أولًا: اقتراح
أقترحُ على نقاد الأدب، ومؤرخيه، ومصنّفيه أن يُغَيّروا مصطلح “أدب السجون”، ويجعلوه “أدب الاستبداد”، فهذا، برأيي، مناسبٌ أكثر لطبيعة القصص والروايات والأشعار التي كُتبت -ولا تزال تُكْتَبُ- في هذا الشأن، وتتجه كلها لوصف الظلم، والاضطهاد، والتنكيل الذي تمارسه السلطة الدكتاتورية التي تحكم البلاد على معتقلي الرأي.
أذكر هنا، على سبيل المثال: روايتَي عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط”، و”الآن هنا”، ورواية “أنت جريح” للأديب التركي أوردال أوز، وكتاب “خيانات اللغة والصمت” لفرج بيرقدار، ورواية نبيل سليمان “السجن”، وكتاب “صوم الموت” الذي ترجمه عبد القادر عبدللي لمجموعة مناضلين أتراك أضربوا عن الطعام في السجن حتى الموت، وكتاب محمد برو “ناج من المقصلة” الذي يدور القسم الأكبر منه في سجن تدمر. وبعد الثورة كُتبت أعمال كثيرة عن السجون، منها غيابات الجب لجمال طحان، وكومة قش لوفاء علوش، ورقصة الشامان الأخيرة لعبد الرحمن حلاق.
الأسباب الموجبة لهذا الاقتراح
لا تختص السجون بمعتقلي الرأي وحدهم، فهناك السجناء أصحابُ الجرائم الجنائية، أو الجنح، أو المخالفات القانونية؛ وقلّما يوجد بينهم كُتَّاب أو أدباء، لأن غالبيتهم ليسوا من النُخب المثقفة أساسًا، ومن ثم فهم لا ينتجون أدبًا عن الفترات التي يمضونها في السجن، وأما بالنسبة إلى معتقلي الرأي المثقفين -اليساريين على وجه الخصوص- فما أكثر المثقفين بينهم. مثال: يحكي فيلم هالا محمد “رحلة إلى الذاكرة” عن ثلاثة مناضلين سوريين، هم: ياسين الحاج صالح، كاتب سياسي. غسان الجباعي، روائي ومسرحي. فرج بيرقدار، شاعر. وقد أمضى ثلاثتهم سنوات طويلة في سجن تدمر العسكري.
توجد، اليوم، على مستوى العالم، سجونٌ كثيرة تُوصَفُ معاملةُ السجناء فيها بأنها خمس نجوم، وهي سجون الدول الديمقراطية الغربية، وإسرائيل؛ وهناك مقارنات طريفة، ودالّة، أجراها ناشطون سوريون، على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مَنَاظِر أشخاص أُخلي سبيلُهم من سجون نظام الأسد، وهم كالمومياء، أجسادُهم توشك أن تتكسر كالعيدان اليابسة من شدة القهر والعذاب والقمل وقلّة التغذية والإضاءة والتدفئة، بينما خرج سمير القنطار من السجون الإسرائيلية، وهو -كما يغني وديع الصافي- نشوان بخمر العافية! وحتى تركيا، يمكننا وصف سجونها (الجنائية والجزائية) بأنها جيدة جدًا. وأنا ما زلت أذكر صديقي “أبو أحمد”، من مدينة الريحانية التركية، الذي سُجن في منطقة قريبة من “قيصري”، وكان يحق له، بمقتضى قانون السجون التركية، أن يستقبل زوجته وأولاده في السجن، مرةً كل شهر، فيمضي معهم يومًا كاملًا في مكان مشجر، يشبه الحديقة، مخصّص لهذا الغرض، يأكلون ويشربون ويمرحون معًا حتى نهاية النهار، ويحقّ له، كذلك، أن يأخذ، كل ثلاثة أشهر، إجازةً لمدة أسبوع، يمضيها في بيته، وتُمدَّد الإجازة إلى عشرة أيام إذا أَعْلَمَ السجينُ إدارةَ السجن بأنه يريد أن يمضي إجازته في ولاية أخرى، شريطة أن يثبت لهم ذلك بتوقيع والي الولاية الأخرى على ورقة الإجازة، أو بتوقيع القائمقام.
(ملاحظة: لا أعرف كيف هي معاملة سجناء الرأي في تركيا، ولكنني لا أظن أن دولة ما في العالم تشبه في فظاعتها سورية أيام الأسدين، والعراق أيام صدام حسين).
ثمة، بالمقابل، روايات وقصص تتناول الاستبداد، ولكن تدور حوادثها في أماكن بعيدة عن السجن أو المعتقل، وقد برز في هذا النوع من القصص، الأديب إبراهيم صموئيل، وبالأخص في مجموعتيه القصصيتَين الأولَيَيْن: “رائحة الخطو الثقيل”، و”النحنحات”، إذ تدور حوادث بعض قصص تينك المجموعتين في السجن، وبعضها الآخر في الخارج؛ وبطلُها، غالبًا، الكاتب نفسه، وهو مناضل مُنتسب إلى حزب ممنوع، هارب، متخفٍّ، ولكن موضوعاتها إنسانية، لا تحكي عن الاضطهاد مباشرةً. فكيف إذن ننسبها إلى “أدب السجون”؟
هناك أدباء كتبوا في أدب السجون من دون أن يُسجنوا، منهم: نبيل سليمان، في روايتَيه “السجن” و”سمر الليالي”، وعبد الرحمن منيف في الروايتين اللتين أشرت إليهما، وفاضل العزاوي في رواية القلعة الخامسة، وآخرون، منهم كاتب هذه المقالة (القسم الأكبر من أحداث روايتي “أبو دياب يتكلم في الأفراح” 2019، يجري في سجن إدلب المركزي).
ثانيًا: من تجربتي
في حقيقة لم أنتمِ إلى حزب محظور قط، ولكنني أقَدِّرُ أولئك الناس الشجعان الذين خاضوا هذه التجربة، وسُجنوا سنين طويلة بسببها، وهم يعرفون مسبقًا حجم خطورتها، وليس لهم هدف سوى مقاومة الطغيان، والسعي لأن تنعم بلادُنا بنظام سياسي ديمقراطي يحفظ لأبناء الشعب حريتهم وكرامتهم وحقوقهم. وأي مقارنة بينهم وبيني ستكون نتيجتُها لصالحهم.
يعود اهتمامي بـ “أدب الاستبداد” إلى زمن بعيد، حينما أولعتُ بأدب عزيز نيسين، وعرفتُ أنه سُجن مرارًا، ونُفي، بسبب كتاباته المناوئة لحكم العسكر أيام الانقلابات، وبعد صدور رواية سلمان رشدي “آيات شيطانية”، وفتوى الخميني، قال عزيز نيسين إن على الدولة التركية أن تسمح بتداول الكتب الممنوعة كلها؛ ابتداءً من الكتب الدينية، وصولًا إلى رواية سلمان رشدي. لم يقرأ السلفيون الجهاديون القسم الأول من التصريح، أو أنهم قرأوه وأهملوه، واقتصروا على أن نيسين يدعو لتداول رواية سلمان رشدي المسيئة للنبي، وتربصوا به، وفي 2 تموز/ يوليو 1992، أحرقوا فندق ماديماك بمدينة سيواس، الذي كان يقام فيه مؤتمر أدبي، معتقدين أن عزيز نيسين في داخله، فقُتل 33 واحدًا من أدباء تركيا ونقادها.
وعرفتُ، أيضًا، أن أدباءَ أحبّهم وأقرأ لهم، مثل حسيب كيالي، وشوقي بغدادي، وغيرهما، قد أودعوا في سجن المزة، أيام الوحدة التي (ما يغلبهاش غَلَّاب)، بتهمة الانتساب إلى الحزب الشيوعي. ولكن؛ مع توالي الأيام والسنين، أدركتُ وغيري، أنّ ما جرى مع معتقلي أيام الوحدة، وحتى سنوات حكم البعث الأولى، بين 1963 و1970، إذا ما قورن بالأهوال التي عاشها السجناء والمعتقلون في أثناء حكم حافظ الأسد ووريثه -وحكم صدام حسين في العراق طبعًا- لا يعدو أن يكون “لعب عيال”، حتى إن أحد أصحابي اقترح، في جلسة خاصة، أن يُلغى الاحتفال بعيد الشهداء في السادس من أيار/ مايو من كل سنة، فعدد الرجال الذي أعدمهم وزير الحربية التركي جمال باشا سنة 1016، قليل إلى درجة أن المجرم رفعت الأسد لا ينكش بهم ضرسَه. وأضاف صاحبي: حبذا، كذلك، أن تُرْفَعَ صفة “السفاح” عن ذلك المسكين جمال باشا الذي أعدم حوالي عشرين رجلًا فقط، ففي شباط/ فبراير 1982، مثلًا، قَتَلَتْ وحداتٌ خاصة من الجيش العربي السوري (الباسل)، في حماه وحدها، أربعين ألف إنسان، وفي سجن تدمر لم يصادف أن قَلَّ عدد السجناء الذين كانوا يُسحبون من مهاجعهم ليلًا، ويعدمون في الساحة شنقًا، عن خمسين سجين في كل (عَدْمة)، ومعظمهم من الشبّان الذين كان الرفيق سعيد حمادي يصفهم في خُطبه، في أثناء جولاته على فروع الشبيبة في قطرنا الصامد، بأنهم: أمل الأمة، عماد المستقبل!
ثالثًا: مرحلة جديدة.. بيان الألف
زاد اهتمامي بالشأن العام، ومسألة الاستبداد، ابتداءً من سنة 2001، بعد توقيعي، مع ثلاثة أصدقاء من أدباء إدلب، هم تاج الدين الموسى وعبد القادر عبدللي وعبد العزيز الموسى، على بيان المجتمع المدني (بيان الألف). عدّ نظام الأسد التوقيع على هذا البيان تحديًا سافرًا لطبيعته الفولاذية، ولسان حاله يقول للموقعين:
- هل صدقتم، من كل عقلكم، أننا سنتيح لكم حرية ما تحلم به عقولُكم المريضة؟ هل نسيتم، يا ولاد الـ..، أن هذا النظام هو نظام حافظ الأسد (ما غيرو)؟
وانطلقت الحملة على الموقّعين، بعد أن أعلن نائب بشار الأسد (عمو عبد الحليم خدام) من على أحد مدارج جامعة دمشق، أن الموقّعين يريدون لسورية أن تعمها الفوضى، كالجزائر، من أجل أن يسلّموها لقمةً سائغةً للصهيونية العالمية!
(بما أنني من الموقعين، فقد عرفتُ، توًا، أنني من محبي الصهيونية العالمية!).
معلومٌ أن عمو عبد الحليم لم يكن يمثِّل في (خُرْج) نظام الأسد أكثر من (الشَرَّابة)، فالقول الفصل، في مثل هذه الحالة، يكون لتحالف الأسرة الحاكمة مع الجيش العقائدي والمخابرات، لذلك، وإثر تصريح عمو عبد الحليم (الوسخ)، صرنا، نحن الموقعين الأدالبة الأربعة، دريئةً يتدرّب بالرمي عليها مَن يسوى ومن لا يسواش من عناصر الأمن، والمخبرين، والعواينية، نروح إلى فروع الأمن ونغدو -كما كتبتُ ذات مرة- أكثر من سرافيس معرة النعمان! وصرت أنا شخصيًا، بالنسبة إلى الرماة، أمثّل المكان الصحيح للرمي (أسفل ومنتصف الهدف)، فقد علموا أنني أنا الذي تواصلتُ مع معدّي البيان في حلب، وعرضتُ الفكرة على أصدقائي الثلاثة، فوقّعوا، ولأول مرة في حياتي، أنا الإنسان الفقير، الدرويش، الغلبان، أصبحُ (علكةً) في أفواه رجال السلطة المحليين، التافهين، حتى إن اجتماعًا لمجلس نقابة المهندسين (كما وصلني) عُقد في تلك الفترة، وفي أثناء الاجتماع طالب أحدُ الأعضاء بأن تكون الانتخابات ديمقراطيةً، لا يتدخل فيها الحزب، ولا الجهات الأمنية، وكان رئيس فرع الأمن العسكري حاضرًا، فقال للمهندس المتحدث متهكمًا: - ليش ما بتروح حضرتك لعند (خ. ب.) وبتوقّع على المجتمع المدني، وبتطالب بكل هالأكل الخرا؟
رابعًا: تجربة جريدة النور
في تلك الحقبة، كُلّفتُ بكتابة زاوية أسبوعية في صحيفة النور التي يصدرها الحزب الشيوعي السوري، جناح يوسف الفيصل، وضعتُ لها عنوانًا اشتققتُه من واجهات محلات الفول والمسبحة وشوي المعاليق، هو (مَقرأ على كيفك)، وفي هذه الزاوية؛ صرتُ أكتب بهامش حريّة أوسع من الهامش الذي كان يتاح لنا في الصحف الثلاث: البعث والثورة وتشرين، ودليل ذلك أنني سخرتُ، ذات مرةٍ، وعلى نحو لاذع، من الجبهة الوطنية التقدمية، وتهكّمت بطريقتها في إشراك الأموات في انتخابات الإدارة المحلية ومجلس الشعب، وحكيتُ كيف تُقرع الطبول، من أجل الأشخاص الذين تُدرج أسماؤهم في قائمة الجبهة، وتترغل المزامير، ويدبك الرجال ويطلقون النار في الهواء، وتزغرد النسوة، قبل موعد الانتخابات بيومين! وللأمانة، لم يكن النظام يزعل ممن يسخر من الجبهة، فهي بالنسبة إليه شرابة خرج أيضًا، إنما زعل بعض قادة أحزاب الجبهة، واستغربوا أن يُنشر هذا (الحكي) في صحيفة النور التي يصدرها حزب جبهوي. ولكنني كتبتُ في النور عدة مقالات أخطر من تلك، وعلمتُ، من صديق ذي صلة بفرع الأمن العسكري بإدلب، أن (المخبر اللورد أبا فستوك) الذي ألفتُ عنه كتابًا هذه السنة، كان يحمل الجريدة وقد رسم بقلمه الذي ينقط سمًا، مستطيلًا حول مقالتي، ووجه تقريره إلى رئيس الفرع شخصيًا، وأمر هذا بدوره بتصوير المقالة، وإرسالها مع تقرير أبي فستوك إلى دمشق. من تلك المقالات الخطِرة: مقالة “تمشيط مثقفين” (20 نيسان/ أبريل 2005) التي شبهتُ فيها تقصّي المخابرات عنا نحن الأربعة الموقّعين على بيان الألف بالجيش عندما يدخل منطقة اختفى فيها مجرمون مطلوبون، فيمشطها تمشيطًا، وأخرى عن المخبر أبي فستوك نفسه، عندما كتب تقريرًا بعبد العزيز الموسى، اتهمه بأنه كان واحدًا من المثقفين السوريين والإسرائيليين الذين التقوا في عاصمة الدانمارك، وعرفوا باسم “جماعة كوبنهاجن”. مع أن عبد العزيز لم يسافر إلى السودان ليستلم جائزة الطيب صالح التي فاز بها، لأنه لا يمتلك جواز سفر، وحتى لو امتلك جوازًا؛ فسيكتشف أنه ممنوع من السفر بسبب ذلك التوقيع القاتل، وكاد أن يتنازل عن بعض حقوقه التقاعدية، لأن قبضَها كان يتطلب منه أن يذهب من كفرنبل إلى إدلب (40 كم) ليستلمها باليد!
خامسًا: الكاتب السوري المحروم من الحرية
عندما نعتمد مصطلح “أدب الاستبداد”، بديلًا من مصطلح “أدب السجون”، فإننا سنتمتع بما يكفي من الحرية لكي نرصد الأوضاع والملابسات التي تؤدي إلى وصول الناس إلى السجون. ومنها بند غياب الحرية، هذا الغياب تعبّر عنه طرفة قديمة عن كاتب سوري التقى بكاتب أوروبي، ومن خلال الحوار قال السوري إننا ممنوعون من الكتابة في الدين والجنس والسياسة، فضحك الأوروبي حتى ظهرت لوزتاه، وسأله:
- عن ماذا تكتبون إذًا؟ عن زقزقة العصافير؟!
مرّ هامش الحرية في الكتابة الأدبية والصحفية، عندنا، بثلاث مراحل: الأولى، وهي الأسوأ، تبدأ من سنة 1979، وتحديدًا بعد عملية المدفعية، إلى 2000، والثانية أقل سوءًا، تمتد من سنة 2000 إلى 2011، والثالثة ذات شقين، فنحن الذين غادرنا سورية، أصبحنا ننعم بحرية واسعة، وقادرين على أن نسمي الأشياء بأسمائها، على عكس أصدقائنا الذين لم يغادروا، فقد أصبح الوضع عندهم أسوأ من أيام حافظ الأسد بكثير، وصار من الممكن أن يفقد الكاتب حريته، أو حياته، لأتفه الأسباب.
في الفترة الأولى؛ كانت حياة الكاتب غير الموالي للنظام أصعب من تكسير الحجارة من دون مطرقة: الأجهزة الأمنية الأخطبوطية (تقش) السوريين، بمن فيهم الكتّاب، وتشحنهم إلى المعتقلات، ولا يعرف الذباب الأزرق إليهم سبيلًا، ولا يمكن الإفراج عنه إلا بموافقة رئيس عشيرة النظام الحاكم (حافظ)، وهو صاحب ذاكرة بالغة النشاط في كل شيء، عدا تذكّر المعتقلين، إذ كان ينساهم، بل يتناساهم ببلادة منقطعة النظير. وذات مرة، (في سنة 1997 على ما أذكر)، كان حافظ يمارس ورعه الديني المعهود، يجلس متربعًا حيث تقام مناسبة دينية، وخلال ذلك، مال عليه أحد مشايخ سلطته، وهمس له: - هل يجوز أن يُصَوَّرَ نبينا الكريم مثلما تصوّرونه في جريدة البعث؟
كان الشيخ يقصد مقالة للصحافي ياسين رفاعية منشورة في الصفحة الأخيرة من صحيفة البعث، وهي عبارة عن مراجعة عادية لكتاب تراثي، فيه ذكر لوضع يُفهم منه وجود إساءة للنبي، فما كان منه (حافظ) إلا أن أمر بحبس كل مَن له علاقة بنشر هذه المقالة، حتى الآذن الذي يقدم الشاي والقهوة للمحررين، وإلى إشعار آخر بالطبع. (من دون أن يقرأ المقالة، أو يكلف أحدًا بقراءتها وتقديم تقرير عنها. وقد بقي أولئك الصحافيون مسجونين لفترات لا بأس بها).
في السنة الأولى من حكم الوريث بشار، ظهر نوع من الحرية، تراوحت نظرتنا إليها، نحن الكتّاب، بين مصدّق أنها حرية حقيقية دائمة، ومنوِّه إلى أنها كاذبة، وثالث حائر بين الاحتمالين، والذين قالوا إنها حرية خلّبية اعتمدوا على بديهية مفادُها أن بشار الأسد، هو ابن حافظ الأسد، وأنه جاء إلى السلطة ضمن خطة مخابراتية محكمة، جرى تنفيذها غصبًا عن الذي يريد والذي لا يريد، وأصبح رئيسنا مع أنه لا يمتلك أي شيء من المقومات أو المؤهلات التي تلزم للرياسة. وفي الأحوال كلها، انتهى هذا الجو المنفتح تمامًا، عندما قررت أميركا طرد نظام الأسد من لبنان، بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وأذكر في سنة 2008 خرج أحد أقاربي من السجن، فأقام له أهله احتفالًا استثنائيًا، استمر الناس بالذهاب إليه للسلام عليه نحو ثلاثة أسابيع، في سُرادِق أقيم خصيصًا لذلك، وسبب هذه المبالغة في الاحتفال أن مدة سجن هذا الرجل تؤهله لأن يضع نيلسون مانديلا ورياض الترك في (جيب الفراطة)، فقد اعتقل سنة 1980، وهو في سن الـ 14، وخرج في سن الـ 42، وقد تضاربت الأقوال والشائعات عن مصيره في السنوات الأولى لسجنه، إلى أن استقرّت، قبل عشر سنوات، على أنه مات تحت التعذيب، وأقام له أهله، يومئذ، مثل هذا السرادق، وظلوا يستقبلون المعزين ثلاثة أيام، ووزعوا عن روحه لحمًا بعجين، وعش البلبل، ونمورة، وعندما أطلق سراحه احتفلوا به كما لو أنه “كانكان العوّام الذي عاش مرتين”. ومما حدثني به ذلك السجين (المانديللي)، في جلسة مصغرة، أن التعذيب اشتد عليهم فجأةً، في أواسط سنة 2000، وعرفوا أن ذلك كان بمناسبة موت حافظ الأسد، وكانوا فرحين لهذا الخبر، حتى في أثناء تلقيهم الضرب والشَبح، ثم توقف التعذيب نهائيًا، وعرفوا أن بشار استلم الحكم، وصار أحد السجانين يمتدحه أمامهم، فتشجع أحدهم وسأله: - طالما أن بشار كويس، متلما عم تقول، ومتعلم، ومتنور، وما بعرف أشو. ليش ما بيخلي سبيلنا؟
ولم يكن لدى السجان جواب بالطبع. المهم أن التعذيب توقف مدة طويلة، وبالتحديد إلى ما بعد اغتيال الحريري في لبنان، ومن يومها وهم يعذبونهم، لم يتوقفوا حتى ما قبل شهر من إطلاق سراحه.
سادسًا: حرية نسبية بعد الثورة
كان بإمكاننا، خلال السنوات العشر الأولى من حكم بشار الأسد، أن نكتب -كما أسلفتُ- بهامش أفضل من ذي قبل، ولكن، بحذر شديد، معتمدين أسلوب (التكويع). فمثلًا؛ استهوتني، سنة 2010، قصة تحكي عن ملاكم سوري شارك في مسابقة دولية، وفيها ذكر للسفاح الكبير حافظ الأسد، فكتبتُها، وضمنتها كتابي “المستطرف الأخضر” الذي صدر عن دار جداول في بيروت سنة 2011. وقد تحايلت على الأمر بأن كتبت ما يلي:
- يُحكى أن ملاكمًا شابًا من جمهورية “راء” التي يرأسها القائد “نون، شين”، تأهل للأولمبياد العالمي الذي كان يقام في دولة أخرى.
وأما القصة الحقيقية؛ فيمكنني أن أرويها الآن بحرية، وهي أن موجةً من تقديس حافظ الأسد اكتسحت فضاء المجتمع السوري، ابتداء من أول الثمانينيات، برعاية وزير الإعلام أحمد إسكندر أحمد، وصار أي نشاط أدبي، أو إنجاز رياضي، أو عمل بطولي، يجب أن يُهدى إلى حافظ، حتى إن أديبًا حاز على الجائزة الثالثة مناصفة في مسابقة أجراها المركز الثقافي ببلدة “ضهر الكر”، وقف أمام كاميرا التلفزيون السوري، وأهدى هذا الفوز لحافظ الأسد. وكانت تهدى إليه، كذلك، أرواحُ الانتحاريين من الحزب القومي السوري الذين بدأوا يفجرون أنفسهم في قوات إسرائيلية جنوب لبنان (بدءًا من سنة 1985). المهم أن الملاكم السوري الشاب الذي تأهل للبطولة الدولية، لم يذهب وحده، بل رافقه جيش من أبناء المسؤولين الذين يحبون التنزه في أوروبا، فذهبوا معه باسم مدرّب، ومساعد مدرب، ومدلك، ومهوّي، وحامل منشفة، ورشاش بودرة، فضلًا عن الفريق الإعلامي الذي يتألف من جيش آخر من المعدين، والمحررين، والمصورين، والمونتيرية، ومسؤول المحاسبة، وجماعة الإنتاج، والمشجعين، والمصفقين. وكما تعلمون فإن مباراة الملاكمة تتألف من عدة جولات، تُحسب فيها النقاط، أو تنتهي المباراة بالضربة القاضية. وقد التقى الملاكم السوري، في مباراته الافتتاحية ببطل كولومبي، وفي بداية الجولة الأولى (التي تسمى: راوند)، نفضه الكولومبي لكمةً أنزله بها على الأرض مثل كيس الخردق، أعطاه الحكم فرصة للقيام واستئناف اللعب، ولكن هيهات. رفع الحكم يد الملاكم الأولمبي معلنًا فوزه، بينما هُرع الفريق الإعلامي إلى لاعبنا المهزوم، وسألوه عن شعوره، فقال وهو يترنح: - أهدي هذا الراوند إلى القائد العربي الكبير حافظ الأسد!
سابعًا: مؤلفات عن الدكتاتورية
بعد خروجي من سورية، أصدرتُ مجموعةً من الكتب التي تهجو الدكتاتورية، وهي كما يلي:
قصص وحكايات وطرائف من عصر الدكتاتورية في سورية 2014.
حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد (مع نخبة من الكتاب) 2015.
السوريون منبطحًا 2017.
تجربتي في الثورة السورية 2017.
كوميديا الاستبداد 2018.
أساطير بعثية 2021.
أبو فستوك المخبر اللورد 2022.
ولدي الآن مادة أولية لكتاب جديد بعنوان “استبداد على كيفك”.
ثامنًا: أسلمة المجتمعات العربية
الحديث عن أدب السجون -إذا كنت تريد الحق- جعل القسم الأكبر من هذا المنتج الأدبي يتناول الأنظمة السياسية الدكتاتورية (العسكرية)، ويهمل نوعين مهمين من الاستبداد هما: الاستبداد الديني، والاستبداد الاجتماعي. وهذا النوعان لا ينتظران أن يصلا إلى الحكم حتى يمارسا استبدادهما على الناس، فهو يمارَس دائمًا بصرف النظر عن طبيعة النظام القائم.
اجتاحت “الصحوة الإسلامية” (السنية) المنطقةَ العربية، وخاصةً مصر، بالتزامن مع صعود الخمينية (الشيعية- ولاية الفقيه) في إيران، أي منذ بداية الثمانينيات، وُصرفت على هذه الصحوة مليارات الدولارات، أحدثت معاهد، ومدارس، ومؤسسات، وإذاعات، وفضائيات، ودور نشر، وبدأ المجتمع يتأسلم ابتداء من قاعدته، وانتعشت التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وأصبح الحجاب فرضًا واجب التطبيق على جميع النساء، وبدأ التضييق على حرية الرأي يزداد، وتجاوز تهديدُ الكتّاب الذين عارضوا هذا المد إطارَ التهديد بالقتل إلى القتل الفعلي، وهو نوعان، الأول تنفذه الدولة، مثلما حصل مع المفكر التنويري السوداني محمود محمد طه الذي عارض قوانين أيلول/ سبتمبر 1983 والمسماة “بقوانين الشريعة الإسلامية”، فألقى عليه نظام جعفر النميري القبض، وأعدمه في سنة 1985.
وأما في مصر، فقد بلغت التنظيمات الإسلامية من القوة ما مكّنها من تنفيذ أحكام القتل بذريعة الردّة على المفكرين التنويريين من دون الرجوع إلى الدولة، لا بل تمكّنت من قتل رئيس الدولة الذي احتضنها ودعمها محمد أنور السادات، شخصيًا، وأصدر الشيخ عمر عبد الرحمن فتوى بقتل فرج فودة، وأيده الشيخ محمد الغزالي، موضحًا أن قتل المرتد فرضٌ ينفذه أي مسلم كان في حال تقاعس الدولة، وبحسب الباحث مؤمن سلام الذي كان عضوًا في جماعة الإخوان ثم غادرها، أن أعضاء جماعة الإخوان في مصر راحوا يتبادلون التهاني عندما وصلهم الخبر المنتظر، أي قتل فرج فودة، وهذا ما أكده الصحافي سعيد شعيب أيضًا، وقد اشترك الشاب الذي قتل فرج فودة، والآخر الذي حاول قتل نجيب محفوظ، في خاصية رائعة، وهي: الجهلُ بما لدى الضحيتين من فكر، لأنهما، أي القاتلان، لا يعرفان القراءة والكتابة! وهما مثل كل الذين أيدوا (أو نفذوا) فتوى الخميني بقتل سلمان رشدي ومَن يترجمه، ومن يطبع روايته. وهُدد المفكر سيد القمني بالقتل، فاضطر للمهادنة، وحوكم نصر حامد أبو زيد، وصدر الحكم بطلاق زوجته منه، فاضطر إلى مغادرة مصر مع زوجته إلى هولندا، ولحق شاب سعودي المفكرَ عبد الله القصيمي إلى مصر، وشرع يراقبه، فما كان منه إلا أن لاطفه، وجالسه، وسأله عن غايته، فاعترف الشاب بأن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زيّنت له قتله، وأرسلته إلى مصر، لأن في ذلك ثوابًا، فقال القصيمي: بما أن في قتلي ثوابًا، لماذا منحوك إياه، ولم يستأثروا به لأنفسهم؟
ارتُكبت، خلال نصف القرن الذي مضى، جرائمُ كثيرة بحق المفكرين، باسم الدين الذي يفترض به -نظريًا- أن يحمي حرية الرأي والتفكير، ولكن المتشددين نقلوه من خانة التسامح إلى مربع الإرهاب، وقد قُتل الأدباء الأتراك الذين أتينا على ذكرهم حرقًا في فندق ماديماك سيواس 1992، وقُتل المخرج مصطفى العقاد مع ابنه بعمل إرهابي 2005، وطُعن نجيب محفوظ بقصد قتله، وفي تدمر قتل تنظيم داعش عالم الآثار خالد الأسعد، وأعدمَ 21 رجلًا بتهمة الردة في ليبيا، واستمر سريان مفعول فتوى الخميني حتى الآن بدليل محاولة شاب لبناني ذَبْح سلمان رشدي في نيويورك 2022..
تاسعًا: أسلمة الثورة
لن أتوقف عند أسلمة الثورة في تونس وليبيا واليمن ومصر، مع أن هذا حصل في تلك الدول، بنسب متفاوتة، مع وجود اختلاف في درجة التشدد في الجماعات التي وثبت إلى سطح المشهد في كل دولة، وسأركز على الثورة السورية التي جرت أسلمتها على قدم وساق منذ السنة الثانية لقيامها، ومع الأسلمة جاء التطييف، وتمكّن التيار الطائفي من فرض رؤيته على المشهد، وهي أن نظام الأسد طائفي (وهذا صحيح بالمناسبة)، ولذلك يجب علينا أن نكون طائفيين متعصبين لنتمكن من إسقاطه! وهكذا، انتقلت المظاهر الرئيسة للصحوة التي بدأت في الثمانينيات، إلى الأماكن التي تخلّصت من سلطة الأسد، وأبرزها اضطهاد المرأة، وفرض الحجاب عليها في البداية، ثم النقاب، ومنع الفنون، وبالأخص الموسيقى والغناء، وتطبيق بعض الحدود مثل الجلد، وفي معرة مصرين، شمال إدلب، قتلوا امرأة بحجة أنها زانية، وظهر فيديو لرجل يوزع معونات للأطفال، أعطى 2000 ليرة لطفلة تضع النقاب، وأعطى لطفلة سافرًا ألفًا، وشرح لهم (وللمشاهدين الأكارم) سبب هذا الإيثار للطفلة المنقّبة.
أحدثت، في المناطق التي يحكمها الإسلاميون، منظمات للأمر والنهي، منها ما اختص بالرجال، وأخرى بالنساء، وقامت لجان الغنائم بالاستيلاء على ممتلكات أبناء الأقليات الذي اضطروا في ظل هذه الأوضاع إلى المغادرة.
وبنيت، في هذه المناطق، سجونٌ كثيرة، ومع هذا لم يزدهر “أدب السجون”، لسبب بسيط، وهو أن النظام، في بداية الثورة، اشتغل على إخراج الكتاب والمثقفين من المشهد، وبعد خروج النظام هرب الكتّاب الباقون بجلودهم بسبب تناوب طبقات من الإسلاميين على احتلال مناطقهم، ومعلوم أن زميلنا الكاتب محمد السلوم أمضى وقتًا في سجون داعش، عندما احتلّت كفرنبل، بعدما صادروا الأدوات التي كان يصدر بها صحيفته “الغربال”. وفيما بعد؛ قُتل أخوه سامر تحت التعذيب في سجون جبهة النصرة، وسُجن ياسر السليم بسبب تضامنه مع أهل السويداء، وتحرير الشام (النصرة) قتلت رائد الفارس وحمود جنيد، لتبنيهما أفكار ثورية وطنية.
عاشرًا: خلاصة
إن أدب السجون بحرٌ زاخر، متلاطم، لا يرتوي منه أي كاتب، سواء أدخل السجن، أو كان لديه إحساسٌ بوطأة السجن الكبير الذي نعيش فيه نحن أبناء هذه البلاد المنكوبة، ومهما قيل أو كُتب في أدب السجون، لا يمكن أن تنفد القصص والحكايات والروايات التي يزخر بها.
كان لي على هذا الأدب ثلاث ملاحظات، أولها أنه يحصر نفسه في رصد ما يجري داخل نطاق المهجع والزنزانة وساحة التنفس والمراحيض، وبذلك يخسر فضاءً واسعًا يحققه الشغل في “أدب الاستبداد”. وثانيها، أنه، في الأغلب، أدبٌ يساريٌ، ولذلك لا بد من قراءة كتاب محمد برو “ناج من المقصلة”، لأنه الوحيد – في حدود مطالعاتي- الذي يغطي الفظائع التي كانت ترتكب ُفي جناح الإسلاميين بسجن تدمر، وهي أكثر، وأشد هولًا مما كان يُرتكب في أجنحة الشيوعيين والقوميين، وثالثها هو: لا يجوز السكوت عن أي شيء يتعلق بالسوريين، حياتهم، ثورتهم، مصيرهم، مستقبل بلادهم، وبالأخص سيطرة الإسلاميين على مختلف مؤسسات الثورة السياسية والثقافية والإعلامية.