جرح على جدار العانة

“لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحرّ أو البرد أو من الأمراض والحشرات أو الضرب، لكنه قد يموت من الانتظار، الانتظار يحوّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى”
من مذكرات نوال السعداوي في سجن النساء.

ظاهرة السجن ليست جديدة في حياة البشرية، ولا أحد يعرف متى بدأ الإنسان بسلب حرية الآخر والسيطرة على روحه وجسده وفكره، وإجباره على التخلّي عن ذاته الحرة قسرًا. وبحسب قراءة التاريخ؛ قد تكون ظاهرة استلاب الحرية (السجون) بدأت مع ظهور الملكية الخاصة وظهور السلطة، أي سيطرة القوي على الضعيف والتحكم في مصيره، فكان السجين/ـة يهرب وتهرب بمعاناته من التعذيب والقهر والعتمة إلى الكتابة، أو ينقلها وتنقلها شفويًا في حال تعذّر وجود أدوات الكتابة. وكان أوّل من كتب عن السجن وفيه، الكاتب الإيطالي “أنكيوس بثئيوس” الذي حُكم عليه بالإعدام في عصر الحكم الكنسي، وكان كتابه “عزاء الفلسفة” من أمهات الكتب المعروفة في “أدب السجون”.
يمكن إرجاع ظاهرة السجن إلى حرص الجماعة على سلامة وحدتها وصون أعرافها وعاداتها وتقاليدها وقيمها، لأن كلّ نشوز عن العادات والتقاليد والأعراف والقيم يهدِّد وحدة الجماعة. فالنشوز علامة على الفردية، ومن ثم على الحرية، مهما كانت أسبابه ومهما اختلفت أشكاله. وربما كان النفي أو الطرد أو النبذ (إلى الخارج) أوّل أشكال العقاب على النشوز، ثم اخترعت الجماعة خارجًا لها على هامشها هو السجن. لذلك تتقارب دلالتا السجن والمنفى. ولا تزال كلمة الخارج تحمل شحنة سلبية جدًا إلى يومنا. فالسلطات كافة تنسب حركات الاحتجاج إلى “خارج” يتآمر على الجماعة ويسعى لإفساد حياتها وتدميرها. الخارج هو الشيطان، وهو موطن الأغراب والأغيار. و”الخارج” في كثير من البيئات الريفية، هو مكان التبوُّل والتغوُّط، ويكون في الخارج، خارج البيت، وبعيدًا عن السكن. وقد تناول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ظاهرة السجن باقتدار لا نظير له، وكشف عن الطابع العقابي للسلطة.
لم يكن أدب السجون مقتصرًا على السجناء والسجينات فحسب، فقد أحسّ الكثير من الأدباء والأديبات بما تعانيه تلك الشريحة من قساوة العيش خلف القضبان، فاجتمع المتخيّل الأدبي مع الإحساس المباشر والحقائق المسموعة من أو عن تلك الشريحة، فجسَّدها الأدباء في كتب ومجلدات شعرية وروائية ولوحات فنية، ومسرحيات وتمثيليات تلفزيونية.
سأتحدث في هذه السطور عن ثلاث روايات من أدب السجون، وإشكالية تعاطي القارئ/ـة مع تلك الأدبيات المؤلمة إلى حد النخر في الروح الإنسانية، والمفارقة بين الكتابة من داخل السجن والكتابة من خارجه.
“خمس دقائق وحسب” لـ “هبة الدباغ”، “القوقعة لمصطفى خليفة” “شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف”.
خمس دقائق وحسب: مذكّرات هبة الدباغ، تلك الفتاة الحموية التي تدرس في كلية الشريعة في دمشق، اعتقلها رجال الأمن بتهمة الانتماء لتنظيم الإخوان في عام 1980، مع أهلها. في الحقيقة كانت رهينة عوضًا عن أخيها المتهم رسميًا بالتنظيم، وليست “هبة” وحدها من كانت رهينة، بل جميع أفراد أسرتها الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة. وعبارة “خمس دقائق وحسب” عبارة دارجة ومتداولة بين رجال الأمن. خمس دقائق فقط، سؤال وجواب وستعودين إلى بيتك، وكانت تلك الخمس دقائق تسع سنوات وحسب.
تُقدِّم لنا هبة الدباغ في مذكّراتها معالم الحياة الأخرى، لأناس آخرين، لا نعرف عنهم/ـنّ سوى أنهم/ـنّ سجناء وسجينات، “السيارة تخترق أحياء دمشق متَّجهة نحو قلعتها التي تتوسط أحياءها القديمة، وجدت الناس كلّهم في شغله بين بائع ومشتري، وطالب وعامل وموظف وتاجر، كلّهم غارقون في دوامة الحياة، يشغلهم تأمين حاجاتهم الأولية عن ذاك الذي يجري بينهم من دون أن يبصروه، أو يسمعوه، وترهقهم مشقّة الحياة عن أن يلتفتوا ليتفكروا إلى أين تمضي قاطرة الظلم في الوطن”، تلك الكلمات التي وردت في الرواية، تتكئ على عجز الشعوب المتآكلة من الظلم والقهر والخوف، والجوع والمرض والجهل.
تتحدث هبة عن جميع وسائل التعذيب وأدواته، عن الانتقال من الوجود الإنساني إلى العدم، لا وسطية بين الاثنتين، “هبة” الفتاة الجامعية في كلية الشريعة” لن تنسى إطفاء سيجارة الضابط على عانة زميلتها الحاجة “ح” أمام ناظريها، ولن تنسى “حسب قولها” رائحة الجروح التي تنزّ قيحًا كل يوم من أجساد النساء والرجال في الزنازين والمهاجع المجاورة، وكيف يفقد الإنسان الشعور بكل شيء، كيف يتصل الليل بالنهار من دون دراية من الذين يقبعون تحت الأرض كالديدان، بحسب توصيف الجلّادين والضباط وحتى حرّاس الزنازين. وإذا ما تعاطف بعض الحراس مع السجناء تكون عقوبتهم أشدّ من عقوبة السجناء.
بالتهمة ذاتها والزمان ذاته والأمكنة ذاتها، التي تجوّلت فيها “هبة” من سجن إلى آخر” فيما عدا سجن تدمر تلصَّص مصطفى خليفة من ثقوب أبواب السجون، بعيني وحواس بطل روايته الذي استقرّ أخيرًا في سجن تدمر بتهمة انتمائه إلى تنظيم الأخوان المسلمين، لتكتشف الأجهزة الأمنية بعد اثني عشر عامًا أنه مسيحي، وتتأسف لأنها لم تعلم بمسيحيته قبل ذلك (حتى في السجون للذكر حظًا أكبر من حظ الإناث).
فلم تكن أحداث الرواية أقل من غيرها من أدبيات السجون السابقة واللاحقة، فيما يتعلق بطريقة التعذيب والعنف وممارسة السلطة التي أصبحت معروفة للجميع، ومن أخطر أنواع التعذيب تلك، “الحرب النفسية”، التي تمارسها السلطة الأمنية على السجناء والسجينات، وخصوصًا الإفراج الوهمي الذي يؤمِّلونهم/ـنّ به كوسيلة ضغط بغية الاعتراف بالتهمة، وقد تحدث عن ذلك الشاعر “خليل حاوي” وفي اختصار شديد: “.. رد باب السجن في وجه النهار… كان قبل اليوم يغري العفو أو يغري الفرار.. فجاء بالعفو عقابًا للسجين”.
أما “مصطفى خليفة” فقد صوَّر تلك الحالة النفسية عند السجناء بالاعتياد على حالة السجن، أي تماهي الضحية مع جلّادها، وتأنيب ضميرها في حال الخروج من السجن وبقاء آخرين فيه.
أما في رواية شرق المتوسط لـ “عبد الرحمن منيف”، فقد جعل الكاتب من الشرق الأوسط كلّه سجنًا أو منفى ولا فرق، ومرتعًا للعنف والخراب، لم يحدِّد بلدًا بعينه، أو جنسية سجين بذاته، فكان “رجب” بطل الرواية يمثِّل كلَّ سجين في الشرق الأوسط، وكان الجلّاد والزنزانة والمهجع نموذجًا لسائر الجلادين والزنازين والمهاجع في شرق المتوسط.
تتقاطع الروايات الثلاث، في كثير من النقاط، بدءًا بالأبطال والبطلات، أو الشخصيات الرئيسة، إلى أساليب التعذيب والعنف وتغول السلطة، التي يجسدها الجلاد. وتتميز رواية “شرق المتوسط” بوصف حالة ذوي السجناء والسجينات بدقّة متناهية، وعلى وجه التحديد وصف معاناة النساء في غياب ذويهنّ من الرجال، وأزواجهنّ في غياهب السجون، ووصفهنّ بالعاهرات لأنهنّ أنجبن هؤلاء الأولاد “المجرمين”.
يمتاز أدب السجون عن غيره من فنون الآداب الأخرى، بأنه أدب إنسانيّ بامتياز، يعبِّر عن انتقال الإنسان من الوجود الإنساني إلى العدم الإنساني، وعن خسارة الذات، الانتقال من الإنسانية إلى الحيوانية، ومن الحرية إلى العبودية والامتثال والطاعة المطلقة، بما في ذلك الجلادون وأصحاب السلطة، الذين انتقلوا من الإنسانية في الحياة العادية إلى الوحشية والهمجية في أثناء العمل، وخير من عبّر عن تلك الحالة الأديب ممدوح عدوان في كتابه “حيونة الإنسان”، الذي يعرض فيه همجية الإنسان وهيمنته وتسلّطه على الآخر، والأهم من ذلك يعرض فيه العلاقة التبادلية بين الضحية والجلاد.
لا يمكن للقارئ والقارئة أن يتعاطى مع أدب السجون بحيادية، من دون أن يشعر وتشعر بالألم والخوف والغثيان والدوار، واستحضار مشاهد التعذيب وتقمّص دور السجين/ـة، فالمتلقّي/ـة هنا شريك/ة في جميع مفاصل الرواية، قد يكون السجين/ـة أو الجلاد أو رئيس الدورية، أو حتى المجند الذي وضع القيود في يديّ “هبة الدباغ” “.. قد سالت الدموع من عينيه وهو يقتادني مقيدة ويقول: بعد أن قرأ اسمي في البطاقة الشخصية، أنا حموي، الله بعين يا أختاه”، فيختصر في هذه الجملة كل أنواع القهر والظلم والاستبداد.
نحن هم السجناء والسجينات والجلادون، نحن سجناء الصمت والخوف والعجز عن ردّ الظلم، نفتح السجون بأيدينا وندخلها صاغرين، نجلد أنفسنا بهذا العجز وذاك الظلم ونلوك صمتنا ودوس كرامتنا وهدر إنسانيتنا.

مشاركة: