مرّت ظاهرة الكتابة عن تجربة الاعتقال السياسي في سورية عبر النتاج الأدبي، على أيدي من عاشوها أو من رغبوا في تناول تجارب غيرهم ممن كابدوها بمراحل وتحولات عديدة، إلا أنها بقيت عصيّة على التقييد والقولبة، وكيف يمكن أن تُقيَّد وهي بالأساس انقلابٌ على القيد، وتحطيمٌ لجدران الزنزانة؟ ولكن مهلًا، فقلّما وُجدت بين تلك التجارب الأدبية من حاول بالفعل تقديمها كثورةٍ على القيد وحجز الحرية وانتفاضة طيرٍ على قفص.
كان القصد من وراء أولى أطوار تلك التجربة توثيق القصة، وهي من دون أدنى شكٍ لا تغادر كونها من أكثر التجارب الإنسانية قسوةً، ومثلما دأب الشعر والرواية على رصد الحب والألم والتشرد والضياع والفقر والمنفى حُقّ له أن يرصد تجربة السجن.
في سورية، السجن ليس مثل سجون العالم، لا في التعذيب والإهانة والقهر فحسب، وكلها من مفرداته، وكافية لوصفه. ولا قتل الأحلام وغسل الأدمغة وتفكيك المجتمع قادر على اختزاله وتوصيفه، فأي مهمة تلك التي وضعها أديب السجن على عاتقه لينقل لنا ما كان يدور خلف الجدران والغرف الباردة الموحشة المظلمة.
كان ما يدور في خلد الكاتب السوري وهو يدوّن تجربة السجن، لا يتجاوز بثّ ما في صدره من نار حبيسة، ولعلّه كان في حياته العادية، كإنسان خارجٍ من المعتقل، يقوى على استعادة توازنه، ويواصل ما تبقى من سنيّ عمره مثل غيره من بقية أفراد المجتمع؛ لكنه حين اكتشف أنه ليس في وسعه أن يتجاوز ما تعرّض له، أو يشفى منه، بقي يحمل أضراره النفسية معه، وسط أسرته التي رجع إليها بعد سنوات طويلة من الاعتقال، زوجته وأطفاله، أمه وأبيه اللذين يكونان قد فارقا الحياة وهو لا يزال حبيسًا لدى سلطة وحشية لم تراع أي عاطفة أو تقاليد.
الحنين إلى الزنزانة
وكان من المؤلم لي، كإنسان وكاتب، تذكّر تلك اللحظات التي اعترف لي فيها بعض من أصدقائي المعتقلين السابقين من أصحاب المدد الطويلة: بأنهم يشتاقون إلى السجن، فهو أكثر رحمةً من الحياة التي وجدوها في الخارج حين أُفرج عنهم.
هنا وقع الكاتب في فخٍّ جديد، فبتخليده تجربة السجن، وعدم توافقه مع الحياة الجديدة، كان كمن يرجع إلى السجن من جديد، سجنٌ تراءى له أنه خرج من سجنه، غير أنه غادره فقط بجسده، إذ فرّ بهذا الجسد الذي كان يمكن أن يقع تحت التعذيب والتجويع وصنوف العنف كافة، وبقي طيفه هناك خلف القصبان.
كل ما أتتبعه الآن، هو انعكاس تلك العواصف التي تضرب أعماق أديب السجن فحسب، على النص الذي سوف يكتبه، وعلى المحتوى الذي سيكون بعد قليل أكثر من مجرّد صورة فوتوغرافية توثيقية لعالم السجن.
ويأتي فارق التوقيت ليكمل سلسلة التدمير الرهيبة التي تصنع نصّ أدب السجون، فالزمن عند أولئك الشبّان الذين اختُطفوا من لحظاتهم ومجتمعاتهم توقف عند لحظة اختطافهم، وظنوا أنهم حين خرجوا بعد سنوات أنهم ما زالوا عند تلك اللحظة، لكن كل شيء كان قد تغيّر، في الحجارة والبشر وحتى أطوال جذوع الشجر، فقط هم ظلوا شبانًا منتهبين من بهجة البدايات، على الرغم من شعر أبيض جلل رؤوسهم وجلد بدا أشبه بلحاء تلك الشجرات التي كبرت وحدها.
ماذا نقلت لنا تدوينات الأدباء المعتقلين؟ كان بعضهم يصنع الأقلام من أوراق السيلوفان المستخرجة من علب التبغ، والحبر من دهن الرأس ورماد السجائر ليكتبوا، وكان بعضهم لا يفعل شيئًا سوى الانتظار حتى يتنفس هواء الحرية خارج باب السجن، وحين خرجوا وجدوا أن السجن في الخارج أكبر وأكثر قسوةً وتعقيدًا مما كانت عليه الحال في الداخل.
بقي ينظر إلى السجن وساكنيه نظرةً تنزيه، وكان من المثير للغضب أن تقرأ عن سجن كل من فيه ملائكة، ولكنك لا تستطيع منع نفسك من التعاطف مع الجميع، فالكل ضحايا في هذا المكان مهما اختلفت درجة أخلاقهم وقيمهم واتجاهاتهم. وتلك الغلالة من التنزيه التي أراد أديب السجن أن يصوّر بها ما كان يجري داخله، كانت خط دفاع عن نفسه، ليس أمام حياته الجديدة فحسب، بل أيضًا في ما يتصل بإرثه الخاص.
كل شيء في هذا الجحيم يستحق التفكير فيه ألف مرة، حتى سبب الإفراج عن هذا المعتقل أو ذاك الذي سيكتب عن هذا لاحقًا. كل شيء شبهة، وكل شيء ألم، فالمعتقل السياسي في سورية مجتمع سوري آخر، موازٍ للمجتمع، وقد يكون مطابقًا له، وفيه تجد اللصوص والشاذين جنسيًا والمخبرين والعبيد، وتجد المتطرفين من كل ملّةٍ وأيديولوجيا، والطائفيين والعنصريين، إلى جانب الحالمين الذين يعدّون أنفسهم شهداء أحياء من أجل قضاياهم، يجمع بينهم رابط قهري وحيد هو أن الكل في قفص واحد.
ذلك طور من أطوار الكتابة عن السجن، كان على أديب السجن أن يوثقه، لينجو بنفسه من واحدة على الأقل من تلك الصفات الآنفة الذكر، وقد وجد كثيرون أن الخيار الأفضل هو عدم الخوض في تصوير عالم السجن على حقيقته، فقد يعتقد أحد القرّاء، إذا لم يخيَّل لكل القراء، أن الكاتب كان على هذه الحال أو تلك. وبذلك خسرنا نقل الحقيقة كاملة، وكسب السجان نقاطًا إضافية بالتعمية على ما كان يدور في سجنه.
في طور آخر، بدا السجن بالنسبة إلى بعض الكتّاب فرصةً لتسويق مشاريعهم الأدبية، فأصبح أدب السجن، بضاعة تعاد وتُكرَّر وتنسج وتصدّر كلما استُهلكت، حتى تباهى أحد الشعراء بأن عدد السياط التي تلقاها على ظهره أكثر من الكلمات التي كتبها في قصائده!
وقد تدفعك المسؤولية الأخلاقية إلى احترام آلام هذا النمط من كتّاب السجن، فالخارج من ذلك التنور المخيف لن يخرج طبيعيًا، وأعني حالته السيكولوجية، ومن الطبيعي أن يكون إنتاجه متضررًا بقدر ما تضرر وعيه واستقراره النفسي. غير أن ما يثير الانتباه أن هذا الإنتاج قد يثير الروّاد من القرّاء والمترجمين لأول وهلة، وربما يستمر أثره بعض الوقت، قبل أن يخفت ويصبح بلا أي تأثير، بل سيتحول تأثيره إلى دعاية مضادة تمامًا للغرض منه، تخدم السجّان من جديد ولا تخدم الضحايا. وأكرّر ثانيةً أن التناول هنا يتصل بقيمة المحتوى الأدبي الذي سنفترض أنه باقٍ للأجيال القادمة والدارسين والنقّاد ومؤرّخي الأدب.
في ذلك الطور خرج أدب السجن عن وظيفته، وأصبح مسخّرًا لخدمة مشروع شخصي للكاتب، ومع أن الاعتقال السياسي ليس تجربة عادية، بل حدث شديد التوتر يجرى على فترات طويلة، لا يشبه غيره من التجارب المؤلمة، إلا أن لنا نتخيل فتاةً تعرّضت للاغتصاب تروي ما وقع لها أول مرة، ثم مرةً ثانية، ثم ثالثة بطريقة جديدة، ثم رابعة وخامسة وسادسة، ماذا يتبقى من الحدث سوى أنه سوف يستحيل ثرثرةً لغوية بينما يتوارى المعنى ويذوي.
ولو استمرّ مظفر النواب بالكتابة عن تجربة اعتقاله في إيران مدى الحياة، وهي التي وثقها في “الوترات الليلية” لما بقي لشعره أي قيمة. ولو واصل محمود درويش الكتابة عن سجنه على يد الإسرائيليين لما كان قد وصل إلى “سرير الغريبة” و”الجدارية”، كما وثّق ذلك في “برقية من السجن”:
“من آخر السجن، طاردتُ كفُّ أشعاري
تشد أيديَكُمْ ريحًا على نارِ
أنا هنا، ووراء السورِ أشجاري.”
ومن المفارقات أنه كان في وسع السجن، ولو لفترات قصيرة، أن يصنع الأدباء، كما في حالة محمد الماغوط، الذي لولا توقيفه بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي مع أعضاء الحزب القومي السوري الاجتماعي، لما كتب الشعر، كما كان يقول. وكما اعترف بشجاعة تصف كل حكاية الأدب مع السجن:
“أنامُ
ولا شيء غير جلدي على الفراش
جمجمتي في السجون
قدماي في الأزقة”.
أطلال سجن تدمر
إن أخطر طور يمكن أن يمرّ على أدب السجون، مع صدور العديد من الروايات والدواوين التي وثقته وبنت عليه، هو طور التأثير في الفكر. بعد أن كان أدب السجون أكثر صلابة من منتجات المفكرين والسياسيين الذين لم يتناولوا السجن السياسي حتى الآن من باب المراجعة والتحليل، ولم يتلفتوا إليه بالبحث في جدوى الدخول وقيمة البقاء ومعنى الخروح وما بعده، بل أعادوا حبس المعتقلين السياسيين مجددًا في فقاعة من الإهمال، وتعاملوا معهم على أنهم مناضلون وحسب، لا ظواهر تستحق البحث والتفكيك واستخلاص النتائج لتقديم جديد على مستوى الأداء السياسي السوري.
وكان من بين أبرز المواقف المثيرة بالنسبة إلي ردة فعل المعتقلين السابقين في سجن تدمر، حين فجّره تنظيم “داعش” الإرهابي كما دمّر آثار تدمر والموصل وغيرها، وكيف حزنوا على غياب هذ المعلم الرهيب الذي قالوا إنهم تمنوا لو أنه يبقى ليتم تحويله إلى متحف في المستقبل.
رأينا سجونًا مثل هذه في أنحاء عديدة من العالم، كسجن مانديلا، ومعتقلات أوشفيتز النازية، وحتى أقبية محاكم التفتيش التي أفتتحت للعرب المسلميين في الأندلس بعد سقوط غرناطة والتي ما زال الإسبان يفتحون أبوابها للسيّاح والمرتادين، وكل السجون لا تزيد وحشية عن سجن تدمر وسجن صيدنايا وغيرهما من سجون نظام الأسد في سورية، الأب والابن.
لم نصل بعد إلى زمن نستطيع فيه تحويل السجون إلى متاحف، لكن أدب السجون نجح في ذلك وحده، وأخفق السياسيون. وما زلتُ أرى السوريين، سياسيين وأدباء، ينتمون كما كانوا على مدى آلاف السنين، إلى عالم أسطوري بطولي، يرى الموت في المعركة الخاسرة شهادة مكافأتها في السماء، ويرى الاعتقال السياسي تقدمةً لتحقيق مكافأةٍ ما ستأتي، ولا أحد يعرف من أين ولا كيف ستأتي. لا نملك أن نتفق معهم حول ذلك أو عدمه، بل يجدر بالسوريين أن يطرحوا الآن السؤال: ألم يكن حجز حرية عشرات آلاف الشبّان السوريين الثائرين والمناضلين في سنوات السبعينيات والثمانينيات وإخلاء الساحة السورية من المطالبين بالتغيير هو بالضبط ما أراده الاستبداد وما تمنته الدكتاتورية؟ فلماذا مُنِحَ له ما أراده على طبق من فضة؟ ومتى سيُحاسَب المفكرون والقادة السياسيون الذين قادوا الشباب إلى المعتقلات بدلًا من قيادتهم إلى حلول سياسية معقولة، وبدلًا من منح وحشية المستبد ما تريد محاسبة هادئة وواعية وموضوعية؟
كل واحد من هؤلاء المعتقلين، نساء أو رجالًا، كان ماضيًا نحو خططه ومستقبله، فتغير عنوانه وتغير مسار حياته، مئات آلاف الأسر السورية كانت تعلّق صور أبنائها المغيبين في الظلمات على جدران الحزن والبيوت الفقيرة، ولم يكن لديها أمل في معرفة خبرٍ عن أبنائها، كما هي الحال اليوم، لتستمرّ عجلة القهر للقابعين في السجون، وللمعلَّقة أرواحهم بهم خارجها.
يُكتب أدب السجن في سورية، في بُعد من أبعاده، كي لا يُقال إنها كانت أعمارًا مهدورة في السجن السوري الكبير أو في المنافي العديدة، والكل ضحايا للغياب التام لقادة الرأي وأصحاب الرؤية.