تمهيد
تقدّم هذهِ الدّراسَةُ قراءةً معرفيّةً لحَدَثِ الاعتقال الّذي طَالَ أعْضَاءَ نقابةِ المعلّمينَ في الأردّنِ بعدَ قرارِ توقيفِ عَمَلِ مجلس نقابة المعلّمين الرّابع؛ إذ شكّلت هذه الاعتقالاتُ حالَةً من عدم التّوازنِ الاجتماعيّ السياسيّ في الأردّن حيث تعرّض المعلّمون للاعتقال الإداريّ والحبْسِ التعسفيّ في صورة شكّلت شَرْخًا في الحالة الديمقراطيّة للأردن. تقوم الدراسة على مبدأين: الأول، اجتماعيّ يَنظُر إلى الأزمة النقابيّة وطريقة التعامل معها بوصْفِها قضيّةً اجتماعيّة أثّرت في تكوين: الطّالب في المدرسة، وأهل الطلّاب في البيت. والثانيّ، مبْدَأ سياسيّ حيث إنّ العمل النقابيّ حقّ دستوريّ مشروع جاءت السّلطة لتفنيد هذا الحق بغطاء قضائي. ومن تكامل المبدأين السياسيّ والاجتماعيّ تظهر سرديّة الاعتقال في صِراع السّلطة التي تحاول عودة الإخضاع والموازنة في أدبيات ترتيب الطاعة خصوصًا أنّ نقابةَ المعلّمين حاولت كسر بنية الطاعة وفق نتائج تتعلق بالصّورة المجتمعيّة والسياسية؛ إذ يتّجِهُ مَبْدَأُ السّلطة في صِراعِهِ مَعَ العَمَلِ النقابِيّ نَحْو مَبْدأ عَودة الطّاعة. تقومُ الدِّراسَةُ في ثلاثةِ عَناوين رئيسة: الأوّل، قِراءَة في الأزمَة النّقابيّة مُنذُ التأسيس حتّى حلِّ المجْلِس الرّابع. الثاني، مقاربات تحييد النّقابة وكسر بُنى ترتيب الطّاعة. الثالث، تجرِبَةُ الاعتقالِ من السَّردِ إلى الحِكاية.
أوّلًا: قِراءَة في الأزمَة النّقابيّة مُنذُ التأسيس حتّى حلِّ المجْلِس الرّابع
إنّ القارئ للحركَةِ النّقابيّة في الأردن يجد أنّ المعلّمين لم تكن لديهم نقابة مِهْنيّة حاضِنَة للوظيفة التعليميّة وفق المسمّى النّقابيّ بالرّغم من وجودِ فرضيّاتٍ لوضْع أُسُس نقابيّة داخل مهنة التّعليم، وحدثت محاولات كثيرة لخلق حالة نقابيّة داخل إطار المعلمّين لكنّها حالات فرديّة، حتّى أتَى ربيعُ 2010 أي قبل تكوين ما يسمّى بالربيع العربيّ بمحاولات فرديّة من قبِل بعضِ المعلّمين معظمهم غير حزبيين، ولم يمارِسُوا العملَ السياسيّ، وتمّ الإرهاص لعودة فكرةِ النّقابة داخل اجتماعاتٍ سريّة وبـدْء إضرابٍ شامل عن التدريس على مستوى المعلّمين من أجل إخراج شرعيّة لنقابة المعلّمين، لكن في ظلِّ امتدادِ السُّلطة الأمنيّة، والتّضييقِ العامّ ، وغيابِ حريّة الرّأي، وثقافة الاحتجاج عمِدت السّلطة إلى الانضباط المستقيم أي التقويم من أجل الاقتطاع أكثر. جرى التضييق على المعلّمين حاضني الفكرة أو ما يسمّى قادة الحَراك بنقلهم نقلًا تعسّفيًّا عن أماكن سكناهم، وإحالة بعضِهم للاستيداع. إنّ السُّلطة وفق مشرّعيها أحسّوا بهموم المعلّم واتّجهوا نحو العقوبة الضابطة من الناحية السياسيّة، والانضباط الناعم من الناحيّة المجتمعيّة متعاملةً مع الحَراك بوصفه حَراكًا مطلبيّا لا حَراكًا سياسيًّا؛ فقُدِّمَ بعضُ الدّعم المادّي للمعلّم من أهمّها تقديم مكرمة لأبناء المعلمين بالدّراسة مجّانا في الجّامعاتِ الأردنيّة، وبنسبة لا تتجاوز خمسة بالمئة.
إنّ المُطَالبة بتأسيس نقابةٍ وفق أيدولوجيا النّقابات تعني أنْ يكونَ هناك وزارة ظلٍّ تمثّل المعلّمين بعيدًا عن تنظيم السُّلطة المتمثل بوزارة التّربيّة والتّعليم، لعلّ تلبيّة المَطالب الماديّة أمرٌ إيجابيّ بالنّسبة للسُّلطة، ولكنّها وفقًا لأدبيّات الطّاعة تخافُ تأثيرَ من هم في تيّاراتٍ سياسيّة إسلاميّة، أو يساريّة داخل تكوين نقابيّ وبالتالي العودة إلى مرجعيّات كسر الصّمت السياسيّ والحديث عن تيّارات جذب الشّارع قد يُؤدّي إلى زعزعة المَلَكيّة المُطلقة، إنّ أهمّ خصائِص المَلَكيّة المُطلقة في الأردن أنها ملكيّة هادِئة تحكم بدون عصا؛ ذلك أنّ ديموغرافيا السكّان لا يتّحد مع أيّ مطلب حزبيّ وهنا لن نطيلَ الحديث، لكن هذه الرّسَالة التي وجّهت للسُّلطة في الأرْدنّ كانت تُقرأ بتحرٍّ ودقّة، أي أنْ يكونَ هناك نقابَة هذا يعني اختلالٌ في مفهوم السُّلطة، هناك رعايا مثاليين استطاعوا التخلّي عن حقوقِهم ليخضَعوا للسُّلطة، والسُّلطة بحثت عن علاقات الإخضاع التي تصنع الرّعايا، ومن علاقاتِ الإخضاعِ الّتي تصْنعُ رعايا أفولُ العَمَلِ الحزبيّ وفق مفاهيمَ عداوة السلطة، أو المُعارَضة الرّحيمة. فصمتت النقابة أشهرًا قليلة.
جاءَ الرّبيعُ العربيّ، وغصّت الميادينُ بالشُّعوب المقهورة، وتحطّمت علاقاتُ الإخضاع ِالتي كانت تؤسس لحالة انهزاميّة في الوطَنِ العربيّ؛ فالميادينُ التي أسْقَطَت حُكّاما قادرةٌ على استرجاع نقابة مهنيّة مطلبيّة. غابت ثقافَةُ الخوفِ فَلَجَأ المعلّمون للإضراب كوسيلةِ ضغْطٍ على السُّلطات. وبعد احتجاجاتٍ ميدانيّة نال المعلّمون نقابتَهم بمرسومٍ مَلَكَي دستوريّ قُبيل انتهاء شتاء 2011 مُعلِنةً عن رَبيعٍ أصَابَ يبابَ المعلّمين ممهدّةً لانكسار علاقةٍ من علاقاتِ الإخضاع التي كانت تمارِسُها السُّلطة لصناعة رعايا خاضِعين.
بعدَ انكسارِ فلسفة الرّعايا الخاضعين أصْبَحَ المعلّمونَ في صِراعٍ داخليّ يربطُ العمل النقابيّ بالحزبيّة والمهنيّة؛ فجاءَت النّقابةُ عبرَ سنواتِ الإرْهاصِ والتأسيس نقابةً خدماتيّة، وليست نقابة سياسيّة، ولكن ظلّت هذه الصّراعات في أتون الأمانة العامّة ومجلس النقابة، ليكونَ للنقابة مُنذُ عامِ 2011 إلَى عامِ 2020 أربعةُ مجالِسَ منتخبةٍ، شكّل المجلسُ الأخير مِحوَر الصّراع ؛ فالمجلِسُ الرّابع جَاءَ وفق قوى حراكيّة وحزبيّة توافقت بينَ مطالبِ حراك الشّارع الأردنيّ الدّاعي للتغيير، ومطالبِ المعلّمين الباحثة عن تطبيقِ اتّفاقيّات ووعود حكوميّة سابقة، أوّلها علاوة ماليّة مَعَاشيّة. دَعَا المجلِس الرّابع لإضراب مفتوح في بداية الفصل الدراسيّ الأول 2019 من أجْلِ العلاوة، وكانت بدايةٌ لشرْخٍ مجتمعيّ يتعلّق بالعدوانيّة المجتمعيّة على المعلّم؛ إذْ برّرت الحكومةُ عبر إعلامها أنّ المعلّمين هم من يتعنتون في التوقّف عن التّدريس، لكنّ الحُكومَة وبعد أكثر مِن شهْرٍ على الإضراب التزمت بوعودها، وقدّمت العَلاوة المنصوص عليها. بعد توقف الإضراب غرّد ملك الأردن عبر الإعلام قائلا:” تَابَعْتُ تَفاصيلَ الإضرَابِ، وبعضُهَا كانَ مُؤلِمًا بعبثيّته، وأجِنْداتِه البَعيْدةِ عَنْ مَصْلَحةِ الطّالِبِ والمعلّمِ والتّعليم، فكانَ لا بُدَّ مِنْ إنهاءِ الاستِعْصَاءِ خِدمةً للعمليّة التّعليميّةِ، الثّمَنُ الأكبرُ كانَ تَعريْضَ مَصْلَحةِ الطَّلبةِ للإعاقةِ وهَذا يجِبُ ألّا يتكرّرَ”. إذن خطابُ السُّلطةِ كانَ واضِحًا بعدم التّكرارِ، وكأنّ السُّلطة أمامَ فرضيّات متنوّعَة في التّعامُلِ مَعَ العمل النقابيّ أهمّها “الفرضيّة في دَرَجةِ الصّفر” ومعنى هذه الفرضية أن نقابة المعلمين ليس لها أهميّة على الصّعيد التربويّ ووجب ألا تنوجد، وتقديم الخدمات الموكولة للنقابة يكون في أيدي الحكومة الممثلة بوزارة التربيّة. والفرضيّة الثانية هي “الفرضيّة المُطْلقة” أي وجب إسكات النقابة وحلّها.
جاءت أزمة كُورونا وكأنّها أوجبت الفرضيّة المطلقة إذ وَقَعَ المجلِسُ الرّابع في خرق دستوريّ تمثّل بتبرّع النقابة للحكومة من أجل مجابهة أزمة كورونا بمبلغ مالي وفق قرار مجلس النقابة دون الرجوع للهيئة العامة، وهنا بدأت الصّراعات بين القرارات القضائية وفق مبدأ الاستقلالية المقيّدة والقرارات الميدانيّة للنقابة لعدم العودة إلى الفرضيّة في درجة الصّفر، وجاء القضاء في تمّوز من العام 2020 بقرارات سلطويّة يؤكد أنّ الجهاز القضائي جزء من السلطة الانضباطيّة تمثّلت بتوقيفِ مجلس النقابة عن العمل، وتوجيهِ تُهمٍ متنوّعة كافية أن تودِعَ أعضاءَ مجلِس النّقابة في السجون لأشهر كثيرة.
ثانيًا: مقاربات تحييد النّقابة وكسر بُنى ترتيب الطّاعة
تحتاجُ الدّول إلى رَصَانة سياسيّة في التعامل مع حالاتِ الاحتجاج، وفي الدّول العربيّة خصوصًا دول الرّبيع العربيّ تلاشت ثقافة الدّولة السياسيّة وأدبيّات الحوار مع الآخر فكانت المعتقلات والسّجون، والقتل الجماعيّ ودمار الدّيار، وكأنّنا أمام ظاهرة الوطن الميّت وقبور النّفس الجمعيّة. وفي حالة نقابة المعلّمين تجذّرت ثنائية (حريّة، عبوديّة)؛ فامتثلت الحريّة في إرهاصات التأسيس، وامتثلت العبوديّة في إرهاصات حلّ مجلس النقابة وتعليق عملها؛ فقرارُ السُّلطات واضحٌ باعتقال قادِة المجلِسْ وفق تُهمٍ قضائيّة مُفتعَلَة، إذ حصلت الاعتقالات بصورة مفاجئة بمدُاهمة مقرّ النقابة في عمّان، ومداهمة الفروع في المحافظات، ومُداهمةِ بعض المعلّمين في منازلهم لخلْقِ حالَةٍ من القوّة التسلّطيّة المهيْمنة.
شكّلت طريقةُ الاعتقالِ حالَة من التفكير الذهنيّ للسُّلطات؛ فكان اختيار شهْرِ تمّوز أي في العطلةِ المدرسيّة دلالة لوأدِ احتجاجاتٍ دون التأثيرِ في العمليّة التربويّة، كما شكّلت طريقةُ الاعتقالِ حالةُ من الخوفِ الجمعيّ في صفوف المعلّمين؛ فالسُّلطة تدرِكُ أنّ النّقابة تحمِل روحَ الشّعب، والمقصود بروح الشعب الرّوح الجماعيّة التي تمتلكها فئة قوميّة أو فئة حزبيّة تُساعدُ في تحميس الشّعوب لبناء هُويّة ثقافيّة خارج تكوين السُّلطة، وتمثّلت هنا بنقابة المعلّمين التي تعدّ أمّة متنوّعة الأطياف تبحثُ عن حقوقِ مِهْنيّة إنسانيّة روحها الأمل في التغيير. هنا تكمن السببيّة في طريقةِ الاعتقال والمُداهَمات أي تشكيل ما يسمّى بالخوفِ الجمعيّ في صفوف روْحِ الشّعب. عمِدت السُّلطات في مثل هذه الحالة إلى مفهوم “اختبارِ الضّحيّة” من أجل الطّاعة السياسيّة لعدد من المكوّنات الحزبيّة والنقابيّة، والحَراك الشعبيّ للعودة إلى المَلَكيّة الهادِئة وكانت الضحيّة نقابةُ المعلّمين، والغريب أنّ اختبارَ الضّحيّةِ كانَ من خلال حالة قانونيّة تمثلت في تجاوزات دستوريّة لمجلس النّقابة، وهُنَا تمثّلُ السُّلطة “الشرَّ المنظّم اجتماعيًّا”، أي عودةُ الطّاعةِ وفق سُلطةٍ قضائيّة تمثل قبولًا سياسيًّا.
إنّ الحَالة السياسيّة الّتي وصلت إليها نقابةُ المعلّمين أثّرت في البناء المجتمع السياسيّ، وهذه الحالة كسرت الترتيبيّة التي تُبنَى عليها الطّاعة، وهذه البُنى الترتيبية التي يعيش البشر في أطُرِها متمثّلة في (العائلة، المدرسة، الجامعة، العمل المؤسسيّ، المؤسسة العسكرية) تلك الترتيبيّة يجب أن تؤدي وظيفة بيولوجيّة هي الاستعداد لطاعةِ السّلطة. إنّ نقابة المعلّمين شكّلت كسرًا في بُنى ترتيب الطّاعة، وبالتّالي تكون في الطريق لهدم بُنية الترتيب كاملة؛ إذ إنّ عمل المعلّمين النقابِيّ كَسَرَ الترتيبيّة في مكوّنين: الأوّل، المكوّن المدرسيّ بوصف المَدْرسة عنصرًا لبناءِ الولاءِ من خلال المناهِج التربويّة والأنشِطة المنهجيّة حتى يصـلَ هذا العنصرُ إلى حالة الطّاعة المطلقة للسُّلْطة، والثّاني هو العمل المؤسّسيّ؛ فمِهْنَةُ التّدريس تشكّل حيّزًا كبيرًا من قطاع العمل المؤسسيّ. ومن هنا كان لا بد للسُّلطة أن تحيدَ النّقابة بمفهوم أمنيّ يُعيد الترتيبيّة كما هي بغض النظر عن التدهور الفكريّ الحضاريّ والفجوة السياسيّة الّتي تحصل.
فُتِحَت السّجون للمعلّمين وتم الاعتقال، ولزيادةِ التّأثير المجتمعيّ مَنَعت السُّلطات أيَّ تجمّعٍ يشكّل حَالة جماهريّة في السّاحات، فكانت الحصيلة توقيفَ مئِاتِ المعلمين في زنازين المراكز الأمنيّة توقيفًا إدرايًّا لساعات، أو توقيفا قضائيًا في السجون وتوقيعهم على تعهدات بعدم المشاركة في فعاليّات تخصّ النّقابة. هُنا بدأت الطّاعَة السلطويّة تؤثّر في تكوين المجتمع الّذي يبحث عن حريّات صامتة، وتكوين شرخ مجتمعيّ سياسيّ بين الشّعب والمؤسّسة الأمنيّة ذراع السّلطة القمعيّ؛ فالمواجَهة الّتي فُرِضت وفق أحكام قضائيّة أثبت شموليّة مؤسسة الحكم المطلق، وبهذا قدّمت السّلطة نشوة الانتصار بواسطة العصا القضائيّة بعد أن حوّلت النقابةّ من حالة جمعيّة يؤثر على التكوين السياسيّ إلى فردٍ واحدٍ مسؤولٍ عن تصرفاتِه وأفعالِه، وهذا ما تحتاجه الدّولة الفرديّة في التصرفّات، وفي هذا يقول الشاعر والمؤلّف الفرنسيّ بول فاليريPaul Valery : “الدولةُ مخلوقٌ ضخمُ الجثّة، مزعجٌ وضعيف، إنّها عملاقٌ مشوّه، قويٌّ جدًّا، أخرقُ جدّا، إنها بِنْتُ القوّةِ والقانون وقدْ أنْجَبَاها من تناقضاتهما، وهِيَ لا تحْيا إلّا بواسِطَة جمْهَرةٍ من صِغارِ النّاس الّذين يحرّكون بحماقة يديْهَا وقدَميْها الّتي لا حياة فيْها، أمّا عينُها الوحيدةُ فَلا تَرَى فيْها إلّا الجماهيرَ المليونيّة، الدولة صديْقةُ الكل، وعدوّةُ الفرْدِ”.
ثالثًا: تجرِبَةُ الاعتقالِ من السَّردِ إلى الحِكاية
إنّ السّجن يشكّل حدثًا بزمانيّة مطلقة، ومكانٍ محدود، لذلك يعيش المعتقلون السياسيّون في حالة من التكوين المتشابه؛ فالحَدَثُ والمَكانُ متلازمان، وإنّما الأمر يكون في الحُبَك المتغيرة بين مُعتقَلٍ ومُعتقَل آخر، بين فلْسَفة سجّان وفلسفة سجّان آخر، وَفْقَ ذلك ننتظر من السّجين عند خروجه أن يقدّم سرديّة الاعتقالِ وفق حكاية ماذا جرى؟ وهُنَا تظهَر عقدة الحكاية إذ إنّ كلَّ سَجينٍ يحكي ما جرى له بإسقاطات نفسيّة فحُبَكُ هذه الإسقاطات تمثّل الحكاية المتغيرة.
في تجربة اعتقالِ المعلّمين نجد السرديّات المتشابهة والحُبك المتغيرة، فكلّ معلّمٍ اعتُقِلَ روى الأحداث رؤية الرّاوي العليم، وفي الاعتقال عادة هناكَ ما يُشاهَد وما لا يشاهَد؛ إذا كانَ الاعتقالُ من الشّارعِ في وِقفات احتجاجيّة فإنّ العين هي التي تشكّل الحدث والحُبكة، وهذه المُشاهَدة ضرورية للسلطات فهي تمثّل لحظات عودةِ الطّاعّة؛ فالضّرْبُ بالعصا والسّحل في الشارع أكثر اللّحظاتِ صُعوبةُ عندَ المعلّمين ذلك لأنّ هذه اللحظات تشكّلُ فرْضَ القوّة، لكن في المراكز الأمنيّة يتشكل جُزء من الحسّ الإنسانيّ القانونيّ لدى المحقّقين لأنّ الضحيّة ضعيفة الجّسد.
إنّ الحِكاياتِ الّتي تُسرَدُ كثيرة، وأدبيّات الاعتقال تتشكّلُ في محور العَلاقة الإنسانيّة بين معلّم يمثل الحسّ الحضاريّ للدولة، وهو في منظور السّلطة يتساوى مع المجرمين، لعلّ الحُبكة الجمعيّة تتمثل بذلك الوجع الدائم، ففي أحد ميادين التجمّعات تمّ اعتقال عشراتِ المعلمين والمعلّمات ووضعهم في عَرَباتِ التّرحيل مكبّلين وتوزيعهم على المراكز الأمنيّة لساعات حتى تنتهي الفعالية ثم إطلاق سراحهم وهم لا يُدركون سببيّة لحظات التوقيف. لعلّ هذه اللحظات تشكّل ظاهرة نفسيّة لعشرات المعلمين وأنّ التقدّم نحو الحَضَارة يتقاطع مه هوامش العبوديّة؛ فبدل أن يكونَ المعلّم ببدلته الرسميّة يتفاعل مع طلبته في الصفّ يقودهم من المختبر إلى المكتبة، هو مكبّدٌ بالأصفادِ بلباس السّجن في زنزانة لوحُها تلك القضبان وطبشورُها تلك الأصفاد.
من الحكايات التي شكّلت حالة معرفيّة داخل السّجن حواريّات المعلّمين مَعَ السّجنَاء، هذه الحواريات كما وصفَ أحدُ المعلّمين: إنّها حواريّات تشكِّلُ حالة من الثّبات والعزِيمة، وجزْء من تنفيس الذّات، وأضاف المعلّم: إنّ السّجناء قليلًا مَا يتكلّمون في السيّاسة لكنّهم يدركونها، مستغربًا ذلك المعلّم الخوف المُنظَّم من الحسّ السياسي، وأيّ كلامٍ يمسُّ سيادة السّلطة حتى أنّ أحد المساجين عندما علم أنّ المعلمين اعتقالهم سياسيّ حاول التهرّب خوفًا من الخطاب السياسيّ مع أنّ هذا السجين محكوم عليه بقضايا جرميّة متنوّعة. أكّد المعلم أن ثقافة الخوف من معاداة السُّلطة داخل السجون مفادها الخوف من سجناء التنظيمات والمحكومين في قضايا تتعلّق بانتماءات الجهاديّة حيث يحال أي تحريض سياسيّ أو فكري داخل السّجون إلى المحاكم مرّة أخرى بتهم تتعلّق بالتّرويج الفكريّ داخل السجون، وهذا ما لا يريده السّجناء بشكل عام لأنّ معاداة السُّلطة هو الذي يجمَعُ بينَ السياسيّ والجهادي إنّ صحّ الوصف.
في “نظريّة الصندوق والتّفاح الفاسد” أجمع العديد من المعلّمين أنّ الصعوبة كانت في لَحَظاتِ الاعتقال أي في المُداهمات، والاعتقال من الشّارع ففي تلك اللحظات تئنُ الأسماع من السُّباب، وتتألّمُ الأجسادُ من الضّرْبِ، وفي هذه اللّحظات يكونُ الصّندوقُ كلُّهُ تفّاحًا فاسدًا. أمّا في غُرَف التّحقيق وداخِل السّجن فيتشكّل التّفاح الصّالح حيث تكون الإجراءات أمنية روتينية دون التعرّض لمضايقات جسديّة أو ألفاظ نابيّة. لكن التلقيّ النفسيّ لهذه الإجراءات هو الذي يشكل حالة لسرد حكائي يُروَى بحُبكة الحزن وألمِ القمع.
تنتظمُ العَلاقَاتُ في الاعتقال، وتَتَشابَهُ مِنَ اللّحظة الأولَى حتّى التّحرير من المُعتَقَل. والمُدهِش أنّ مواجهة الخير والشرّ في حَراك المعلّمين مواجهة خيطيّة؛ فالشرُّ له أدوات وهذه الأدوات زئبقيّة تتحرّك في أتون الشرّ أي أنّ حَالة فرديّة واحِدَة قد تحوّلُ أدَاة الشرّ إلى خيرٍ عامّ، وهذا ليس من أدبيّات تشكّل السُّلطة. في حادثة تشابهت مع عديد من المعلّمين روى معلّم ظاهرة الخير في أداة الشرّ واصفًا لحظات الهجوم بالعصيّ على حشود المعلّمين في الشّارِع وإذا بأحد رجال الأمن يتوقف عن الضّرْب مشاهدًا معلّمه يرتعشُ خوفًا وتعبًا فتذكّر لحظات الصفّ والمدرسة، وبعْدَ تعرّف الطّالب على معلّمه طلب ذلك المعلّم من رجل الأمن ممارسة عمله القائم على الطّاعة؛ فالمعلّم يدرك بأنّ قوت رجال الأمن وقوت أبنائهم لا يكون إلا بالطّاعة، ترك رجل الأمن المعلّم ومضى يحمل العصا مستجيبًا للطّاعة. وفي هذه السرديّة نشير إلى الباحث في علم النّفس السياسيّ فيليب زمباردو Philip Zimbardo عندما درس حالات الشرّ داخل المعتقلات مُشيرًا إلى لوحة الفنّان م. ك. إشير M. C. Esher حدود الدّائرة وهي لَوحَةٌ ذاتُ غُموض: إمّا أن تراها تصوّر شياطين، أو تراها تصوّر ملائكة، وهذا عائدٌ إلى رؤية المُشاهِد. توصّل زمباردو إلى ثلاث حقائق نفسيّة: الأولى، العالم مملوء بالخير والشرّ ولا يزال وسيبقى للأبد. الثانيّة، إنّ الفاصل بين الخير والشرّ ضبابيّ يقبل الاختراق، الثالثة، يمكن للملائكة أن تصبح شياطين كما يمكن للشياطين أن تصبح ملائكة، وهذا ما قد يصعب تصوره.
إنّ التأثيرَ النّفسيّ لحالاتِ الاعتقالِ في صُفوف المعلّمين قوبِلَ وفق مواجهةٍ قضائيّة كانَ السّجن أرحمَ من هذه المُواجَهة فكثيرٌ من المعلّمين من الهيئة العامة للنقابة ومن مجلس النقابة أحيلوا إلى الاستيداع والتقاعد المبكّر، والتوقيف عن العمل، وهنا يتشكّل القطع السرديّ والخوف من الحكاية وكأنّ هؤلاء المعلّمين عندما غادروا صفوفهم الدراسيّة أدركوا بأنّ الزنزانة إن كانَت صغيرةً بحجم قَفَصٍ لطائِر الكَنار، أم كانت كبيرةً بحَجْمِ وَطَن تبقى زِنزَانَة تُغلَقُ فيها الأفواه، وتَنْسِجُ فيْها النّفسُ وَجَعَ الحريّة، وتقول تلك الزّنزانة: إنّ الحكايةَ لا تنتهي؛ فحُبكتها الأولى شَهْوةُ السُّلطة وظلامُ العبوديّة الطّويل.
المَصَادِرُ والمَراجِعُ
بودرياد،جان، إدغار موران، عنف العالم. عزيز توما(مترجم)، ط1، (اللاذقيّة: دار الحوار للنشر والتوزيع، 2005).
سيغفريد، أندريه، روح الشعب. عاطف المولى(مترجم)، ط1 (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
فوكو، ميشيل، المراقبة والمعاقبة: ولادة السّجن. علي مقلد(مترجم)، ط1(بيروت: مركز الإنماء القوميّ،1990).
فوكو، ميشيل، يجب الدّفاع عن المجتمع. الزواوي بغورة(مترجم)، ط1(بيروت: دار الطّليعة،1997).
هوتون، ديفي باتريك، علم النفس السيّاسيّ. ياسمين حدّاد(مترجم)، ط1 (الدّوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2015).
فيليب زمباردو، تأثير الشّيطان: كيف يتحوّل الأخيار إلى أشرار، هشام سمير(مترجم)، ط1، (لندن: التكوين للدراسات والأبحاث،2019)