ذلك لا يلغي استعادة عنفوان الذات، إلى جانب استعادة جوانب من الماضي المشترك والتاريخ العام. بغية تمكين الذات من النظر في (تجربة عاشها السارد في النواحي السياسية والأيديولوجية)(). إنها من دون شك، تجربة اليسار المغربي في إحدى أهم مراحله.
بهذا، تتأسس تمظهرات أدب السجون على مجموعة من آليات المرجعية السجنية. يستعيد المؤلف من خلالها ذاته وموضوعه بالكامل، ثم يستأنف تحقُّقَ شرطه الطبيعي بتركيزه على محكي الذاكرة. هكذا، نلحظ الاهتمام المكثف بالعلاقة المتماهية بين النص المكتوب والنص المفكَّر فيه تخييلًا، والنص المتخيَّل. بحيث تختزل التجربة المكتوبة “ذاتيًا” التاريخ والتراث والفكر والمجتمع، ومع تنامي المد التحرري بُعيد الحرب العالمية الثانية، هيمنت تلك الاتجاهات الفكرية التحررية من قبيل القومية والاشتراكية والوجودية. كما تبلورت مقولات مثل الوطن والطبقة، والأمة، والفرد، والحرية والالتزام. ما ساهم في إعطاء الرواية العربية مكانةً متميزةً على مستوى الحضور المتميز كخطاب فني يعانق مختلف قضايا المجتمع، ويساهم في تفكيك مختلف بنياته. كما يرصد مجمل المشكلات الكبرى للصراع الاجتماعي والسياسي… إلخ. شكّل هذا التراكم محفزًا للكتابة السردية. كما عزّز في الوقت نفسه، نفس الأدب السجني. خاصةً أن السرود بُنيَت على وعي سياسي ومغاير. فرواية “دليل العنفوان” لعبد القادر الشاوي، وغيرها من سروده، تشير إلى وجع الذاكرة بوصفه خالقًا للمحكي، إذ يبرز في مستويات لغوية وخطابية ودلالية متميزة جدًا، جاءت كما يلي:

  • “تجربة تذكرني دائمًا بوجع وضجر، لأنني بقيت تلك الليلة في حالة توتر لا تُغتفر لذوي الذوات المحرومة مثلي”().
  • “سوف أذكر الآن تاريخًا يعبق بشذى الأويقات الحالمة”().
  • “كان من المفترض في الفقرة السابقة، أن أعود بك إلى الوراء”().
  • “الفترة وأنا أكتب هذا، محدودة، في منطقة من ألياف الذاكرة المصونة”().
  • “أما الذكريات فشهوة الحكاية، لا تجد من لا يتماهى فيها مع الحياة الماضية، إلا من كان صغيرًا حافيًا لم يكتو حينها بشواظ الاكتشاف اللابد على الصدور”().
  • “لا يمكن أن أفكّر في مصطفى بعيدًا عن الدرب، لم يكن فيه اللقاء الأول فقط، بل الأخير كذلك، أعني أن أبعاد العلاقة التي قامت بيننا مع الوقت كانت، في الواقع، جزءًا من الماضي والذكريات المشتركة في الحدود الضيقة الممكنة، من المكان نفسه، المكان المأهول بالحركة والصراخ”.
  • “إني لا أذكر شيئًا إلا تاريخ الخروج، أتعرف متى؟”().
    تثبت هذه المقتطفات التي اجتزأناها من سرديات عبد القادر الشاوي، مدى حضور تلك المرآتية التي تؤثث فضاءات الأسى والحزن في الرواية أو السيرة. ومن ثمّ، تُلزم السارد الناطق بضمير المتكلم على العودة إلى ذاته وربطها بتاريخها الثقافي والسياسي. حيث لا مكان للمعاناة خارجها. لأن النص هو الذات. لهذا، فإنهما معًا يساهمان في رحلةٍ باطنيةٍ تلتصق بالسياق السوسيو- ثقافي من خلال المحتوى وشروط الإنتاج معًا. لكن مهما دُمِجَ بين الذاتي والتخيلي، فإن صورة الذات تبقى مهيمنةً على باقي الصور الأخرى. خاصة إذا كان عمقها يتواشج فيه الزمان والمكان وتوالد الحوادث. لتصبح الكتابة السردية في هذا السياق، أشبه بسيرة ذاتية. تلخّص مراحل حياتية متنوعة ورئيسة للروائي، على الرغم من كونها قد تبدو أحيانًا غير منظمة، لكونها تتعثر في الماضي. لأن الماضي كما يقول السارد “أمامك وخلفك وفي أنحاء من خلاياك، هاجع كأنما دوخته شمس أبدية، ولستَ أبدًا لا في الطفولة المنتقاة. شروخ في البدن، أوار في البدن، خيلاء وحكي مستعر”(). يجعل هذا الإحساس بالماضي وخيبته، والشعور بمدى ضراوة تحمّل استعادته من سردية الذات ومن كينونتها الفردية كلية، على الرغم من أوجاعها وتقطعاتها. لتصبح عبارة عن إنتاج للوعي ومنتوج له في الآن نفسه.
    يمكن أن نقول إن هيمنة ثيمة السجن في كتابات عبد القادر الشاوي السردية، ليست من عدمٍ ومن دون معايشة أو معاناة، بل هي جزء من واقع يتجسد في أسئلة لم يُحسَم أمرها، ترتبط بمحاولة ترميم الوعي لمرحلة متميزة. لذلك، فاسترداده للذاكرة؛ تأصيلٌ لرؤية عميقة، تسافر الذات من خلالها نحو أقاصيها. إنها رحلة توظف معطيات فضاء مهمَّش، منسي، وأشخاص يختنقون في متاهة الحاضر. لتوكّد أهمية الكتابة بوصفها وسيلة للتخلص من غبار الزمن المتراكم على سطح الذاكرة. لأن كل المغريات تدفع إلى النسيان وحذف الأسئلة، فتصبح الهوية مهددة بالتلاشي في العمق.
    خامسًا: فضاء السجن وعين السارد
    خَلَقَ السجن بوصفه فضاء في السرد الروائي العربي عامة والمغربي خاصة، تحولًا نوعيًا في التعامل مع مرحلة كانت على أشدّها أكثر شراسةً واحتقانًا. أضفى هذا التمثل عند أغلب الروائيين مسحةً من الواقعية على أسئلة المجتمع ومثقفيه. حيث أثار السرد جملةً من الإشكالات التي كانت مغيّبةً، ويستعصي نقاشها. ما دفع بالذين عاشوا مرارة السجن أن يفجروا هذا المحرم ويفضحوا مكبوته. ومن ثم أن يعروا سوءاته وإظهارها جليةً. وهكذا، يقوم السارد بفضح كتابته أيضًا بوصفها “كذبًا” سرديًا و”فانتازيا” حكائية، عبر اللجوء إلى مجموعة من الأساليب والتقنيات السردية الأخرى. لكن لن يُكتفى بهذا فقط، بل سيذهب الكاتب بصحبة السارد إلى أبعد من المعاناة. بقصد توثيق تاريخ العذاب داخل السجن، ورسم هندسة القمع ضمن صور اختزلتها المؤسسات القامعة في القتل والاغتيال والتعذيب والنفي والتنكيل والإقصاء. لذلك، نلاحظ أن فضاء السجن كان في جلّ الروايات التي اهتمت بالموضوع، عينًا دقيقة للسارد، وهي في الأصل للكاتب الذي عانى من ويلاتها. تبرز هذه الصور بدقة في رواية “الساحة الشرفية” لعبد القادر الشاوي التي تعد من بين أهم الروايات المغربية المهتمة بالسجن في بعديها الشمولي والتعددي. يبرز ذلك من خلال التالي:
  • “الاعتقالات التي ستؤلف بين قلوبنا داخل السجن”().
  • “تأخر كثيرًا عن الموعد الذي حدده لنا في السجن: “لن أعود أبدًا، وسترون بعد الخروج”().
  • “كذلك كان متاعنا الحقير، متاع أولئك الذين كانوا في السجن”().
  • “لكن السجن لا يتبدل، الوجود داخل السجن لا يتبدل”().
  • “وإذا تاقت نفسه إلى الإشراقة في الليل السجني الثقيل قصد (قاعة التلفزة للترويح)”().
  • “وفي السجن رأيته مجرد الوجه: أنف دقيق قليلًا يعكس، كما توقعت منذ اليوم الأول، طبعًا حادًا لا يعرف المراوغة”().
  • “سنوات تمضي وأخرى تجيء من دون أن يشعر الذين كانوا في السجن وقتذاك لأتفه الأسباب أن شيئًا في البلاد قد تغير”().
  • “قلت لها ذات يوم إن السجن يحوّل عواطف الرجل إلى امرأة وادعة”().
  • “في الزنزانة حالة من الاختناق الممزوجة بالرائحة التي كانت تفوح من المرحاض كلما تنفس المجرى”().
  • “ولما دخلت بنا السيارة العسكرية إلى فضاء عار قيل لنا إنها الساحة الشرفية، لنعرف بعد ذلك أنها المكان الذي يستوي فيه العلم الوطني، ومنها تتفرع الطرقات والاتجاهات نحو أحياء السجن المترامية”().
    بهذا، يصبح السجن من هذا المنظور؛ عبارة عن فضاء لتقابل شتى صنوف الأوجاع والمعاناة. ما يجعله موازيًا للداخل بالنسبة إلى الذات الكاتبة والمنكتبة وخارجها(). في حين أن عين السارد وهي تلتقط تفاصيل المكان تجعله يشذّ عن صورته الأولى. وذلك من توصيف العلاقة بينه وبين التمثل الواقعي أو الذهني أو المجرد، وربطه بالأسئلة السياسية والثقافية، والمعارك الاجتماعية وغيرها. حيث تختلف معطيات السارد بحسب اختلاف باقي الشخصيات الأخرى. و”في هذه الفترة كان إدريس العمراوي منهارًا، وكان مصطفى درويش خائنًا، وعبد العزيز صابر فردانيًا ذاتيًا ملعونًا، فلا هو بالخائن لأنه لم يكن قائدًا، ولا هو بالمنهار، أما أحمد الريفي فكان عدميًا لم يجد له حمدان صفةً غيرها”(). ذلك أن السارد وهو يسرد بضمير المتكلم، لا يبذل جهدًا عندما يستعيد صورته وصور الآخرين داخل السجن. كما يعمق هذه العلاقة بوساطة استحضاره لنصوص غائبة. يتفاعل من خلالها مع المكان، “سمع المقرئ خلفه يردد: ‘وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج’ ربما كان يضيف وهو يبعد قليلًا: ‘له ما في السماوات وما في الأرض’ أو ‘تذكر المعري وقال معه: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد'”(). يختزل الفضاء السجني الصورة الوجودية للسارد، وفي الوقت نفسه يستثمرها ليشكل ذاته ويهندس خلاياها وتمظهراتها. ومن ثمّ تبرز بوصفها مدوّنة توثيقية لأهم المراحل السجنية.
    سادسًا: الذاكرة وفضاء السجن
    يعد فضاء السجن في الرواية، فضاءً مغلقًا على ذاته. لكنه كلما انفتح يحكم استغلاقه من طرف مؤشرات وعلامات المكان. بحيث لا تكاد تظهر فيه فجوة إلا وتنسدّ فتحلّ محلّها غيابات والتباسات: “في الدرب تعودتُ على صورة إدريس خلف العصابة التي كانت تغطي عينيه بحكم الحوار. لعله كان يراني على الهيئة نفسها فأبدو له على نحو ما كان يتصورني عليه. أنا الشبيه تقريبًا، على الأقل بتلك العصابة التي كانت تحزم عيني”. وفي اللغة أيضا نحس بهذا من خلال قول الحارس الإدريسي العمراوي ‘إيوا نعاس لمك'()، و”كم مرة سمعت إدريس يقول للحارس هذا ‘نوض نبول الحاج؟’ فيقول الحاج: ‘نوض تبول’. وأحيانًا لا يقول شيئًا”()، هكذا نجد أن السارد وهو يروي الوقائع، يستثمر كافة عناصر الحكي. كما يلجأ أحيانًا إلى الإيهام باختلاف خطابات الشخصيات واستخدام السخرية وتمثل التقنيات الحديثة كالحذف والاسترجاع والتمويه والتقطيع.
    خلاصة
    حاولت هذه المقاربة في تناولها لسرود الروائي المغربي عبد القادر الشاوي استعادة، بعض الأسئلة التي راهن عليها ثقافيًا وسياسيًا، لكنها اختزلت في إنتاجات إبداعية عوّضته عن ذلك كل المراحل التي شكّلت له تجربة أدب السجون، فجعلته ذاكرة حية ومرجعًا له أهمية خاصة بالنسبة إلى هذا المنحى. تقع الذاكرة في أساس الكتابات ما بعد السجنية التي بلغت حد “الطفرة” أو “السيل” داخل سياق الإنتاج الأدبي والثقافي بالمغرب خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي. كتابات تلفت الانتباه بـ”أسلوبها العاري”، وبغاياتها المغايرة. كتابات تغاير الكتابات ما بعد السجنية السابقة. تسعى لتتموضع في التبدل الثقافي العام الذي هو الوجه الآخر للتبدل السياسي العام منذ مرحلة التسعينيات. كتابات لن يسهم فيها الأدباء فقط، وكما كانت توكّد تلك التسمية “أدب السجون” التي سادت خلال مرحلة معينة. أو شكل “تيار” العالم العربي في فترات سابقة. لتصبح هذه الكتابة هي “الميدان” لا “النظرية” في سياق الدفع عن “التواريخ الفردية” داخل التاريخ العام. لأن مفهوم الأدب ذاته، وكما كانت تكرّسه المؤسسة الأدبية، سيعرف (سواء من ناحية مستوياته المعرفية أو أسسه الأنطولوجية) رجة كبيرة إزاء مشكلات قديمة/ جديدة. بوصفها مشكلة “الهوية” و”الأصولية” التي وجدت معايير لها خارج أسلوب المشهود له بـ”المعايير” المسبقة التي كانت تسطرها المؤسسة النقدية في حرصها على “السلامة اللغوية”. من ثم، لن يعود “عالم ما بعد السجن” حكرًا على الأدباء من الممتلكين لناصية الكتابة في عوالمها التخيلية الساحرة التي يصفف فيها أصحابها الكلمات في مجرىً مدروسٍ. يسعى لأن يحظى بتقدير النقد والنقاد. بقدر ما انضمّ إلى الخط (خط الكتابة السجنية) علاوةً عن أدباء معتقلين سياسيين بل و”انقلابيين” عسكريين أحيانًا. إضافةً إلى ما استجد في إطار الإصرار على تفجير “المكبوت السجني” من طرف كتاب وصحفيين بمختلف توجهاتهم.

قائمة المصادر والمراجع
الروايات
الشاوي، عبد القادر. التيهاء (الدار البيضاء: نشر الفنك، 2021).
الشاوي، عبد القادر. الساحة الشرفية (الدار البيضاء: نشر الفنك، 1999).
الشاوي، عبد القادر. باب تازة، ط1 (الرباط: منشورات على الأقل، 1994).
الشاوي، عبد القادر. دليل العنفوان، ط1 (الدار البيضاء: نشر الفنك، 1989).
الشاوي، عبد القادر. كان وأخواتها، ط1 (الدار البيضاء: دار النشر المغربية، 1987).
محفوظ، نجيب. أولاد حارتنا، ط3 (القاهرة: دار الشروق، 1978).

المراجع باللغة العربية
إسماعيل، عز الدين. الأسس الجمالية في النقد الأدبي العربي، ط1 (القاهرة: دار الفكر، 1992).
برادة، محمد. الرِّواية العربيّة: واقع وآفاق، ط1 (بيروت: دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1981).
الشمعة، خلدون. النقد والحرية، ط1 (اللاذقية: دار الحوار، 1977).
لحمداني، حميد. بنية النص السردي، ط2 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1993).
يقطين، سعيد. انفتاح النّص الروائيّ، ط2 (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ،2001).
المراجع المترجمة
بوتور، ميشال. بحوث في الرواية الجديدة، فريد أنطونيوس (مترجم)، ط1 (بيروت: دار عويدات، 1986).
ريكور، بول. الوجود والزمان والسرد، سعيد الغانمي (مترجم)، ط1 (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006).
المراجع باللغة الفرنسية
Genette, Gérard. Frontières du récit (in) L’analyse structurale du récit, Communications )paris: seuil, 1981).
Todorov, Tzvetan. Genres littéraire (in) Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, tr1 )paris: seuil, 1972(.

مشاركة: