حوار مع الكاتب بسام يوسف حول كتابه “حجر الذاكرة

برنامج الورَّاق؛ وهو أحد البرامج الحوارية المصوّرة لمؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، برنامج حواري شهري مصوّر يعده ويقدمه كومان حسين، يتناول فيه أحد الكتب المنشورة المهمّة، حيث يعرض ويناقش أفكاره الرئيسة، فيستضيف مؤلفه أو مترجمه، يحاوره، يسأله، ويفسح المجال للمشاهدين ليناقشوا ويستفسروا وينتقدوا، يهدف البرنامج إلى التشجيع على القراءة وتعميق الأفكار وإنتاج أفكار جديدة عبر الحوار وتبادل الأفكار والتشارك. البرنامج مفتوح للمشاركة في الحوار ويُعرض على منصات مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.
استضاف مُعدّ برنامج “الورَّاق” الأستاذ كومان حسين في حلقته الأولى المعتقل السياسي والكاتب بسام يوسف مؤلِّف كتاب “حجر الذاكرة؛ بعض من جحيم السجون السورية”.
تظهر على الغلاف الأمامي للكتاب لوحة بألوان بنية متدرجة يتخلّلها بعض السواد وشخص جالس، يضع يديه على رأسه، وهو خلف قضبان متقاطعة سميكة، كُتبت على لوحة الغلاف كلمة (مذكرات)، أما الغلاف الخلفي فقد كُتب عليه نص مقتطف من إحدى نصوص الكتاب، إضافة إلى صورة شخصية للمؤلف وتعريف موجز به. الكتاب من إصدارات مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر.
يحتوي هذا الكتاب بين دفتيه 47 عنوانًا فرعيًا، لكل منها حكاية، تختلف شخصياتها وتتبدل أزمانها.
يُهدي بسام يوسف الكتاب إلى روح أمه التي عجّل قهرُها برحيلها، فرحلت وهو لا يزال معتقلًا، ويهديه أيضًا إلى كل الأمهات اللواتي انتظرن عودة أبنائهن من سجون نظام الأسد، وإلى أم كلِّ شهيد قتله هذا النظام تعذيبًا أو قتلًا أو نفيًا أو حنينًا، إليهن كلهن يهدي هذا الكتاب.

لماذا لا يدرج بسام يوسف كتابه هذا تحت أي مسمى من الأجناس الأدبية بل يعدّه نصًا، ويقول: هذا النص ليس رواية أو سيرة ذاتية أو تاريخًا لزمن ما. إنه، باختصار شديد، أنين روح مواطن سوري يحتضر. إنه أشبه برثاء شخص لنفسه، قبل أن يُهال عليه التراب. لماذا يتقصد بسام يوسف في توصيف باكورة أعماله بالنصّ؟

تحياتي لك، وأوجه شكري العميق إلى ميسلون، فلولاها لما رأى هذا الكتاب النور أبدًا، وأنا مدين لميسلون لنشرها هذا الكتاب.
في الحقيقة يا صديقي، لا أعرف كيف أبدأ. بدايةً أنا لست ميالًا كي أجنّس هذا العمل، لم أفكر في تجنيس هذا العمل الذي قدمته، لا أريد إدراجه ضمن أدب المذكرات، أو أدب السجون، أو السيرة الذاتية أو أي مسمى آخر، فقد كتبت هذا الكتاب إضافةً إلى المجموعة التي كتبتها داخل السجن، وعندما قمت بذلك، كنت أحاول الاحتفاظ بذاكرتي قدر الإمكان والوقائع التي كنت أعيشها، وعند خروجي من السجن ومن سورية أيضًا، رأيت أن هناك إمكان لطبع هذا الكتاب، فكتبتُه كما هو. عند كتابته في السجن، لم يكن ذلك بهدف النشر، ومن ثمّ لا يمكنني أن أخضعه لأي عملية تجنيس. يميل البعض إلى توصيفه بالمذكرات أو بأدب السجون أو بالقصص، أنا حقيقة لست بهذا الوارد مطلقًا، لذلك لا أهتم كثيرًا بهذا الموضوع، ولا أرى أنه مهم أو ضروري.
يحز في نفسي قول إن الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب هو الألم الذي كان يعيشه السوريون، وتحديدًا أنني قررتُ نشره في عام 2017 حيث كان الألم السوري في أوج فجاعته، وما زال كذلك حتى الآن إلى حد بعيد جدًا، وأحببت أن أهدي شيئًا للسوريين الذين يتألمون، وأهدي شيئًا إلى ذاكرة السوريين اللاحقة، نحن مطالَبون الآن، مع حالة الضياع التي نعيشها -وربما لن يستطيع جيلنا فعل شيء ذي معنى للسوريين- لكنه مطالَب بأن يحفظ للسوريين القادمين شيئًا من الذاكرة والتاريخ، حتى يعرفوا هذا البلد والمحنة التي عاشها السوريون بكل تفاصيلها وآلامها، وتوثيق مثل هذه الأمور الآن سيكون زادهم في الوطن القادم.

لم يتحدث بسام يوسف أي حديث عن وجوه السجن المألوفة كـ(التعذيب، الجوع، المرض والموت) بل يتحدث عن وجه السجن الآخر، الوجه الذي لا يمكن إدراك جوهره إلا بمعاناته، وأي تجربة أو معرفة تستحقان ولوج الجحيم من أجلهما. عندما تفقد كل شيء وأنت رهين جدران صماء، ولا يتبقى لك إلا محاولة توهّج الذاكرة التي تتحول من ذاكرة فردية إلى ذاكرة جمعية لأنك تحتاج إلى الأنس وقد يصل الى كشف المستور الذي قد لا تبوح به حتى لنفسك، ماذا يقصد بسام يوسف بالوجه الآخر للسجن والذاكرة الجمعية؟

من المألوف في سورية أو في أدب السجون عادةً عند تناول السجن، بوصفه مكانًا للتعذيب والنفي والعذاب والألم والترهيب، لكن في السجن أوجه أخرى وحياة، وأشخاص يعيشون ويمارسون حياتهم، وخاصة وأننا لا نعرف المدة التي سنمضيها داخل السجن.
أمس، رحل عنّا صديق عزيز جدًا علينا “عماد شيحة”، أمضى 30 عامًا في السجون السورية، ومن ثم عند دخولنا إلى السجن، نجهل تمامًا موعد الخروج، ونحن مطالبون في هذه المقبرة، بإنشاء حياة بكل تفاصيلها، ويجب أن نعيشها لأننا لن نستسلم إلى الموت. ومن ثمّ، كي نعيش، تلزمنا أدوات لذلك، لذا فالسجين مضطر دائمًا أن يستنبط أدوات جديدة للحياة، وأن يخلق من هذا العدم شيئًا له معنى كي يستمر في قيد الحياة.
هذا هو الوجه الآخر للسجن، السجن ليس حياة كي تعيشها ولا موتًا كي تستسلم له، إنه ذلك المضيق بين الموت والحياة، وأنت في هذا المضيق الذي ستعيش فيه فترات طويلة من الزمن سترى وجهًا آخر للحياة.
في رأيي أن من بين أهم الأمور التي نحتاجها في السجن، ألا نراه دائمًا بوجهه البائس والحزين؛ فهناك وجه آخر ألا وهو علاقة الناس ببعضها. سُئلت مرةً عن هذا الموضوع وأجبتُ بأني أحيانًا أشعر بحنين إلى السجن، واستغرب الشخص الذي وجه لي السؤال، فقلت له نعم، الدفء الذي كنا نعيشه بين بعضنا البعض، فعندما تستيقظ صباحًا وتواجه الموت، بمن ستحتمي؟ ستحتمي بهذا العدد البشري الذي يشاركك الموت والقهر، تعيش لحظات من الإنسانية لا تعيشها في حياتك العادية، لذا فهذا الحنين إلى هذا الدفء الإنساني، هذا التعاطف الإنساني الهائل، إلى الشخص المستعد لمشاركة الموت معك، لقد افتقدتُ هذه اللحظات كثيرًا في الخارج حيث شغلتنا الحياة وسحبتنا.

تتحدث وتقول: السجن، أي نوع من السجن شرط لا إنساني، ولكن يراودني السؤال: ألا تخلط بين المعتقل السياسي الذي يطالب بالحرية والكرامة وبين مقترفي الجنح والجنايات، ألا تختلف أوضاع سجنهم وبيئتهم وطريقة التعامل معهم وخاصة في ظل نظام عائلي كما وصفته لا يتقن إلا القتل والتدمير. أم لكم رأي آخر بهذا الموضوع؟

السجن شرط لا إنساني، سواء أكان معتقلًا قضائيًا أم سياسيًا، تنتفي فيه الإنسانية، خصوصًا في بلداننا. وكي نكون دقيقين فالحديث الذي سنتناوله سيكون من واقع السجون السورية، وهي من أبشع سجون العالم.
كل سجين، كل شخص حريته مقيدة، كل تغييب لحقوق أي فرد أو إنسان هو شرط لا إنساني، ثم يختلف الموضوع بمبررات هذا السجن؛ نحن متفقون على أن هناك مبررات قانونية قضائية ما يؤدي إلى أن نتقبل أو يتقبل الشخص ذاته الأمر. لكن أنت تتألم أكثر إذا كنت سجينًا سياسيًا، حيث لا مبررات قانونية ولا قضائية ولا إنسانية ولا أي شيء آخر.

ما الذي دفع بسام يوسف إلى استخدام تعبير الموت قبل الحياة، حيث تقول في متن كتابك: هكذا إذًا، حول عنقك حبل موتك وفي رؤوس أصابع قدميك بقايا حياة، وأنت مشدود كوتر لا تعرف متى ينطلق سهمه، لأنك بين موت وحياة، ولأنك عاجز ومقيد ومنفي ومنسي، فإن قوة غامضة تتفجر فيك، فتدفعك إلى أن تتشبث بثبات رؤوس أصابعك على خشبة مقصلتك كي لا تهوي.
هل كان اشتهاء الموت يغلب التمسك بالحياة، على الرغم من إشاراتك الجلية بالتمسك بالحياة التي تتفوق تلقائيًا على الموت.

في الحقيقة يا صديقي، الجملة التي ذكرتَها متعلّقة بجملة قبلها، فقد شبهت السجن بالشخص الذي اقتادوه إلى حبل المشنقة، حيث أخذوه ووضعوا المشنقة حول عنقه، ولكن لا يزال هناك كرسي تحت قدميه أو حجر، أسميته حجر الذاكرة، وهو سبب تسمية كتابي بـ حجر الذاكرة، أسميته كذلك لأنه عند صعودك إلى منصة الشنق (بعيد الشر عنك)، أو عندما أصعد إلى منصة الشنق، يكون هناك حجر تحت قدمي أو شيء أستند إليه قبل أن أفقده، ومن ثم سأهوي إلى الأسفل ويلتف حبل المشنقة حول عنقي وسأموت. ما كان يسندنا في السجن هو الذاكرة، نستند كليًا إلى ذاكرتنا كي لا نموت، كي لا نستسلم إلى لحظة يأس ونفقد هذه الذاكرة وتنزلق هذه المقصلة على أعناقنا، أنا منشدّ إلى الحياة، لكني منشدّ إليها بأصعب شروطها.
تخيّل أن شخصًا مطالب بالوقوف وحول عنقه حبل مشنقة وتحت قدميه حجر يستند إليه برؤوس أصابعه، وعندما يفقد هذا الحجر سيموت.
كنا مطالبين جدًا بالتمسك بالحياة، فأمامنا حلان، إما الموت وإما أن نصاب بالانفصام، لذا فقد كان من النعم أننا شكلنا مجموعة منسجمة جدًا، وهذا أمر رائع، كنت أرى أن لدى الإنسان طاقة هائلة كي يخلق حياة ويبدع، ولو لم نخلق هذه الحياة داخل السجن لكنا انتهينا، هذا ما كنت أتحدث عنه في هذه الفقرة.

لذلك أكدتَ وقلتَ: في السجن، من لا يتقن اختراع الحياة، سيسحبه اليأس إلى لجة الموت. هذا التعبير بليغ، يدفعني إلى التساؤل: في السجن وخاصة السجون السورية التي أشرت إليها، وإلى اللاإنسانية فيها، إلا أننا على الرغم من ذلك نجد أن الكثير من معتقلي الرأي في سجون هذا النظام السوري قد أبدعوا وتعلموا وأتقنوا صنوف الكتابة والرسم والترجمة، وتغلبوا على شتى انواع التعذيب والعذاب؟
كيف لك أن تصف لنا هذه الإرادة الصلبة التي تغلبوا من خلالها على الموت من أجل الحياة، لا بل عملوا على إنتاج شيء أفادوا فيه الإنسانية جمعاء؟

لقد أثبتت تجربتنا في السجون أن للإنسان طاقة هائلة. كنتُ أقول دائمًا في السجن: أحضروا أي كائن حي، حصان مثلًا، الذي نعدّه رمز القوة، واسجنوه مكان أي سوري ولسنوات طويلة، سيموت حتمًا.
لماذا يمتلك الإنسان هذه الطاقة الهائلة؟ إنها تأتي بسبب قدرته على المحاكمة والتأقلم والقدرة على التكيف والاختراع والإبداع، هذا أحد أوجهها، وهناك وجه آخر-لا أدري إن كنتُ سأبدو متعصبًا- لكن الإنسان السوري يملك الكثير من القدرة على الحياة. أشعر أحيانًا، وهو أمر لم أشعر به سابقًا، من خلال اطلاعي واحتكاكي مع البشر بأنه من المستحيل أن يعيش أحد آخر في هذا الوضع، أقول أحيانًا بأن بعض الحوادث التي عشناها في السجن، لا يتخيلها معظم الناس بل ويعدّونها من المستحيلات والغرائب.
في رأيي إن هذا شيء مهم ساعدنا كثيرًا، والأهم، أن القضايا التي كنا نؤمن بها والحلم الذي كان يراودنا، كانت عاملًا مهمًا ساعدنا على التحمّل في السجن. أغلب الأشخاص الذي دخلوا السجن يحملون همومًا، بصرف النظر إذا كانوا يحملونها بطريقة صائبة أو خاطئة، لكن إيمانك بالفكرة التي سُجنت من أجلها، يساعدك على التحمل، كما هي حال السوريين الآن، يتحملون العيش في الغربة والمخيمات وإلى آخره. اسأل أي شخص في المخيمات التي لا تملك أي مقوم من مقومات الإنسانية، إن كان يقبل الرجوع تحت سلطة بشار السد، سيقول لك لا. لا شك أن هذا الإنسان لديه القدرة على أن يفاضل خياراته في الحياة، ويدافع عن الفكر الذي يقتنع به. أعتقد أن هذه القدرة عظيمة وهي التي قامت بحمايتنا داخل السجن.

تذكر والدتك رحمها الله ويعتصر قلبك ألمًا على رحيلها من دون وداع، فقد شابه فراقًا جد طويل. ترى! لماذا اختار بسام يوسف ذلك الطريق الوعر، المليء بالأشواك، كمن يتسلق جبلًا شديد الانحدار من دون أن يمتلك أدوات التسلق، هل كان ذلك نتيجة الفقر والحرمان كما تشير؟ أم أن المحيط الثقافي والسياسي المحيط بك كان له أثر في ذلك وأنت ابن مدينة الدالية؟ أم هو وعي ومعرفة ارتقت عندك الى مستوى المسؤولية عن ضياع وطن وشعب، ويذوب فيه كل ما له علاقة بالإنسان وكرامته وإنسانيته؟

إنها جميع هذه الأمور، فمن أجل اختيار هذا الطريق، عليك أن تعي معنى الوطن والانتماء، إلى حد ما هناك مفاهيم أولية. وهناك بالتأكيد أوضاع بيئية تساعدك في هذا الموضوع، فقد عشتُ في بيئة فقيرة جدًا، لن تتخيل كيف يمكن أن يعيش أب متقاعد وهو يعيل 11 طفلًا براتب سيء جدًا، ومطالب بالإنفاق عليهم وتعليمهم، حيث كان التعليم مقدسًا عندنا، ولم يخطر على باله أن يجعل أحد الأبناء متفرغًا للعمل كي يساعد الباقين. كان مصرًّا على أن يُعلم الجميع، لذا عاشت العائلة في أحوال اقتصادية سيئة جدًا. هذا موضوع آخر في الحقيقة، ساهم الفقر، وكذلك البيئة الاجتماعية التي عشتُ فيها، حيث كانت إلى حد ما بيئة مسيّسة، فقد كانت الضيعة تاريخيًا محسوبة على الشيوعيين، وبالانشقاق الذي حصل في الحزب الشيوعي السوري، اتجهت إلى المكتب السياسي، مع رياض الترك.
كان هناك نشاط سياسي، وعمي الذي كنت أعيش معه كان معتقلًا باسم حزب العمل الشيوعي وكان من أصدقاء المكتب السياسي وإلى آخره. لذا ساعدت البيئة في هذا الموضوع، إضافةً إلى الظرف العائلي، والهم الشخصي؛ كانت لدي طرائق لفهم ما يجري حولي. والذي ساهم في تفجير هذه القضايا كلها، هو حادثة تكلمتُ عنها في أحد اللقاءات. كنتُ بعثيًا، إذ كانوا يجعلوننا ننتسب إلى حزب البعث في الصف التاسع أو العاشر روتينيًا. في سنتي الأولى في الجامعة كنتُ أعتقد أني مناضل سياسي وسأنقذ البلد، ثم جرت حادثة كاشفة وغيّرت مجرى الحوادث، ففي صيف عام 1980، كنت في السنة الأولى في الجامعة وسأنتقل إلى السنة الثانية. وأذهب بكل اندفاع إلى المعسكر بقيادة فرع الحزب من أجل الوطن، وكانت أيامها فترة انتشار الإخوان المسلمين وهجمة رجعية على البلد، ثم اكتشفتُ في الدورة التي كانت في أحد معسكرات رفعت الأسد، أن الدولة تقود سورية إلى الخراب والدمار، تخيل أني ذهبتُ إلى المعسكر بنيّة خدمة وطني، وإذ بي أجد نفسي ذاهبًا إلى مشروع طائفي يقوده رفعت الأسد، لذا كانت تلك الحادثة كارثية بالنسبة إلي وأدت إلى أن أغير خطي تمامًا، وأختار الطريق الثاني الذي سلكتُ فيه وكان الخيار الصحيح، كنتُ أبحث عن الوطن بصرف النظر إن كان خياري السياسي صائبًا أم خاطئًا فهذا أمر آخر، لكن توقي كان إلى وطن بصيغة أخرى.

أفهم من كلامك وأستطيع قول إن ذلك التوق هو الذي دفعك إلى اختيار هذا الطريق الوعر من أجل الوطن، لأن هذا النظام قد حوّل سورية إلى اتجاهات، هل يمكن أن توضح أكثر؟ أين الوطن الذي كنت تفتقده في ظل هذا النظام؟

بعد عودتي من تلك الدورة، كنت متيقنًا تمامًا على الرغم من صغر سني؛ 19 عامًا، أن بيت الأسد يقودون سورية إلى الخراب، لأن المشروع الذي طرحه رفعت الأسد علينا في الدورة، هو مشروع طائفي ولا يمتّ للوطن بصلة، لذا لا يلزمك التفكير كثيرًا كي تفهم تركيبة هذه السلطة التي تقود سورية.
عندما تدرك هذا الموضوع، تشعر، خصوصًا في ذلك العمر حيث تكون الحماسة في أوجها، أن مسؤولية الوطن ملقاة على عاتقك، وأنك ترى مجموعة تسوق بلدك الذي تنتمي إليه وتحبه وتعدّه مقدسًا، إلى الهاوية بكل تصميم ومنهجية وتخطيط، وتشعر أنك وعلى الرغم من كل عجزك وعدم إمكاناتك يجب أن تفعل شيئًا من أجل إنقاذ بلدك، وهذا ما جعلني فعلًا أسلك الطريق الوعر، على الرغم من معرفتي بالعواقب التي تتمثل بالموت والاعتقال والتصفية وكل ما شابه، لكن برأيي أن حماستنا في تلك الأيام كانت تدفعنا لإنقاذ البلد.

إلى ماذا كنت تلمح حين ذكرتَ كلام والدتك بعد منع أمن القصر الجمهوري ذلك الجمع من نساء سورية من جميع مكوناته للقاء رئيس الدولة من أجل مصير المعتقلين، حيث طُرِدنَ بل واتُّهِم المعتقلون بالجواسيس والخونة، كتبتَ بالحرف يعني على لسان والدتك رحمها الله (والله ما عم إبكي لأنو ما استفدنا شي، ولا عم إبكي لأن رح يضلوا مختفين، بس عم إبكي لأنو قالوا عنهن جواسيس وخونة، والله منعرف شو مربايين، وولادنا ما هني لا جواسيس ولا خونة).

في الحقيقة، من أحد أبشع أوجه هذا النظام وأقذرها، هو أنه لا يتهم خصومه سياسيًا، بل يتهمهم إما بالخيانة أو الفساد مدّعيًا أنهم سرقوا ونهبوا. لذا فالنظام يعرف أنّ هذه القيم والتسميات تسبب ردة فعل عند المجتمع السوري، المجتمع السوري يتقبّل الكثير من التهم إلا أن تكون جاسوسًا لإسرائيل، هذا أمر، والأمر الثاني أن النظام اختار توجيه هذه التهمة لنا، لتشويه سمعتنا أمام المجتمع ويجعل الاقتراب منا محفوفًا بالمخاطر، لكن هذا انعكس بشكل مباشر على أهالينا، وهم يتعرضون لهذا الضغط الاجتماعي، هل تتخيل كم يعاني الأهالي عندما يتّهم وسطهم الاجتماعي أولادهم بأنهم جواسيس، لو قَتَلنا لكان الوضع أخف عليهم، أما أن تكون جاسوسًا فهو ألم فظيع بالنسبة إلى الأهالي، هذا ما جعل أمي تبكي، بمعنى أننا نعرف أولادنا وطريقة تربيتهم، إذا كنتم ترغبون في إبقائهم في السجن فليكن، إذا أردتم تعذيبهم فليكن، لكن لا تطلقوا عليهم لقب الجواسيس.
الألم الذي سببه هذا النظام لأهالينا، كان يؤلمنا أكثر من ألمنا الخاص بالسجن.

أستاذ بسام، أيعقل أن يخشى نظام كالنظام السوري الذي أوغل في بث الرعب في أنفس السوريين، أن يخشى من كلمتين أو جملة تُكتب على جدار زقاق ما! على جدار بستان ما! هذا الخوف والرعب الذي نشروه لدى الأهالي، هل يمكن أن يشكلوا لجانًا لمنع أبنائهم من الكتابة على حجر ما أو جدار ما على طرف قرية ما للتعبير عمّا يختلج في صدورهم، هذا النظام الجبار الذي يمتلك كل هذه القوة، الذي لا يرحم البشر ولا الحجر، هل يمكن أن يخاف من جملة وأن يرتعب من كلمة؟

نعم صديقي، أنت تتكلم الآن عن قصة مجلس انكتب، أود أن أقول إن جميع القصص والعناوين الواردة في الكتاب، عناوين لقصص حقيقية، لم أتخيل شيئًا أبدًا، وهي عناوين معاشة. الفكرة هي أنها حاضرة لكن يجوز أن أغير تفاصيلها قليلًا، نظرًا لطبيعة الزمان والمكان.
تذكرتُ هذه القصة في السجن وكانت قد حدثت في اللاذقية، أن بعض الأشخاص كانوا يكتبون على الجدران عبارات مثل يسقط الدكتاتور، وغيرها، وكنا نعيش في حارة شعبية ضيقة، فتأتي أجهزة المخابرات وتمحي العبارة، ولم يكتفوا بمسحها، بل وكانوا يسيئون إلى الناس، بشتم وضرب أي شخص يخرج، حتى أنهم وجهوا دعوة ذات مرة وجمعوا رجال الحي وهددوهم بتدمير البيوت فوق رؤوسهم.
كتبتُ هذه القصة من وحي الحادثة، طبعًا لم يكن للأهالي علاقة لأنهم يجهلون الفاعل الذي على الأغلب يأتي من خارج الحي، كان حينا يتميز بأنه هادئ وبلا كهرباء، فيأتي شخص من الخارج في أثناء الليل يكتب ويمشي، لكن أصرّ النظام على أن يبقى أهالي الحي منتبهين ويقوموا بتسليم الفاعل، هذا النظام لا يرى أن الناس مواطنون بل يراهم عبيدًا، وقد عجز عن ضبط هؤلاء العبيد. هذا هو الموضوع باختصار. نعم، هذا النظام يخشى، بكل تأكيد هو قادر على مواجهة الكلمة أو العبارة، لكنه يخشى أن تكبر هذه الكلمة وتنتشر، نعم إنه أجبن من أن يحتمل مجرد رأي. فهو جبان يخشى من أي فكرة قد تكون صائبة أو تنتشر بين الناس.
وكلّ الأنظمة الطاغية تحذو حذوه.

لقد سبقتني، جهزتُ نفسي كي أطرح عليك سؤالًا، هل اعتمد بسام يوسف الفانتازيا والخيال في كتابه هذا، خاصةً القصة المؤثرة التي تحكي عن صديق طفولتك الذي فضّلته على نفسك وأخذت له جوارب وكنزة كي تقيه من برد الشتاء، وهو في الفرع نفسه الذي أنت فيه، مع ذلك لم يستطع تقديم أي مساعدة إليك، إنما ساعدك خلسة عندما فُتحت له بوابة صغيرة، فقدم لك بطانية حتى تمدك بالدفء وتفرشها تحتك لتدرأ عنك البرد والصقيع وتقي جسمك المعذب من الألم. يدفعني هذا لأسألك، أيعقل إلى هذه الدرجة، أن يكون ابن قريتي وصديق الطفولة بجانبي وقد يساهم في تعذيبي ويعاني هذا الألم، ويعجز عن تقديم أي شيء لي حتى لو خلسةً؟

نعم للأسف، القصة حقيقية لكن الاسم غير حقيقي وكذلك بعض التفاصيل، لقد ساعدني أكثر مما ذكرت، لكن لا مجال لذكر التفاصيل بسبب خشيتي من تعرضه للأذى. عذّبني في السجن من كان أحد رفاقي في الصف، من الصف الأول وحتى التاسع، ثم تطوعَّ في سرايا الدفاع وهو في الصف العاشر، حتى أنه كان أقل من السنّ الواجب للتطوع (17 سنة) لكن كان رفعت الأسد يقبل بمن هم في الـ16 من العمر، ثم انحلّت سرايا الدفاع فنقلوه عن طريق وساطة إلى الأمن العسكري. عندما اعتُقلتُ كان الحدث نادرًا في ضيعتنا، وعرفت الضيعة كلها أن فلان اُعتقل، وسمع هو بالخبر وتوقّع أنهم سيقتادوني إلى الفرع الذي يعمل فيه، وهذه المعضلة التي عانى منها بينه وبين نفسه، كيف سيواجهني، هو الجلاد وأنا السجين.
كما تعلم، عند التعذيب في الفروع، يضعون الطماشة على الوجه كي لا تُعرف هويتك وممنوع عليك ذكر الاسم، ينبهونك ألا تذكر اسمك ويعطونك رقمًا. لم أكن قد التقيتُ بهذا الصديق منذ عشر سنوات وهي كفيلة بتغيير أشكالنا. ولكن عندما شرع في تعذيبي كان يقوم بذلك على أنه جلاد ومتقن لدوره، لكن لدى معرفته إياي أصابته الصدمة، فالشخص الذي كان يتحاشى لقاءه أصبح بين يديه وعليه أن يقوم بتعذيبه، كانت لحظة الفصام بالنسبة إليه ولم يتمكن من الاستمرار فيها. في الحقيقة أحب هذه القصة كثيرًا، فهي لا تعكس حالتي وحالة هذا الشخص فحسب، بل تعكس حالة المجتمع السوري، هذا التمزيق العنيف للمجتمع السوري الذي صنعه النظام، هذا التفتيت، لقد ألغى التماسك في بنية المجتمع السوري، كان يفتتها بمنهجية، بحيث يكون هناك قسمان أو معياران، معيار الولاء للنظام ومعيار الرفض فقط. لم يعد هناك معيار لاعتبارات كثيرة داخل المجتمع، حاول النظام أن يوصل الأمور إلى هذا الحد. وقد نجح في تفتيت المجتمع السوري، وبشكل أدق نجح في تفتيت البنية الخاصة التي كنت أعيش فيها، ولا أريد ذكر أسماء كي لا يُنظر إلى الموضوع بشكل طائفي. فّتت البيئة التي كنت أعيش فيها أكثر من باقي فئات المجتمع السوري.

في رأيك، هل كان المجتمع السوري متماسكًا وقام النظام بتفتيته، أم أنه كان نارًا تحت الرماد، وغير مكشوف لكن النظام نفخ فيه؟

من الموكّد أنه لم يكن المجتمع السري متماسكًا تمامًا، لكنه أكثر تماسكًا من أيام النظام. هناك عدة قضايا تربط أي مجتمع، كان لدى المجتمع السوري قبل حكم حافظ الأسد ارتباطاته الخاصة، يجوز أنها غير مرتبطة بمعنى الدولة والمواطنة والقانون. ولكن كانت له أعرافه وقوانينه وثقافته، كل هذا كان يشكل عوامل جمع لهذا المجتمع. لكن النظام لم ينجح في خلق مواطَنة تعيد نسج هذه الخيوط الاجتماعية على هيئة الدولة الحديثة، وفتت العلاقات التي كانت قائمة في الأساس. على سبيل المثال، لم يكن في سورية منظمات مجتمع مدني لكنها كانت تساعد المحتاجين منذ الأزل، كانت هناك ثقافة مجتمعية ومن ثمّ كان لدينا بدائل للصيغ المطروحة. وجاء النظام ليحطم كل هذه البدائل ما ساهم في تفتيت المجتمع. لا يقتصر الأمر على ذلك، فقد عزز كل العصبيات، التي لم تكن حاضرة بهذه القوة قبل وجوده، أو كانت حاضرة لكن بشكل خفيف، كنا نخجل من تسمية طوائفنا، كان السوري يخجل إذا ارتشى، وكان الذكر الطائفي عيبًا، لكن قام النظام بتغيير ذلك فأصبح المرتشي هو قانون المجتمع وأصبح ذكر الانتماء الطائفي هوية لتحطيم الآخرين من أجلها. هذا ما قام به النظام السوري.

نعم، أستاذ بسام تقول إن مقياس الوطنية في سورية هو الولاء للرئيس وفقط شخص الرئيس، كيف يعرّف بسام يوسف هذا الوطن مع هذا الرئيس؟ كيف سيعرفه من دون هذا الرئيس؟

لا أريد أن أدخل في تعريف الوطن لأنه يتفاوت بين شخص وآخر، لكن في رأيي يكون الوطن حيث تجد هويتك وروحك وذاكرتك وعقلك وأهلك وقيمك. لكن الذي حدث أن قام هذا النظام بمسخ هذا التعريف تمامًا، وجعل الوطن يعني السلطة وبيت الأسد. كتبتُ في القصص أنني عندما كنت أتعرض للتعذيب، تمنيتُ أن يسألني أحدهم لماذا أنت ضد سورية! عندها كنتُ سأفهم أن سورية وطنه وأنا ضده لذلك يحاكمني أو يعذبني. كان يمكن أن يريحني هذا الأمر لأن لدى هذا الشخص اعتبار لوطنه. لكن عندما يعذبني لأني ضد الرئيس أي ضد الأسد. هل لاحظت هذه المعادلة التي ابتكرها النظام، لقد استبدل الوطن وسورية بهذا الشخص.

أن تعيش بلا إحساس بالزمن لسنوات، ثم تتعلق بأحد عقارب الساعة، ويفتل بك كدوامة حتى يتيح لك معرفة طول الزمن، كيف تمكن بسام يوسف من تجاوز الدوران في هذه الدوامة باتجاه الحياة؟

ربما تكون تجربة خاصة تلك التي خاضتها جماعة حزب العمل الشيوعي في السجن، حيث كانت النسبة الكبيرة منهم من الفئة الشابة، كان متوسط أعمارنا لدى دخولنا 27 عامًا، دخلنا عام 1987، معظمنا من خريجي الجامعات أو ما زالوا طلبة فيها، فاخترنا نمط الحياة الجماعية، وساعدنا هذا في نسج حياة يمكن الاستمرار فيها، حياة جماعية تعني أنه لا يحق لأي شخص أن يأكل أو يلبس أفضل من الآخرين، ولا يحق التفوّق على الآخرين ماديًا، وهذا ساعد كثيرًا بسبب عدم تلقي كثير من المعتقلين زيارات من ذويهم كونهم لا يملكون إمكانات مادية لذلك. خففت عنا هذه الحياة الجماعية صعوبات السجن. النقطة الثانية، أننا تمكنا من خلال هذه الحياة الجماعية من إرسال أموال إلى أهالي المعتقلين الذين يعانون أوضاع مادية سيئة كي يتمكنوا من القدوم وزيارة أولادهم. هكذا أمنّا أموالًا لعائلات غير قادرة على الزيارة، فالزيارة مكلفة جدًا، وكان الأهالي يأتون من أماكن بعيدة ويضطرون أحيانًا للمبيت في الشام، وسجن صيدنايا بعيد. عامل آخر أيضًا: استطعنا أن نبدع داخل السجن وننظم أشعارًا ومسرحيات نقوم بتمثيلها، وندوات شعرية وسياسية، وكتبنا مجلات بخط اليد كان يتداولها السجناء فيما بينهم. كان أول كتاب دخل إلى جناحنا (تهريب)، هو كتاب النزعات المادية في الإسلام للكاتب حسين مروة. كان عددنا 300 شخص أو 280 في هذا الجناح، إذا قرأناه فرادى فلن تتاح للآخرين القراءة إلا بعد أعوام طويلة. لذلك قسمنا الكتاب إلى أجزاء كل مجموعة تقرأ جزءًا وينتقل بعدها إلى المجموعة الثانية وهكذا دواليك. ثم اخترعنا اختراعًا آخر، لماذا توجد نسخة واحدة فقط؟ فنسخنا الكتاب بالكامل. تخيل أن ننسخ كتابًا كاملًا حتى يتمكن الجميع من قراءته. كنا مطالبين بأن نخترع هذه الحياة وقد ساعدنا هذا الموضوع بتجاوز المحنة بأقل الخسائر الممكنة.

أستاذ بسام، سأذكر بعض الحكايات أو العناوين الفرعية الموجودة في الكتاب وأتناول منها مقتطفات، أتمنى أن تشرحها أو توضحها أكثر.
في سردية (الصورة)، في العنوان الذي يحمل عنوان (الصورة) تقول عن رمي أحد السجانين لصورة طفل جميل، تصفه بالجميل، وقد أثار ذلك بينكم الكثير من الأسئلة والتساؤلات؛ لمن هذه الصورة. وبعد أيام أسرّ السجّان لرئيس المهجع عن صاحبها. حدثنا عن مشاعركم في تلك اللحظات وأنتم تنظرون إلى أبٍ لم ير ابنه الوليد مطلقًا إلا من خلال صورة غير واضحة من كثرة ثنيها في أثناء محاولة تمريرها من التفتيش؟

هذه قصة محزنة ومن مفارقات الحياة، باختصار شديد، كان لدينا بعض السجانين من أصدقائنا، أقصد أنهم متعاطفون معنا كمساجين، حتى أنه كان منهم أشخاص متعاطفون معنا سياسيًا، لكن شرط السجن وقوانين الاقتراب من السجناء السياسيين، قد تؤدي إلى الموت أحيانًا، وكانوا حذرين بالتعاطي معنا.
كنا مجموعتين في السجن: مجموعة عام 1987 في جناح منفصل، ومجموعة المعتقلين السابقين في جناح آخر، هؤلاء يتلقون زيارات من أهاليهم الذين كانوا يحضرون معهم أغراضًا لنا من أهالينا الممنوعين من زيارتنا. وكانت صورة طفل من ضمن الأغراض التي وصلت.
كان ممنوع التعاطي مع السجّانين بشكل شخصي، ويقتصر الأمر على رئيس الجناح الذي قال للسجان: أريد أن توصل هذه الصورة للجناح الفلاني، خذها إلى هناك فقط. وضع السجان الصورة في جيبه أوصلها إلى جناحنا ورماها من خلال الشبك الذي على باب الجناح خلسةً. أخذنا صورة الطفل الرضيع وكان عمره أقل من عام. واستغربنا كيف تصل صورة من الخارج وكان الحدث هائلًا. بدأت الصورة تنتقل في ما بيننا، نحن المتشوقون للحياة، وصورة هذا الطفل من أهم رموز الحياة، ويجب الارتباط بهذه الصورة كي نرتبط بالحياة ذاتها. وصرنا نخمّن لمن الصورة، قال أحدهم هذه صورة ابنة أختي التي كانت حبلى، وقال آخر إنّ هذه صورة ابن أخي الذي تزوّج، وهكذا صارت الصورة تخصّ الجميع. وبعد فترة بدأت المناوشات بشأن ملكية الصورة، فاقترحنا أن تنام الصورة كل يوم في مهجع حتى نعرف لمن هي.
بعد فترة من الزمن، جاء السجّان نفسه وأخبر رئيس الجناح أنّ الصورة لابن فلان. ولك أن تتخيل الحالة النفسية والعواطف التي عاشها المساجين، أصيب البعض بخيبة أمل، لكن الإحساس الهائل الراعب هو إحساس الأب عندما اكتشف أن هذا ابنه.
في رأيي من الصعب وصف هذه الحالة وكتابتها.

نعم، تتحدث في سردية (سرياليات 1) بأنه في عام 1990 وفي البهو السداسي الذي تتفرع عنه أماكن إقامة المسجونين، كان جمع من المسجونين بثيابهم المهترئة وأقدامهم الحافية ووجوههم الشاحبة يدورون داخل البهو ويرددون بأعلى أصواتهم (بالروح بالدم نفديك يا حافظ) وهم محاطون بعسكريين مسلحين بسياط عريضة تنال من أجساد هؤلاء وسط قهقهاتهم. ألم تشفع عبارة (بالروح بالدم نفديك يا حافظ) لهؤلاء المسجونين؟

هل تتخيل أنت أو أي شخص في العالم أن يصل استهتار هذا النظام بالإنسان السوري إلى درجة عدّه أقل من العبد. كان في السجن قسم خاص بالقضائيين كأحكام الفرار من الجيش أو الجرائم، يمكثون في جناح خاص يفتحون بابه صباحًا ليسخّروهم للخدمة، فهم من يحضرون لنا الطعام والخبز والماء، وكنا نسميهم بلديات، أي أنهم يقومون بأعمال التنظيفات وإلى آخره. وكانوا يعيشون أسوأ الأوضاع، ثيابهم متسخة دائمًا وممزقة، ويتعامل معهم الشرطي كتسلية. نحن السياسيون كنا نرفض هذا التعامل وكانت إدارة السجن على يقين تام أنه لا يمكن ابتزازنا سياسيًا. كانوا يأتون بمن كنا نسميهم بلديات كي يروعوننا. كان يوجد شكل سداسي في البهو وكل الأجنحة تطل عليه، ويدور القضائيون داخل البهو السداسي بينما تقف الشرطة بأحزمة عسكرية وينهالون عليهم ضربًا بينما العساكر يهتفون رغمًا عنهم (بالروح بالدم نفديك يا حافظ)، هذه السوريالية لا تحدث إلا في سورية، ولا كرامة أو اعتبار لأي شخص عند هذا النظام، كان أفراد الشرطة يتسلون، ويوقظونهم الساعة الثالثة فجرًا فقط كي يتسلوا بهم. لا يقتصر وجود هذه الحالة على السجن، فهي موجودة في الجيش، حيث يوقظون المجندين الأغرار كي يتسلوا بهم فيخلعون عنهم ثيابهم وينزلونهم في بركة الماء عراة حفاة، هذا هو النظام السوري.

أستاذ بسام، سأطرح سؤالًا وأرجو ألا يؤخذ كلامي إلى منحى آخر؛ بشأن قصة المعاون باسل هوب هوب بين دمشق وحلب، الرجل الطيب الذي يعمل على الطرقات من أجل أن يتمكن من العيش في ذلك الزمن، يستَغَله السياسيون، والذين يفترض أنهم من الطبقة الراقية في المجتمع، ليحاولوا معرفة إن كانت دارهم أو مكان سكناهم مراقبة من أجهزة النظام أم لا، وأمضى هذا المسكين أعوامًا من حياته واختار أن يكون معكم أنتم معتقلو حزب العمل. من وجهة نظري كان هذا إجحافًا بحق هذا الإنسان وانتقاصًا من العمل السياسي الذي يفترض أن يكون له درجات رقي. ماذا كان بسام يوسف يقصد من سرد هذه الحكاية وبهذه التفاصيل؟

يا صديقي، هناك إيضاحات ينبغي أن أذكرها بشأن هذه القصة. المجموعة التي استخدمت هذا الشخص كطعم لمعرفة إن كانت بيوتهم آمنة أو غير آمنة هي من جماعة الإخوان المسلمين أي التنظيم، وقد عدّه النظام متهمًا بأنه من بعث العراق بالتعاون مع الإخوان المسلمين ومتهمين بمحاولة اغتيال عبد الحليم خدام. لذا لا يمكن اتهام العمل السياسي وأنا أرفض هذه القضية بالمطلق، حتى لو كنت أزاول العمل السياسي إلا أنني أرفضها بالمطلق. فأنا أرفض أن تستخدم إنسانًا وتزج به بطريقة لا إنسانية وتحمّله مسؤولية عملك. قمتَ بعمل فتحمل مسؤوليته، أنت تعمل بالسياسة فتحمل تبعات عملك. وأمر آخر أيضًا، هو لم يكن يعيش معنا بل مع بعث العراق وحزب العمل، كنا نعيش مع بعث العراق في الجناح الذي كان مؤلفًا من قسمين، قسم إلى اليمين وقسم إلى اليسار وكل منا في قسمه، لكن على احتكاك دائم معهم، الأبواب مفتوحة طوال النهار ونزور بعضنا، وهكذا تعرفنا على أبو حلب. والقصة لم تكن من أجل إدانة العمل السياسي، إنما كتبتُ القصة حتى أوضح تركيبة هذا النظام المبنية على الكذب، عندما حققوا مع أبو حلب وأرادوا انتزاع اعتراف منه، كانوا يريدون معرفة من حاول اغتيال عبد الحليم خدام ليقوموا بإعدامه والتخلص من القضية برمتها. وعندما جاؤوا بأبو حلب وهو شخصية بسيطة وحتى أن لديه مشكلة نفسية، حاولوا إقناعه بالاعتراف بمحاولة القتل ليخرجوه من السجن، لكن أبو حلب لم يكن متزنًا في كلامه ولذلك أرسلوه إلى السجن، ولو لم يخطئ أبو حلب بالكلام لكان مصيره الإعدام، ومن حسن حظه أنه لم يتمكن من سرد الرواية كما أردوا. زجوا بهذا الشخص البسيط في السجن لمدة 15 عامًا. كان الهدف من هذه القصة هو كشف بنية النظام وآلية تفكيره وعمل أجهزته الأمنية.

أيضًا في حكاية (فرمان) تتحدث عن سجين كردي قامت أمه وشقيقته بزيارته بعد السماح بالزيارات، لكنه عاد والدمع في عينيه والغضب ينز منه بسبب منعهم من التحدث إلا بالعربية وهما لا تتقنان العربية فالتقت العيون من دون أن تنبس الشفاه بكلمة؟ ما الذي اقترفوه ليحاسَبوا على أمر خارج عن إرادتهم ولا ذنب لهم إلا أنهم قد خلقوا أكرادًا؟ في دولة تحكمها طغمة مستبدة لا همّ لها إلا البقاء في السلطة. لو تخيلتَ نفسك في هذا الموقف واللقاء، كيف يمكن أن تصف لنا شعورك؟

كنا نعيش هذا الإحساس ولسنا غريبين عنه. عندما كان يعود صديقنا الكردي من دون التمكن من التحدث مع أهله، كنا نبكي معه، فقد عشتُ هذا الإحساس تمامًا، لا تعيشه كعربي أو كردي أو أيًا كان بل تعيشه كإنسان. كان معنا مجموعة كبيرة من رفاقنا الأكراد، ويقارب عددهم 26 أو 28، لم تعد علاقتنا مع القضية الكردية ذات تصنيف سياسي، فقد أصبحت ذات تصنيف إنساني، كنا نعيش سويًا كما تعيش أي عائلة، وإذا تألم أحد رفاقنا الأكراد، كنا نتألم مثله، وهو يتألم معنا. هذه التصنيفات داخل السجن لا يعود لها أهمية، تصنيفات مثل الطوائف والقوميات لا تهم، فهناك أشياء أكبر. وهذا ما أتمناه الآن، أن تختفي التصنيفات في خضم المحنة السورية الآن.

في قصة الحلم، تسرد لنا حكاية، أن يُحاسب إنسان ويزجَّ به في السجن لمجرد حلم. حتى الحلم في دولة حافظ الأسد ممنوع على الإنسان. أتمنى أن تسرد قصة هذا الشاب أو هذا الفتى، وبحسب قراءتي كان أقل من عمر الثامنة عشر.
كان عمره 16 عامًا لدى اعتقاله، عندما التقيت به كان في الرابعة والعشرين، بقي 9 أعوام في السجن.

بكل القوانين والأديان والأعراف يُحاسب الإنسان على عمله، وفي قصة الحلم، حوسب الشاب على حلمه.

فوجئت لدى سماعي القصة. كنت في أحد الأجنحة لزيارة صديق مريض، في أثناء ذلك قيل لي تعال واستمع إلى قصة هذا الشاب التي لا تُصدَّق. وكانت القصة فعلًا لا تُصدق. كان فَتَىً في الصف العاشر، اعتقلوا أباه بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، وكانت طريقة الاعتقال بمنتهى الوحشية، وكان يرى أبوه يعتقل ويُضرب وهو عاجز عن تقديم المساعدة. حلم ذات يوم أنه يغتال حافظ الأسد وقصّ رؤيته على رفاقه. فاعتُقِل بسبب هذا الحلم ومكث في السجن عشر سنوات. لو قصصت هذه القصة في أي بلد بالعالم، هل سيصدقونك؟ قصة غير قابلة للتصديق، شيءٌ لا يُعقل أبدًا. وكانت تهمته حلمًا.

سأركّز فقط على آخر سردية لك في حكاية باسم “فجيعة”. يمكن قراءتها في كلا الطرفين، سجين يلتقي بزوجته لأول مرة يناديها بأمي. تُرى هل هي آثار السجن على الشخص المسجون؟ أم أن أوضاع الحياة هي التي ساهمت في هذا التغيير للمرأة إلى درجة لم يتمكّن زوجها من معرفتها فناداها بأمي.

صديقي، إن مشكلتنا في الحديث عن السجون السورية تكمن في أنه إذا لم يكن الشخص مدركًا تمامًا لملابسات السجون، فقد تبدو القصص غير حقيقية ومبالغ فيها، لن يخطر في بالك أن يزور الأهل ابنهم بعد 12 عامًا، أو بعد 15 عامًا، لأن هناك أشخاص عشرات السنين ولم يزرهم أحد، وهناك أشخاص تلقوا زيارات بعد 3 أعوام وأشخاص بعد عشر سنوات هكذا. هناك أشخاص دفعوا مبالغ مالية، كما تعلم انتشرت في سورية أنك إذا دفعت مليون ليرة فبإمكانك الحصول على إذن للزيارة. جاءت زيارة هذا الشخص بعد 13 عامًا، والمرأة عمومًا في مجتمعنا تعاني من الضغوط الجسدية والنفسية، فمجتمعنا ظالم ويظلم المرأة جدًا، ويبدو أن هذه المرأة تعرضت لضغوط هائلة وكانت ترتدي ثيابًا متواضعة جدًا، ولم يخطر في باله أبدًا أنها زوجته. نحن ندخل إلى السجن ونحتفظ بصور أهالينا في ذاكرتنا كما كانوا قبل دخولنا، ولا نفكر في أن الزمن يمر على الجميع وأنهم سيتغيرون، وننصدم عند رؤيتهم بعد غياب طويل. لم يصدق بعد 13 عامًا أنها زوجته، وتوقّع أن هذه المرأة الكهلة أمه. كانت زوجته لا تزال في ذاكرته كاليوم الذي تركها فيه. فقال لها أمي. والأمر معكوس أيضًا، بعض الأهالي لا يعرفون أولادهم عند وقوفهم على الشبك للزيارة، فلا هم يتعرفون عليه ولا هو يعرفهم. ثم يأتي السجان ويسأل الأهل من ابنكم فيقولون اسمه، فيدلهم عليه. لا يعرف الابن أهله ولا يعرف الأهل ابنهم. هذه هي المأساة التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري.

شكرًا جزيلًا أستاذ بسام على هذه الفسحة وهذا اللقاء وهذا الوقت.
أشكرك يا صديقي على تعبك واهتمامك بالتفاصيل، هذا يسرني جدًا، واسمح لي بقول إننا نحن السوريين لم نسرد كل شيء عن وجعنا، وإنما سردنا جزءًا بسيطًا جدًا. سيحكي السوريون كثيرًا، عن سجنهم وغربتهم وكل العذابات التي لاقوها، أتمنى مني ومن غيري ممن خرج من السجون أن نهتم كثيرًا بقضاياها، لأن السجون السورية شيء لا يُصدق ورعب لا يُصدق، وكل الذي عشناه لا يعادل نسبة 1 في المئة من الذي يعيشه السجناء السوريون الآخرون في سجون هذه الطغمة.

بسام يوسف

بسام يوسف

كاتب سوري من مواليد 1961، يحمل إجازة في العلوم الطبيعية – الكيمياء الحيوية من جامعة تشرين في اللاذقية 1985، ناشط سياسي، اعتقل مدة عشر سنوات من 1987 إلى 1997 لانتمائه إلى حزب العمل الشيوعي، أمين سر حركة معًا من أجل سورية حرة وديمقراطية، رئيس تحرير جريدة "كلنا سوريون"، مؤلِّف كتاب "حجر الذاكرة" الذي صدر عن مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر 2018، مقيم في السويد منذ 2015.

عرض مقالات الكاتب

مشاركة: