جدول المحتويات
مقدمة
أولًا: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد النظام السياسي والقضائي والرقابي.
ثانيًا: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد القيم الفكرية، الأخلاقية، والثقافية.
ثالثًا: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد الأوضاع الاجتماعية، التشريعية، والعقابية التمييزية ضد المرأة.
خاتمة
مقدمة
تدرس هذه الورقة البحثية تجربتين من تجارب المسرح داخل المعتقل، والمسرح داخل السجن. لكلٍ من هاتين التجربتين شروطها الإنتاجية، ومضامينها الموضوعية، وخصائصها الفنية المتعلّقة بأدب السجون المسرحيّ. التجربة الأولى: تجربة المسرح داخل المعتقل في سجن صيدنايا المركزيّ للرجال، وسجن دوما للنساء؛ والتي قام/ت بها مجموعة من المعتقلين/ات السياسيين/ات في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في سورية. أما التجربة الثانية: فهي تجربة مسرح البسيكودراما أو العلاج بالدراما، والتي حققتها مؤسسة (كاتارثيسيس) بإدارة وإخراج المسرحية زينة دكاش في سجنَي رومية للرجال ولمرضى الاضطرابات العقلية، وفي سجن بعبدا للنساء في لبنان بين عامي 2009 و2022.
يظهر بوضوحٍ الاختلاف بين التجربتين المسرحيتين السابقتين، فالأولى: يقوم/ تقوم بها مجموعة من المعتقلين/ات السياسيين/ات بأنفسهم/ن، بينما التجربة الثانية من نوع البسكيودراما، حيث يطبِّق متخصصون منهجًا مسرحيًا، بعد أن يزوروا المعتقلين/ات، في فترة تدريبية تتراوح بين السنة والسنتين لكلّ عرض. لكن المقارنة بين التجربتين السابقتين، والتي تسعى لها هذه الورقة النقدية تمهّد للباحث الطريق لتحديد مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالأدب المسرحيّ السجنيّ، وهي:
الأساليب المسرحية.
المضامين الموضوعاتية.
الخصائص الفنية المتعلّقة بأدب السجون المسرحي.
لم توثَّق تجربة المسرح داخل سجن صيدنايا للرجال، وسجن دوما النساء بالوسائط السمعية البصرية التي تمكننا من دراسة الأسلوب المسرحيّ بدقة، لذلك تسعى هذه الورقة البحثية لدراسة النصوص الأدبية أو المسرحية التي اعتمدت عليها تلك العروض، وتحليلها تحديدًا في علاقتها مع محور موضوعة السجن، وهي على التوالي:
العنبر رقم 6، أنطون تشيخوف، 1890، قصة أُعِدَّت كعرض مسرحي في سجن صيدنايا للرجال في عام 1988.
اللجنة، صنع الله إبراهيم، 1981، رواية أُعِدَّت كعرض مسرحي في سجن صيدنايا للرجال في عام 1988.
حورية من البحر، هنريك إبسن، 1888، نص مسرحي أُعِدَّ وعُرِضَ في سجن صيدنايا للنساء في عام 1989.
وفي دراسة التجربة المسرحية الثانية، أي مسرح العلاج الدرامي في سجون لبنان، ستعتمد الورقة البحثية على العروض المسرحية المتوافرة للمشاهدة على شبكة الإنترنت، وكذلك على الأفلام الوثائقية التي حققتها المخرجة عن تجربة عرض كل مسرحية داخل السجن، وكذلك تعود الورقة إلى نصوص مسرحية استعملتها المخرجة في تجربتها، وهي:
اثنا عشر رجلًا غاضبًا، ريجنالد روز، 1954، نص مسرحي.
اثنا عشر لبنانيًا غاضبًا، إخراج زينة دكاش، 2009، عرض مسرحي.
اثنا عشر لبنانيًا غاضبًا، إخراج زينة دكاش، 2009، فيلم وثائقي.
شهرزاد في بعبدا، إخراج زينة دكاش، 2013، عرض مسرحي.
شهرزاد تحكي، إخراج زينة دكاش، 2014، فيلم وثائقي.
جوهر في مهب الريح، إخراج زينة دكاش، 2020، عرض مسرحي.
السجناء الزرق، إخراج زينة دكاش، 2021، فيلم وثائقي.
ستُدرس النصوص المسرحية، والعروض المسرحية، والأفلام الوثائقية السابقة ضمن ثلاثة محاور تؤلّف متن الورقة البحثية:
المحور الأول: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد النظام السياسي والقضائي والرقابي.
المحور الثاني: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد القيم الفكرية، الأخلاقية، والثقافية.
المحور الثالث: الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد الأوضاع الاجتماعية، التشريعية، والعقابية التمييزية ضد المرأة.
أولًا: محور الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد النظام السياسي والقضائي والرقابي
يستمد هذا المحور عنوانه من دراسة التقاطعات بين الأعمال الأدبية والمسرحية التالية:
النص الروائي (اللجنة، صنع الله إبراهيم، 1981) الذي اختاره مسرحيو سجن صيدنايا للرجال في عام 1988، وقدموه عرضًا بعنوان (المحاكمة).
النص المسرحي (اثنا عشر رجلًا غاضبًا، ريجنالد روز، 1954) والذي اختير في مشروع البسيكودراما للمخرجة زينة دكاش ليُقدَّم كعرض مسرحي يشارك فيه سجناء سجن رومية للرجال في عام 2009.
العرض المسرحي (اثنا عشر لبنانيًا غاضبًا، إخراج زينة دكاش، عام 2009).
والفيلم الوثائقي (اثنا عشر لبنانيًا غاضبًا، إخراج زينة دكاش، العام 2009)
تُصنَّف الأعمال الأدبية والروائية للكاتب صنع الله إبراهيم ضمن إطار الأعمال الأدبية المصرية التي انتقدت ما عُرف بسياسة “الانفتاح” التي عاشتها مصر في ظل حكم أنور السادات في السبعينيات، ومنها روايته (اللجنة). يكتب الناقد فيصل دراج: “قارب الروائي صنع الله ابراهيم الفترة الساداتية الممتدة من أوائل السبعينيات إلى أوائل الثمانينيات، برواية هجائية (اللجنة)، اتخذت من سياسية الانفتاح أو الانفلات، كما يقول البعض، موضوعًا لها. ففي روايته الأولى يحضر مجاز السجن في (تلك الرائحة)، حيث يتسع السجن ليشمل الشوارع ومحطات المترو والغرف الصغيرة؛ ومجاز الكوكاكولا في رواية (اللجنة)، ذلك الشراب المصاحب للسيطرة الأميركية، والذي اقتفت الرواية أصله وتاريخه إلى حدود الاستقصاء”(). أما عن الأسلوب الروائي الذي تفيدنا دراسته في معرفة الأسباب الأدبية الكامنة وراء اختيار المعتقلين السياسيين في سجن صيدنايا لهذا النص، فيتابع الناقد دراج: “يسعى أدب صنع الله إبراهيم لثلاثة أغراض: الغرض الأول: تقديم الواقع المعيش عاريًا في تداعيه وبؤسه، والتعرف إليه في أسئلته الكبرى وتفاصيله الصغيرة، والغرض الثاني: اختزال اللغة إلى بعدها التواصلي المباشر، حالٌ كحال العالم الموضوعي الذي يقدم الحقائق ويعرض عن غيرها، أما الغرض الثالث: فيتمثل في السخرية السوداء التي تخلق بين المؤلف والقارئ شكلًا من المؤانسة، وتقنع القارئ بالحوار مع العمل الروائي. ولا تمثل السخرية، بهذا المعنى، إضافةً خارجيةً على الكتابة، ذلك أنها التعبير الأكثر عمقًا عن واقع جانب الصواب”().
أما في علاقة الرواية مع موضوعة السجن والاعتقال، فنذكر أنه قد خاض الروائي نفسه تجربة الاعتقال بسبب أفكاره اليسارية. والحكاية التي تقوم عليها الرواية تجسّد الحوادث الجارية مع الشخصية الرئيسة في الرواية، والتي هي الراوي في علاقته مع محاكمة تجريها بحقه لجنة حكومية غامضة الصلاحيات والسلطات. وتروي الحوادث حكاية العلاقة بين الفرد- الراوي، واللجنة الحكومية التي تمثل السلطات السياسية، الإدارية، القضائية والبيروقراطية في آنٍ. وقد نُشرت الرواية في أوائل الثمانينيات ترافقها رسوم للفنان التشكيلي صلاح عناني، تجسّد لوحة الغلاف بأسلوب غروتسكي ساخر مجموعة من الموظفين العسكريين والبيروقراطيين ويحضر من بين الشخصيات جنرال، ومواطن بائس يسهو بنظرته بعيدًا عن الواقع، وتحضر شخصية أخرى تقود الجماهير وحيدةً، وتضع الشخصيات كلها النظارات السوداء، ونجد في الصورة كرسي هزاز قريب إلى كراسي السلطة، يتربّع على زنده طائر أقرب إلى الغراب الوقح المهيب. اللوحة تمثل اللجنة وربما تنويعات على شخصيات الرواية، لكن أسلوبها الساخر والغروتسكي يجسد عالمًا من البيروقراطية والتشرد والعماء والضياع، فالشخصيات لا تتواصل نهائيًا مع بعضها البعض، ولا يبدو أنها عالمة بوجود بعضها، فلا تواصل بينها بأية نظرة، ولا بطريقة الجلوس، إذ لكل منها وضعية ومشاعر مستقلّة عن باقي الشخصيات الحاضرة معها في اللوحة. وتجسّد اللوحة الثاني من رسومات الفنان عناني للرواية المشهد الذي تكشف فيه اللجنة على قضيب المواطن الذي نراه مكشوف المؤخرة من الخلف، بينما يحدق أعضاء اللجنة كلهم بثبات في قضيبه، وينحنون على المنبر الخشبي لأجل رؤية أفضل.
وفي الجزء الأخير من الرواية يحضر رسم جديد لواحدة من الشخصيات التي تصرخ بحالة تعبيرية مؤثرة، فالفم المفتوح يتّضح أنه يصرخ من الألم أو التهميش أو القمع، وهي تعبّر عن حالة من الرغبة في الصراخ التعبيري المكبوت.
وعند دراسة متن الرواية، يتضح لماذا اختارها مجموعة المعتقلين السياسيين المسرحيين، فاللجنة في هذه الرواية، كما هي الحال في رواية (المحاكمة، فرانز كافكا، 1925) هي عبارة عن تمثيل لكامل النظام البيروقراطي الحكومي الإداري، وكذلك السياسي والقضائي. فسلطات اللجنة في كلتا الروايتين غامضة وخارقة في مستوى القدرات والصلاحيات، وفي كلتا الروايتين لا يدرك المواطن المحاكَم التهمة الموجَّهة إليه، وعلى الرغم من ذلك يبدي الطواعية التي تفرضها عليه الأنظمة الرقابية. فها هو المواطن يصل قبل ثلاثين دقيقة من الموعد المحدد: “بلغتُ مقر اللجنة في الساعة الثامنة وثلاثين دقيقة صباحًا، قبل ثلاثين دقيقة من الموعد المحدد لي، ولم أجد صعوبةً في العثور على الغرفة المخصصة لمقابلاتها، وأفضى لي الحارس أن أعضاء اللجنة لا يتوافدون عادةً قبل الساعة العاشرة”(). وهو لا يعرف سبب استدعائه إلى اللجنة، وإن كان مدَّعى عليه أصلًا. لقد أمضى العام الفائت في دراسة اللغة التي تستخدمها اللجنة وفي جمع المعلومات الوارد ذكرها في مجالات الفلسفة والكيمياء والاقتصاد: “ووجهتُ إلى نفسي عشرات الأسئلة المتباينة، وأنفقتُ أيامًا وليالي في البحث عن إجاباتها، وتابعتُ برامج الذكاء والفوازير التي يعرضها التلفزيون”(). بينما تُبيّن لنا الكلمات الافتتاحية التي يدليها العضو الأبرز في اللجنة بأن المثول أمامها اختياري وليس إلزاميًا للمتهم: “في بداية هذا اللقاء، أحبّ أن أسجّل تقديري، والذي يشاركني فيه زملائي، لاختيارك المجيء إلينا. وليس معنى هذا أننا سنأخذ بوجهة نظرك. إنما ما أردتُ أن أوضحه هو أن المثول أمام لجنتنا، كما يعلم الجميع، ليس إجباريًا. ففي هذا العصر يتمتع كل إنسان بحرية تامة في الاختيار”().
تجسّد الرواية التي اختارها المعتقلون السياسيون بطريقة غروتسكية المَهانات والإذلال الذي يتعرض له المواطن الفرد أمام سلطة الأنظمة الرقابية والقضائية والممثَّلة هنا باللجنة، فها هو الراوي يحزم على خصره ويرقص أمام اللجنة في سبيل كسب التعاطف معه: “لأني طمعتُ في أن تشهدا لصالحي تصرفتُ بسرعة وبراعة، خلعت رباط رقبتي وعقدتُه حول خصري فوق حزام الحوض مباشرة، وراعيتُ أن أجعل العقدة على الجانب كما تفعل الراقصات المحترفات”(). كما أن التُّهم الموجهة إليه غامضة وغير محددة الجريمة، ويصل الأسلوب الساخر بالنص إلى أن يتهم المواطن بالأداء الجنسي السيء أو المتحفظ: “خاطبني رئيس اللجنة بلهجة حازمة: لقد استمعنا منك في حديث طويل عن مواهبك وقدراتك. لكن لدينا هنا تقرير يقول إنك لم تتمكن من ممارسة الجنس مع سيدة معينة، والتقرير لا تشوبه شائبة فقد رفعته السيدة نفسها التي تعرضت لهذا الموقف، فما تفسيرك؟”(). إن التجارب التي يعيشها الراوي في علاقته باللجنة تعبير رمزي عن الإذلال الذي يتعرض له المعتقل أمام النظام القضائي والبيروقراطي، كما هي الحال مع رمزية عري المواطن أمام اللجنة في الفقرة التالية: “كنتُ لا أزال مجردًا من بنطالي وسروالي الداخلي، وجعلني هذا أشعر أني عارٍ تمامًا أمام اللجنة، ليس بالمعنى المادي للكلمة فحسب، وإنما بمعناها المجازي أيضًا، وأنني تحت رحمتهم تمامًا”().
يكتب الناقد جميل حمداوي عن الرواية: “تدين هذه الرواية ذات الطبيعة السياسية الحقوقية الساخرة أجهزة القمع التي تصادر حقوق الإنسان، وتمرغ كرامة المثقفين المناضلين والفاعلين العضويين بمفهوم أنطونيو غرامشي في وحل الإهانة والعبث بشرفهم وآدميتهم الطبيعية. كما تؤشر على التغيرات التي عرفها العالم العربي بصفة عامة، ومصر بصفة خاصة، بعد انتقالها من المرحلة القومية إلى مرحلة الانفتاح وانتهاج سياسة الاقتصاد الليبرالي الحرّ المبني على الاستهلاك واستيراد المنتجات والبضائع الأجنبية المعاصرة، وانتشار ظاهرة الخوصصة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتأخر وتيرة نمو القطاع العام، وفشله أو عجزه عن تلبية حاجات المواطنين. وترصد الرواية بفنية عالية نمو العلاقات الاجتماعية والاقتصادية خلال مرحلة المد القومي وبعد انحساره، وما ترتب عن ذلك من ظهور طبقات اجتماعية متفاوتة، وسلطات متنوعة ومطلقة. وتمزج الرواية المعقول باللامعقول في تصوير هذا الواقع المليء بالتناقضات الغريبة التي تلبس الواقع بالمفارقة الكاريكاتورية الساخرة، والحدث بالتأمل، وتُعري الواقع الراهن، وتكشفه على حقيقته”().
بعد نقد الأنظمة القضائية، تشرع الرواية في الأجزاء التالية في نقد الأنظمة الرقابية، ويتمثل ذلك في مستوى المبالغة الروائية الرقابية، حيث تزور اللجنة المواطن المتَّهم في داره، وتعيّن له حراسةً ترافقه طوال النهار داخل منزله: “لم أتصوّر أبدًا أنه يمكن أن تزورني اللجنة في المنزل، حتى إني وبسبب انغماسي في العمل في الفترة الأخيرة، نسيتُ وجودها تقريبًا”. “أخذ بقية أعضاء اللجنة يتوافدون، فجلست السيدتان على حافة الفراش، وبجانبهما أحد العسكريين، واستقرّ عسكري آخر على مقعد بمسندين إلى جواره”(). ويعيّن رقيب للنوم بجانب المواطن: “تقدمتُ من الفراش بخطىً متثاقلة، وسمعتُه يطلب مني بالصوت الهادئ نفسه، أن أسبقه إلى الفراش، كي يرقد هو على طرفه الخارجي، فخضعتُ لرغبته، واستلقيتُ على ظهري إلى جوار الحائط، وما لبث أن انضم إليّ بعد أن أطفأ النور”(). ما يفقد المواطن قدراته ومتعه الجنسية في إشارة ساخرة أخرى لفقدان الخصوصية إلى أبعد حدودها: “جرفتني موجة ألقت بظلالها على مناحي حياتي وأهدافها، ولم تسلم من ذلك المتع الجنسية التي تحتل مكانًا بارزًا من وجداني، فعندما استدعيتُ –في محاولة مستميتة للخلاص- ما يخزنه عقلي من صور واقعية ورؤىً خيالية، طالما بعثت الدماء في عروقي، ألفيتني غير مبالٍ، عازفًا عن كل وعد بالبهجة”().
وبعد النظام القضائي والرقابي، تنتقل الرواية إلى نقد النظام السياسي والاقتصادي. فيتهجم الراوي على النظام السياسي بما فيه أيضًا النظام الرأسمالي، وخصوصًا شركة الاستثمارات المتداخلة بين الدولة والفئات التجارية والاحتكارية، ومنها شركة كوكاكولا التي تمثل بالنسبة إليه رأس الهرم في الفساد الحكومي والرأسمالي، واللجنة تراقبه لأنه يحضّر دراسةً عن مالك شركة كوكاكولا الذي يظهر أحيانًا بأنه صاحب السلطة المطلَقة في البلاد. يكتب الناقد خليل حمداوي في رؤية الجانب السياسي من تمثيل اللجنة روائيًا: “إن (اللجنة) رواية جدلية المثقف والسلطة، ورواية واقعية انتقادية تبنى على السخرية الكاريكاتورية والبارودي والمفارقة المذهلة. يتداخل فيها السياسي مع المعرفي، والتاريخي مع الاقتصادي، واللغوي مع الأدبي. كما تصور صراع المثقف مع أنظمة القمع وإعدام المعرفة إقبارًا ومنعًا. إنها تبيّن لنا صراع الحقيقة مع الزيف، وتملّق السلطة وموالاة اللجنة لها. كما تشير الرواية إلى مصادرة حقوق الإنسان، واحتقار المثقف العربي من طرف مؤسسات الرصد والتجسس والمخابرات السرية التي تناصر الظلم وتحارب العلم والخوض في المعرفة الحقيقية”().
ويحضر الاختلاف بين رواية كافكا ورواية صنع الله إبراهيم في النهاية، فتنتهي الأولى مع تنفيذ المواطن المتّهم حكم الإعدام في نفسه، بينما توحي نهاية رواية (اللجنة) بأن الانتفاضة أو التمرّد الذي يقوم به الراوي أمام اللجنة ليس إلا حدثًا من بنات خيالاته وهو يقبع في عزلته وحيدًا: “تردد صوتي قويًا ثابتًا في الغرفة الخالية وأنا أقول: لقد ارتكبتُ منذ البداية خطأ لا يُغتفر، فقد كان من واجبي أن أقف ضدكم، لا أن أقف أمامكم، ذلك أن كل مسعىً نبيلٍ على هذه الأرض يجب أن يتجه للقضاء عليكم”(). لتليها الفقرة الأخيرة حيث يأكل المواطن المتَّهم نفسه، للقارب مع النهاية التي تضعها شخصية (جوزيف ك) لنفسها في رواية (المحاكمة) لـ فرانز كافكا: “رحتُ أنصتُ للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة، وبقيتُ في مكاني، مطمئنًا منتشيًا، حتى انبلج الفجر، عندئذٍ، رفعتُ ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأتُ آكل نفسي”(). يكتب الناقد خليل حمداوي عن الشخصيات في الرواية: “يُلاحَظ أن شخصيات الرواية فارغة من حيث الدلالة، وسديمية بلا معنى، ومعدومة الجوهر، إنها لا تحمل اسمًا أو علمًا، على غرار روايات كافكا والرواية الجديدة التي حوّلت الشخصيات الروائية إلى حشرات وأشياء وأرقام بلا هدف ولا مقصدية. ولا تحمل هذه الشخصيات سوى بعض الألقاب القائمة على التعظيم (الدكتور) أو التقبيح والتشويه (القصير)، وهذا يعني أن الإنسان لم تعد له قيمة تُذكر في عالم الاستلاب والقمع والتشييء الليبرالي. ومن ثمّ، فالرواية تصوير للمحاصرة المعرفية والشخصيات المثقفة المناضلة بطريقة بارودية ساخرة، أساسها التهكم من الواقع العربي المتعفن والمتردي على جميع المستويات والأصعدة”().
في عام 2009، تنطلق المخرجة زينة دكاش في إعداد عرض مسرحي مع السجناء الرجال في سجن رومية اللبناني المركزي، عن نص مسرحي محدد في تاريخ المسرح يحمل عنوان (اثنا عشر رجلًا غاضبًا، لـ ريجنالد روز، عرض للمرة الأولى عام 1954). وهي مسرحية من فصل واحد، تدور حكايتها في غرفة تصويت لجنة من المحلفين لاتخاذ الحكم على صبيٍ متَّهم بارتكاب جريمة قتلٍ بحق والده. يذكر المؤلف المسرحي في بداية النص نوعية الشخصيات التي يتكون منها النص، والتي تذكّر بـ (اللجنة) في العرض المسرحي السابق، ونذكر بعض نماذج الشخصيات في النص المسرحي كما أوردها المؤلف:
“الشخصيات:
المحلف 1، رئيس لجنة المحلفين، عاطفي.
المحلف 2 مصرفي، لا يجرؤ على الاشتراك في النقاش.
المحلف 3 رجل أعمال، يهاجم المتهم بعنف.
المحلف 4 دلّال، يجمع الوقائع.
المحلف 6 عامل بناء، يسعى لفهم الدوافع التي حرّكت المتهم.
المحلف 8 مهندس، مرهف الحس، منطقي.
المحلف 9 فظ، ويفتقر كل حس موضوعي.
المحلف 12 ناشر، سطحي، لا يستوعب مسؤوليته أبدًا”().
ويتابع النص المسرحي الأصلي المداورات والنقاشات بين أعضاء لجنة المحلّفين التي يجب عليها إصدار حكمها بالإجماع (إما “مذنب” أو “غير مذنب”) وبينما يصوّت جميع أعضاء الهيئة في بداية المسرحية على تهمة “المذنب”، إلا أن المحلف رقم 8 يتردد في التصويت لإقرار التهمة، محاولًا البحث عن الدوافع أو الأحوال التي دفعت الفتى لارتكاب الجرم المُتَّهم به:
“رقم8: الحديث هنا عن صبي قَسَت عليه الحياة، أتعرفون ماذا تعني حياته في كوخ قذر، بعد أن فقد أمه منذ الطفولة، وأن يوضع منذ التاسعة في ميتمٍ، بينما يمضي أبوه المزوِّر عقوبة عامين في السجين؟”().
“رقم8: لقد تعرض هذا الصبي للضرب في كل يوم من حياته، حتى أنه غدا العنف حياله من طبيعة الأشياء، ولا أتخيل أن صفعتين، ستدفعان الصبي إلى قتل أبيه”().
وهكذا يبحث المحلف رقم 8 في الأبعاد الإنسانية والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والتربوية التي يعيش فيها الفتى المتَّهم بالجريمة، ما يؤدي إلى استمالة المحلفين الآخرين الواحد تلو الآخر:
“رقم 4: من الموكّد أن هذا الصبي خرج من أسرة مدمَّرة وحيٍّ حقير، لكن المسألة ليست هناك، ونحن ما اجتمعنا هنا لنبحث في الأسباب التي تجعل من الأكواخ القذرة أعشاشًا للمجرمين، بل نحن هنا لنقول إن كان مذنبًا أم لا”().
وتنتهي المسرحية بعكس نسبة التصويت الأولي، ليقتنع المحلفون كلّهم بالأخذ بالشروط الإنسانية والاجتماعية وعدم قدرة المحلف على اتخاذ قرار نهائي وحتمي في الحياة:
“رقم8: كان الشهود كلهم جِدّ قطعيين، وقصدي أن أقول إن الحياة ليس فيها شيء قطعيّ على ذلك النحو”().
على مدار سنة وشهرين قامت المخرجة زينة دكاش بالتمرينات داخل سجن رومية. قدمتْ بعدها عرضًا مسرحيًا تجسيدًا للنص المسرحي المذكور أعلاه، كما أخرجت بعدها فيلمًا وثائقيًا يتناول كامل التجربة، حيث نتابع في الوثائقي النقاشات والتدريبات حول المسرحية مع السجناء المشاركين، والصعوبات الإدارية والتقنية في تنفيذ الأفكار المسرحية وتدريب السجناء على الانضباط والأداء والإلقاء وتحليل الشخصيات، أو تقمصها، حيث ركزت التمارين في الأداء على التمييز بين الشخصية الحقيقية والشخصية المسرحية بالنسبة إلى المشاركين في التمثيل للمرة الأولى. المخرجة متخصصة في مجال العلاج بالفنون والمسرح، لذلك نتابع في الفيلم محاولاتها الحثيثة لبناء الثقة مع المشاركين، ذلك أنه يتخلل النص المسرحي الأميركي مونولوجات مبنية على أساس حكايات واقعية من بوح السجناء، ولذلك فالعرض يتطلب منهم المشاركة الحميمية لأفكارهم وحكاياتهم. يدمج العرض المسرحي السرد النصي لمسرحية الأميركي ريجنالد روز، إضافةً إلى حكايات ومونولوجات يقدمها السجناء المشاركون ويكتبون موضوعاتها، كذلك يتضمن عروضًا أدائية راقصة، وبشكل أساس على نغمات مجموعة من الأغاني التي كتبها ولحَّنها مجموعة من السجناء الموسيقيين: عازف عود، عازف إيقاع، مغني، وكورس من 4 أشخاص. تتعلق كلمات الأغاني بالظلم الاجتماعي في الطفولة، الانخداع بقيم المجتمع الفاسد، التوبة والشعور بالندم، والمطالبة بحقوق السجناء الإنسانية”.
يختلف السجناء المشاركون في المسرحية في الجرائم والعقوبات التي يخضعون لها (اغتصاب، خمس سنين، جريمة قتل، 15 سنة، ترويج مخدرات وتزييف عملة، حكم إعدام بجريمة قتل، حكم 15 سنة لجريمة قتل، حكم مؤبد لجريمة قتل). ولا يتوقف العرض عند اثنتي عشرة شخصية لبنانية، بل يشارك سجناء في لبنان من كل من سورية ومصر وفلسطين وبنغلاديش، وإحدى الشخصيات الرئيسة في المسرحية لا تتحدث إلا لغتها الأم النيجيرية، بينما تخصص له المخرجة مترجمًا يرافقه في الأداء على الخشبة. ويقارن السجناء المشاركون بين شخصياتهم الواقعية وبين الشخصيات المسرحية التي يؤدونها، يقول أحدهم: “رقم 2 بالمسرحية بشيبهني، أنا متلو عندي خجل وتردد” أما المشرك (أنور) فهو لا يعتقد أنه يتقاطع في خواص شخصيته مع شخصية المحلف الغاضب الموكَّلة إليه. في المقابل يعدّ زميله في الزنزانة شخصيته الحقيقية قريبةً من المحلّف رقم 3 الانفعالي، الغاضب، والمتهور. بينما يقول السجين الآخر: “لو كنت رقم 8 في الماضي، ما كنت فتت على السجن”، بينما يتماهى مشارك آخر مع الصبي المتهم بقتل والده: “كان ياكول قتل ويتعذب هو وصغير، وهو بفكر فيه كل المسرحية”.
تتضمن المونولوجات/ الحكايات التي يقدمها السجناء المشاركون في العرض اعترافات بالأخطاء المرتكبة في الماضي، إلى جانب نقد النظام القضائي والعقابي، ومطالب يوجهونها للقائمين عليه، مطالِبين ببعض التعديلات، كما تتضمن العديد من الأغاني الجماعية في العرض المسرحي نقدًا للنظام السياسي والفساد المستشري فيه وفي الواقع، بعيدًا عن محاسبة ومحاكمة نظام العدالة، كما تنتقد العديد من المونولوجات الواقع الاقتصادي للسجناء والواقع الاقتصادي للبلاد بأكملها. (يوسف شنكل) عميد السجناء المشاركين في المسرحية يؤدي مونولوجًا أمام الجمهور ليتحدث عن السنوات الثماني عشرة التي أمضاها حتى الآن في السجن. ويقارن المونولوج الذي يقدمه (شنكل) بين النظام العقابي في السويد والنظام العقابي في لبنان. أما السجين (حسين) فيعترف بأنه وقع ضحية العنجهية والرغبة في القوة والتسلّط، كان قاسيًا مع أبيه وأمه، وزوجاته الأربع. كان يحاول تحقيق ذاته على هيئة الحازم الآمر الناهي، فوصل به الأمر إلى الجريمة والدخول إلى السجن: “أعترف بخطأي في السعي وراء شخصية عنجهية”. أما المشارك الموسيقي كعازف عود مع الفرقة الموسيقية: “فقد دخل السجن بالخديعة، وذلك ليحمي شركاءه من جماعته، وبينما وعدوه بمساعدته على الخروج، لا يزال داخل السجن منذ سنوات، وهو يشعر بالغبن والغباء” على حد تعبيره.
تحضر التقاطعات إذًا -بين رواية (اللجنة) والنص المسرحي (اثنا عشر رجلًا غاضبًا) والعرض المسرحي الذي أُنتج في خضمّ العلاج الدرامي في سجن رومية- على المضامين المسرحية من حيث تناول موضوعة النظام السياسي والقضائي والعقابي في النظام الحاكم، وتناول العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والقيم الجماعية، وكذلك موضوعات القيم الثقافية والاجتماعية والسياسية.
ثانيًا: محور الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد القيم الفكرية والأخلاقية والثقافية
يستمد هذا المحور عنوانه من دراسة التقاطعات بين:
النص القصصي بعنوان (العنبر رقم 6، أنطون تشيخوف، 1892) الذي اختير ليقدَّم كعرض مسرحي في سجن صيدنايا للرجال بين عامي 1988 و1990.
العرض المسرحي (جوهر في مهب الريح، إخراج زينة دكاش، العام 2020) وهو عرض مسرحي عُرض في سجن رومية للرجال، خُصِّص لرواية أوضاع سجناء الأمراض الذهنية والعقلية والعصبية.
الفيلم الوثائقي (السجناء الزرق، إخراج زينة دكاش، 2021) الذي عُرض مع العرض المسرحي سابق الذكر.
كما في المحور الأول، تتوافر أيضًا على مستوى موضوعة المحور الثاني تقاطعات بين أحد النصوص التي اختارها المعتقلون السياسيون في سجن صيدنايا للرجال في التسعينيات من القرن الماضي، وهو (العنبر رقم 6) لـ أنطون تشيخوف، وبين التجربة المسرحية التي حققتها مؤسسة (كاتارثيسيس) في سجن رومية المخصص للحالات المرضية العقلية والعصابية مع المخرجة زينة دكاش ضمن عرض مسرحي أولًا بعنوان (جوهر في مهب الريح)، وفي فيلم وثائقي تاليًا بعنوان (السجناء الزرق). وإن كانت التقاطعات في المحور السابق تتعلق بتمثيل الأدب والعروض المسرحية للنظام الرقابي، السياسي والعقابي. فإن التقاطعات في هذا المحور تظهر في محاولة الأدب والعروض المسرحية تمثيل القيم الفكرية، الأخلاقية، والثقافية، وتحديدًا القيم المتعلقة، بـ: العقل والجنون، الجريمة والعقاب، الظلم والعدالة، المثالية والفساد. فضمن هذه المفاهيم الفلسفية والأخلاقية والثقافية تتحرك موضوعات المحور الثاني.
يكتب المسرحي والمعتقل السابق غسان الجباعي: “قمتٌ بإعداد النص كي يتناسب مع هذه الأوضاع الاستثنائية، وقام بسام صياغة بكتابة ثلاث نسخ بخطه الجميل، وبدأ هيثم القطريب بتأليف الموسيقى والأغاني على عود صنعناه من بيدون ماء بلاستيكي أوتاره من النايلون، وقام الفنان طلال أبو دان برسم الشخصيات بقلم الرصاص. ويتضمن الكتاب مجموعة التصاميم والرسومات بقلم رصاص لا يزال يحتفظ بها المؤلف”(). ولا يصرِّح الكتاب المستشهَد فيه هنا عن أي دوافع أو تأويلات أخرى متعلقة بكيفية تقديم هذا النص في مسرح المعتقل في صيدنايا، ولا نملك حيال هذا التساؤل إلا بعض المفردات والمفاهيم المفتاحية التي وردت في شهادة المعتقل السابق (بدر زكريا)، والتي تضيء لنا بعضًا من التأويلات الخاصة بهذا النص، يكتب عن عرض (العنبر رقم 6) في المعتقل: “ما زالت عالقةً في ذهني المفردات الأثيرة: الجدار، النافذة، الشمس، القفص، السلالم، بوصفها مجازات تأتي في سياق حديث عابر عن الأمل، اليأس، الحرية، السجن الذي نحن فيه؛ لم تكن مفردات للتعبير عن مشاعر، أو تجريد لحالات نفسية فحسب، بل كانت إرهاصات لمشاريع فنية وجمالية”().
في مقاله عن هذا النص الأدبي التشيخوفي يبيِّن الناقد إبراهيم العريس الإطار التاريخي والثقافي لصدور قصة (العنبر رقم 6) في روسيا، ومن خلال توصيفه التاريخي والفكري لتلك المرحلة نلحظ التقاطعات أيضًا مع أدب صنع الله إبراهيم الذي صنّفه النقّاد في إطار الأدب المعبّر عن مرحلة الانفتاح الساداتي، بينما يكتب إبراهيم العريس عن نص تشيخوف: ” تكاد تتلخص الأوضاع التاريخية للرواية في تلك النزعة العدمية المريرة التي هيمنت على الذهنية الروسية، ولا سيما على أفكار النُخَب المثقفة الروسية خلال السنوات التي تلت اغتيال القيصر ألكسندر الثاني. في ذلك الحين كان تشيخوف لا يزال شابًا. فوجد فجأةً أحلامه الإصلاحية والتغييرية تنهار، وسط انهيار اجتماعي عام في البلاد. ذلك أن اغتيال القيصر في حد ذاته دفع إلى استشراء تلك العدمية وانبعاثها من جديد بعد أن كانت قد طويت -أو هكذا خُيِّل إلى المثقفين- مع بروز الزمن الإصلاحي. وهكذا بدل الأحلام المستقبلية حلّ البؤس الفكري والانهيار الطبقي وخيبات الأمل. والحال أن انطون تشيخوف كان، في ذلك الحين، في مقدّم المثقفين الذين راحوا يعانون ذلك كله. ومن قلب هذه المعاناة، تحديدًا، ولدت رواية (العنبر رقم 6) التي أراد تشيخوف أن يتنفس قليلًا من خلالها، وأن يرمي أحزانه وخيباته على الورق”().
وتدور حوادث هذه القصة في مستشفىً للأمراض العقلية يُطلق عليه اسم “العنبر الرقم 6″، والمستشفى الذي تدور فيه الحوادث ريفيٌّ، سيئ التنظيم وشديد القذارة. في العنبر المذكور يعيش خمسة وعشرون مريضًا عقليًا عيشةً تغلب عليها الفوضى، إذ لا يعتني بهم سوى حارس وحيد، قاسٍ وعنيف، لا يتورع في كل مرة عن ضرب المرضى لكمات قوية لكي يدفعهم الى الهدوء حينما يثورون، أو تحل بواحد منهم نوبة عصبية. الشخصية الرئيسة الأولى في الرواية هي الدكتور (أندريه أفيمفيتش) وهو طبيب شاب يتولى مسؤولية المستشفى، ويبدو زاهدًا في كل شيء، وغير راضٍ عن أوضاع أهل بلده، يشعر بمرارة كبيرة من أحوال المستشفى والمهنة الطبية، حتى يصل به الأمر إلى فقدان الإيمان بفاعلية العلاج الطبي، ما يجعله في حالة من القلق الوجودي. أما الشخصية الثانية فهو النزيل (إيفان دميتريتش جروموف) المريض الذكي والواعي والمطّلع على أسئلة العالم والوجود، ولكنه عانى من عقدة الاضطهاد جعلت مصيره ينتهي في عنبر المستشفى رقم 6. وحين يكتشف الطبيب وجوده، ويجري معه الحوارات يشعر أنه إنسانٌ سليمٌ وواعٍ، ثم ما يلبث أن يشعر برغبة الحوار والتواصل مع المريض القادر على خوض السجالات والحوارات المتشعبة الفلسفية، الوجودية، والسياسية. لكن الزيارات المتواترة التي يقوم بها الطبيب إلى مريض العنبر رقم 6، تلفت انتباه الزملاء في العمل وخصوصًا الحارس (نيكيتا) الذي يشعر بجنون الطبيب وهو يجري حواراته اليومية مع المريض، وينقل الأخبار إلى الإدارة التي تعمل على مراقبة تصرفات الطبيب وسلوكياته، ما يدفع الطبيب إلى الاستقالة من عمله. لكن الأمر يتفاقم باتهام الإدارة للطبيب بالجنون، فينتهي به الأمر الى أن يودع بدوره في العنبر الرقم 6، كمريض هذه المرة، ومشخصٍ بالجنون تحديدًا. لتبدأ رحلة معاناة الطبيب مع الألم والشروط الصحية والمعيشية القاسية التي تُفرض عليه للمرة الأولى، بعد أن تحول من الطاقم الطبي إلى توصيف المريض العقلي والنفسي.
تبيّن لنا الحبكة القصصية غايات النص الأدبي في معالجة موضوعات العقل والجنون، الخلل المؤسساتي والعجز في النظام الطبي والعلاجي، وهي موضوعات ستتطرق لها العديد من الكتابات في القرن العشرين كما هي الحال مع كتابات المؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، 1961) أو رواية كن كيسي (الطيران فوق عش الوقواق، 1962)، وفيلم (برسونا، 1966) لـ إنغمار برغمان. يكتب إبراهيم العريس: “هذه الحبكة التي وظفها الكاتب وبمعقولية عالية كاشفًا زيف ادّعاء الأنفس المرائية والغبية والبليدة التي تتحكم في مصائر الناس، وخاصة المثقفين والعلماء والمخلصين في العمل، حتى يودوا بهم إلى الجنون، كما حدث لبطل القصة الطبيب (أندريه) ومريضه المثقف (إيفان) محضّر المحكمة السابق وسكرتير المحافظة”().
تبدأ الرواية مع نقد المؤسسة العلاجية والاستشفائية الغارقة في الفوضى والعجز، لأنها مخصصة للمرضى الفقراء، فلا تنعم بالرعاية المطلوبة، وذلك كما يصفها الطبيب (أندريه) في بداية الرواية: “إنها مؤسسة لا أخلاقية، لا بدّ من إصلاحها أو إغلاقها لأنها أشلاء عفنة تهدد حياة المرضى، وقد كان المسؤولون والناس كلهم يعرفون ذلك، لكن لا أحد يتحرك لأنها مجرد مستشفى للفقراء”(). ويبدأ الطبيب بالتساؤل حول جدوى جهده في إصلاح الأحوال، وفي ما يمكن أن يفعله لإصلاح الأحوال المنهارة، فيشعر باليأس ويسأل نفسه مبررًا الصمت على الفساد: “لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟؟؟ أنا مجرد ترس صغير في آلة كبيرة للفساد والشر، جميع الموظفين في المدينة مثلي. لا يفعلون شيئًا، ويتقاضون رواتبهم بلا فائدة يقدمونها، إذًا لستُ مذنبًا، الزمن هو المذنب، فلو جئت في زمن آخر لكنت شخصًا آخر”(). وصولًا إلى أن يفقد الطبيب الإيمان بمهنته، ومن ثمّ يطرح تساؤلات عن معنى الحياة والموت: “عمومًا لماذا نمنع الناس من أن يموتوا طالما أن الموت هو النهاية الطبيعية المشروعة لكل إنسان؟ وما جدوى أن يعيش تاجر موظف خمسة أو عشرة أعوام زيادة؟ وإذا وصفنا هدف الطب أن تخفف الأدوية الآلام، فإن السؤال الذي يثور لا إراديًا هو ما الداعي لتخفيفها، فالآلام تفضي بالإنسان إلى الكمال أولًا، وثانيًا لو تعلّمت البشرية بالفعل أن تخفف آلامها بالحبوب فسوف تهجر الدين والفلسفة”().
أما شخصية نزيل العنبر (إيفان) فيرسمها المؤلف بدقة بين الحكمة الواعية المثالية، والجنون الانفعالي الناتج عن التمرد، إذ كان يعمل كمحضر سابق للمحكمة وسكرتير للمحافظة، وقد أدخلته نوبات من عقدة الاضطهاد إلى المصحة، لكنه بقي ينطق الحكمة بالنسبة إلى من حوله، وخصوصًا بالنسبة إلى الطبيب، تصف الرواية هذه الشخصية، بما يتقارب مع ما سنلمسه في شخصيات المرضى العقليين والعصابيين في مسرحية (جوهر في مهب الريح)، فيَرِد في الرواية في وصف (إيفان): “على الرغم من التوتر المستمر وتقلصات وجهه، إلا أنه سرعان ما تتغلب الرغبة في الحديث على شتى الاعتبارات، فيطلق العنان لرغبته ويكلم بحرارة وحماس، وحديثه مضطرب، محموم، كالهذيان، غير مترابط وليس مفهومًا دائمًا، وعندما يتحدث ترى فيه مجنونًا وإنسانًا. وهو يتحدث عن الوضع البشري وعن الطغيان الذي ينتهك الحق، وعن الحياة الرائعة التي ستكون على الأرض بمضي الزمن، وعن قضبان النوافذ التي تذكّره كل لحظة ببلادة الطغاة وقسوتهم، ويتألف من ذلك خليط مشوّش متنافر من الأغاني القديمة التي لم تكتمل بعد”(). وما أشبه هذه الشخصية بالشخصية الرئيسة، أي الراوي في رواية (اللجنة). ولكن تجد كل شخصية من الشخصيتين الرئيستين في (العنبر رقم 6) الشخصية الأخرى فرصةً للتفاعل والتواصل والإدلاء بالآراء. فالطبيب يصرّح في أكثر من موضع عن رغبته في الحصول على تواصل حي وحقيقي مع عقل آخر: “الطبيب: أنت نفسكَ تعلم أن كل شيء في هذه الدنيا تافه وممل، باستثناء أسمى مظاهر العقل الإنساني. فالعقل يضع فاصلًا حادًا بين الحيوان والإنسان، ملمّحًا إلى ألوهية الأخير، وإلى حدٍ ما يعوّضه عن الخلود الذي لا وجود له. وانطلاقًا من هذا يصبح العقل المصدر الوحيد المتاح للمتعة. أما إن كنا لا نسمع ولا نرى من حولنا بالعقل، نكون محرومين من المتعة. صحيح أن لدينا كتبًا، ولكن يختلف ذلك تمامًا عن الحديث الحي والتخاطب. فإن كانت الكتب نوتةً، فالحديث غناء”(). بينما يستغل النزيل المريض الفرصة للدفاع عن حقه في الخروج من العنبر، وهذا ما سنجده أيضًا في مونولوجات السجناء في مسرحية (جوهر في مهب الريح)، حيث يصبح سؤال العقل والجنون ملتَبَسًا، وتوضع قيم العدالة الاجتماعية والقضائية موضع الشك والنقد: “إيفان: لماذا تبقيني هنا؟، الطبيب: لأنك مريض. إيفان: نعم مريض، ولكن عشرات ومئات المجانين ينعمون بالحرية لأن جهلك غير قادر على تمييزهم عن الأصحاء، فلماذا ينبغي لي أنا وهؤلاء التعساء أن نبقى هنا بدلًا من الجميع ككِباش فداء؟ أنت والحكيم المشرف وأوغادكم في المستشفى أدنى من أي واحد منا من الناحية الأخلاقية إلى حدٍ لا يُقاس، فلماذا نبقى هنا وأنتم لا؟ أين المنطق؟”().
أما إدانة النظام العقابي والقضائي، وإدانة القيم الاجتماعية والثقافية، فإنها تظهر بجلاءٍ في تصريح الطبيب (أندريه) عن قسوة المجتمع الراغب في حماية نفسه من الخطّائين والمختلفين: “الطبيب (أندريه): أنت تسأل ما العمل؟ إن أفضل شيء في وضعك هذا أن تهرب من هنا، ولكن ذلك غير مجدٍ للأسف، لأنهم سيمسكون بك؛ إذ عندما يحمي المجتمع نفسه من المجرمين والمرضى النفسيين وعمومًا من الأشخاص المتعِبين، فإنه لا يمكن التغلب عليه، ولا يبقى غير أن تهدّئ نفسك بفكرة أن وجودك هنا غير ضروري. طالما توجد سجون ودور للمجاذيب فلا بد أن يبقى فيها أحد، إن لم تكن أنتَ فأنا، وإن لم أكن أنا فغيرنا. انتظر إلى أن ينتهي في المستقبل البعيد وجود السجون ودور المجاذيب، وعندئذ لن تكون هناك قضبان على النوافذ أو الأبواب”(). وتتعدد الموضوعات التي يتناقش فيها الصحيح والمخبول، والتي يتداول فيها العقل والجنون، منها حوارات عن الخلود والحياة والموت، ونهاية الإنسان:
“- ألا تؤمن بالخلود؟
- كلا، لا أؤمن، وليس لدي سند للإيمان.
- أصارحك بأني أشك أيضًا، ومع ذلك فلديّ إحساس بأني لن أموت أبدًا، وأحيانًا أقول لنفسي إيه أيها العجوز لقد حان الوقت لتموت، ولكن صوتًا في داخلي يقول لا تصدق، لن تموت”().
وعلى الرغم من هذا التنوع في الموضوعات التي يثيرها الطبيب والمريض، إلا أن موضوعة البحث عن خلاص وسكينة الفرد تتفرد بالمساحة الأكبر من الرواية، فالطبيب (أندريه) يعتقد أن توازن الإنسان وسكينته، وكذلك شعوره بالخلاص والتحرر تنبع من داخل الفرد لا من خارجه، فسيّان بالنسبة إليه غرفة المكتب الدافئة أو العنبر: “الطبيب أندريه: أنت إنسان مفكّر ورزين، وتستطيع في أي وضع أن تجد السكينة في نفسك، إن التفكير الحر العميق الذي يسعى لفهم الحياة، والاحتقار التام لأباطيل الدنيا الحمقاء نعمتان لم يعرف الإنسان شيئًا أسمى منهما. وفي وسعك أن تحوزهما، حتى لو كنتَ تعيش وراء ثلاث طبقات من القضبان. لقد عاش ديوجين في برميلٍ لكنه كان أسعد من قياصرة العالم. ليس هناك أي فرق بين غرفة المكتب الدافئة المريحة، وهذا العنبر. إن سكينة الإنسان ورضاه ليست خارجه، بل في داخله. فالإنسان العادي ينتظر الأمور الطيبة أو السيئة من الخارج، أي من العربة وغرفة المكتب، أما الإنسان المفكر فينتظرها من داخل نفسه”(). أما المريض (إيفان) فيجد في هذا الرأي خبرة في آلام الحياة وتجاربها المريرة ونوعًا من التعالي الجاهل على جوهر الإنسان القائم على المعاناة، والجوع، والخوف من الخسارات والموت: “”إيفان: إن التعاليم التي تدعو إلى تجاهل الثروة وملذات الحياة، واحتقار الآلام والموت ليست مفهومةً أبدًا للأغلبية الساحقة، لأن هذه الأغلبية لم تعرف قط لا الثروة ولا ملذات الحياة. أما احتقار الآلام فيعني بالنسبة إليها احتقار الحياة نفسها، لأن جوهر الإنسان كله يقوم على أحاسيس الجوع والبرد والإهانات والخسائر والخوف من الموت. ولنفرض أن سكينة الإنسان ورضاه ليسا خارجه، بل في داخله، ولنفرض أنه ينبغي له احتقار الآلام وعدم الاندهاش لشيء، ولكن، على أي أساس تدعو أنت لذلك؟ هل أنت حكيم؟ فيلسوف؟ باختصار أنت لم تر الحياة ولا تعرفها على الإطلاق، ولست مطّلعًا على الواقع إلا من الجانب النظري”(). وتمتلك شخصية النزيل السجين (إيفان) رؤية مماثلة لما سيحضر في رؤى شخصيات نزلاء قسم الأمراض النفسية والعقلية في سجن رومية المركزي في لبنان، والذي يذكر في حكم العقوبة الصادر بحقهم “تنفذ العقوبة إلى حين الشفاء” ما يعدّ لغة طبية فضفاضة ولا تسمح بإنهاء السجين لمحكوميته، بينما تربطها بتحسن مستواه العقلي والذهني، الأمر المناط بتأويلات واسعة وغير محددة بدقة، وخصوصًا عند اكتشاف غياب أي معالجة طبية أو دعم نفسي لنزلاء السجن العقلي، وكأن لسان حالهم يقول مع المريض السجين (إيفان) في رواية تشيخوف: “حياة لعينة، والمحنق والمرير في الأمر أن هذه الحياة لن تنتهي بمكافأة على الآلام أو بمشهد ختامي كما في الأوبرا، بل بالموت. يأتي خدم المستشفى ويسحبون الميت من يديه وقدميه إلى القبو. بررر، ولكن لا بأس في العالم الآخر سنحيي عيدنا”().
في عام 2020، قررت مؤسسة Catharsis بإدارة المخرجة زينة دكاش تحقيق عرض مسرحي يروي معاناة السجناء المحكومين في سجن رومية، والذين يعانون من اضطرابات ذهنية أو عصبية، ويُطلق عليهم (السجناء الزرق) نسبةً إلى لون المبنى الأزرق المخصص لهم في عمارة السجن. في لبنان، يُحاكم مرتكِب الجرائم الذي يعاني من خللٍ نفسيٍ وفق قانون عقوبات صادر عام 1943، ينصّ على أنّ هؤلاء المساجين “المجانين”، “الممسوسين”، “المعاتيه” كما يسميهم، يُحجَزون في مأوى احترازي لحين ثبوت شفائهم. والأكثرية في هذا الجزء من السجن حُكم عليهم، وكتب في أحكامهم (لحين الشفاء). لكن يصعب تحقيق عرض مسرحي مع سجناء الاضطرابات الذهنية والعصبية وتدريبهم، وتنظيمهم، وإدارتهم مسرحيًا وأدائيًا، لذلك جاء العرض المسرحي (جوهر في مهب الريح) ليوصل حكايات ومعاناة السجناء في القسم النفسي والعصبي عبر أداء السجناء المشاركين في العروض السابقة، والذين يتوجب عليهم نقل معاناة، قصص، وشخصيات السجناء النفسيين والعصابيين المحرومين من التعبير. في هذه المسرحية يروي السجناء المؤهلين للتدريب والأداء المسرحي عن أولئك السجناء في قسم البيت الأزرق، قسم الأحكام العقلية والنفسية غير القادرين على التعبير المسرحي والأدائي. يمثلون جنونهم، ويقلدون شخصياتهم، وذلك لغاية التعبير عنهم وحمل مطالبهم إلى المجتمع والجمهور. وتروي حكايات المسرحية عن صعوبة العيش ضمن حكم مفتوح التأويل: “لحين الشفاء” مع غياب المتابعة الخاصة أو توفير الدعم النفسي للسجين إلى حين الشفاء. ويبدأ العرض بفرقة من السجناء تعزف الموسيقى الإيقاعية وتغني بطريقة جماعية، أما الفيلم الوثائقي المرافق للعرض بعنوان (السجناء الزرق، إخراج زينة دكاش، 2021) فيطلعنا على نوعية الجمهور والحضور القادم إلى صالة العرض داخل السجن، منهم العاملون في إدارة السجن، أو وزارة الداخلية، أو من المشرعين والمشرعات في البرلمان اللبناني، مع حضورٍ أيضًا من الوسط الثقافي والمسرحي من الاختصاصيين/ات. ويبدأ العرض حين يدخل السجناء الممثلون إلى الصالة بأداء مبالغ الغروتسكية يذكّر بشخصيات رسوم صلاح عناني المرافقة لرواية (اللجنة)، ينظرون إلى الجمهور مباشرةً ويتجولون بينهم، كاحتكاكٍ تتقصده المخرجة دائمًا في عروضها بين الجمهور والحالات الاجتماعية المهمّشة والمنبوذة. يتضمن العرض عروضًا راقصة كريوغرافية تعبر عن عذابات الألم في الحياة مع الإعاقة العقلية أو النفسية، وآثار الإعاقة الذهنية في الأجساد المسجونة. ويؤدي المشاركون في العرض أغانٍ مسرحية تعبّر عن التهميش والنسيان الذي يعانون منه في قسم السجن الأزرق. وهناك أغانٍ كما يُتوقَّع من خصوصية المسرحية، تتطرق إلى مسألة تعرف العقل والجنون، تحديد السوي والمجرم، وهي تبين عجز القضاء في تحديد العقل من الجنون.
يبين الناقد شفيق طبارة الأسلوبية الإخراجية الموظَّفة في الفيلم الوثائقي: “تُجلسنا زينة بكاميراتها الثابتة مع المساجين، نستمع إليهم، تكاد تصلنا رائحة سجائرهم المشتعلة معظم الوقت. نعيش معهم، نعود بالزمن إلى طفولتهم، ثم قصص التحول المؤثرة في مجرى حياتهم، ننتقل إلى شبابهم. هنا لا تفاصيل كثيرة ولا أسرار كبيرة، بل بوح وأفكار ممزوجة بحميمية فحسب. يغمرنا الفيلم بمشاهدة وصورة، وننتظر القصة التالية، ننتقل إلى داخل الفيلم وزمنه. تكسر زينة الحواجز وتنقلنا إلى عالم غريب لا نعرفه. تجربة جريئة نُفِّذت بإتقان. اكتشفنا الشخصيات واللحظات التي غيّرت مصيرها. فيلمٌ تمتزج فيه زينة مع المساجين في خلفيتها كمعالِجة نفسية من خلال الدراما، لتذيقنا الطعم الحلو والمر والدافئ لمشاهدها الثابتة. لا مفرّ من العالم الذي تُدخلنا فيه. عالم يبثّ الروح ويضفي الكثير من الإنسانية. نلمس الغلاف، ثم نقلّب الصفحات برويّة لنشاهد صورةً تلو أخرى وندخل فصلًا تلو آخر. تتحدث الصورة عن نفسها، بلغتها الخاصة ورمزيتها الفائقة، فنلمس هالةً إلهيّة وصوفية، وخاصة في مشاهد المسرحية ومشاهد التدريب والرقص. وجوه المساجين غامضة. تضيء الشمس الوجوه نهارًا، ونبصر سخطها ولا مبالاتها في وجه ما يحدث لها”().
المشارك الأول في هذا العرض هو (يوسف كنجل) عميد السجناء المشاركين في العرض الأول (12 لبنانيًا غاضبًا)، والذي يخبرنا عن النجاحات التي حققها العرض المسرحي السابق، والفيلم الوثائقي الذي حقق عنه: “دار الفيلم أكثر من 75 بلدًا، بينما أنا لا أزال هنا أقضي محكوميتي المؤبدة، بالملابس نفسها، في المكان نفسه، وبالحال نفسها، 7 سنوات مرت من دون أن يتغير الكثير في حالي، ما عدا أنه كبرتْ والدتي وما عادتْ قادرة تجي تزورني بالسجن”. ومن الشخصيات ذات الخصوصية الذهنية والتي تقدَّم في المسرحية، شخصية مقاتل سابق في ميليشيات الحرب اللبنانية، انصدم بالنهاية التي آلت إليها الحرب، والتي سلبته سلطته وأجبرته على تسليم سلاحه وإيقاف كل أنواع القتال، وبعد هذه السنوات الطويلة لا يزال حتى الآن يعيش في شخصية المقاتل المليشياوي الذي يقود الكتيبة والذي يوجّه عناصر الزنزانة كأنهم زملاءه، وعناصر كتيبته في القتال، فهو لا يزال يعتقد أنه يقود مجموعةً مسلحةً في أثناء الحرب الأهلية. يروي شاب آخر عن تضرره من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، ما جعله يتأثر بالخطابات والشعارات الأيديولوجية التي تدعو إلى القتال وحمل السلاح، وهو يردد هذه الشعارات بصوت عال بين المرة والأخرى خلال المسرحية: “إسرائيل عدو أبدي”، أما المريض الوحيد الفعلي الذي يشارك في المسرحية فهو (تليجي) الذي يعتقد أن: “لبنان هو المرض النفسي الذي يعدي كل الناس الذين يعيشون فيه”. هذه رسالة السجين والمريض العقلي (تليجي) إلى وزير الداخلية الحاضر بين الجمهور. يريد (تليجي) أن يكون وزيرًا للسعادة، وهو أحد المساجين المحكومين بالمؤبّد في سجن رومية. مجرمٌ يعاني اضطرابًا نفسيًا، لم يُحاكَم كما يحاكم أقرانه في لبنان، ولم يوضع في المبنى المخصّص لهم(). كما يعبّر أحد السجناء في مشهد عن أنّه” “لعلّ أقسى الأقدار تلك التي تحكم على المريض النفسي حكمًا غير معروف الأمد في سجنَين: سجن القضبان الخارجي وسجنه الداخلي”(). ما يذكر بالحوار المطول بين الطبيب (أندريه) والمريض (إيفان) عن السكينة والخلاص الإنساني بين الداخل والخارج. تقرأ شخصية أخرى قصيدة شعرية عن موضوعة القانون والعقل والجنون، تذكّر تمامًا بمضمون النص الأدبي (العنبر رقم 6) لـ أنطون تشيخوف، تقول القصيدة في المسرحية:
“عذرا أيها القانون عذرًا،
تقول عني مجنون ممسوس،
تنتظرني كي أشفى،
قد ورد في الأديان السماوية،
فكيف بك تحاسبني وأنا،
عذرًا أيها القانون عذرًا،
تستوحي موادًا من صديقك الفرنسي،
كن منصفًا أيها القانون، على أحكام تتضمنها
صفات أحلى بالأحكام حملها
فهل في كتب القانون أعاجيب
ألا حرج على المريض أتعرفها؟
لا أعي من الأشياء غير أسمائها؟
تأمر بحجزي في المأوى الاحترازي
ولا تتأثر بتطورها()
فذنبي الوحيد أني خلقت مجنونا”().
أما الصحافية نادين حوماني فتكتب أيضًا في وصف الفيلم وشخصياته: “أهمية الفيلم ليست فقط في جذبنا إلى معاناة تلك المنطقة المتروكة من الدولة، إنه يخبرنا عن أسباب وجود هؤلاء السجناء في المبنى الأزرق، أنا ما شفت إمي، وبييّ كان قاسي يربطني بالجنزير ويحمّي السكينة ويحرقني فيها، ما كنت لاقي شغل، يوعدوني وما يبعتوا وراي، صار معي أعصاب ضربت بييّ بسكينة وتوفى، من لما كان عمري 5 سنين بتعاطى حشيشة، كانت الداية تحطلي القنبز ويضحكوا هي وإمي كيف أرقص من بعد هيك، بس خلصت الحرب انصدمت، متل حدا فاتح دكانة وتسكرت، كنت ضابط بالحزب، وهول للي علقولي اياهن ع كتافي طبات بيبسي أو نجوم، وكأننا أمام جردة حساب لمشكلات مجتمعنا الغائرة في العمق.”
إن قصيدة (عذرًا أيها القانون)، وتوصيف الصحافية دارين حوماني للفيلم يبدوان وكأنهما يستكملان الموضوعة التي ناقشتها شخصيات رواية (العنبر رقم 6)، عن جوهر الإنسان بين الزهد والمعاناة، وكأن العرض الحالي والفيلم الوثائقي اللبناني يجيبان عن الأسئلة المطروحة في رواية تشيخوف منذ 130 عامًا. فرؤية (إيفان) أن جوهر الإنسان هو المعاناة والألم والخوف من الموت والجوع تتجسد تمامًا في المونولوجات والحكايات والمشاعر التي يرويها سجناء الاضطرابات العصبية والنفسية في المسرحية اللبنانية المعاصرة. ومن هنا تأتي التقاطعات المؤلفة لهذا المحور بين التجربتين في مساءلة العقل والجنون، المثال والفساد، العزلة والجماعة، الحياة والموت وغيرها من التقاطعات على مستوى الموضوعات والمفاهيم التي تطرقنا إليها سابقًا، وكأن العلاقة بين (العنبر رقم 6) و(جوهر في مهب الريح) بُنيت على أساس التمايز في النوع الفني، فالرواية طرحت الأسئلة والإشكاليات العقلية والفكرية، وها هو المسرح بخصوصيته يجيب بعد 130 عامًا، كان لابد خلالها من تطوير نوع مسرح البسيكودراما، أو مسرح المضطهدين كما أطلق عليه المنظّر الأساس له المسرحي البرازيلي أوغستو بوال. إن مسرح المضطهدين الذي تمكّن من إعطاء الصوت إلى السجناء النفسيين كأنه يتابع كتابة رواية تشيخوف الفلسفية، لكن من خلال المشاركات الحية. وفي هذا الإطار، وبعنوان (أسرى في سراديب الذاكرة) يكتب محمد برو: “تتمدد ذاكرة المعتَقل لتتصل بذاكرة معتَقلين آخرين، ربما في أزمنةٍ وأمكنةٍ مختلفة ومتباعدة، إلّا أنها تتوحد في الموقف من السجن بحد ذاته، بدءًا من المعاناة المشتركة، وإن تباينت في قسوتها، لكنها تبقى معاناة لها طعم خاص يعرفه المعتقلون، كما تتوحد في اتجاهات أنماط التكيف، تتوحد في الأهداف وتتنوع في سبل التحقيق، وهذه المقارنة بذاتها تغني خيال المعتقل وتمنحه إحساسًا بالانتماء إلى هذه المجموعة الواسعة “المعتقلون”. إنها تتوحد في تواتر الأمنيات التي يتشوفون إليها كلَّ ساعةٍ حتى في أحلامهم. الأماني الكبرى تتمركز في الحرية والانفلات من القيود، وأماني أخرى تتسلسل في ترابطها كالعودة إلى الأهل والأصدقاء، والعودة إلى الحياة الطبيعية التي كانت، والتمتع بكل ما هو بسيط وعادي”().
في خاتمة المحور، نذكّر بما وجدناه من تقاطعات بين الأعمال الفنية المدروسة فيه، حول موضوعات: العقل والجنون، الحكمة والتمرد، الحياة والموت، الحرية والمسؤولية. إن التجربة المسرحية السجنية المدروسة في سجون سورية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، وتجربة المسرح العلاجي بالدراما المدرسة في السنوات من 2009 إلى 2022، تبين أن المفاهيم المذكورة أعلاه تتقاطع في حضورها في كلتا التجربتين.
ثالثًا: محور الأدب والعرض المسرحي في تمثيل ونقد الأوضاع الاجتماعية، والتشريعية، والعقابية ضد المرأة
يستمد هذا المحور عنوانه من التقاطعات المدروسة بين:
النص المسرحي (حورية البحر، هنريك إبسن، 1888). والذي قُدم كعرض مسرحي في سجن دوما للنساء عام 1991.
العرض المسرحي (شهرزاد في بعبدا، إخراج زينة دكاش، 2013).
الفيلم الوثائقي المرافق للعرض المسرحي، وحمل عنوان (شهرزاد تتكلم، إخراج زينة دكاش، 2014).
لا تؤَلَّف العلاقة المدروسة بين الأعمال الأدبية والعروض المسرحية والأفلام الوثائقية الواردة في هذا المحور على أساس موضوعة المرأة فحسب، بل أيضًا مشاركة النساء في تحقيق هذه العروض المسرحية، ورواية تجربة النساء في النظام السياسي والقضائي والاجتماعي والثقافي في لبنان. بل إن العلاقة بين الأعمال الفنية السابقة تفتح على احتمالات كيفية معالجة موضوعة المرأة فنيًا، أدبيًا، ومسرحيًا. وكما رأينا في المحاور السابقة تبدو الموضوعة ممتدةً عبر أعمال فنية وأدبية ظهرت في فترات زمنية وتاريخية متباعدة. فبينما عُرفت كتابات المسرحي النرويجي هنريك إبسن بوصفها أعمالًا ونصوصًا طليعية في الدفاع والنقاش حول قضايا وحقوق المرأة في القرن التاسع عشر، فإن شهادة الشاعرة والمعتَقلة السابقة (وجدان ناصيف) تكشف عن تحقيق عروض مسرحية في سجن دوما للنساء في نهاية سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات، تكتب عن ذلك: “آخر عرض قدمناه في العام 1991، كان عن نص (حورية البحر، لـ إبسن) وجدنا هذه المسرحية في مكتبة السجن الفقيرة، وبجانبها مسرحيات أخرى للكاتب، لكن بدا لنا أن هذه المسرحية أنسب، بحسب قدرتنا على التعامل مع النص وتحويله إلى نص بسيط، يمكن أن يصل إلى جمهورنا من القضائيات (المحكومات بجرائم مختلفة). بدأت (رماح بوبو) و(ناهد بدورية) العمل على النص، لرماح قلم جميل سلس وخاصة في الكتابة الشعرية، وكانت تتقن الكتابة باللغة العامية، فوقع العبء الأكبر عليها في إعداد النص. وكانت ابنة اللاذقية، ولها علاقة مميزة بالبحر، لذلك استطاعت أن تعبر بلغة جذابة في حوارات (إلدا) عن البحر وشغفها فيه؛ أدت (سمر شما) دور (إلدا)، وأديتُ دور البحّار، وأدت (هند قهوجي) دور الزوج. بالنسبة إلي، كان دور البحّار من أجمل الأدوار التي أديتها في السجن، البحّار وما أطلقنا عليه في النص المسرحي اسم الغريب بحارٌ شغوف بالبحر والحوريات، وبالتغيير والإبحار في عالم الحلم والدهشة والمجهول، والابتعاد عن اليابسة حيث الواقع والاستقرار والمجتمع والقوانين”().
ويعدّ العديد من النقاد المسرحيين أن نصوص هنريك إبسن ومنها (بيت الدمية، وحورية البحر، والأشباح) رائدة في تاريخ المسرح الأوروبي والعالمي في دفاعها عن حقوق المرأة وفي تصويرها للواقع الاجتماعي، النفسي، والقانوني الذي تعاني منه، وقد واجه الكاتب إبسن العديد من الانتقادات، وكذلك الاتهامات التي تصف مسرحه بالهدّام للقيم والمسيء للعادات والتقاليد والثقافة النرويجية والأوروبية في حينها. ولم تتميز نصوص الكاتب المسرحي إبسن بالتطرق لقضايا المرأة وحسب، وإنما في تجسيد العوالم الذهنية والنفسية للمرأة، والصراع الذي تعيشه الشخصيات بين الثقافة التقليدية وبين الثقافة الجديدة التي تُكوَّن من التغيرات السياسية والاقتصادية بين عناصر المجتمع، كما هي الحال مع مسرحية (الأشباح) التي ترصد التحول الثقافي الذي تعيشه الشخصية الرئيسة (السيدة إفلنج) التي تتغير معاييرها وقيمها بالتزامن مع قراءة الكتب التي تطّلع عليها. كذلك الأمر في مسرحية (حورية من البحر) التي تطرح من خلال حكاياتها سؤالًا إشكاليًا عن شخصية الزوجة والعاشقة (ألدا) التي تضطر بحسب الحبكة المسرحية للاختيار بين الالتزام الزوجي وبين حكاية عشق رومانسية مع بحّار مجهول، يكتب عبد الله عبد الحافظ في مقدمة المسرحية: “تقع هذه المسرحية التي كُتبت في عام 1888 في المرحلة الثالثة من تطور إبسن الفني، حين تخلّى عن المسرحيات الشعرية، وبدأ في التصدي لمشكلات اجتماعية واقعية بأٍسلوب وتكنيك واقعي أيضًا. وهذه الفترة في رأي النقاد أهم فترة في تاريخ إبسن الفني. تدور المسرحية حول شخصية سيدة أشبه بجنية البحر في ملبسها وفي ولعها بالبحر، وفي ما يعتري نفسيتها من موجات صاخبة وفترات من السكون الرهيب. وتتعرف ألدا على بحّار غريب قام بجولات بحرية طويلة ورست سفينته في بلدتها النرويجية الصغيرة، كان حديثهما يدور حول البحر والعواطف والليل عندما يرخي سدوله على الماء، والحيتان وسباع البحر، كان يبدو أن البحر جزء منهما وأنهما جزء منه. يقابل البحّار ألدا ليأخذ منها وعدًا بالانتظار حتى يعود إليها ويجتمع الشمل من جديد، ثم يخلع خاتمًا من يده، وخاتمًا من يدها ويضعهما في حلقة مفاتيحه ويلقي بهما في أعماق البحر قائلًا إننا خطيبان، والبحر شاهد علينا. ثم يعود البحّار ليأخذها معه: “هيا بنا يا ألدا إلى البحر، نعيش سويًا حياة الحرية والانطلاق، ويطلب منها الوفاء بالعهد. وهنا يتدخل الزوج الدكتور فانجل بأن المسألة ليست مسألة إرغام، بل لا بدّ من أن تُترك لألدا حرية الاختيار”().
في حالة من المثالية الرومانسية الأقرب إلى الحلمية تتقابل (ألدا) مع بحّار يجسد حلم العاشق الخارج من الحكايات والروايات، ويضع في يدها خاتمًا قبل أن يغيب، ولكنه ما يلبث أن يعود بعد سنوات ليعرض عليها الرحيل معه ومتابعة كتابة قصة عشقهما، في هذه السنوات تكون (ألدا) قد تزوجت بالدكتور (فانجل) وأنجبت ابنتان، وبعد أن تعيش (ألدا) صراعًا داخليًا بين حكاية عشق رومانسي وبين التزام زوجي وعائلي، تدرك أنّ المصير يتعلق بخيارها الذاتي، وهكذا تقرر البقاء إلى جانب زوجها الذي اختارته وعائلتها. يكتب عبد الله عبد الحافظ: “كانت الحرية العامل الرئيس الذي فتح عيناها في أن رأت حنان الرجل الذي يقف بجوارها، فتغيرت صورة البحار الغريب عما كانت عليه في مخيلتها. إن حرية الاختيار على مسؤوليتها تعني حرية الرفض أيضًا، وتعني أكثر تمتعها بكيان مستقل”(). ويتابع في توضيح العبرة من الحكاية المسرحية: “يجمع إبسن في هذه المسرحية الرمزية والواقعية، ويهاجم فيها الأحلام الخادعة التي تحجب الواقع الحي بألوان مختلفة من الزيف الاجتماعي والنفسي”()، ويتابع: “مع لحظة الاختيار، تتحرر ألدا من السيطرة الطاغية للبحار الغريب، وتنظر إليه كأنه أشبه برجل ميت أتى من البحر وسيعود إليه. إن حنان زوجها وشعورها بكيانها المستقل كإنسانة حرة، جعلها تخترق حجب الأوهام والهواجس إلى عالم الحقيقة والواقع مع زوجها الحنون”(). لكن ذلك لا يتم قبل أن تطلعنا حكاية وحوارات (ألدا) مع زوجها على واقع المرأة في تلك المرحلة التاريخية في أوروبا، وما سيتم إسقاطه بوضوح على حال النساء المشاركات في عرض السجن المسرحي (شهرزاد في بعبدا)، اللواتي ستنتقدن ممارسات التزويج المبكر، ومصادرة رأي المرأة في القرارات المصيرية التي تخصها ومنها الزواج، تقول (ألدا) في المسرحية لزوجها:
“ألدا: نعم، يجب أن أكون حرة الاختيار، إما أن أدعه يذهب أو أذهب معه.
فانجل: هل تدركين ما تقولين، تضعين مستقبلك كله في يديه؟
ألدا: يجب أن تمنحني حريتي، لست المرأة التي أردتَ الزواج منها، الآن تدرك ذلك بنفسك، نستطيع أن نفترق الآن بحرية وتفاهم. نعم يا فانجل أدرك ذلك، هناك لحظات أفكر فيها أن المهرب الوحيد والأمان الوحيد هو ان أستسلم لك تمامًا وأدير ظهري إلى هذا كله، ولكني لا أستطيع، لا أستطيع”().
لكن هذه الأزمة الشخصية التي تعيشها (ألدا) في المسرحية تنتهي في اللحظة التي تستطيع فيها حريتها أن تجعل من مصيرها قائمًا على اختيارها الذاتي، وهي بذلك أيضًا تحمل مقولة التلازم بين الحرية والمسؤولية، وذلك ما تعبر عنه في الحوار الثنائي مع زوجها قبل نهاية المسرحية:
“فانجل: الآن أنت حرة إلى الأبد مني ومن كل شيء يخصني، الآن تستطيعين أن تعودي إلى حياتك الحقة، الآن تستطيعين أن تختاري بحرية وعلى مسؤوليتك.
ألدا: الحرية والمسؤولية. آه، الآن، لم أعد اتوق إليه ولا أخشاه، لقد سبرتُ غوره، كانت لي حرية اختيار المجهول، ولذا كانت لي حرية رفضه”().
لينتهي النص المسرحي مع مقولة ترد على لسان شخصية (بالسيد) المقرب من العائلة، والذي يقول ما يضمر مقولة المسرحية ومغزاها:
“”بالسيد: الحورية ماتت، ولكن الرجال والنساء يستطيعون أن يؤقلموا أنفسهم، نعم، أوكّد لك يا سيدة فانجل، يستطيعون أن يؤقلموا أنفسهم، إذا كانوا أحرارًا ومسؤولين”().
وكما يظهر من عنوان المسرحية فإن البحر حاضر بشكل أساس في النص، وكذلك سيحضر في مونولوجات سجينات سجن بعبدا المركزي للنساء في لبنان في واحد من أبرز مشاهد مسرحية (شهرزاد في بعبدا). يكتب عبد الله عبد الحافظ عن حضور البحر في نص إبسن: “يرمز البحر في هذه المسرحية إلى الحرية والانطلاق، بينما ترمز الأرض إلى القيود الجامدة، فالإنسان في البر مثله مثل السمكة في البركة الراكدة. إن استخدام الرمز في هذه المسرحية يضفي عليها طابعًا شاعريًا، فصورة ألدا وهي تغطس في البحر كل يوم وترتدي رداءً أشبه برداء الحورية، بينما يتدلى شعرها الكثيف على كتفيها، كل هذا يبعث حياةً في الرمز والشخصية التي ترمز إليه”(). وكذلك تنوّه الشاعرة والمعتقلة السابقة (وجدان ناصيف) في شهادتها على أثر البحر في النص المسرحي على المعتقلات المشارِكات في تحقيق العرض المسرحي: “حوار ألدا والبحار الفائض بالرومانسية والأحلام الواعدة الهاربة من الواقع، حبس أنفاس النساء، وخاصة عندما أخذ البحار خاتمها وخاتمه ووضعهما في سلسلة ورماهما في البحر، وقال تزوجنا الآن والبحر شاهد”(). لكن شهادة (وجدان ناصيف) تحمل ما هو أكثر أهمية، ألا وهو التأويل الذي قدمت من خلاله المعتقَلات النص المسرحي والجدال الدائر بينهن حول النهاية الواجبة لهذه الحبكة المسرحية، فتكتب: “تمر السنوات وتكتشف ألدا أن لقائها بالبحار ربما كان من مخيلتها، تتزوج طبيبًا محترمًا، وتنجب له ابنتين، وعاشت معه حياة هادئة بعيدة عن البحر، وبقيت تتألم وحيدة تنتظر شيئًا لا تعرفه، ولا تفهم إن كان من صنع خيالها، حتى يأتي يوم ويعود فيه الغريب ليقول لها إنه زوجها وإنه قادم لاصطحابها. هنا يدور حوار جميل بينها وبين زوجها والغريب، وتوضع بين خيارين: البقاء مع زوجها الذي تزوجته قانونيًا والمجتمع شاهد عليه، وبين أن البحر كان شاهدًا على الارتباط مع البحّار، وحين يعطيها زوجها حرية الاختيار: “أنت حرة في اختيارك”، تختار زوجها، وتنتهي المسرحية برسالة أردنا إيصالها، وهي أنه عندما نمتلك حق الخيار فإن خيارنا يكون صحيحًا. اعتقد أننا خرجنا كثيرًا عن النص الأصلي، وكانت النهاية صادمةً للسجينات. عبّرن عن غضبهن وقلن إنه يجب علينا أن نغير النهاية. مفهوم طبعًا، أنه عند النظر إلى واقع السجن. فإن أي سجينة ستختار الهروب من الواقع، حتى لو كان الذهاب مع رجل غريب”(). وهكذا نرى أنه قد عبّر نص إبسن عن بواطن ومشاعر المعتقلات المشارِكات في العرض المسرحي، اللواتي تماهين مع الجدلية التي تقع أمامها الشخصية الرئيسة (ألدا)، ولكنهن في الآن عينه، ومن موقع التلقي الذي يحمل خصوصية أي متلقٍ سجين، فإنهن رفضن النهاية المقترحة من المؤلف والنص الأصلي، لصالح خاتمة تتلاءم بمنطقية أكثر واقعية بالنسبة إلى سجينات محرومات من الحرية، والتي أطلقت عليهن المخرجة زينة دكاش في عرضها لقب (الشهرزادات).
في عام 2013، قدمت المخرجة ذاتها عرضها المسرحي مع السجينات في سجن بعبدا المركزي في لبنان بعنوان (شهرزاد في بعبدا)، وفي العام التالي قدمت الفيلم الوثائقي المرافق لرحلة العرض والتدريبات اليومية عليه بعنوان (شهرزاد تحكي، 2014). يبدأ العرض مع موسيقى مقطوعة الموسيقار ريمسكي كورساكوف بعنوان (شهرزاد). فيحوّل العرض مملكة ألف ليلة وليلة إلى مملكة “ألف حبسة وحبسة” على حد تعبير المشاركات في العرض. والجمهور هو شهريار الذي ينصت إلى حكايات السجينات.
عندما يصوِّر الفيلم المرافق للفيلم دخول الجمهور إلى المسرح في سجن بعبدا للنساء، يحضر أحد السجناء الذين شاركوا قبل 4 سنوات في مسرحية (12 لبنانيًا غاضبًا)؛ نال حريته وهو يعود إلى السجن لمشاهدة العرض المسرحي الخاص بالنساء. في أثناء دخول الجمهور تتوزع السجينات على الدرج بينما يصعد الحضور إلى مكان صالة العرض، تضع المخرجة أجساد النساء السجينات في وضعية استفزازية، تجبر التلامس بين جسد السجينات وجسد الجمهور الداخل إلى العرض، كأنها ترغب في دراسة الاحتكاك بين السجينة والجمهور، أو كأنها ترغب في فرض الاحتكاك بين الجسدَين كنوع من تجاوز القيود والصور النمطية. ترتدي السجينات لباسًا موحدًا مع إشاربات ملوّنة عل الرأس، وتبدأ الجوقة النسائية الجماعية بإعطاء الأوامر بصوت عالي، يشرحن الممنوعات المفروضة في حياة السجن: “ممنوع السهر، ممنوع العبور بين الممرات، ممنوع المرض بعد الساعة خمسة، ممنوع الاتصال مع الخارج، ممنوع التجول بين الغرف، ممنوع المكياج”. كما في العرض السابق، تروي السجينات المشاركات في العرض حكاياتهن الذاتية، أولها أم اشتاقت إلى أولادها: “اشتقت للمشي، كيف صار شكلي يا ترى؟”. تروي إحدى المشاركات تجربة سفاح القربى التي عاشتها لفترة طويلة في طفولتها، والتي أثّرت في شخصيتها، انعزالها، ثم إخفاقها في المدرسة والتعليم، حتى دخلت المستشفى، ومن بعدها تبدأ الميل إلى العنف في الانتقام من القريب الذي كان يغتصبها طوال سنوات من الطفولة.
تكتب الباحثة نادية خلوف عن طبيعة العلاقة الثنائية في حالات العنف الأسري: “غالبًا ما يعزل المعتدون ضحاياهم عن العائلة والأصدقاء والعمل وأي مصادر خارجية أخرى للدعم، قد يكون لديهم طباع متفجرة ويصبحون عنيفين في أثناء نوبة مسيئة، بعد ذلك، يصبحون نادمين ويحاولون استمالة شريكهم بالسحر والمودة والوعود بالتغيير، لكن السلوك المسيء نادرًا ما يتوقف.
العلاقات المسيئة تتمحور حول السيطرة والسلطة، وتتضمن التكتيكات الشائعة التي يستخدمها الجناة:
-نمط من العنف: حلقات تتخللها الاعتذارات والهدايا والوعود بالتوقف.
-عزل الضحية عن الأصدقاء أو العائلة أو الهوايات أو حتى وظيفتهم.
-بث الذنب في الضحية بسبب سلوكها أو الرغبة في مزيد من الحرية”().
تركّز حكايات السجينات ومونولجاتهن على الظلم الواقع على المرأة في المجتمع العربي واللبناني، فيتلون الأمثال الشعبية التي تدني من قيمة المرأة، مثل: “كل البلاء يأتي من النساء”. وتنطلق مونولوجات السجينات في العرض من أغراض يحملونها معهن لتشكل دافعًا للسرد المسرحي، منهن من يحمل الفستان الأخير الذي كانت ترتديه ابنتها حين اعنُقلَت، وسجينة أخرى جلبت كمنجة، وهي أداة خاصة بزوجها لكنها اختارتها لتعبر عن حالة الفراغ الذي تعيشه، بينما يعيش زوجها الشغف اليومي المتعلق بإتقان العزف على الكمان: “كنت أحسدو لأنو عندو هدف، لأنو عندو مشروع آخد وقتو”. أما السجينة الثالثة تحمل دفتر مذكرات يوميات سجينة سابقة، وجدَته في السجن. تروي فيه السجينة الكاتبة قصة حياتها منذ العشق مع ابن الحي الذي مثّل لها فتى الأحلام، فحاربت عائلتها للزواج منه، ثم ما لبث أن بدأ بضربها خلال الأسبوع الأول من الزواج، لكن صمتها عن العنف الواقع عليها أدى إلى استفحاله مع الزمن، وفي النهاية تفقد القدرة على تحمل حالات العنف والضرب التي تقع عليها أمام عيني ابنتها. وبسبب الحاجة العاطفية مالت إلى علاقة مع رجل آخر أدت بها إلى حكم “الزنا” بحسبما يُظهر ملفها القضائي. إنه التفاوت بين تشريع العنف المنزلي والزوجي والضرب أمام الأطفال، وفي المقابل يعاقب القانون على جريمة الممارسة الجنسية من دون عقد الزواج. وتروي المشارِكة الرابعة عن لحظاتها الأولى في المكان، عن السجن وقواعده، تروي عن توزيع المساحات، غياب الخصوصيات، صعوبات الزيارات العائلية، وكل ذلك مَرويٌّ بطريقة كوميدية مبنية على المفارقة الساخرة، فتشبه الممثلة السجن بالعصفورية. بينما تسخر سجينة أخرى من النظام البيروقراطي القضائي، فتصبح جلسات محاكمتها في حاجة إلى عرافة أو قراءة القدر بأوراق الشدة واللعب لتعرف الموعد بين المحاكمة والأخرى.
يكتب الناقد عبد الناصر حسو عن أثر العرض المسرحي في المشاركين والمشاركات في مسرح المقهورين، أو مسرح الشهادات الحية، فيكتب بما يشبه التحليل لآلية مسرح البسيكودراما أو المسرح العلاجي: “إنهم يُعبرون عن آلامهم وأحاسيسهم الصادقة بما يَعملون، ويصنعون في الوقت ذاته عوالم حقيقية من خلال تجاربهم الذاتية، هنا يركز الممثل على إيصال الفكرة والتعبير عنها أكثر من اهتمامه بالشكل الفني/ الجمالي، قد تكون الفكرة سياسية أخلاقية اجتماعية بصوغٍ فني أمام جمهور مغاير لم يعش تجربة السجن، لذلك، تكوّن نبرة الصوت وملامحه شخصية الممثل بوصفه يؤدي دوره، هنا تنتفي المسرحة وتتحول العملية إلى استعادة حالة التجربة والتعذيب، طالما لكل واحد خصوصية نابعة عن خصوصية التجربة والشخصية المؤدية. قد يخرج هذا الممثل المعتَقل عن دوره لأنه لا يمثل دورًا فهو يمثّل نفسه في هذه التجربة، ومن ثمّ يمثل مشاعره المستحضَرة في اللحظة الحدث الأول، فتختلف التجربة أقلّها في زمن الحدث في السجن وزمن الأداء على الخشبة أمام جمهور حي متفاعل”(). وعن هذا التماهي بين المرأة السجينة والمؤدية المشاركة في العرض المسرحي يوضح الناقد عبد الناصر حسو خصوصية العروض المسرحية التي تعتمد على البوح الشخصي للمشاركين والمشاركات في شرح الدينامية السردية بين الشاهدة وبين الحدث المسرحي: “هذه المرويات الشفهية كسردية دينامية مؤثرة يعتمد استحضارها على الذاكرة النابضة بالحياة، ليست توثيقًا بالمعنى التوثيقي، بقدر ما هي بوح بصوت عال، يمنح الممثل/ المعتقل روحًا وأحاسيسًا صادقة، تكوّن جزءًا من شخصيته، وتحرره من الظلم وتخلّصه من الآثار التي تثقل كاهله، بمعنى تطهير الممثل والمتفرج، في النظرية الارسطوطاليسية، هذه المواقف والتجارب، على الرغم من ذاتيتها إلا أنها انتقائية، مختزلة، تصوّر جمالية فنية، لا تلخص سنوات الاعتقال، إنما هي بعض مشاعر المعتقل”().
تدخل المشارِكة الخامسة في المسرحية بفستان العرس، تخبر عن العنف الذي تعرضت له وهي طفلة، عن التربية المبنية على الخوف والطاعة، تخبر عن الرعب الذي أصابها حين اكتشفت دورتها الشهرية الأولى باعتقادها أن قصاص إلهي؛ تتمركز حكاية هذه السجينة حول مشكلة التزويج المبكر من رجل يكبرها بـ21 عامًا، عن الظلم الذي تعرضت له من طرف عائلتها وزوجها، الاغتصاب الزوجي، العنف الزوجي المستمر، ومن الضربات التي تتلقاها أمام أبنائها وبناتها، وعن العلاقة العاطفية التي تفتقدها، ما قادها إلى الخروج مع عشيق، وقعت إثرها في جريمة الزنا. حكاية الشاهدة الخامسة تعبير عن الخيارات الضيقة التي يفرضها المجتمع على المرأة، فإما الزوجة المعنّفة المطيعة الراضية بالعنف أمام أولادها، أو المرأة الزانية لمحاولة البحث عن العاطفة الخاصة. يركز العرض في أكثر من موضع على ضرورة اللجوء إلى القضاء في حالات العنف الزوجي، ويشجع الصامتات للقيام بذلك والتعبير عما يتعرضن له. تكتب الناقدة سارة خازم عن النساء المشاركات في المسرحية: “يمكن تسميتهن بالنساء المتمردات، نساء قررن أنهن اكتفَين، ولن يسمحن بظلمهن مجددًا. هن سجينات تحوّلن إلى شهرزاد في سجن أصبح مملكةً عندما تكشّف لهن أن المجتمع يعيش في السجن الأكبر. قالت شهرزاد أنا مذنبة، لكنها لم تكتفِ بذلك، بل أجبرتنا على معرفة السبب. معرفة أي زواج قسري، أي تعنيف أسري، أي خيانة، وأي ظلم أدى بها إلى ارتكاب الجريمة. وربما لم ترتكبها، بل هو الظلم نفسه ألبسها جريمة هي براء منها. زُوّجت شهرزاد قسرًا عندما كان عمرها 12 عامًا، لم تعرف شيئًا عن الزواج، أطاعت زوجها وأنجبت له، إلا أنه، وهو يكبرها بعشرات السنوات، كان يعنفها باستمرار، وعندما كانت تشكيه لأهلها، كانوا يطالبونها بالصبر، وإذا أتت على سيرة الطلاق، فهي ميتة حتمًا، إذ أن أخاها جاهز لقتلها إن نطقتها. أما شهرزاد أخرى، فكانت تتعرض للتعنيف اللفظي والجسدي من زوجها وأمام أعين أطفالها. وشهرزاد أخرى لجأت إلى المخدرات بعد أن كانت تعنَّف في بيت ذويها إلى أن تشوَّه جسدها، كانت تُمنع من الخروج من المنزل، ومن الضحك أمام الرجال علمًا أنها كانت طفلة حينها، ثم عندما بلغت، أخرجها والدها من المدرسة كي تكون غير قادرة على كتابة رسائل غرامية للشبان، فهربت مع أول شاب أبدى اهتمامه بها، إلا أنه خانها. قصص كثيرة أدت بالنساء السجينات إلى ارتكاب جرائم قتل، وسرقة، وتعاطي المخدرات وتجارتها، والزنى، وغيرها”().
في لقاء صحفي تصرح المخرجة زينة دكاش: “أردتُ من ناحية أن أعرّف مَن خارج هذه الجدران، بالأوضاع الحياتية التي دفعت بتلك النساء إلى ارتكاب أخطاء فادحة في حيواتهن من جهة، وأن تتصالح هذه النساء مع ذواتهن من جهة أخرى، ووجدتُ أن العمل الفني سيكون خير نتيجة لعلاج الدراما، حيث من شأنه أن يخفف من المشكلات النفسية التي يعانين منها وللتخفيف من حدتها. أغلب جرائم النساء هي قتل الزوج، لأسباب متعددة، منها التزويج المبكر، العنف المنزلي، التسلط الزوجي. لذلك، مثل العرض صوت أي امرأة معنفة، أو أي امرأة تعاني من شروط العيش تحت سلطة النظام الذكوري. لم أكن أملك فكرةً واضحةً عن الموضوع الذي في إمكاني طرحه في المسرحية، ولكن عندما احتككت بالسجينات اللاتي رحن يتحدثن عن أوضاعهن وحكاياتهن مع الحياة ولدت الفكرة وسميتها شهرزاد في بعبدا. لماذا شهرزاد؟ لأنها كانت سجينةً أيضًا، وروت على مدى ألف ليلة وليلة حكاياتها لشهريار كي لا يقتلها، وهنا تخاف النساء أيضًا أن يقتلها المجتمع، ولا سيما أن بعضهن عشن في السجن آلاف الليالي، وأن من سيشاهد المسرحية سيتزود بكمية معرفة أكبر وبثقافة حياتية مغايرة تمامًا عن تلك التي نكتسبها في حياتنا العادية، ستكون بمنزلة عناصر إرشادية وتربوية له”().
المشهد الأطول في العرض هو مشهد المناجاة أمام النافذة المطلّة من الزنزانة على المدينة والعالم الخارجي، ويتضمن هذا المشهد والمونولوجات التي تؤديها السجينات أمام النافذة، فوق المدينة، في خطاب إلى الأبنية والأهالي ما يتقارب تمامًا مع علاقة شخصية (ألدا) مع البحر في مسرحية (إبسن). في هذا المشهد، تعبر المشاركات واحدةً تلو الأخرى أمام نافذة مطلّة من داخل الزنزانة إلى المدينة، لكل منهن مونولوجها الخاص الذي كتبته لتلقيه أمام الجمهور وأمام النافذة. تتعدد المونولوجات بين الأمنيات والآمال بالانضمام إلى العائلة في لحظات الأعياد والاحتفالات والمناسبات، وبين رغبة الانتماء إلى هذه المدينة بكليتها والعودة إليها، وبين الشعور بالانغلاق وفقدان المكان الذي تحتاجه الشخصية السوية. ذلك أن إحدى السجينات تنادي من داخل الزنزانة، بصراخ يعبر فوق المدينة باتجاه البحر على الطرف الآخر من السجن: “يا بحر اشتقتلك، اشتفت أتخبا فيك، مثل ما الشمس بتتخبا وراك، اشتقت ألعب بالمي، أركض ع الشط، يا بحر خدني لعندك”. أما ما يماثل النص المسرحي (حورية من البحر) حيث يحشر الرجل الحلم من عالم التخيل أو التوهم عند شخصية (ألدا) فهو يحضر في مشهد مسرحي مكتوب على شكل برنامج إذاعي تقدمه السجينات بعنوان (لتلتة)، وهو مشهد تستقبل فيه السجينات رجلًا من ماضيهن لمساءلته، استجوابه، والاستفسار عن سلوكيات قام بها مع إحداهن في الماضي. وكما الأمر في الجدلية التي تعيشها (ألدا، هنريك إبسن) بين المرأة العاشقة والأم المتزوجة، تصرخ السجينات في المسرحية في التعبير عن الحلم بالأنوثة: “كان حلمي أن أكون امرأة، لكني لا أعرف مصلحتي، عبالي ينقال عني كلمة حلوة قبل ما موت”. وتقول شهرزاد أخرى: “في هذا العرض أشعر أني مليئة بالأنوثة” في التأكيد على دور العرض المسرحي في إحساس المشاركة فيه بالذات. يكتب عبد الناصر حسو عن الأثر الإبداعي على النساء السجينات المشاركات في المسرحية: “يتشابك الواقع بالتمثيل، حيث تمثّل مجموعة الممثلين والممثلات حوادث وتجاربَ أو ما جرى معهم جميعًا، كلٌّ على حدة داخل السجن في زمنٍ ما؛ يمثلون تجاربهم الذاتية على الخشبة أمام جمهور ما، وقد تنعكس هذه التجربة على أرض الواقع، وقد لا تحدث تأثيرًا عاطفيًا تحريضيًا، كون الممثلين يمثلون أنفسهم ويؤدون أدوارًا، قد يتماهون في الدور أو يبتعدون عنه، هنا تتدخل الذاكرة لإحياء التجربة الأولى ليس كطقس أو حدث، إنما تمثيلها واستعادتها، قد تحذف أو تضاف حوادث لم تكن موجودة، وهم يخلقون توتّرًا طقسيًّا يخضع للقواعد المسرحية”().
يذكر العرض الحالي بعض الإنجازات التي حققها العرض السابق في تغيير القوانين لصالح حقوق السجناء: طُبِّقَ القانون 469 الذي يخفف الأحكام بناءً على حسن السلوك، كما أقر القانون عدّ السنة السجنية بمعادل 9 أشهر بدلًا من 12، ما يخفف الكثير من الأحكام المتعلّقة بالمدة الزمنية، وهذا ما استفادت منه إحدى المشاركات في العرض وعبّرت عن ذلك. ومع ذلك، تتابع السجينات المشارِكات في المسرحية بتقديم المطالب والحقوق التي ما يزلن يناضلن للحصول عليها. وتؤدي السجينات قبل نهاية العرض أغنيةً جماعيةً تتغنى بالحرية: “هيهات يا أبو الزلوف، ومحلاكي يا حرية”، وذلك بأداء إيقاعي جماعي راقص تعبر تصاميمه الحركية عن وضعيات الجسد المقيّد، الجسد المجبر على التدافع عند السير في أروقة الزنازين، كذلك حركات مستمدة من أفعال وأوامر القمع مثل فم الأفواه، والعقوبات الجسدية. مع نهاية المسرحية التي تمتد إلى ساعة ونصف الساعة، تعبُر السجينات بالترتيب أمام المسرح وتلقي كل منهن مطالبها ووداعها الأخير للجمهور، وتهتف السجينات في النهاية بشكل جماعي، تعبيرًا عن دور الإرادة والإصرار: “المصير فيو يتغير، التاريخ فيو يتغير”. بما يذكّر أيضًا بمفهوم الحرية والمسؤولية التي تنتهي عليه حكاية مسرحية (حورية من البحر).
خاتمة
إن دراسة النصوص المسرحية التي اختارها المعتقلون السياسيون والمعتقلات السياسيات الذين حققوا تجارب مسرحية داخل المعتقل تكشف لنا عن الموضوعات والمفاهيم الرئيسة التي يرغب المسرحيون والمسرحيات المعتقلون والمعتقلات في التعبير عنها. وقد نتج عن مقاطعتها مع تجارب مسرح العلاج بالدراما المصمَّمة لتحقق مع السجناء أو السجينات من طرف مختصين/ات داخل السجون تكشف عن سلسلة من المفاهيم والموضوعات الحاضرة في الإبداع الأدبي والمسرحي سواء أنتج العرض على يد المعتقلين والمعتقلات أنفسهم وأنفسهن، أو نتج عن تصميم علمي مهني تحققه مخرجة متخصصة.
كشفت دراسة النصوص والعروض المسرحية والأفلام الوثائقية الواردة في البحث عن محاور رئيسة عُبِّرَ عنها خلال هذه التجارب، وأبرزها:
في تمثيل ونقد النظام السياسي والقضائي والعقابي،
في تمثيل ونقد القيم الفكرية، الأخلاقية والثقافية،
وفي تمثيل ونقد الأوضاع الاجتماعية والتشريعية والقانونية التمييزية ضد المرأة.
إن دراسة النصوص التخييلية المسرحية إلى جانب العروض التفاعلية المسرحية، وعلى الرغم من الفارق الأساس والجوهري في خصائص كلا النوعين، قد أفضت إلى تحديد سلسلة من الموضوعات، والأفكار التي يتناولها الإبداع الأدبي والمسرحي السجني سواء أكان عملًا تخييليًا أو شهادات واقعية حية، ومنها: الجريمة والعقاب، العدالة والظلم، التمييز والتهميش، الرغبة في التواصل، وفي التجريب، وكذلك بشكل جلي الرغبة في التعبير عن الصراعات الداخلية في شخصيات الأدب السجني، وكذلك في مؤدي أو مؤديات مسرح الشهادات السجني الحي.
قائمة المراجع
إبراهيم، صنع الله. اللجنة، ط2 (القاهرة: مطبوعات القاهرة، 1982).
إبسن، هنريك. حورية من البحر، أحمد النادي (مترجم)، طه محمود طه (مراجع)، عبد الله عبد الحافظ (مقدم)، سلسلة المسرح العالمي 245 (الكويت: وزارة الإعلام، 1990).
الجباعي، غسان. المسرح في حضرة العتمة (السويداء: دار العوام، 2020).
تشيخوف، أنطوان. العنبر رقم 6، أبو بكر يوسف (مترجم)، محمد كامل الخطيب (مقدّم)، (سورية: وزارة الثقافة، دار البعث، 2004).
روز، ريجنالد. 13 مسرحية عالمية، عبود كاسوحة (مترجم)، ج1 (سورية: منشورات وزارة الثقافة، 1998).
دراج، فيصل. عالم صنع الله إبراهيم الروائي: الثقافة العربية في القرن العشرين، المجلد2 (د. م: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018).