دفتر أخرس

في أيار/ مايو 1988 أضرَبتْ حوالى خمس وثلاثين امرأة من السجينات السياسيات في سجن دوما للنساء عن الطعام، شاركتْ في الإضراب جميع المعتقلات الشيوعيات أو “نساء حزب العمل الشيوعي” وبعض من “نساء الإخوان المسلمين” و”بعث العراق”، وكانت مطالب الإضراب حينها: فتح الزيارات وتحسين الطعام والطبابة، والحصول على دفاتر وأقلام.
في اليوم الرابع عشر من الإضراب اقتنعوا بأننا جديّات في الاستمرار بالإضراب الكامل عن الطعام حتى تتحقَّق مطالبنا، فلا التهديد ولا الوعيد، ولا الإغراءات بصناديق الخضار والفواكه الطازجة التي بدأت تصل بكميات جيدة لـ ” أروانه” السجن جعلتنا نكسر الإضراب، حتى رفيقاتنا اللواتي نُقلن إلى المستشفى كان قرارهن حاسمًا، حيث رفضن أن يوضع لهنّ مصل وريدي لكسر إضرابهن. مطلبنا بفتح باب الزيارات لم يتحقَّق إلا بعدها بأشهر طويلة، لكنهم حسّنوا قليلًا من كمية الطعام ونوعيته، وتم فتح عيادة سنية ليوم واحد في الأسبوع، وأهم إنجاز للإضراب كان أن أعطيت كل واحدة منا قلماً، ودفترًا مدموغًا بختم المؤسسة العسكرية، على غلافه الخارجي صورة دائرية لحافظ الأسد، لم تستطع الصورة أن تسرق فرحتنا بالدفتر، غلَّفنا الدفاتر بورق الجريدة التي كانت تصلنا في السنة الأولى عبر الشرطيات أو السجينات القضائيات، وهكذا تحايلنا على وقاحة الرقيب.
على هذا الدفتر سندوِّن خططًا لفعاليات ثقافية سنقيمها فيما بعد: كلمات لأوبريت غنائي ساخر، مسودّة لمسرحيات سنعرض معظمها سرًا في مهجعنا وسيحالفنا الحظ في عرض بعضها أمام جمهورنا من القضائيات. من صفحات دفاترنا هذه سنقتطع أوراقًا لنعيد جمعها بالخيط والإبرة، ولتصبح بعدها مجلة نصف شهرية سنطلق عليها اسم “الجرح المكابر”، وسنتداولها سرًا فيما بيننا. ستحتوي المجلة مشاركاتنا جميعًا؛ شعرًا، نثراً، مقالة أدبية، قصة قصيرة، وتحليلًا سياسيًا، وستحتوي أيضًا رسومًا تعبيرية وكاريكاتور وغيرها. على هذه الدفاتر ستكتب الأمهات رسائل لن تصل إلى أطفالهن، سندوّن الأشواق والتوقّعات عن كيف سيكون شكل الحرية إن حصلنا عليها يومًا، سندّون أحلامنا وكوابيسنا وبعض الذكريات التي لا نريد أن ننساها في حال طالت فترة اعتقالنا.
معظمنا استطعن إخراج دفاترهنّ بعد إطلاق سراحنا، ويهيَّأ لي أن رفيقاتي لم يعدن إلى فتح دفاترهن تلك فيما بعد، مثلما لم أعد إلى فتح دفتري ذاك. الصورة على غلاف الدفتر كانت رمزًا للسجن المضاعف، لرقابة جهاز الأمن السياسي الذي أصبحنا في عهدته والذي يمكنه الدخول متى شاء لتفتيش المكان، دفاترنا إذًا لم تكن تصلح لتكون مسودّات لتدوين التجربة، فالكتابة تحتاج لتوافر حيّز خاص أو لبعض الخصوصية وهذا كان مستحيلًا. الحيّز الخاص والسرّي سوف نوفرّه للواتي سيكتبن رسائلهن على أوراق التبغ الرقيقة بخط متناه في الصغر، عليها سندوِّن الكثير من الشخصي، رسائل الحب، رسائل الشوق، كلامنا عن ألم الفقد، عن اللايقين، هناك ربما دوَّنت غالبيتنا الأفكار التي لا نستطيع المجاهرة بها. هل تصلح هذه لتكون مسودّة لكتابة عمل ما تحت عنوان أدب السجون؟ أعتقد أنها كانت ستصلح لولا أنها رقيقة وهشّة وقابلة للتلف، إضافة إلى أنها كُتبت لتُرسَل إلى الحبيب أو الزوج في مراكز الاعتقال الأخرى، أو إلى الأهل والأصدقاء خارج السجن، الذاكرة الشفوية هي الحل إذًا… “سأحتفظ في ذاكرتي بكل التفاصيل كي لا أنسى… سوف أحكيها وأعيد حكايتها حتى أكتبها يومًا ما “… هذا ما كنت أقوله لنفسي.
في 26 تشرين ثاني/ نوفمبر 1991، أُطلِق سراح جميع نساء حزب العمل الشيوعي المعتقلات من قبل الأمن العسكري دفعة واحدة. كنت الثانية بين رفيقاتي اللواتي دخلن إلى مكتب رئيس فرع التحقيق العسكري، أمرني بالجلوس على كرسي أمامه وبعد صمت طويل رفع بطاقة في يده وقال: أهذه بطاقة هويتك؟ “قلت: “ربما! هل بإمكاني الاقتراب لأتأكد؟” قال: “نعم”.. مشيت الأربعة أمتار التي كانت تفصل الكرسي الذي أمرني بالجلوس عليه إلى مكتبه، مددت يدي لكي آخذها، كنت قد اشتقت الى صورتي فيها، كان قد مضى أربع سنوات وشهرين على أخذها مني، أخفض يده مشيرًا بأنني لا أستطيع لمسها، نظرت إليها وقلت: “نعم هذه بطاقتي.” مدَّ يده مجددًا بالبطاقة وقال: “سأعطيها لك الآن… وسوف تخرجين من هنا، وتستمرين في حياتك … وتنسين!”
منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى منزل عائلتي همسوا في أذني ألا أتكلم، قالوا إنه يمكن أن يكون هناك مخبرون بين الضيوف القادمين لتهنئتي بالسلامة، وعند رحيل الضيوف لم يسألوني شيئًا، فيما بعد أقنعت نفسي بأن عدم سؤالهم كان شكلًا من أشكال المقاومة، مقاومة الألم والغضب الذي سيسبّبه تحقّق توقعاتهم لما جرى. كانت الجمل مثل: “الحمد لله على السلامة” و” قطوع ومرق”.. “خلص المهم رجعت بالسلامة”، كافية كي أهزّ رأسي وأُخرِس الكلمات في حنجرتي. عنادي دفعني أحيانًا إلى رفض الخرس، ربما نبع من حاجتي إلى الكلام والاستشفاء، أو حاجتي إلى اختبار ذاكرتي التي يجب أن أدوّنها بأسرع وقت، كنت أنتهز أية فرصة للبدء بقصّ بعض التفاصيل، فليس من السهل تجاوز أكثر من أربعة سنوات من عمرك والتعامل معها كأنها لم تعاش، لكن كنت كلما تحدّثت، تأكّدت من عبثية المحاولة. فإما أن تروي القصة كاملة أو أن تصمت. أي معنى أن أقول كلمة “سجينة” وأجرّدها من حقيقتها التي تخصّني: “معتقلة سياسية”، أو من أن أقول كلمة “فرع ” من دون أن ألحقها بتوصيف: “أبنية مكوَّنة من أقبية تحت الأرض، مقسَّمة إلى زنازين ومهاجع مزدحمة بالمعتقلين والمعتقلات السياسيات، وغرف تعذيب، وضباط وحوش، وجلادين ومنتهكين؟ أن أقول “سجن نساء” من دون أن أوضِّح أنه يحوي امرأة فلسطينية شيوعية سرقوا عشرين عامًا من عمرها، وامرأة من سراقب انطفأت عيناها من السكّري وهي تنتظر الإفراج عنها، دون أن تدرِك أن زيارتها إلى العراق كانت جريمة، أي معنى لسرد الحكاية دون ذكر يسرا التي أنجبت بنتًا في تدمر أو الحديث عن أم حسان أو عن المراهقات طالبات الثانوي اللواتي كبرن في السجن، عن حزن وقلق الأمهات، عن كيف أننا جميعا هرمنا هناك ، كيف أن سوريا كلها كانت هناك؟
أمضيت عقدين بعدها مجبرة على النسيان، كيف لي اليوم أن أتذكّر؟
الإجبار على النسيان وعدم إتاحة الفرصة للتعافي عمَّقت غربتي، كنت أقول لنفسي وأنا أستمع لأحاديث الآخرين: هل سرق القمع فضول الناس ورغبتهم في الاستماع إلى الحكايا الجديدة؟ وكأن الضابط الذي قال لي آمرًا ” إنس! ” قد شاركهم فكرته. هكذا يفعل الاستبداد، يعاقب المجتمع بأبنائه وبناته، يخرسه ليخرسهم، يخيفه ليخيفهم، يخفي جريمة بجريمة أكبر، يردم مجزرة بمجزرة أكبر، الاستبداد يقوم على منظومة كاملة، أساسها المقموعين الذين يحولهم إلى سجانين بعضهم لبعض، ليس السجن هو نقيض الحرّية، بل الخوف.
في الأشهر الأولى من الثورة ذهبت مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء في زيارة إلى السويداء من أجل تهنئة مجموعة من معتقلي الثورة بالسلامة، وكان هدفنا حينها أن نتضامن معهم ونشدّ من أزرهم وأزر عائلاتهم، بين الأصدقاء كان الصديق الجميل الذي رحل منذ مدة قصيرة عن عالمنا، غسان الجباعي. عندما دخلنا مضافة أحدهم طلب مني غسان أن أجلس بالقرب منه، وكانوا يدعونه إلى الجلوس في صدر المضافة، همس لي حينها قائلاً: “يجب علينا نحن المعتقلين القدامى والذين لم نحظ بمثل هذا الاستقبال أن ننتهز الفرصة للحصول على بعض التكريم”، ضحكنا يومها ساخرين.
الثورة جعلتنا نستعيد قيمتنا في عيون محيطنا الذي أرادنا أن ننسى والآن يسمح لنا أن نتذكر. الثورة كانت بالنسبة لي إفراجًا عن الذاكرة الحبيسة بجدران الخوف، إفراجًا عن الكلام المخنوق في الحنجرة. لطالما أردت ان أقول للناس الذين جاؤوا لتهنئتي بالسلامة عند خروجي من المعتقل بأن المعتقل مدرسة للتعلم. لا أدرى لماذا هذه كانت النتيجة التي كنت أراها عند خروجي حينها. تعلمت أشياء كثيرة هناك، لم أعد أبدًا التي كنتها قبل الدخول إلى “بطن الغولة” وفق وصف حسيبة عبد الرحمن في رواية ” الشرنقة”. والحال أن الخروج الحقيقي من “بطن الغولة” كان عند انطلاقة الثورة، جميعنا لن نعود إلى الهيئة التي كنا عليها قبلها.
في آب 2011 وصلتني دعوة من مجموعة شباب في دمر البلد إلى لقائهم، دهشت عندما أخبروني أنهم عرفوا أني معتقلة سابقة وأنهم يريدون أن يسمعوا قصتي، كنت قد عشت بينهم ثمانية سنوات من دون أن أذكر شيئًا عن المعتقل، يومها تحدثت لأول مرة بحرية، الثورة سمحت لنا بتسمية المفردات بأسمائها، المعتقل، التعذيب، الاستبداد، الظلم، إهانة الكرامة، استطاع السوريون والسوريات قول هذه المفردات لأنهم اكتشفوا نقيضها، بدائل لها، كالحرية والكرامة والعدالة. في بداية الثورة تخفَّفنا من خوفنا فصغرت صورة المستبد. كنت أستطيع القول بأن هذه الجلسة مع هؤلاء الشباب هي أجمل هدية قدمتها لي الثورة لولا أنهم جميعًا قُتلوا تحت التعذيب في الفرع 215 مع حوالي خمسمئة شاب من دمر. النهايات من هذا النوع تجعل من قول الحكاية محض عبث، ألمًا جديدًا يضاف الى الألم القديم، سببًا مضافًا للخرس.
في تقديمه لكتاب مي الحافظ عينك على السفينة كتب الصديق والرفيق الراحل عباس عباس:
“… كل قول هنا محض نزيف؛ فليست ثمة معجزة كتابية يمكنها أن تُنصف حقيقة المخزون المعبّأ في ثنايا الذاكرة والأحاسيس والجسد؛ ولا شيء، لا شيء يفي هذا الوجع الإنساني حقّه.”
وفي مقدمة كتابها استعارت مي اقتباس من نيكوس كازنتاكي في “الطريق إلى غريكو يقول: الكتابة تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده …. ليس للوصول إلى الجمال، بل إلى الخلاص”.
سألت ميّ الحافظ بعد أعوام من نشرها لكتابها: هل وجدت الخلاص؟ وأجابت بـ “لا …!”
الآن سأفتح حقيبة مهلهلة حملتها معي في خروجي الأخير من السجن – البلد، سأخرج الدفتر المهترئ والذي تتوسط غلافه صورة طمستها في وقت سابق بالحبر الأزرق، سوف أضعه على طاولة مكتبي الخاصة، ثم سأفتح صفحة بيضاء لأدوِّن ما احتفظتْ به الذاكرة، ليس سعيًا للخلاص… بل صرخة في وجه الذين أمرونا أن ننسى.

مشاركة: